-A +A
عكاظ (مكة المكرمة)
أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور فيصل بن جميل غزاوي المسلمين بتقوى الله عز وجل.

وقال غزاوي في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم بالمسجد الحرام : "فمما يطلبه المؤمن ويسعى في تحصيله العلم النافع؛ فقد كان نبينا يسأل ربَّه بقوله: "اللهم إني أسألك علماً نافعاً" وبقوله : اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علمًا"، وفي الحديثين من التوجيهات أنه لا يُطلبُ من العلم إلا النافع، وفيهما أيضا تعليم للأمة أن يسألوا الله أن يعلمهم ما ينفعهم بل قد جاء الحث مصرحا به في قوله: "سلوا الله علماً نافعاً "، ولا يكتفي العبد بسؤال الله العلمَ النافع بل يطلب الزيادة منه كما قال عز وجل: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا، أي ربِّ زدني علماً إلى ما علمتني، فأمر نبيه بمسألته من فوائد العلم ما لا يعلم، ولم يأمره سبحانه بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم، وفي هذا دلالة واضحة على فضيلة العلم، وأنه أفضل الأعمال، فلم يزل صلى الله عليه وسلم في الزيادة والترقي في العلم حتى توفّاه اللَّه تعالى.


وبين الشيخ فيصل غزاوي أن أفضل العلوم على الإطلاق هو العلم بالله، حيث قال ابن رجب رحمه الله : أفضل العلمِ العلمُ بالله، وهو العلم بأسمائه وصفاته وأفعاله، التي توجب لصاحبها معرفة الله وخشيته ومحبته وهيبته وإجلاله وعظمته والتبتل إليه والتوكل عليه والرضا عنه والانشغال به دون خلقه"، وقال ابن تيمية رحمه الله: والعلم بالله يراد به في الأصل نوعان: أحدهما العلم به نفسِه، أي بما هو متصف به من نعوت الجلال والإكرام، وما دلت عليه أسماؤه الحسنى، وهذا العلم إذا رسخ في القلب أوجب خشية الله لامحالة، فإنه لابد أن يعلم أن الله يثيب على طاعته، ويعاقب على معصيته.

ولفت فضيلته الانتباه إلى أن النوع الثاني من العلم بالله يراد به العلم بالأحكام الشرعية من الأوامر والنواهي، والحلال والحرام، قال ابن القيم رحمه الله: (فالعلم بالله أصل كل علم، وهو أصل علم العبد بسعادته وكماله ومصالح دنياه وآخرته، والجهل به مستلزم للجهل بنفسه ومصالحها وكمالها وما تزكو به وتفلح، فالعلم به سعادة العبد، والجهل به أصل شقاوته، ولا سعادة للعباد ولا صلاح لهم ، ولا نعيم إلا بأن يعرفوا ربهم ويكونَ وحده غايةَ مطلوبهم، والتعرفُ إليه قرةَ عيونهم، ومتى فقدوا ذلك كانوا أسوأَ حالا من الأنعام، وكانت الأنعام أطيبَ عيشا منهم في العاجل وأسلمَ عاقبةً في الآجل).

وأوضح إمام وخطيب المسجد الحرام أنه بحسب معرفة العبد بربه يكون إيمانه، فكلما ازداد معرفة بربه ازداد إيمانه ، وكلما نقص نقص قال صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا) حيث يستفاد منه أنه كلما كان الرجل أقوى في معرفة ربه، كان أقوى في دينه وكونه عليه الصلاة والسلام أعلمَنا بالله يتضمن أن علْمَه بالله أفضلُ من علم غيره به، وإنما زاد علمه بالله لزيادة معرفته بتفاصيل أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه وعظمته وكبريائه وما يستحقه من الجلال والإكرام والإعظام، ولكون علمه بالله مستندا إلى عين اليقين، فلما زادت معرفة الرسول بربه زادت خشيته له وتقواه، فإن العلم التام يستلزم الخشية, كما قال تعالى: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء )، وقال أَحْمَدُ الأَنْطَاكِيُّ رحمه الله : "مَنْ كَانَ بِاللَّهِ أَعْرَفَ كَانَ مِنَ اللَّهِ أَخْوَفَ"، فمن كان بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه أعلمَ كان له أخشى وأتقى، وإنما تنقص الخشية والتقوى بحسب نقص المعرفة بالله.

وأكد فضيلته أن العلم بالله وعبادته قضيتان متلازمتان لا تنفك إحداهما عن الأخرى وأمران مطلوبان لأنفسهما مقصودان لذاتهما لا يقوم أحدهما مقام الآخر، دل ذلك قوله تعالى : (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك)، (فاعلم) أمر بالعلم (واستغفر) أمر بالعمل، والعلم بأمر الله؛ أي العلم بحدود الله وأحكام شريعته من الحلال والحرام، إنما يطلب في الحقيقة بباعث العلم بالله تعالى، فيريد العبد أن يرضيه ويطيعه ويتبع أمره فيقبل على هذا العلم ليتبع أمر الله ويجتنب مساخطه، وبهذا يكون العلم بأمر الله دالاً على العلم بالله، وأما إن طلب هذا العلم لغير وجه الله فلا شك أنه يعود وبالاً على صاحبه، مستدلاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عَرَضاً من الدنيا لم يجد عَرْفَ الجنة يوم القيامة) يعني ريحَها, قال الأوزاعي رحمه الله : سأل رجل ابن مسعود رضي الله عنه: أيُّ العمل أفضل؟ قال: العلم، فكرر عليه ثلاثاً، كل ذلك يقول العلم، ثم قال: (ويحك إن مع العلم بالله ينفعك قليل العلم وكثيره، ومع الجهل بالله لا ينفعك قليل العمل ولا كثيره).

وقال فضيلته : "إن أعظم علم ينفع الإنسان في عاجله وآجله هو العلم بالله تعالى وبما يرضيه؛ فأعظم الجهل وأشده وأشنعه الجهل بالله تعالى وبدينه الذي ارتضاه لعباده، ومن عطل عقله عن تحصيل ما ينفعه من العلوم الشرعية التي بها يقيم دينه، ويعبد ربه فهو من الجاهلين، ولو كان مبرزا في علوم ا لدنيا؛ إذ إن أضر شيء على العباد أن يجهلوا ما ينفعهم وما يضرهم، وما يقربهم من الله تعالى وهو الإيمان به وطاعته، واتباع رسله؛ ولذلك امتدح الله تعالى العلم والعلماء، وذم الجهل وأهله، وأخبر أن أهل العلم وأهل الجهل لا يستويان أبدا مستدلاً بقوله تعالى (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ)، والجهل بالله تعالى وبدينه وبالحساب يوم القيامة من أعظم ما يعيق المرء عن الاستجابة للحق، ويدفعه إلى الوقوع في المحرمات والمعاصي، من عرف الله حق معرفته وآمن بصفاته الكاملة وقدرته التامة عصمه إيمانه من شرك العبادة، إذ لا يبتلى به إلا من لم يقدُر الله حق قدره فقد ذم الله تعالى عدمَ توقير طائفة من عباده له فقال تعالى : (ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز) فالمشركون لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم، فلم يقدروه حق قدره.

وحذر فضيلته من موجة الإلحاد التي اجتاحت بلاد العالم فاكتسبت أنصارا وشهدت تمددا حتى زحفت نحو بلاد المسلمين وخاصة الشباب فعصفت بقلوب من جهلوا ربهم ولم تتأسس معرفته في نفوسهم وتسللت إلى عقولهم وفكرهم فجعلتهم حيارى متذبذبين بل قد أفضى ذلك ببعضهم إلى إنكار الرب وهجر العبادات وانقطاع الانتماء لمجتمعهم المسلم حاملين ثقافة دخيلة مستوردة قائمة على الشك وناقمة على الثقافة الإسلامية، وأن هذه الموجة الإلحادية تستدعي - من باب النصح للأمة ونصرة الحق - قيامَ أهل العلم بواجبهم في التصدي لها دحرا لجهود حاملي لوائها وكشفا لحقائقهم، فدعاة الإلحاد يحرصون على نشر باطلهم لدى الفتيان والفتيات خاصة؛ فيُخاف على افتتان الشباب بهم أكثر مما يخاف من غيرهم من دعاة الباطل؛ فإنهم لا يألون جهدًا في بث الإلحاد بأساليب شتى وصور مختلفة، فكان ضررهم أكثر وتأثيرهم أكبر.. ذلك أن فكر الإلحاد يعني في مضمونه ميل الإنسان عن فطرة الألوهية والتدين وعن المنهج الحق الذي أمره خالقه باتباعه، والمسلم بحاجة إلى أن تستقر معاني توحيد الربوبية في نفسه لأنه هو معرفة الله تعالى، وهو أصل الدين، فقضايا توحيد الربوبية تخفى على كثير من عوام المسلمين.

وأكد فضيلة الشيخ غزاوي على وجوب حماية مجتمعنا وشبابنا من هذا الخطر العظيم الداهم وهو الكفر بالله جل وعلا خاصة في مثل هذا الزمن الذي تعرض فيه موجات الإلحاد لبعض من لم يتعلم العقيدة الصحيحة ولم يتشبع منها وضعف تعظيم الله في نفسه، من خلال تأصيل هذه المسألة العقدية العظيمة وتفصيلِها بعرض دلائل توحيد الله في ربوبيته وإثبات وجوده وتبسيطها للناس والتعريف بها والتأكيد عليها، بما يكون حصنا حصينا للقلوب عن وقوع الشك والريب فيها فلا تنطلي عليها شبهات وأوهام أهل الضلال مشددا على أهمية دور المصلحين في هذه الأمة إذا جاءت الآيات التي فيها ذكر الله وذكر عظمته أن يرققوا القلوب بها ذلك أن عدم العناية اللازمة بقضية الربوبية يؤدي إلى تنامي ظاهرة الإلحاد وإنكار وجود الرب تقدس وتعالى.

وأفاد الشيخ غزاوي أن القلوب إذا لم يحركها حادي معرفةِ الله عز وجل وتعظيمُه، فإن العطب سيتمكن منها، والران سيكسوها، فأيَّ شيء يريده قلبٌ لم يتعرف على الله عز وجل، فالحياة المادية إذا استغرق فيها العبد وابتعد عن تذكير قلبه بمعرفةِ الله فإنه ولا شك سيستجلب الهموم والغموم، ويبتعد عن التوفيق، بل وعن لذة الحياة، فأيُّ لذة في حياة من لم يتعرف على الله، أو غفل عن سبل معرفته، وإذا كان مقررا عندنا أهميةُ معرفة الله عز وجل والثمرة التي يجدها المرء في ذلك فالسؤال المهم الذي يتبادر إلى الذهن وينبغي أن يكون شغلنا الشاغل، كيف نتعرف على الله عز وجل، ومجملُ الجواب عن ذلك هو أن نتدبر القرآن الكريم كلام الله عز وجل، ونعيشَ مع أسمائه الحسنى وصفاته العليا، ونتعلمها، ونتدبر معانيها وآثارها، ونكثر من العبادة وخصوصا عبادة التفكر والتقرب إلى الله عز وجل بأنواع العبادات، ذلك أن العلم بالله وعبادته هما الغاية من وضع الكعبة البيت الحرام للناس ببكة, مستشهداً بقوله تعالى : (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) فأخبر الله سبحانه أنه خلق الخلق ووضع بيته الحرام والشهر الحرام والهدي والقلائد ليعلم عباده أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير فقال: (الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) فدل على أن علم العباد بربهم وصفاته وعبادته وحده هو الغاية المطلوبة من الخلق والأمر، ومن عرف الله وقدره حق قدره عظمه وعظم ماعظمه سبحانه قال تعالى: (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)، فالمعظم لها يبرهن على تقواه وصحة إيمانه، لأن تعظيمها تابع لتعظيم الله وإجلاله فحري بمن عرف الله أن يعظم ما عظم الله وأن يستشعر شرف الزمان وشرف المكان فلا يتعدى حدوده ولا يرتكب محارمه.