إنْ كانت هناك قامة علمية أكاديمية متخصصة تسببت في الصداع لتيار الإسلام السياسي ورموزه داخل الكويت وخارجها، وخاضت صراعاً فكرياً متواصلاً معهم على مدى سنوات، فهو بلا شك الدكتور أحمد البغدادي الذي رحل عن دنيانا مأسوفاً عليه في 18 أغسطس سنة 2010. كان الدكتور أحمد مبارك علي البغدادي، المولود في الكويت في الأول من يناير سنة 1951، وجهاً تنويرياً معروفاً على المستوى الكويتي والخليجي والعربي بسبب كتاباته في الصحافة الكويتية والخليجية والعربية، ثم بسبب مؤلفاته العديدة والمتنوعة وأبحاثه وترجماته في مجال الفكر والسياسة، ناهيك عن ظهوره المتكرر في البرامج الحوارية من على شاشات الفضائيات العربية. هذا عدا عن عمله الوظيفي في جامعة الكويت كأستاذ ورئيس لقسم العلوم السياسية، وهو العمل الذي تقلده عن جدارة من بعد مشوار علمي حافل بدأه في سنة 1974 بحصوله على ليسانس الاقتصاد والعلوم السياسية من كلية العلوم الاجتماعية بجامعة الكويت، ثم حصوله على درجة الماجستير في الفكر السياسي الغربي من جامعة كلارك الأمريكية في عام 1977، فدرجة الدكتوراه في فلسفة الفكر الإسلامي التي نالها سنة 1981 من جامعة أدنبره الاسكتلندية.
وبسبب مواقفه الجريئة من تيار الإسلام السياسي، واجه محاربة شرسة بمختلف الأسلحة والأدوات، وطاردته في مختلف المحافل، وأقامت عليه الدعاوى القضائية المتتالية، دونما شفقة على أوضاعه الصحية المتدهورة بسبب أمراض القلب والسكري، فكانت حالته مشابهة لحالة زميله المصري نصر حامد أبوزيد؛ طبقاً لما كتبه الصحفي اللبناني المقيم في الكويت حمزة عليان في كتابه «وجوه من الكويت» (دار السلاسل للطباعة والنشر والتوزيع/ الكويت/ 2012)، لاسيما أن الرجلين كانا صديقين بدليل دعوة البغدادي له لزيارة الكويت من أجل إلقاء محاضرة حول «إنارة العقل العربي»، وهي المحاضرة التي لم تتم بسبب منع أبوزيد من دخول الكويت؛ استجابة لطلب تقدم به التيار الأصولي المتشدد.
ولهذه الأسباب مجتمعة، فكّر البغدادي مراراً بالهجرة من بلده والسعي للحصول على لجوء سياسي في الخارج. وفي هذا السياق ذكر عليان أنّ البغدادي رأى في البحرين مكاناً مناسباً له للإقامة قبل أن يقرر الذهاب إلى لبنان الذي بنى فيه سكناً له ولعائلته الصغيرة، غير أن الأمراض تكالبت عليه فاضطر للسفر إلى لندن للعلاج حيث تحسنت حالته، وقرر العودة إلى الكويت فوراً قائلاً: «إنه مشتاق إليها كثيراً؛ لأن لا شيء يعادل قيمة الوطن». غير أن صحته انتكست مجدداً، فواصل علاجه في مستشفى الشيخ خليفة في أبوظبي إلى أن اختاره المولى إلى جواره.
ولأني كنت من معارف الرجل، وممن حظي بصداقته من خلال المنتديات الخليجية التي كنا نُدعى إليها، لا سيما منتدى التنمية الخليجي، الذي كان البغدادي أحد مؤسسيه الأوائل، ثم منتدى الاتحاد السنوي في أبوظبي بحكم أنّ كلينا كنا من كتاب صحيفة الاتحاد الظبيانية، فإني أستطيع أن أقول بثقة أن الرجل كان يكنّ حبّاً خاصاً للبحرين والبحرينيين، ويراقب بشغف التحولات الإصلاحية هناك، متألما في الوقت نفسه مما أصاب التجربة الكويتية الرائدة خليجياً لجهة سطوة التيار الديني عليها.
يقول عليان في الصفحة 35 من كتابه سالف الذكر، إن أكثر ما كان يغيظ إسلامويو الكويت هو أن البغدادي كان مفكراً ليبرالياً حرّاً ذا رؤى تنويرية، وفي الوقت نفسه إنساناً ملتزماً يؤدي الفروض الدينية كالصلاة والصوم. لقد كان صاحبنا «يعتقد أن الليبرالية مرتبطة بالحقوق والمساواة وليس برفض الدين». تشهد على ذلك مقالاته في صحف الطليعة والسياسة والأيام والاتحاد وغيرها من الصحف والمجلات والنشرات. تلك المقالات التي أثارت على مدى سنوات الكثير من الجدل، وشكلت همّاً ثقيلاً ومزعجاً للمتشددين والأصوليين ممن لم يجدوا أمامهم وسيلة لإسكات صوته سوى تهديده في حياته وجره المرة تلو المرة إلى ساحات القضاء وتأليب البسطاء والدهماء عليه.
في حياته الخاصة، عُرف عن البغدادي عشقه للموسيقى والغناء، إذ كان يحلو له في إجازاته الاستماع إلى أغاني أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وعبدالله الرويشد وبعض الأغاني الشعبية العراقية، كما عُرف عنه عشقه للقراءة بدليل أنه ترك وراءه وقت وفاته مكتبة احتوت على أكثر من 5000 عنوان. هذا ناهيك عن خصلة اتصف بها مدى حياته وهي التمسك باستقلاليته وعدم قبوله المساومة على ما يؤمن به. ولعل هذه الخصلة تحديداً، وهي خصلة لا يتصف بها سوى أصحاب النفوس الأبية الشريفة والضمائر الحية النقية، كانت وراء عدم حصوله على ترقيات أكاديمية مستحقة مثل الصعود إلى مرتبة عميد أو مساعد عميد.
في السادس من أكتوبر سنة 1999، تعرض البغدادي لأقسى تجارب حياته، وذلك حينما قام رجال الحسبة بتقديم شكوى ضده بحجة إساءته للدين، فحكمت المحكمة الكويتية المختصة عليه بالسجن شهراً بتهمة الطعن في ثوابت العقيدة الإسلامية، وتلا الحكم القبض عليه كأي مجرم دون أدنى احترام لمكانته الأكاديمية والفكرية، ودون أي اكتراث بما قاله من أنه مستعد لتسليم نفسه بمجرد اتصال إدارة تنفيذ الأحكام به. وقتها اقترح عليه محاميه عبدالكريم جاسم حيدر بناء على طلب من طبيبه أن يدخل المستشفى لإجراء عملية جراحية في القلب، لكنه رفض الاقتراح قائلاً إنه لن يُجري العملية إلا بعد تنفيذ الحكم كيلا يُقال عنه أنه تهرب من حكم القضاء بادعاء المرض.
وقتها أيضاً عقد تجمع تضامني مع البغدادي في مقر جمعية أعضاء هيئة التدريس بجامعة الكويت، حيث دعت الجمعية أعضاءها إلى الامتناع عن التدريس كل يوم ثلاثاء حتى نهاية أكتوبر، وقام أحد أعضاء الهيئة وهو الدكتور سيف عباس بتحرك رمزي، إذ جلس في حرم الجامعة وأوثق يديه ورجليه استنكاراً لما سماه «تقييد حرية التعبير». ورأت الجمعية في بيان صحفي أصدرته «وجوب النظر إلى الحريات الفكرية بمفهوم متكامل وبنظرة شاملة»، مضيفة أن «الحرية الفكرية التي مارسها الدكتور البغدادي تعضدها الحرية الأكاديمية، فما صدر كان ضمن تلك الحرية الأكاديمية، إذ إن الرأي المعبر عنه قد نشر داخل أسوار الجامعة وفي الحرم الجامعي»، كما أوضحت الجمعية في بيانها أن «عقوبة الحبس عن جرائم الرأي مخالفة للتوجه الحالي للمجتمعات المدنية الداعية للمزيد من الحريات العامة مما قد يترتب على ذلك من آثار سلبية تطال سمعة الكويت أمام الرأي العام المحلي والدولي».
وبينما كانت الجماعات المتشددة وتلك المنتمية لتيار الإسلام السياسي ترقص طرباً باعتقال البغدادي، وتسخر من تحويله إلى بطل لحرية الرأي، وتصف الحكم عليه بالحكم العادل، وتستنكر دعوات إطلاق سراحه بحجة أنها تدخل في قرارات السلطة القضائية، كانت بيانات الاستنكار ضد اعتقال البغدادي تتوالى. فقد وصف الشيخ عبدالعزيز الحبيب في بيان صادر من مكتبه القضية بأنها «قضية حق يراد به باطل». كما أعلن المنبر الديمقراطي تمسكه بمبدأ حرية الرأي المنصوص عليه في الدستور، مؤكداً أنه، رغم احترامه وتقديره للقضاء الكويتي، يستنكر ويشجب بشدة الحكم الصادر في قضية البغدادي لأن «فعله لا يخرج عن كونه قضية رأي»، ومناشداً الأمير، بوصفه الرئيس الأعلى للسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، التدخل للإفراج عن البغدادي. وأصدرت لجنة الدفاع عن حرية التعبير في جمعية الخريجين الكويتية بياناً حول اعتقاله قالت فيه إن «عملية الاعتقال أذهبت ما تبقى من كرامة لمجتمع متسامح يحكمه العقل والقانون».
وبهذا دخل البغدادي تاريخ بلاده كأول سجين رأي سياسي، لكن بعد مرور 14 يوماً قضاها في «سجن طلحة» مع المجرمين والمزورين وتجار المخدرات، وبعد أن تحول سجنه إلى قضية رأي عام محلي ودولي، صدر عفو أميري عنه فانتهت الزوبعة مؤقتاً. ونقول مؤقتاً لأنها عادت من جديد سنة 2005 وذلك حينما عارض أخباراً أفادت حينها بأن وزارة التربية والتعليم الكويتية بصدد زيادة حصص التربية الإسلامية، وتخصيص حصص في المرحلة الثانوية لتحفيظ القرآن الكريم على حساب حصص الموسيقى، حيث كتب أنه يفضل أن يتعلم ابنه الموسيقى على اعتبار أنها غذاء للروح يرتقي بذائقة الإنسان، وأن من يريد خلاف ذلك فليكن الموضوع اختياراً وليس إلزاماً.
أصدر البغدادي خلال حياته التي امتدت إلى 59 سنة فقط عدداً من المؤلفات في مجال تخصصه مثل: «الديمقراطية معنى ومبنى»، «التصنيف السياسي لانتخابات مجلس الأمة 1999» (بالاشتراك مع زميله الأكاديمي الدكتور فلاح المديرس)، «حزب التحرير.. دراسة في مفهوم الدولة الإسلامية»، «الدولة الإسلامية بين الواقع التاريخي والتنظير الفقهي»، «الشيخ عبدالله السالم إنساناً ورجل دولة»، «الفكر الإسلامي والإعلان العالمي لحقوق الإنسان»، «الفكر السياسي لأبي الحسن الماوردي»، «الفكر السياسي لابن تيمية» (ترجمة)، «دراسات في فقه السياسة الشرعية»، «أحاديث الدين والدنيا»، «ليبرالية بلا ليبراليين»، «الإسلام الليبرالي»، «توجهات الرأي العام الكويتي حول القضايا السياسية» (بالاشتراك مع الدكتور فلاح المديرس). هذا إضافة إلى كتاب «تجديد الفكر الديني» وهو أول كتاب طبعه خارج الكويت (في بيروت سنة 1996)، معللاً السبب بالمراقبة والمصادرة في المقام الأول التي لم يتصالح معها على طول الخط، ناهيك عن عدم قبوله بالمساواة على مضمون الكتاب كي يتم فسحه، وهو موقف كثيراً ما اتخذه في حياته بدليل إقدامه مع زميله الدكتور فلاح المديرس على الاستقالة من وظيفة مستشار في مجلس الأمة الكويتي وذلك حينما تعرضا لضغوط لتغيير مواقفهما المستقلة وقناعتهما الفكرية الحرة. وفي الصفحة 203 من هذا الكتاب نقرأ الآتي: «لا مجال للخروج من المأزق الذي يعيشه المسلمون الآن، سوى التقدم بمفاهيم جديدة تتلاءم مع روح العصر ومقتضيات وقائعه، ولا يعني ذلك رفض المفاهيم الدينية أو إنكارها، فالدين أساسي لكل مجتمع، إذ لا روح لمجتمع لا دين فيه». وبطبيعة الحال، فإن مثل هذا التصريح الواضح للمؤلف يدحض شكوك كل الذين خاصموه وتقوّلوا عليه وطعنوا في شخصه ودينه وعلاقته بربه، ويؤكد في الوقت نفسه أنه كان داعية من دعاة الإصلاح يهدف إلى تلافي سلبيات الفكر الديني وإحلال الإيجابيات مكانه.
شبّه أحدهم ما حدث للبغدادي من مناكفة ومطاردة وتهديد بما حدث لغيره من أبناء الكويت في زمن سابق فكتب: «الكويت كحال باقي بلدان العالم التي أنجبت علماء كبار.. ظهر منها من طلّ على مجتمعها بأفكار وأدبيات جديدة لم يعهدها الناس من قبل. ولكن كما يقول الفيلسوف الإنجليزي جون لوك «الأفكار الجديدة هي موضع شك دائماً وتتم مقاومتها غالباً لسبب أنها لم تصبح شائعة بعد» ونستذكر في ذلك هجرة (الجامعي الأول بتاريخ الكويت) الشيخ الأزهري مساعد البريكي في أوائل القرن الماضي إلى البحرين نتيجة بعض آرائه السياسية ودعوته لتعليم البنات، في الوقت الذي كانت فيه المرأة عورة بأكملها! ونذكر أيضاً الشاعر فهد العسكر الذي ازدراه جيله وأنصفته الأجيال اللاحقة».
وقال الكاتب العراقي داوود البصري (انظر صحيفة الخليج الإماراتية، عدد 9/8/2012): «البغدادي عاش مرحلة من أهم مراحل التكوين والبناء الوطني، وبرز في مرحلة إبداع العناصر الوطنية، الذين أضافوا إلى ساحة الفكر العربي إضافات مهمة، وكغيره من المجتهدين وأصحاب الآراء الحرة، دفع من دمه وأعصابه وراحته وصحته ثمناً غالياً في مواجهاته الفكرية، حيث كان عدواً شرساً للتطرف بكل أشكاله وصيغه».
وأخيرا يُذكر أن البغدادي شعر بقرب رحيله فكتب وصيته وهو على فراش المرض، حيث خاطب زوجته «أم أنور» قائلاً: «لقد كنتِ نعم الزوجة الصالحة والأم الحافظة لبيتك... شكراً على سنوات العمر الجميلة التي قضيتها معك بحكمتك ورجاحة عقلك». وخاطب أولاده بقوله: «ابقوا متحابين ومتعاضدين في وجه الدنيا. لا تلجأوا إلى مخفر أو نيابة أو قضاء لحل مشكلاتكم. ليحترم الصغير فيكم الكبير، وليعطف الكبير على الصغير. الله الله في أمكم ترى الجنة تحت أقدامها. رضا الله عليكم من رضاها وغضبه من غضبها». ثم أخبرهم بأن ما يتبقى من إرث مالي بعد سداد حقوق الغير، عليهم أن يتقاسموه بالتساوي «تحقيقاً للعدل الذي أؤمن به».
«لماذا».. مقالة الأسئلة المثيرة للشفقة
من مقالاته، مقالة طرح فيها العديد من الأسئلة في صيغة «لماذا؟» واصفاً تلك الأسئلة بأنها مثيرة للشفقة في حياتنا، ولكننا لا نهتم بإثارتها، بل لا نهتم حتى بالتفكير فيها، ومضيفاً: «من الواضح أن الشعوب العربية والإسلامية قد أدمنت العجز حتى ألفته، كما أدمنت الاستبداد حتى اعتادته، وألفت الخضوع حتى ارتاحت من همّ السؤال». من «اللماذات» التي عددها:لماذا لا توجد في بلادنا العربية حدائق جميلة ونظيفة مثل الريجنت بارك والهايد بارك البريطانية؟ لماذا لا توجد لدينا جامعات محترمة ذات سمعة علمية عالية مثل أكسفورد وييل؟ لماذا نكذب ونزور تاريخنا عند تلقينه أولادنا، بدلاً من تعليمهم الحقيقة؟ لماذا لا يوجد كتاب واحد حول حقوق الإنسان في تراثنا العربي والإسلامي؟ لماذا لم نعرف الديمقراطية إلا بعد أن تم استعمار بلداننا، وفوق هذا فشلنا حتى في تطبيقها وتطويرها؟ لماذا فشلنا في تأسيس مجتمع مدني محترم؟ لماذا يبلغ تعدادنا السكاني قرابة مليار ونصف مليار مسلم، ولم نحصل سوى على خمس جوائز نوبل، في حين أن عدد اليهود لا يزيد على 17 مليونا ولديهم أكثر من 180 جائزة نوبل وفي العلوم؟ لماذا نتعامل مع المرأة باعتبارها إنسانة من الدرجة الثانية؟ لماذا يعتبر المسلمون الأقلية الوحيدة في العالم التي لا تندمج مع قيم الحداثة الغربية؟ لماذا نُعد الأمة الوحيدة التي لا تزال تستخدم مصطلح التكفير؟ لماذا لا نزال إلى اليوم الأمة الوحيدة التي تمنع الكتب وتضع المثقفين في السجون؟ لماذا لا نزال إلى اليوم نرفض الحوار والاعتراف بالآخر؟ لماذا نعتبر أنفسنا مالكي الحقيقة المطلقة؟ لماذا لا تنتعش الفلسفة والعلوم الاجتماعية في جامعاتنا ومدارسنا؟ لماذا يخلو تاريخنا من تحرك للدفاع عن المظلومين والدفاع عن الإنسان كإنسان؟ لماذا نركض وراء المخترعات الغربية، ولا نهتم بأفكارهم الحداثية؟ لماذا نشتم الغرب ونتراكض على العلاج عنده حين المرض؟ لماذا لا نحترم المواعيد والوقت رغم أننا نلبس أغلى الساعات؟ لماذا نتشدق دائماً بالقانون ولا نحترمه عند التطبيق؟ لماذا لا نقول للأعور يا أعور بدلاً من المجاملات الرخيصة؟ لماذا ندعي دائماً الدفاع عن الإسلام ونحن أول من نقوم بتشويهه؟
وبسبب مواقفه الجريئة من تيار الإسلام السياسي، واجه محاربة شرسة بمختلف الأسلحة والأدوات، وطاردته في مختلف المحافل، وأقامت عليه الدعاوى القضائية المتتالية، دونما شفقة على أوضاعه الصحية المتدهورة بسبب أمراض القلب والسكري، فكانت حالته مشابهة لحالة زميله المصري نصر حامد أبوزيد؛ طبقاً لما كتبه الصحفي اللبناني المقيم في الكويت حمزة عليان في كتابه «وجوه من الكويت» (دار السلاسل للطباعة والنشر والتوزيع/ الكويت/ 2012)، لاسيما أن الرجلين كانا صديقين بدليل دعوة البغدادي له لزيارة الكويت من أجل إلقاء محاضرة حول «إنارة العقل العربي»، وهي المحاضرة التي لم تتم بسبب منع أبوزيد من دخول الكويت؛ استجابة لطلب تقدم به التيار الأصولي المتشدد.
ولهذه الأسباب مجتمعة، فكّر البغدادي مراراً بالهجرة من بلده والسعي للحصول على لجوء سياسي في الخارج. وفي هذا السياق ذكر عليان أنّ البغدادي رأى في البحرين مكاناً مناسباً له للإقامة قبل أن يقرر الذهاب إلى لبنان الذي بنى فيه سكناً له ولعائلته الصغيرة، غير أن الأمراض تكالبت عليه فاضطر للسفر إلى لندن للعلاج حيث تحسنت حالته، وقرر العودة إلى الكويت فوراً قائلاً: «إنه مشتاق إليها كثيراً؛ لأن لا شيء يعادل قيمة الوطن». غير أن صحته انتكست مجدداً، فواصل علاجه في مستشفى الشيخ خليفة في أبوظبي إلى أن اختاره المولى إلى جواره.
ولأني كنت من معارف الرجل، وممن حظي بصداقته من خلال المنتديات الخليجية التي كنا نُدعى إليها، لا سيما منتدى التنمية الخليجي، الذي كان البغدادي أحد مؤسسيه الأوائل، ثم منتدى الاتحاد السنوي في أبوظبي بحكم أنّ كلينا كنا من كتاب صحيفة الاتحاد الظبيانية، فإني أستطيع أن أقول بثقة أن الرجل كان يكنّ حبّاً خاصاً للبحرين والبحرينيين، ويراقب بشغف التحولات الإصلاحية هناك، متألما في الوقت نفسه مما أصاب التجربة الكويتية الرائدة خليجياً لجهة سطوة التيار الديني عليها.
يقول عليان في الصفحة 35 من كتابه سالف الذكر، إن أكثر ما كان يغيظ إسلامويو الكويت هو أن البغدادي كان مفكراً ليبرالياً حرّاً ذا رؤى تنويرية، وفي الوقت نفسه إنساناً ملتزماً يؤدي الفروض الدينية كالصلاة والصوم. لقد كان صاحبنا «يعتقد أن الليبرالية مرتبطة بالحقوق والمساواة وليس برفض الدين». تشهد على ذلك مقالاته في صحف الطليعة والسياسة والأيام والاتحاد وغيرها من الصحف والمجلات والنشرات. تلك المقالات التي أثارت على مدى سنوات الكثير من الجدل، وشكلت همّاً ثقيلاً ومزعجاً للمتشددين والأصوليين ممن لم يجدوا أمامهم وسيلة لإسكات صوته سوى تهديده في حياته وجره المرة تلو المرة إلى ساحات القضاء وتأليب البسطاء والدهماء عليه.
في حياته الخاصة، عُرف عن البغدادي عشقه للموسيقى والغناء، إذ كان يحلو له في إجازاته الاستماع إلى أغاني أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وعبدالله الرويشد وبعض الأغاني الشعبية العراقية، كما عُرف عنه عشقه للقراءة بدليل أنه ترك وراءه وقت وفاته مكتبة احتوت على أكثر من 5000 عنوان. هذا ناهيك عن خصلة اتصف بها مدى حياته وهي التمسك باستقلاليته وعدم قبوله المساومة على ما يؤمن به. ولعل هذه الخصلة تحديداً، وهي خصلة لا يتصف بها سوى أصحاب النفوس الأبية الشريفة والضمائر الحية النقية، كانت وراء عدم حصوله على ترقيات أكاديمية مستحقة مثل الصعود إلى مرتبة عميد أو مساعد عميد.
في السادس من أكتوبر سنة 1999، تعرض البغدادي لأقسى تجارب حياته، وذلك حينما قام رجال الحسبة بتقديم شكوى ضده بحجة إساءته للدين، فحكمت المحكمة الكويتية المختصة عليه بالسجن شهراً بتهمة الطعن في ثوابت العقيدة الإسلامية، وتلا الحكم القبض عليه كأي مجرم دون أدنى احترام لمكانته الأكاديمية والفكرية، ودون أي اكتراث بما قاله من أنه مستعد لتسليم نفسه بمجرد اتصال إدارة تنفيذ الأحكام به. وقتها اقترح عليه محاميه عبدالكريم جاسم حيدر بناء على طلب من طبيبه أن يدخل المستشفى لإجراء عملية جراحية في القلب، لكنه رفض الاقتراح قائلاً إنه لن يُجري العملية إلا بعد تنفيذ الحكم كيلا يُقال عنه أنه تهرب من حكم القضاء بادعاء المرض.
وقتها أيضاً عقد تجمع تضامني مع البغدادي في مقر جمعية أعضاء هيئة التدريس بجامعة الكويت، حيث دعت الجمعية أعضاءها إلى الامتناع عن التدريس كل يوم ثلاثاء حتى نهاية أكتوبر، وقام أحد أعضاء الهيئة وهو الدكتور سيف عباس بتحرك رمزي، إذ جلس في حرم الجامعة وأوثق يديه ورجليه استنكاراً لما سماه «تقييد حرية التعبير». ورأت الجمعية في بيان صحفي أصدرته «وجوب النظر إلى الحريات الفكرية بمفهوم متكامل وبنظرة شاملة»، مضيفة أن «الحرية الفكرية التي مارسها الدكتور البغدادي تعضدها الحرية الأكاديمية، فما صدر كان ضمن تلك الحرية الأكاديمية، إذ إن الرأي المعبر عنه قد نشر داخل أسوار الجامعة وفي الحرم الجامعي»، كما أوضحت الجمعية في بيانها أن «عقوبة الحبس عن جرائم الرأي مخالفة للتوجه الحالي للمجتمعات المدنية الداعية للمزيد من الحريات العامة مما قد يترتب على ذلك من آثار سلبية تطال سمعة الكويت أمام الرأي العام المحلي والدولي».
وبينما كانت الجماعات المتشددة وتلك المنتمية لتيار الإسلام السياسي ترقص طرباً باعتقال البغدادي، وتسخر من تحويله إلى بطل لحرية الرأي، وتصف الحكم عليه بالحكم العادل، وتستنكر دعوات إطلاق سراحه بحجة أنها تدخل في قرارات السلطة القضائية، كانت بيانات الاستنكار ضد اعتقال البغدادي تتوالى. فقد وصف الشيخ عبدالعزيز الحبيب في بيان صادر من مكتبه القضية بأنها «قضية حق يراد به باطل». كما أعلن المنبر الديمقراطي تمسكه بمبدأ حرية الرأي المنصوص عليه في الدستور، مؤكداً أنه، رغم احترامه وتقديره للقضاء الكويتي، يستنكر ويشجب بشدة الحكم الصادر في قضية البغدادي لأن «فعله لا يخرج عن كونه قضية رأي»، ومناشداً الأمير، بوصفه الرئيس الأعلى للسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، التدخل للإفراج عن البغدادي. وأصدرت لجنة الدفاع عن حرية التعبير في جمعية الخريجين الكويتية بياناً حول اعتقاله قالت فيه إن «عملية الاعتقال أذهبت ما تبقى من كرامة لمجتمع متسامح يحكمه العقل والقانون».
وبهذا دخل البغدادي تاريخ بلاده كأول سجين رأي سياسي، لكن بعد مرور 14 يوماً قضاها في «سجن طلحة» مع المجرمين والمزورين وتجار المخدرات، وبعد أن تحول سجنه إلى قضية رأي عام محلي ودولي، صدر عفو أميري عنه فانتهت الزوبعة مؤقتاً. ونقول مؤقتاً لأنها عادت من جديد سنة 2005 وذلك حينما عارض أخباراً أفادت حينها بأن وزارة التربية والتعليم الكويتية بصدد زيادة حصص التربية الإسلامية، وتخصيص حصص في المرحلة الثانوية لتحفيظ القرآن الكريم على حساب حصص الموسيقى، حيث كتب أنه يفضل أن يتعلم ابنه الموسيقى على اعتبار أنها غذاء للروح يرتقي بذائقة الإنسان، وأن من يريد خلاف ذلك فليكن الموضوع اختياراً وليس إلزاماً.
أصدر البغدادي خلال حياته التي امتدت إلى 59 سنة فقط عدداً من المؤلفات في مجال تخصصه مثل: «الديمقراطية معنى ومبنى»، «التصنيف السياسي لانتخابات مجلس الأمة 1999» (بالاشتراك مع زميله الأكاديمي الدكتور فلاح المديرس)، «حزب التحرير.. دراسة في مفهوم الدولة الإسلامية»، «الدولة الإسلامية بين الواقع التاريخي والتنظير الفقهي»، «الشيخ عبدالله السالم إنساناً ورجل دولة»، «الفكر الإسلامي والإعلان العالمي لحقوق الإنسان»، «الفكر السياسي لأبي الحسن الماوردي»، «الفكر السياسي لابن تيمية» (ترجمة)، «دراسات في فقه السياسة الشرعية»، «أحاديث الدين والدنيا»، «ليبرالية بلا ليبراليين»، «الإسلام الليبرالي»، «توجهات الرأي العام الكويتي حول القضايا السياسية» (بالاشتراك مع الدكتور فلاح المديرس). هذا إضافة إلى كتاب «تجديد الفكر الديني» وهو أول كتاب طبعه خارج الكويت (في بيروت سنة 1996)، معللاً السبب بالمراقبة والمصادرة في المقام الأول التي لم يتصالح معها على طول الخط، ناهيك عن عدم قبوله بالمساواة على مضمون الكتاب كي يتم فسحه، وهو موقف كثيراً ما اتخذه في حياته بدليل إقدامه مع زميله الدكتور فلاح المديرس على الاستقالة من وظيفة مستشار في مجلس الأمة الكويتي وذلك حينما تعرضا لضغوط لتغيير مواقفهما المستقلة وقناعتهما الفكرية الحرة. وفي الصفحة 203 من هذا الكتاب نقرأ الآتي: «لا مجال للخروج من المأزق الذي يعيشه المسلمون الآن، سوى التقدم بمفاهيم جديدة تتلاءم مع روح العصر ومقتضيات وقائعه، ولا يعني ذلك رفض المفاهيم الدينية أو إنكارها، فالدين أساسي لكل مجتمع، إذ لا روح لمجتمع لا دين فيه». وبطبيعة الحال، فإن مثل هذا التصريح الواضح للمؤلف يدحض شكوك كل الذين خاصموه وتقوّلوا عليه وطعنوا في شخصه ودينه وعلاقته بربه، ويؤكد في الوقت نفسه أنه كان داعية من دعاة الإصلاح يهدف إلى تلافي سلبيات الفكر الديني وإحلال الإيجابيات مكانه.
شبّه أحدهم ما حدث للبغدادي من مناكفة ومطاردة وتهديد بما حدث لغيره من أبناء الكويت في زمن سابق فكتب: «الكويت كحال باقي بلدان العالم التي أنجبت علماء كبار.. ظهر منها من طلّ على مجتمعها بأفكار وأدبيات جديدة لم يعهدها الناس من قبل. ولكن كما يقول الفيلسوف الإنجليزي جون لوك «الأفكار الجديدة هي موضع شك دائماً وتتم مقاومتها غالباً لسبب أنها لم تصبح شائعة بعد» ونستذكر في ذلك هجرة (الجامعي الأول بتاريخ الكويت) الشيخ الأزهري مساعد البريكي في أوائل القرن الماضي إلى البحرين نتيجة بعض آرائه السياسية ودعوته لتعليم البنات، في الوقت الذي كانت فيه المرأة عورة بأكملها! ونذكر أيضاً الشاعر فهد العسكر الذي ازدراه جيله وأنصفته الأجيال اللاحقة».
وقال الكاتب العراقي داوود البصري (انظر صحيفة الخليج الإماراتية، عدد 9/8/2012): «البغدادي عاش مرحلة من أهم مراحل التكوين والبناء الوطني، وبرز في مرحلة إبداع العناصر الوطنية، الذين أضافوا إلى ساحة الفكر العربي إضافات مهمة، وكغيره من المجتهدين وأصحاب الآراء الحرة، دفع من دمه وأعصابه وراحته وصحته ثمناً غالياً في مواجهاته الفكرية، حيث كان عدواً شرساً للتطرف بكل أشكاله وصيغه».
وأخيرا يُذكر أن البغدادي شعر بقرب رحيله فكتب وصيته وهو على فراش المرض، حيث خاطب زوجته «أم أنور» قائلاً: «لقد كنتِ نعم الزوجة الصالحة والأم الحافظة لبيتك... شكراً على سنوات العمر الجميلة التي قضيتها معك بحكمتك ورجاحة عقلك». وخاطب أولاده بقوله: «ابقوا متحابين ومتعاضدين في وجه الدنيا. لا تلجأوا إلى مخفر أو نيابة أو قضاء لحل مشكلاتكم. ليحترم الصغير فيكم الكبير، وليعطف الكبير على الصغير. الله الله في أمكم ترى الجنة تحت أقدامها. رضا الله عليكم من رضاها وغضبه من غضبها». ثم أخبرهم بأن ما يتبقى من إرث مالي بعد سداد حقوق الغير، عليهم أن يتقاسموه بالتساوي «تحقيقاً للعدل الذي أؤمن به».
«لماذا».. مقالة الأسئلة المثيرة للشفقة
من مقالاته، مقالة طرح فيها العديد من الأسئلة في صيغة «لماذا؟» واصفاً تلك الأسئلة بأنها مثيرة للشفقة في حياتنا، ولكننا لا نهتم بإثارتها، بل لا نهتم حتى بالتفكير فيها، ومضيفاً: «من الواضح أن الشعوب العربية والإسلامية قد أدمنت العجز حتى ألفته، كما أدمنت الاستبداد حتى اعتادته، وألفت الخضوع حتى ارتاحت من همّ السؤال». من «اللماذات» التي عددها:لماذا لا توجد في بلادنا العربية حدائق جميلة ونظيفة مثل الريجنت بارك والهايد بارك البريطانية؟ لماذا لا توجد لدينا جامعات محترمة ذات سمعة علمية عالية مثل أكسفورد وييل؟ لماذا نكذب ونزور تاريخنا عند تلقينه أولادنا، بدلاً من تعليمهم الحقيقة؟ لماذا لا يوجد كتاب واحد حول حقوق الإنسان في تراثنا العربي والإسلامي؟ لماذا لم نعرف الديمقراطية إلا بعد أن تم استعمار بلداننا، وفوق هذا فشلنا حتى في تطبيقها وتطويرها؟ لماذا فشلنا في تأسيس مجتمع مدني محترم؟ لماذا يبلغ تعدادنا السكاني قرابة مليار ونصف مليار مسلم، ولم نحصل سوى على خمس جوائز نوبل، في حين أن عدد اليهود لا يزيد على 17 مليونا ولديهم أكثر من 180 جائزة نوبل وفي العلوم؟ لماذا نتعامل مع المرأة باعتبارها إنسانة من الدرجة الثانية؟ لماذا يعتبر المسلمون الأقلية الوحيدة في العالم التي لا تندمج مع قيم الحداثة الغربية؟ لماذا نُعد الأمة الوحيدة التي لا تزال تستخدم مصطلح التكفير؟ لماذا لا نزال إلى اليوم الأمة الوحيدة التي تمنع الكتب وتضع المثقفين في السجون؟ لماذا لا نزال إلى اليوم نرفض الحوار والاعتراف بالآخر؟ لماذا نعتبر أنفسنا مالكي الحقيقة المطلقة؟ لماذا لا تنتعش الفلسفة والعلوم الاجتماعية في جامعاتنا ومدارسنا؟ لماذا يخلو تاريخنا من تحرك للدفاع عن المظلومين والدفاع عن الإنسان كإنسان؟ لماذا نركض وراء المخترعات الغربية، ولا نهتم بأفكارهم الحداثية؟ لماذا نشتم الغرب ونتراكض على العلاج عنده حين المرض؟ لماذا لا نحترم المواعيد والوقت رغم أننا نلبس أغلى الساعات؟ لماذا نتشدق دائماً بالقانون ولا نحترمه عند التطبيق؟ لماذا لا نقول للأعور يا أعور بدلاً من المجاملات الرخيصة؟ لماذا ندعي دائماً الدفاع عن الإسلام ونحن أول من نقوم بتشويهه؟