-A +A
علي فايع (أبها) alma3e@
في مذكرات «جيمي كارتر»، الرئيس التاسع والثلاثين للولايات المتحدة الأمريكية، اعتراف بأنّ القادة السعوديين كانوا الوحيدين الذين يقولون في العلن ما يقولونه له في المحادثات الخاصة، كما يقول الوزير غازي القصيبي في كتابه «الوزير المرافق».

ويمكن لقارئ الكتاب أن يستخلص المواقف السعودية من القضية الفلسطينية التي بدأت، كما يقول غازي القصيبي، بإصابته بخيبة أمل عندما دار النقاش حول الشرق الأوسط مع كيسنجر الذي كان ينظر إلى النزاع العربي الإسرائيلي من زاوية واحدة هي زاوية الحرب الباردة، وكان سعيداً لأن جمال عبدالناصر تلقّى درساً قاسياً يجعل الآخرين يترددون قبل أن يتحَدّوا الولايات المتحدة كما تحدّاها عبدالناصر. ويضيف القصيبي أنّ المباحثات في العلاقات السعودية الأمريكية لم تكن تستغرق غير وقت قصير من لقاءات القادة، فيما كانت معظمها مكرّسة لمشكلة الشرق الأوسط، ويستشهد بلقاء كارتر والملك فهد «الأمير آنذاك» الذي كان حريصاً على إقناع كارتر بمبدأين: قبول فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، والاعتراف بمنظمة التحرير.


كان هذا هو المحور الذي دارت حوله كل المباحثات، الرسمية منها والجانبية، التي لا تخلو من خيبات عظيمة كما حدث مع كارتر بعد لقاء الملك فهد «الأمير آنذاك»، وإعلانه بعد اللقاء بثلاث سنوات في غمرة الحمّى الانتخابية أن أحداً من الزعماء العرب الذين قابلهم لم يطالب بدولة فلسطين مستقلة. ويصف القصيبي شعوره بأنه لم يستطع لحظتها أن يغفر لكارتر هذا التجنّي الفظيع على التاريخ، لأنّ الأمير فهد كان في غاية الوضوح أمام كارتر حينما قال له: «الفلسطينيون يا فخامة الرئيس يريدون وطناً فلسطينياً خاصاً بهم. لا يريدون أن يكونوا جزءاً من الأردن أو من أي دولة عربية أخرى»، بل كان الأمير فهد صريحاً بأن قال: «ما لم تكن الدولة التي ستقام دولة فلسطينية خالصة فإنّ أيّ مجهود لإقامتها سيكون مجهوداً ضائعاً»!

ميتران من الطائف: ما تفعله إسرائيل حماقة كبرى

لم تكن القضية الفلسطينية التي يهتم بها المسؤولون السعوديون تقتصر على الحديث مع الأمريكيين فقط، فقد كانت محور النقاش والبحث مع كل قادة العالم. يذكر القصيبي في سيرة الوزير المرافق في صيف 1981 زار الرئيس الفرنسي الجديد ميتران السعودية، وكانت الزيارة في مدينة الطائف، ناقش معه الأمير فهد قضية الشرق الأوسط، قال ميتران -كما يقول القصيبي- سأكون واضحاً معكم كل الوضوح، سأقول لكم في هذه القاعة ما سأقوله في إسرائيل.

لن أتحدث أمامكم بلغة ووراءكم بلغة أخرى. إنني معروف بصلاتي القوية بإسرائيل وهي صلات قديمة نمت أساساً من خلال عملي في الحزب الاشتراكي وقد وعدت بزيارة إسرائيل وسأزورها، ولكن هذا لا يعني أنني أؤكد كل ما تفعله إسرائيل أن فرنسا ما زالت ملتزمة بالموقف الموحّد الذي اتخذته دول السوق الأوروبية المشتركة من الشرق الأوسط، موقفنا لم يتغيّر، لا نزال ننادي بانسحاب إسرائيل وبإشراك الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، إن تجاهل الفلسطينيون حماقة كبرى وسأقول هذا الكلام للإسرائيليين في عقر دارهم.

وفي المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقده مع الملك فهد «الأمير آنذاك» في نهاية الزيارة أكّد ميتران موقفه، بل إنه في إحدى إجاباته أشار إلى أنه يحترم منظمة التحرير الفلسطينية كحركة تحرير وطني ذات هدف سام.

المشروع السعودي للسلام.. قضية الساعة

لم تتوقف اهتمامات المسؤولين السعوديين بالقضية الفلسطينية عند المناقشات فقط، بل طغت على تصريحاتهم. ويذكر القصيبي أنه في صيف 1981 أدلى الملك فهد «الأمير آنذاك» لوكالة الأنباء السعودية بتصريح عن القضية الفلسطينية. كان التصريح يحتوي على مشروع للسلام مكوّن من 8 نقاط. وكانت النقاط تلخيصاً جيداً للموقف العربي المعتدل من القضية الفلسطينية، ولم تكن تخرج في جوهرها عن قراري مجلس الأمن 242 و338 بشأن الشرق الأوسط، وتحدث المشروع عن انسحاب إسرائيلي كامل وعن دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وغزة عاصمتها القدس وعن تعايش دول المنطقة.

بعد نشر التصريح بقليل، سافر الملك فهد «الأمير آنذاك» في زيارة خاصة للمغرب، إلا أن شيئاً غريباً حدث. بدأت ردود فعل عالمية تترى. صرحت دول عربية عديدة بأنها تؤيد المشروع وأعلنت إسرائيل معارضتها العنيفة. وقالت الولايات المتحدة إن المشروع جدير بالدراسة وأيدته الصين الشيوعية. وككرة الثلج تبدأ صغيرة ثم تكبر مع انحدارها بدأ المشروع يكتسب قوّة دفع ذاتية لا أعتقد أن أحداً قد توقعها حتى صاحب التصريح نفسه. بعد التصريح بشهر كان مشروع الملك فهد للسلام قضية الساعة في العالم العربي.

لا أحد يعرف كيف ولد هذا التصريح /‏‏‏ المشروع إلا الملك فهد وأولئك الذين شاركوا في صياغته. حدث أن الملك فهد اجتمع قبل التصريح بليلتين بعناصر معتدلة من قيادة فتح وقضى معها وقتاً طويلاً ولعل هذه الحادثة هي التي أدّت إلى ظهور انطباع عام في المملكة على الأقل أنّ المشروع يحظى بموافقة فتح أو على الأقل بعض العناصر المعتدلة فيها، إلا أن كل هذا مجرد تخمينات.

لماذا لم يجتمع العرب على موقف السادات؟

استمرت ردود الفعل المؤيدة تتوالى، لم يبق في المملكة سفير واحد إلاّ وأعلن تأييد بلاده للمشروع. وكانت القمة العربية الثالثة عشرة على وشك الانعقاد، وفجأة وبدون تخطيط سابق، أصبح المشروع الموضوع الرئيسي في جدول الأعمال واختفت المواضيع الأخرى، بدأ الملك فهد «الأمير آنذاك» يبدي اهتماماً متزايداً بتطوّرات مشروعه. أيّدت دول الخليج بدرجات متفاوتة من الحرارة المشروع فتحوّل أو كاد إلى مشروع خليجي ومع تأييد عدد متزايد من الدول العربية بدأ الأمل يدبّ في النفوس في أن يتحوّل المشروع إلى مشروع عربي للسلام.

وكما يقول القصيبي، فقد كان الملك فهد «الأمير آنذاك» بطبيعته ومن واقع خبرته السياسية الطويلة رجلاً يميل إلى السلام، لأنه يدرك أنّ أيّ مواجهة مع إسرائيل في ظل ظروف الفرقة العربية القائمة ستنتهي بانتصار إسرائيلي ساحق. كما كان يدرك أن موقف السادات من السلام لم يكن بالموقف الذي يمكن أن تجمع عليه الأمة العربية. كان الملك فهد «الأمير آنذاك» يرى أن السادات قد ضيّع الفرصة التاريخية التي تهيأت له لإيجاد سلام مشرّف، كما ضيّع من قبله عبدالناصر الفرصة التاريخية التي تهيأت له لقيادة العرب، ضيعها السادات بالاستسلام التام في آخر لحظة وضيعها عبدالناصر برغبته في جعل الآخرين مجرّد أتباع له، لقد كان الملك فهد يطمع في الوصول إلى ما فشل السادات في تحقيقه: إيجاد صيغة معقولة مشرّفة يتبناها العرب أولاً، ويتبناها العالم ثانياً، ثم تقوم الولايات المتحدة بالضغط على إسرائيل لقبولها، ولكي يتحقق ذلك فلابد من ثمن، وهذا الثمن هو الاعتراف بوجود إسرائيل.

كان المفروض، كما يقول القصيبي، في انعقاد جلسة مجلس التعاون الخليجي أن يتبنى المجلس المشروع بحذافيره ثم يتقدم به إلى القمة العربية باسم المجلس إلاّ أن الكويت في اللحظة الأخيرة اتخذت موقفاً متردداً نظراً لما تعانيه من حساسية مفرطة تجاه أي موضوع قد يثير المشاعر الفلسطينية وبالتالي يثير مشاعر الفلسطينيين المقيمين في الكويت، فقد رفضت الكويت في ضوء غموض الموقف الفلسطيني من المشروع وتحويله إلى مشروع خليجي يتبناه المجلس وأصرت على موقفها. وفي النهاية صدرت عن المجلس عبارات مطاطة مؤداها أن تتولى المملكة عرض المشروع أمام مؤتمر القمة، إضافة إلى الموقف العراقي الذي كان يعلن رفضه أي تسوية مع إسرائيل مهما كان اسمها أو شكلها أو محتواها أو مصدرها. ويضيف القصيبي أن هذه السياسة المعلنة أما الحقيقة فموضوع آخر!

وكذلك كان الموقف السوري الذي لم يعلق في البداية على المشروع ثم ظهرت مقالات في الصحافة السورية تنتقد المشروع ثم بدأت الاتصالات المباشرة وتبين أن الرفض السوري منصب على بند التعايش أما بقية البنود فلا اعتراض لهم عليها كان هذا في واقع الأمر بمثابة رفض كامل إذ إنّ بند التعايش هو الشيء الوحيد الجديد في الصيغة وهو الشيء الوحيد الذي أدى إلى الترحيب العالمي بها.

الملك حسين مؤيدا المشروع: لا تضيعوا الفرصة

كانت هناك عقدة العقد موقف الفلسطينيين، إذ انتقد الفلسطينيون الراديكاليون المشروع على الفور. قلّة قليلة من الزعماء غير البارزين هي التي جاهرت بتأييد المشروع، أما ياسر عرفات فكان كعادته يطلق عشرات التصريحات المتناقضة، يجيء إلى المملكة فيقول إنه شخصياً مع المشروع ويغادر المملكة فيقول إن رأيه الشخصي لا يهم والمهم هو موقف قيادة منظمة التحرير. وفشلت كل محاولات الملك فهد «الأمير آنذاك» للحصول على موقف واضح من عرفات، وفي هذا الجوّ انعقدت قمة فاس في نوفمبر 1981.

وفي القمة كان الملك حسين، كما يقول القصيبي أبلغ المتحدثين، تحدث بهدوء وبتسلسل منطقي، تحدث عن التغلغل الإسرائيلي، وعن الأراضي العربية المحتلة التي تهدر كل يوم، وتحدث عن الفرص التي ضاعت في الماضي، وناشد المؤتمر ألا يضيع الفرصة السانحة اليوم، وأيد المشروع السعودي بحرارة ودافع عنه ببسالة، وقال إنه لم يعثر على بند واحد فيه إلاّ وسبق أن وافق عليه العرب على نحو أو آخر.

وكانت المفاجأة أن أيدت المشروع السعودي تونس وتحفظت عليه العراق، وطالبت بتعديله سوريا، فيما صمت الباقون، حتى دول الخليج، لم يتحدث أحد، لم يؤيد أحد، ولم يعارض أحد فيما ظل ياسر عرفات يلف ويدور، وانتهى مؤتمر القمة بعد جلسة واحدة استغرقت زهاء 7 ساعات.