الولايات المتحدة ليست وحدها التي تمثل تهديداً للعملاق الآسيوي الصين، وهو تهديد بلغ ذروته بعدما اتهمت إدارة الرئيس دونالد ترمب الصين بـ«تصدير الفايروس الصيني»، في إشارة إلى انطلاق وباء فايروس كورونا الجديد (كوفيد-19) من مدينة ووهان الصينية، وهو اتهام ترفضه الصين بشدة. وقد فتح التوتر بين الدولتين العظميين باباً واسعاً لرسم ما يمكن أن يتخيله المحللون السياسيون من سيناريوهات لمستقبل هذا النزاع. فقد بدأ الغرب -على الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي- البحث عن وسيلة للقيام بدور «الزعامة العالمية» لسحق الصعود الصيني المطّرد في التجارة، والتصنيع، والتكنولوجيا. وتحدثت بريطانيا والاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي عن ضرورة «إعادة تعريف العلاقة» مع الصين. وقالت المفوضية الأوروبية (الأربعاء) إنها ستكشف النقاب عن سلسلة من المقترحات لتعزيز الصناعات المحلية الأوروبية، في حرب مستعرة ضد الشركات الصينية المتهمة بتلقي دعم مالي ضخم من الحكومة الصينية. وتواجه أوروبا محنة كبيرة من جراء وقوفها متفرجة على المسرح الدولي، فيما تسعى إدارة ترمب إلى الانسحاب شيئاً فشيئاً من الدور التقليدي كشرطي للعالم. غير أن التاريخ ينبئ عن معارك ومواجهات وحروب كثيرة بين الغرب والصين. وكما في كل حرب هناك منتصر ومهزوم. وإن كانت الصين سجلت بعض الانتصارات قديماً، إلا أنها كانت دوماً ضحية الغطرسة والعقلية الاستعمارية الغربية. إذن فالقراءة المتأنية للتاريخ يمكن أن توفر قدراً من المعينات لاستشراف المستقبل، بعد أن تنحسر نازلة وباء كورونا. لقد ظلت الحضارة الصينية قائمة منذ عهد حمورابي، وخلال العصر البرونزي، وعاصرت تلك الحضارة الحضارة المصرية القديمة، وحرب حصان طروادة في اليونان القديمة، والعصر الحديدي، وقرطاج، وحروب الفرس، وميلاد المسيح، والإمبراطورية الرومانية، وظهور الإسلام في الجزيرة العربية، وفتح القسطنطينية، والحروب الصليبية، وعصر النهضة، انتهاء بالثورة الصناعية، والحربين الكونيتين الأولى والثانية. وظلت الدولة الصينية، على رغم الحروب الأهلية داخلها، متواصلة الحضور على مدى أكثر من 3500 سنة. وحتى حين بدأ تسجيل وقائع التاريخ في تلك الفترة، كانت آثار الحضارات الصينية المتعاقبة قديمة جداً، وهو ما يعني أنها ربما بقيت متصلة الوجودة قبل ذلك بأكثر من ألفي سنة. وكانت الزراعة في الصين متقدمة على نظيرتها في أوروبا قبيل الثورة الصناعية. وبرع الصينيون في صنع البورسلين، وإنتاج الحرير، والري بالقنوات المائية؛ واختراع البوصلة، والشاي؛ بل إن الصين تقدمت على الغربيين باختراع الكتابة، وصناعة البارود، والأسلحة، وإقامة حكومة لإدارة البلاد بكفاءة. كما أن الصين تختلف عن الغرب في أن سكانها لم يفدوا إليها من الخارج، بل هم سكان أصليون يعودون بتاريخهم إلى مئات آلاف السنوات، منذ عهد الكهوف. وظلت الصين دولة موحدة منذعام 221 قبل الميلاد، حتى 1911. في عام 1662، اندلعت أول حرب بين الغرب والصين، وقد ربحتها الصين، التي طردت المستعمِرين الهولنديين من تايوان، وضمتها إلى الحكم الصيني. بيد أن أشهر الحروب التي شنها الغرب على الصين هي الحرب المعروفة بـ«حرب الأفيون». ويمكن اعتبارها في هذا الحيز نموذجاً لبعض القضايا التاريخية التي قد تلقي ضوءاً على المرارات التي تتبدى في تصرفات الغرب والصين، كل تجاه الآخر، في الوقت الراهن.
مخدرات وشاي.. وفضة!
كان اندلاع الثورة الصناعية في الأقطار الغربية، بدءاً من عام 1700، حداً فاصلاً في العلاقات بين القوتين العالميتين. فمع تقدم بريطانيا، وفرنسا، وهولندا في الصناعة، تطورت قدراتها في تصنيع أسلحة، ومدافع أفضل. كما أن الثورة الصناعية أوجدت بضائع لا بد أن يجد لها الغرب سوقاً، ولو بالقوة! وكان الأفيون قد غدا مشكلة اجتماعية حقيقية بالنسبة للسلطات الصينية. كما أن تهريب الأفيون للصين خلق طبقة من العصابات الثرية التي تسيطر على هذه التجارة المدمرة داخل البلاد. كانت تلك العصابات تشتري الأفيون من البريطانيين في مقابل الفضة. وكانت الفضة معدناً على قدر من الأهمية للإمبراطور الصيني، إذ إن الضرائب التي تقوم الدولة بجبايتها من الفلاحين يتم دفعها بجنيهات من الفضة. وشيئاً فشيئاً بدأ المهربون الأجانب يستأثرون بأكبر قدر من الفضة، بينما تواجه حكومة الإمبراطور صعوبة في الحصول على الفضة، لتمويل برامجها وخططها وإنفاقها. وارتفعت أسعار الفضة ارتفاعاً باهظاً، يعتقد أنها بلغت نسبة 70% من الأسعار السابقة. وكان أول ضحايا ذلك الفلاحين الذين يتعين عليهم بعد الحصاد أن يقوموا بتبديل عملاتهم المعدنية بفضة ليقوموا بتسليمها للسلطات، طبقاً لنظام الضرائب السائد. ودهم الصين ركود اقتصادي كبير. وفي عام 1838 ظهرت مخاوف من أن تقع اضطرابات في أنحاء الصين، جراء الأزمة الاقتصادية الحادة.
في ضوء ذلك قرر إمبراطور الصين إنفاذ إجراءات الحظر على تهريب الأفيون، والاتجار به، وتعاطيه. وكان عدد المدمنين في الشوارع الصينية لا يمكن إحصاؤه. وعلى الأثر رأت بريطانيا في التحرك الصيني الداخلي تهديداً للمداخيل العالية التي كانت تدخل خزائنها من الصين، خصوصاً معدن الفضة. وفي عام 1839 اندلعت «حرب الأفيون» الأولى، التي استمرت حتى 1842. وما لبثت أن اندلعت «حرب الأفيون الثانية»، من 1856 إلى 1860. وكتبت الغلبة لبريطانيا، بأسلحتها المتقدمة، وأساطيلها البحرية التي بنت بها إمبراطورية لم تكن الشمس تغرب عن أرجائها. وخضعت الصين لسلسلة من المعاهدات التي تعرف في التاريخ باسم «المعاهدات الظالمة». أشهرها «معاهدة نانكنغ» (1842)، و«معاهدة بكين» (1860). وتمت الحرب الثانية بإسناد من جيش إمبراطور فرنسا. وبموجب معاهدة بكين أجبر إمبراطور الصين على التنازل عن شبه جزيرة كاولون، لتصبح جزءا من هونغ كونغ، التي ألحقتها بريطانيا بسيادتها، وفتحت موانئها للسفن البريطانية والغربية، تحت إشراف موظفين غربيين.
إذن، فقد عاقبت بريطانيا الصين على قيام الإمبراطور بضبط سفن المهربين البريطانيين المحملة بالأفيون وحرقها. وبما أن المنتصر هو الذي يكتب شروط انتهاء النزاع، فقد أرغمت الصين بموجب معاهدة بكين على الإقرار بأن أي مكتسبات تحققت لأية دولة أجنبية يحق لجميع الدول الأجنبية الأخرى التمتع بها في الصين. كما أرغمت الصين على فتح موانئها وأسواقها أمام البضائع الأوروبية، إلى درجة تعيين موظفين بريطانيين وأوروبيين للإشراف على عمل الموانئ. وأرغمت معاهدة بكين الصين على دفع تعويضات لأية دولة أجنبية تحاربها وتُلحِق بها الهزيمة. وبموجب المعاهدة تم إنشاء هيئة للجمارك يشرف عليها ممثلو الدول الأوروبية، وعليها أن تضمن تحصيل أقساط التعويضات المشار اليها، والرسوم الجمركية على السلع الواردة للصين، بواقع خمسة بنسات فقط على السلعة الواحدة، ما أتاح للغرب غزو الصين بسلعه وبضائعه. ومنعت المعاهدة الصين من تطوير أي صناعات محلية، بدعوى حماية التعرفة الجمركية التي حددها الغرب طبقاً لمصالحه الاقتصادية.
وإذا قرر أي مواطن صيني مقاضاة أية شركة غربية أمام المحاكم المدنية، فيجب أن يكون القضاة من الأجانب، وكذلك قوانين التقاضي. وتم تحديد عدد من موانئ الصين باعتبارها مفتوحة أمام التجارة الغربية. وتم نشر موظفين غربيين هناك تم استثناؤهم من الخضوع للقوانين الصينية. وهكذا بدلاً من أن تستعمر بريطانيا الصين، كبقية البلدان التي استعمرتها، أضحت الصين خاضعة لاستعمار جميع القوى الغربية، بموجب أحكام معاهدة بكين في 1860. وشهد القرن التاسع عشر إرغام الصين على توقيع مزيد من المعاهدات المُذلّة، التي ضمنت هيمنة الأجانب على الشأن الصيني.
حرب الأفيون.. ثمن باهظ
بحلول ثلاثينات القرن الـ19، أضحى تعاطي حشيشة الأفيون مشكلة اجتماعية، واقتصادية خطيرة بالنسبة للشعب الصيني. كان تجار بريطانيون يقومون بنقل الأفيون إلى الصين منذ عام 1773. وبحلول عام 1838، كانت موانئ الصين تستقبل نحو 2500 طن من الحشيش سنوياً. ويقوم بتهريب تلك الكميات للصين مهربون بريطانيون وهنود. وكانت السلطات الصينية تحظر تجارة الحشيش، لكنها تغض الطرف عن إنفاذ حظرها. ونشأت عصابات خطيرة للسيطرة على تجارة الأفيون داخل الصين، مسنودة بمسؤولين حكوميين فاسدين. ونجمت عن ذلك طبقة من المهربين البريطانيين الأثرياء، والعصابات الصينية التي تزداد مداخيلها كلما انضم صيني إلى جوقة المتعاطين. والحقيقة أن شركة الهند الشرقية؛ وهي من أكبر شركات بريطانيا خلال الحقبة الاستعمارية، كانت المستفيد الأكبر من تهريب الأفيون للصين؛ إذ إنها تقوم بتصنيع الأفيون في البنغال، وتنقله للبيع في الصين. وخلال ثلاثينات القرن الـ19، أضحى الأفيون السلعة الأكثر تصديراً من الهند البريطانية آنذاك. وكانت عائدات الأفيون البريطانية تستخدم في شراء الشاي من الصين. وكان يخضع بعد وصوله للأراضي البريطانية لضريبة عالية، ما حمل مؤرخين وأكاديميين غربيين إلى اتهام الحكومة البريطانية آنذاك بالتورط في تلك التجارة القاتلة.
اليابان تغزو الصين وتستعمرها
وفي عام 1894، جاءت «فاجعة الفواجع»، بإقدام اليابان على إلحاق الهزيمة بالصين، لتشهد أسوأ استعمار يمكن أن تُذل له دولة عظمى في القارة الآسيوية. وزاد الغزو الياباني تكالب القوى الغربية على الصين، للاستئثار بمواردها الطبيعية، وثرواتها الضخمة، وأسواقعا المتسعة. وبلغ التكالب مداه بسعي دول غربية إلى تقسيم الصين.
في هذه المرحلة تدخلت الولايات المتحدة بشكل مكشوف؛ إذ اقترح وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جون هاي، في عام 1899، على الدول التي وقعت معاهدات مع الصين أن يتم اعتماد ما سماه «سياسة الباب المفتوح». ومفادها: أن أي دولة تسيطر على الصين يجب عليها أن تنتهج سياسة «الباب المفتوح» للتجارة الأمريكية. وعلى رغم ذلك، فإن مؤرخين سياسيين يعتبرون أن الاقتراح الأمريكي لا يعدو أن يكون بمثابة إعلان لاهتمام أمريكا بالصين. ويرون أن الموقف الأمريكي هو الذي كبح مساعي أوروبا لتقسيم الصين إلى مستعمرات أوروبية. كما أرغم ذلك الموقف اليابان على الامتناع عن انتزاع أي حقوق امتياز، أو إعلان السيادة على الأراضي الصينية.
خبايا حرب الأفيون.. بين الصين وبريطانيا
يتضح لمن يطالع تاريخ الصين الحديث أن حربيْ الأفيون الأولى (1839-1842) والثانية (1856-1860) أحدثتا تحولاً جذرياً في علاقة الصين مع الغرب. فقد انتهت الحربان بإرغام الصين على قبول «المعاهدات الظالمة»، التي سحقت السيادة الصينية، وفرضت قيوداً منعت الصين من التطور الصناعي؛ بل إن إحدى تلك المعاهدات أجبرت إمبراطور الصين على نقل عاصمته إلى بكين، التي اختارتها المعاهدة مقراً للدبلوماسيين الذين سيمثلون تلك الدول في الصين. غير أن لكل من بريطانيا والصين وجهات نظرهما إزاء حربي الأفيون.
موقف أخلاقي.. تعويض البريطانيين بالشاي !
ترى الصين أن قرار الإمبراطور في عام 1838 شن حملات صارمة على مهربي الأفيون، وتجاره المحليين الذين أضحوا يشكلون «مافيا» تستعصي على أي شرطة نظامية، إنما هو سياسة مبنية على موقف أخلاقي رافض لهذا المخدر المدمر للقدرات العقلية، الذي يستعبد المتعاطين، فيدمنونه، ويصبحون خارج عداد القوى العاملة، التي تعلق عليها الدولة الصينية أملاً في النهوض بالبلاد. وكان لين زيتشو، الذي عينه الإمبراطور في 1838، مفوضاً لمكافحة المخدرات، يرى أنه لا يوجد أي مبرر أخلاقي يسمح بغض الطرف عن هذه التجارة المدمرة. وحذر من أن التأثيرات الاجتماعية للأفيون أخطر من أن تُترك لشأنها. وفي أوج معركته ضد المهربين، كتب لين خطاباً إلى الملكة فكتوريا في بريطانيا، مستنكراً سماحها لرعاياها البريطانيين بتوريد هذا السم إلى الصين. وقال للملكة في رسالته: كل شيء يبيعه الصينيون للبريطانيين مفيد، كالشاي، والحرير، والخزف، وغير ذلك. ولكن ما هو المنطق الذي يبرر قيام الأجانب (البريطانيين) أن يرسلوا إلى الصين في المقابل مخدراً ساماً، يقوم أول من كل شيء بتدمير المواطنين الصينيين؟
وعلى رغم أنه لا يوجد دليل على أن الرسالة وصلت إلى الملكة فكتوريا، إلا أن أحد التجار البحريين البريطانيين أوصلها إلى لندن، ونشرتها صحيفة «التايمز» في صيف 1840. وكانت السلطات الإمبراطورية قررت منذ عام 1760 أن يقتصر دخول التجار البريطانيين للصين على ميناء كانتون، أقصى جنوب الصين، للحيلولة دون اتصال الأجانب بالمواطنين. وحتى في كانتون -التي كانت آنذاك ثالث أكبر مدينة في العالم- كانت تحركات الأجانب تقتصر على مجمع تجاري كبير في أطراف المدينة.
ولما يئس لين من وصول رد على رسالته للملكة، أصدر أمراً طلب بموجبه من تجار الحشيش البريطانيين تسليم الكميات التي بحوزتهم إلى السلطات الصينية. لكنهم أغفلوا تعليماته. والحقيقة أنهم أبقوا بضاعتهم على متن سفنهم، التي جعلوها ترسو قبالة الموانئ الصينية الأخرى. أصدر المفوض الصيني تعليمات بمنع جميع التجار البريطانيين من مغادرة ميناء كانتون، إلا إذا قاموا بتسليم الأفيون للسلطة الصينية. وأمر بسحب جميع العاملين والموظفين الصينيين من مجمع التجارة الحرة في كانتون، ونشر عدداً كبيراً من القوات في محيط المجمع.
ويبدو أن القرار أتى أُكله. فبعد يومين فقط من أوامر المفوض، تدخل المفوض التجاري لبريطانيا العظمى في الصين تشارلز إيليوت، ووجه التجار البريطانيين بتسليم بضاعتهم المسمومة للسلطات الصينية. واستغرق استدعاء السفن المحملة بالأفيون من سنغافورة ومانيلا قرابة نحو 6 أسابيع. وبعد التسليم، بلغ وزن الأفيون البريطاني 1300 طن. وبعد نحو 3 أسابيع، في يونيو 1839، نظم المفوض الصيني لين عرضاً ضخماً، تم خلاله إحراق الأفيون البريطاني، والإلقاء ببقاياه في البحر.
وبعد حرق الأفيون، توجه المفوض إلى القصر الإمبراطوري حيث أبلغ الإمبراطور بأن الرعايا البريطانيين رضخوا لتعليماته باسم الإمبراطور، وسلموا ما بحوزتهم من أفيون. واقترح على الإمبراطور أن يكافئ تجاوبهم مع الحملة الصينية بهدية ملائمة. فقرر الإمبراطور منح كل من التجار شحنة من الشاي، تعويضاً لهم عن الخسائر التي لحقت بهم. واعتبر المفوض لين أن الملف أُغلق، وأن الحملة بلغت غاياتها القصوى.
بريطانيا: لماذا لا نحارب الصين لتدفع ثمن الأفيون ؟!
كان لرجل بريطانيا الوحيد في الصين تشارلز إيليوت موقف أخلاقي مناهض للأفيون. وكان يعتبر تعاطيه عاراً. ولم يكن وضعه في الصين سهلاً. فقد عينته بريطانيا مفوضاً تجارياً لها في كانتون، الميناء الصيني الوحيد لرسو السفن الأجنبية. لكنه لم يكن يملك سلطة على التجار البريطانيين. وغالبية هؤلاء مهربون للحشيش من الهند للصين. وكان يرى أنه مما يثير الأسى أن يدرك شخص في موقعه الأهمية الاقتصادية للأفيون بالنسبة لخزانة الإمبراطورية البريطانية. وكانت تعليمات وزير الخارجية البريطاني آنذاك لورد بالمرستون لإيليوت واضحة: أن التجار البريطانيين يجب أن يلتزموا بالقانون الصيني طوال بقائهم في الأراضي الصينية. وإذا تورط أي منهم في مخالفة تلك القوانين، فعليه ألا يتوقع سنداً من الحكومة البريطانية. وكانت لندن تسعى جاهدة للنأي بنفسها عن مهربي الأفيون. وكان إيليوت يعيش على الدوام هاجس إمكان وقوع صدام بين الحكومة الصينية ومهربي الأفيون البريطانيين. ويخشى أن يتم تحميله مسؤولية أخطاء المهربين. وكان المهربون يعتقدون أن تهديدات المفوض الصيني لين لا تعدو أن تكون على شاكلة التهديدات الحكومية في كل مكان: تخويف وتنفير، من دون أن تُتْبِعَ السلطاتُ القولَ عملاً. وخشى إيليوت أن يسفر عصيان التجار البريطانيين عن صدور تعليمات صينية بإعدامهم، وإعدام جميع البريطانيين في ميناء كانتون. لذلك سعى جاهداً لحمل التجار على الانصياع للتعليمات الصينية.
بيد أن إيليوت لا يملك أية صلاحية على التجار البريطانيين. واختار حلاً فريداً لوضع حد للأزمة الناجمة عن قرار المفوض الصني. فقد جمع التجار البريطانيين وأبلغهم بأنه قرر شراء جميع كميات الأفيون التي بطرفهم، نيابة عن الحكومة البريطانية. وكان التجار يدركون أن سوق الأفيون الصينية لن تستطيع الانتعاش بعد السياسات الخانقة التي اتبعها المفوض لين. ولم يصدقوا أنهم سيجدون من يشتري بضاعتهم بالأسعار الجارية. فجلسوا إلى إيليوت، وطلبوا منه أن يوقع لهم على صكوك سترغم لندن على شراء أفيونهم في مقابل مليوني جنيه إسترليني. وأضحى الأفيون ملكاً للحكومة البريطانية!
لكن إيليوت بعث رسالة لوزير الخارجية لورد بالمرستون يبلغه فيها بأن المفوض الصيني لين هدده بأنه سيلحق أذى شديداً بالتجار البريطانيين. وطالب الوزير بإرسال أسطول بحري لحمايتهم. وأضاف في رسالته أن الحكومة البريطانية مطالبة بسداد مليوني جنيه لتجار الأفيون الذين اشترت بضاعتهم. ولأن بالمرستون كان يدرك سلفاً أنه يستحيل أن يقر مجلس العموم (البرلمان) تخويل صرف أموال من هذا القبيل، فقد اقترح على مجلس الوزراء البريطاني أن ترغم بريطانيا الصين على دفع ذلك المبلغ الضخم. وهكذا تقرر تكليف الأسطول البريطاني بشن حرب على الصين، لإرغامها على دفع مستحقات تجار الحشيش البريطانيين. ولما انتهت الحرب في عام 1842، لم تقتصر بريطانيا على المطالبة بأموال الأفيون، بل طلبت من الصين فتح جميع موانئها أمام سفن التجارة البريطانية والدولية، وباعتبار هونغ كونغ مستعمرة بريطانية. وعلى رغم أن المقترح البرلماني أثار انتقادات، وقوبل بمعارضة شديدة من عدد كبير من النواب، إلا أن البرلمان أجازه بفارق 9 أصوات. وبعد أيام تولى رئاسة الحكومة في لندن رئيس الوزراء وليام غلادستون، الذي كان قبل انتخابه مناوئاً لاقتراح الحرب على الصين، فكتب في مذكراته الخاصة: «إنني خائف من الحساب أمام الرب لإنجلترا على ظلمنا الوطني للصين». وكتبت مجلة «ذا سبيكتاتور» البريطانية بعد اندلاع الحرب افتتاحية جاء فيها: «مهما حاول الوزراء تجميل الحرب، لوصفها بأنها حرب محترمة؛ فإن «حرب الأفيون» ستظل تسميتها في مزبلة التاريخ».
وعلى رغم أن الصين ظلت تاريخياً تتعامل مع بعض المناطق باعتبارها صينية، لكنها تحكم ذاتها بذاتها؛ إلا أن القوى الغربية رأت غير ذلك. وانتهى الأمر بها خلال القرن الـ19 ومطلع القرن الـ20 إلى استيلاء اليابان على كوريا، التي ضمتها إليها في 1910. كما استولت فرنسا على فيتنام. واحتلت بريطانيا بورما ونيبال. وانتزعت روسيا بقاعاً من سيبريا. ولم تبق للصين سوى هضبة التيبت، التي لا تزال ترفض السيادة الصينية عليها.
مخدرات وشاي.. وفضة!
كان اندلاع الثورة الصناعية في الأقطار الغربية، بدءاً من عام 1700، حداً فاصلاً في العلاقات بين القوتين العالميتين. فمع تقدم بريطانيا، وفرنسا، وهولندا في الصناعة، تطورت قدراتها في تصنيع أسلحة، ومدافع أفضل. كما أن الثورة الصناعية أوجدت بضائع لا بد أن يجد لها الغرب سوقاً، ولو بالقوة! وكان الأفيون قد غدا مشكلة اجتماعية حقيقية بالنسبة للسلطات الصينية. كما أن تهريب الأفيون للصين خلق طبقة من العصابات الثرية التي تسيطر على هذه التجارة المدمرة داخل البلاد. كانت تلك العصابات تشتري الأفيون من البريطانيين في مقابل الفضة. وكانت الفضة معدناً على قدر من الأهمية للإمبراطور الصيني، إذ إن الضرائب التي تقوم الدولة بجبايتها من الفلاحين يتم دفعها بجنيهات من الفضة. وشيئاً فشيئاً بدأ المهربون الأجانب يستأثرون بأكبر قدر من الفضة، بينما تواجه حكومة الإمبراطور صعوبة في الحصول على الفضة، لتمويل برامجها وخططها وإنفاقها. وارتفعت أسعار الفضة ارتفاعاً باهظاً، يعتقد أنها بلغت نسبة 70% من الأسعار السابقة. وكان أول ضحايا ذلك الفلاحين الذين يتعين عليهم بعد الحصاد أن يقوموا بتبديل عملاتهم المعدنية بفضة ليقوموا بتسليمها للسلطات، طبقاً لنظام الضرائب السائد. ودهم الصين ركود اقتصادي كبير. وفي عام 1838 ظهرت مخاوف من أن تقع اضطرابات في أنحاء الصين، جراء الأزمة الاقتصادية الحادة.
في ضوء ذلك قرر إمبراطور الصين إنفاذ إجراءات الحظر على تهريب الأفيون، والاتجار به، وتعاطيه. وكان عدد المدمنين في الشوارع الصينية لا يمكن إحصاؤه. وعلى الأثر رأت بريطانيا في التحرك الصيني الداخلي تهديداً للمداخيل العالية التي كانت تدخل خزائنها من الصين، خصوصاً معدن الفضة. وفي عام 1839 اندلعت «حرب الأفيون» الأولى، التي استمرت حتى 1842. وما لبثت أن اندلعت «حرب الأفيون الثانية»، من 1856 إلى 1860. وكتبت الغلبة لبريطانيا، بأسلحتها المتقدمة، وأساطيلها البحرية التي بنت بها إمبراطورية لم تكن الشمس تغرب عن أرجائها. وخضعت الصين لسلسلة من المعاهدات التي تعرف في التاريخ باسم «المعاهدات الظالمة». أشهرها «معاهدة نانكنغ» (1842)، و«معاهدة بكين» (1860). وتمت الحرب الثانية بإسناد من جيش إمبراطور فرنسا. وبموجب معاهدة بكين أجبر إمبراطور الصين على التنازل عن شبه جزيرة كاولون، لتصبح جزءا من هونغ كونغ، التي ألحقتها بريطانيا بسيادتها، وفتحت موانئها للسفن البريطانية والغربية، تحت إشراف موظفين غربيين.
إذن، فقد عاقبت بريطانيا الصين على قيام الإمبراطور بضبط سفن المهربين البريطانيين المحملة بالأفيون وحرقها. وبما أن المنتصر هو الذي يكتب شروط انتهاء النزاع، فقد أرغمت الصين بموجب معاهدة بكين على الإقرار بأن أي مكتسبات تحققت لأية دولة أجنبية يحق لجميع الدول الأجنبية الأخرى التمتع بها في الصين. كما أرغمت الصين على فتح موانئها وأسواقها أمام البضائع الأوروبية، إلى درجة تعيين موظفين بريطانيين وأوروبيين للإشراف على عمل الموانئ. وأرغمت معاهدة بكين الصين على دفع تعويضات لأية دولة أجنبية تحاربها وتُلحِق بها الهزيمة. وبموجب المعاهدة تم إنشاء هيئة للجمارك يشرف عليها ممثلو الدول الأوروبية، وعليها أن تضمن تحصيل أقساط التعويضات المشار اليها، والرسوم الجمركية على السلع الواردة للصين، بواقع خمسة بنسات فقط على السلعة الواحدة، ما أتاح للغرب غزو الصين بسلعه وبضائعه. ومنعت المعاهدة الصين من تطوير أي صناعات محلية، بدعوى حماية التعرفة الجمركية التي حددها الغرب طبقاً لمصالحه الاقتصادية.
وإذا قرر أي مواطن صيني مقاضاة أية شركة غربية أمام المحاكم المدنية، فيجب أن يكون القضاة من الأجانب، وكذلك قوانين التقاضي. وتم تحديد عدد من موانئ الصين باعتبارها مفتوحة أمام التجارة الغربية. وتم نشر موظفين غربيين هناك تم استثناؤهم من الخضوع للقوانين الصينية. وهكذا بدلاً من أن تستعمر بريطانيا الصين، كبقية البلدان التي استعمرتها، أضحت الصين خاضعة لاستعمار جميع القوى الغربية، بموجب أحكام معاهدة بكين في 1860. وشهد القرن التاسع عشر إرغام الصين على توقيع مزيد من المعاهدات المُذلّة، التي ضمنت هيمنة الأجانب على الشأن الصيني.
حرب الأفيون.. ثمن باهظ
بحلول ثلاثينات القرن الـ19، أضحى تعاطي حشيشة الأفيون مشكلة اجتماعية، واقتصادية خطيرة بالنسبة للشعب الصيني. كان تجار بريطانيون يقومون بنقل الأفيون إلى الصين منذ عام 1773. وبحلول عام 1838، كانت موانئ الصين تستقبل نحو 2500 طن من الحشيش سنوياً. ويقوم بتهريب تلك الكميات للصين مهربون بريطانيون وهنود. وكانت السلطات الصينية تحظر تجارة الحشيش، لكنها تغض الطرف عن إنفاذ حظرها. ونشأت عصابات خطيرة للسيطرة على تجارة الأفيون داخل الصين، مسنودة بمسؤولين حكوميين فاسدين. ونجمت عن ذلك طبقة من المهربين البريطانيين الأثرياء، والعصابات الصينية التي تزداد مداخيلها كلما انضم صيني إلى جوقة المتعاطين. والحقيقة أن شركة الهند الشرقية؛ وهي من أكبر شركات بريطانيا خلال الحقبة الاستعمارية، كانت المستفيد الأكبر من تهريب الأفيون للصين؛ إذ إنها تقوم بتصنيع الأفيون في البنغال، وتنقله للبيع في الصين. وخلال ثلاثينات القرن الـ19، أضحى الأفيون السلعة الأكثر تصديراً من الهند البريطانية آنذاك. وكانت عائدات الأفيون البريطانية تستخدم في شراء الشاي من الصين. وكان يخضع بعد وصوله للأراضي البريطانية لضريبة عالية، ما حمل مؤرخين وأكاديميين غربيين إلى اتهام الحكومة البريطانية آنذاك بالتورط في تلك التجارة القاتلة.
اليابان تغزو الصين وتستعمرها
وفي عام 1894، جاءت «فاجعة الفواجع»، بإقدام اليابان على إلحاق الهزيمة بالصين، لتشهد أسوأ استعمار يمكن أن تُذل له دولة عظمى في القارة الآسيوية. وزاد الغزو الياباني تكالب القوى الغربية على الصين، للاستئثار بمواردها الطبيعية، وثرواتها الضخمة، وأسواقعا المتسعة. وبلغ التكالب مداه بسعي دول غربية إلى تقسيم الصين.
في هذه المرحلة تدخلت الولايات المتحدة بشكل مكشوف؛ إذ اقترح وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جون هاي، في عام 1899، على الدول التي وقعت معاهدات مع الصين أن يتم اعتماد ما سماه «سياسة الباب المفتوح». ومفادها: أن أي دولة تسيطر على الصين يجب عليها أن تنتهج سياسة «الباب المفتوح» للتجارة الأمريكية. وعلى رغم ذلك، فإن مؤرخين سياسيين يعتبرون أن الاقتراح الأمريكي لا يعدو أن يكون بمثابة إعلان لاهتمام أمريكا بالصين. ويرون أن الموقف الأمريكي هو الذي كبح مساعي أوروبا لتقسيم الصين إلى مستعمرات أوروبية. كما أرغم ذلك الموقف اليابان على الامتناع عن انتزاع أي حقوق امتياز، أو إعلان السيادة على الأراضي الصينية.
خبايا حرب الأفيون.. بين الصين وبريطانيا
يتضح لمن يطالع تاريخ الصين الحديث أن حربيْ الأفيون الأولى (1839-1842) والثانية (1856-1860) أحدثتا تحولاً جذرياً في علاقة الصين مع الغرب. فقد انتهت الحربان بإرغام الصين على قبول «المعاهدات الظالمة»، التي سحقت السيادة الصينية، وفرضت قيوداً منعت الصين من التطور الصناعي؛ بل إن إحدى تلك المعاهدات أجبرت إمبراطور الصين على نقل عاصمته إلى بكين، التي اختارتها المعاهدة مقراً للدبلوماسيين الذين سيمثلون تلك الدول في الصين. غير أن لكل من بريطانيا والصين وجهات نظرهما إزاء حربي الأفيون.
موقف أخلاقي.. تعويض البريطانيين بالشاي !
ترى الصين أن قرار الإمبراطور في عام 1838 شن حملات صارمة على مهربي الأفيون، وتجاره المحليين الذين أضحوا يشكلون «مافيا» تستعصي على أي شرطة نظامية، إنما هو سياسة مبنية على موقف أخلاقي رافض لهذا المخدر المدمر للقدرات العقلية، الذي يستعبد المتعاطين، فيدمنونه، ويصبحون خارج عداد القوى العاملة، التي تعلق عليها الدولة الصينية أملاً في النهوض بالبلاد. وكان لين زيتشو، الذي عينه الإمبراطور في 1838، مفوضاً لمكافحة المخدرات، يرى أنه لا يوجد أي مبرر أخلاقي يسمح بغض الطرف عن هذه التجارة المدمرة. وحذر من أن التأثيرات الاجتماعية للأفيون أخطر من أن تُترك لشأنها. وفي أوج معركته ضد المهربين، كتب لين خطاباً إلى الملكة فكتوريا في بريطانيا، مستنكراً سماحها لرعاياها البريطانيين بتوريد هذا السم إلى الصين. وقال للملكة في رسالته: كل شيء يبيعه الصينيون للبريطانيين مفيد، كالشاي، والحرير، والخزف، وغير ذلك. ولكن ما هو المنطق الذي يبرر قيام الأجانب (البريطانيين) أن يرسلوا إلى الصين في المقابل مخدراً ساماً، يقوم أول من كل شيء بتدمير المواطنين الصينيين؟
وعلى رغم أنه لا يوجد دليل على أن الرسالة وصلت إلى الملكة فكتوريا، إلا أن أحد التجار البحريين البريطانيين أوصلها إلى لندن، ونشرتها صحيفة «التايمز» في صيف 1840. وكانت السلطات الإمبراطورية قررت منذ عام 1760 أن يقتصر دخول التجار البريطانيين للصين على ميناء كانتون، أقصى جنوب الصين، للحيلولة دون اتصال الأجانب بالمواطنين. وحتى في كانتون -التي كانت آنذاك ثالث أكبر مدينة في العالم- كانت تحركات الأجانب تقتصر على مجمع تجاري كبير في أطراف المدينة.
ولما يئس لين من وصول رد على رسالته للملكة، أصدر أمراً طلب بموجبه من تجار الحشيش البريطانيين تسليم الكميات التي بحوزتهم إلى السلطات الصينية. لكنهم أغفلوا تعليماته. والحقيقة أنهم أبقوا بضاعتهم على متن سفنهم، التي جعلوها ترسو قبالة الموانئ الصينية الأخرى. أصدر المفوض الصيني تعليمات بمنع جميع التجار البريطانيين من مغادرة ميناء كانتون، إلا إذا قاموا بتسليم الأفيون للسلطة الصينية. وأمر بسحب جميع العاملين والموظفين الصينيين من مجمع التجارة الحرة في كانتون، ونشر عدداً كبيراً من القوات في محيط المجمع.
ويبدو أن القرار أتى أُكله. فبعد يومين فقط من أوامر المفوض، تدخل المفوض التجاري لبريطانيا العظمى في الصين تشارلز إيليوت، ووجه التجار البريطانيين بتسليم بضاعتهم المسمومة للسلطات الصينية. واستغرق استدعاء السفن المحملة بالأفيون من سنغافورة ومانيلا قرابة نحو 6 أسابيع. وبعد التسليم، بلغ وزن الأفيون البريطاني 1300 طن. وبعد نحو 3 أسابيع، في يونيو 1839، نظم المفوض الصيني لين عرضاً ضخماً، تم خلاله إحراق الأفيون البريطاني، والإلقاء ببقاياه في البحر.
وبعد حرق الأفيون، توجه المفوض إلى القصر الإمبراطوري حيث أبلغ الإمبراطور بأن الرعايا البريطانيين رضخوا لتعليماته باسم الإمبراطور، وسلموا ما بحوزتهم من أفيون. واقترح على الإمبراطور أن يكافئ تجاوبهم مع الحملة الصينية بهدية ملائمة. فقرر الإمبراطور منح كل من التجار شحنة من الشاي، تعويضاً لهم عن الخسائر التي لحقت بهم. واعتبر المفوض لين أن الملف أُغلق، وأن الحملة بلغت غاياتها القصوى.
بريطانيا: لماذا لا نحارب الصين لتدفع ثمن الأفيون ؟!
كان لرجل بريطانيا الوحيد في الصين تشارلز إيليوت موقف أخلاقي مناهض للأفيون. وكان يعتبر تعاطيه عاراً. ولم يكن وضعه في الصين سهلاً. فقد عينته بريطانيا مفوضاً تجارياً لها في كانتون، الميناء الصيني الوحيد لرسو السفن الأجنبية. لكنه لم يكن يملك سلطة على التجار البريطانيين. وغالبية هؤلاء مهربون للحشيش من الهند للصين. وكان يرى أنه مما يثير الأسى أن يدرك شخص في موقعه الأهمية الاقتصادية للأفيون بالنسبة لخزانة الإمبراطورية البريطانية. وكانت تعليمات وزير الخارجية البريطاني آنذاك لورد بالمرستون لإيليوت واضحة: أن التجار البريطانيين يجب أن يلتزموا بالقانون الصيني طوال بقائهم في الأراضي الصينية. وإذا تورط أي منهم في مخالفة تلك القوانين، فعليه ألا يتوقع سنداً من الحكومة البريطانية. وكانت لندن تسعى جاهدة للنأي بنفسها عن مهربي الأفيون. وكان إيليوت يعيش على الدوام هاجس إمكان وقوع صدام بين الحكومة الصينية ومهربي الأفيون البريطانيين. ويخشى أن يتم تحميله مسؤولية أخطاء المهربين. وكان المهربون يعتقدون أن تهديدات المفوض الصيني لين لا تعدو أن تكون على شاكلة التهديدات الحكومية في كل مكان: تخويف وتنفير، من دون أن تُتْبِعَ السلطاتُ القولَ عملاً. وخشى إيليوت أن يسفر عصيان التجار البريطانيين عن صدور تعليمات صينية بإعدامهم، وإعدام جميع البريطانيين في ميناء كانتون. لذلك سعى جاهداً لحمل التجار على الانصياع للتعليمات الصينية.
بيد أن إيليوت لا يملك أية صلاحية على التجار البريطانيين. واختار حلاً فريداً لوضع حد للأزمة الناجمة عن قرار المفوض الصني. فقد جمع التجار البريطانيين وأبلغهم بأنه قرر شراء جميع كميات الأفيون التي بطرفهم، نيابة عن الحكومة البريطانية. وكان التجار يدركون أن سوق الأفيون الصينية لن تستطيع الانتعاش بعد السياسات الخانقة التي اتبعها المفوض لين. ولم يصدقوا أنهم سيجدون من يشتري بضاعتهم بالأسعار الجارية. فجلسوا إلى إيليوت، وطلبوا منه أن يوقع لهم على صكوك سترغم لندن على شراء أفيونهم في مقابل مليوني جنيه إسترليني. وأضحى الأفيون ملكاً للحكومة البريطانية!
لكن إيليوت بعث رسالة لوزير الخارجية لورد بالمرستون يبلغه فيها بأن المفوض الصيني لين هدده بأنه سيلحق أذى شديداً بالتجار البريطانيين. وطالب الوزير بإرسال أسطول بحري لحمايتهم. وأضاف في رسالته أن الحكومة البريطانية مطالبة بسداد مليوني جنيه لتجار الأفيون الذين اشترت بضاعتهم. ولأن بالمرستون كان يدرك سلفاً أنه يستحيل أن يقر مجلس العموم (البرلمان) تخويل صرف أموال من هذا القبيل، فقد اقترح على مجلس الوزراء البريطاني أن ترغم بريطانيا الصين على دفع ذلك المبلغ الضخم. وهكذا تقرر تكليف الأسطول البريطاني بشن حرب على الصين، لإرغامها على دفع مستحقات تجار الحشيش البريطانيين. ولما انتهت الحرب في عام 1842، لم تقتصر بريطانيا على المطالبة بأموال الأفيون، بل طلبت من الصين فتح جميع موانئها أمام سفن التجارة البريطانية والدولية، وباعتبار هونغ كونغ مستعمرة بريطانية. وعلى رغم أن المقترح البرلماني أثار انتقادات، وقوبل بمعارضة شديدة من عدد كبير من النواب، إلا أن البرلمان أجازه بفارق 9 أصوات. وبعد أيام تولى رئاسة الحكومة في لندن رئيس الوزراء وليام غلادستون، الذي كان قبل انتخابه مناوئاً لاقتراح الحرب على الصين، فكتب في مذكراته الخاصة: «إنني خائف من الحساب أمام الرب لإنجلترا على ظلمنا الوطني للصين». وكتبت مجلة «ذا سبيكتاتور» البريطانية بعد اندلاع الحرب افتتاحية جاء فيها: «مهما حاول الوزراء تجميل الحرب، لوصفها بأنها حرب محترمة؛ فإن «حرب الأفيون» ستظل تسميتها في مزبلة التاريخ».
وعلى رغم أن الصين ظلت تاريخياً تتعامل مع بعض المناطق باعتبارها صينية، لكنها تحكم ذاتها بذاتها؛ إلا أن القوى الغربية رأت غير ذلك. وانتهى الأمر بها خلال القرن الـ19 ومطلع القرن الـ20 إلى استيلاء اليابان على كوريا، التي ضمتها إليها في 1910. كما استولت فرنسا على فيتنام. واحتلت بريطانيا بورما ونيبال. وانتزعت روسيا بقاعاً من سيبريا. ولم تبق للصين سوى هضبة التيبت، التي لا تزال ترفض السيادة الصينية عليها.