-A +A
علي الرباعي (الباحة)Al_ARobai@
برغم اتفاق أغلب الشرائح المجتمعية على صحة أثر «كذب المنجمون ولو صدقوا - أو صدفوا»، إلا أن بعض المواقع والفضائيات والمنصات ما زالت تعتني بالمنجمين والسحرة ومدعي علم الغيب، برغم أن العصر للعلم والتقنية. وتتناقل وسائط التواصل نهاية ومطلع كل عام تسجيلات ومقاطع تلقى رواجاً في أوساط أفراد ومجتمعات لا تعي خطر مثل هذه الادعاءات كونها توقع في الشِرك المنافي للإيمان، ولخطورتها على المجتمعات بترويجها شائعات لا سند لها عقليا أو شرعيا أو علميا أو أمنيا، ما ينفي عنها صفة المعلومة. استجلت «عكاظ» آراء متخصصين في الشريعة والطب النفسي والإعلام الأمني لبيان حقيقة الدجالين والتحذير من ترويج بضاعة سوقهم الموسمية. ويذهب الداعية سليمان بن حسين الطريفي إلى أن الله منح الإنسان عقلا، وأمره أن يستخدمه في التعرف على خالقه، وفي اكتشاف ما ييسر به حياته والإفادة من الوسائل المباحة من خلال ما سخر الله وأعطى من العقل والعلم مما مكّن المخلوق البشري من الطيران في الهواء، والغوص في أعماق البحار، ومهاتفة الناس في اللحظة بأقطار عدة من الأرض البعيدة بالصوت والصورة، وقضى بإذنه على أمراض فتكت بالأمم، فيما لا يزال الإنسان عند النقطة الأولى.. فالموت لم يجد له حلا ولا يزال ضعيفا أمام مخالبه، وعلم المستقبل الذي يسمى «الغيب»، يتمنى أن يعرفه وماذا سيجري له في الأيام المقبلة.

تضليل وتكسّب وخداع لعقول البسطاء


يوضح الطريفي أن من بني الإنسان من وقف من الغيبيات موقف الإقرار بالعجز في ظل احتياطه للمستقبل واحتمالاته احتياطا يقره العقل والدين من بناء بيت أو ادخار مال أو حفظ للصحة أو اتخاذ وسائل السلامة في محاولة دفع البلاء قبل وقوعه، ومنهم من لجأ لما يناقض العقل والدين بمحاولة التوصل إلى معرفة الحوادث المستقبلية عن طريق التنجيم أو الكهانة أو الاستعانة بالشياطين. وعدّه طريق العاجزين المفلسين، إذ تتساوى قدرات البشر جميعا حيال الغيب وأحداثه، إلا أن البعض نجح في التضليل والتكسب عبر ادعاء ممارسة التكهن بغرض التأثير على عقول البسطاء تبعا لأجندات سياسية واستخباراتية، باستعمال حيل لفظية وكلمات فضفاضة ترقبا لوقوع أحداث معينة ليقولوا «نحن قلنا هذا». وأضاف الطريفي أن الحياة بطبعها يقع فيها موت العظماء والمشهورين وحوادث كونية والأيام تحمل في طياتها كثيرا من مفاتيح الخير ونذائر الشؤم ما يسهل على المتلاعب بالألفاظ التنبؤ بلفظ عام عما هو واقع لا محالة من المجريات الاعتيادية، مؤكدا أن أبا البشر آدم عليه السلام علّمه الله الأسماء وحجب عنه علم الغيب فوقع في ما وقع فيه، وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم بلغ إلى أعلى مقام يبلغه بشر ومع ذلك ينفي عن نفسه علم الغيب (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب) ويقول عن نفسه (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء). وحذر الطريفي من متابعة أو مشاهدة مقاطع المنجمين أو طلبها في المواقع والبحث عنها، حماية لعقيدة المسلم بل ولعقله من الدجالين، وعدّها من الذهاب لهم، برغم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد).

استغواء السذّج والمغفلين

عدّ عضو مجلس الشورى الدكتور فايز الشهري محاولة المجتمع الإنساني معرفة المجهول ظاهرة قديمة، موضحا أن البشرية عبر تاريخها لجأت للسحر، وقراءة الطالع، والكف والفنجان، ودراسة الظواهر، والأفلاك والأبراج، مشيرا إلى أن السمة الغالبة على مثل هذه القراءات الشعوذة والخرافات والخزعبلات واستغواء السذج والمغفلين وكثيري الفضول ممن يغلب عليهم الجهل وقلة الوعي واستثمارهم بتسويق شخصيات هلامية غالبا ما تتشابه في ترديد أمور بعينها ومنها الكوارث وموت بعض الرموز ونشوب حروب مما هو طبيعة بشرية وسنة كونية محكمة. وأبدى دهشته من نجاح هؤلاء في إثارة بلبلة في أوساط متعلمين ومثقفين وهو يدركون أنه لا يعلم الغيب إلا الله، خصوصا إذا علمنا أن التنجيم لا منطق له معرفيا ولا منهجا علميا بل هو مرفوض شرعا وعقلا وعِلما.

ولم يستبعد الشهري، أن يقف وراء هؤلاء أجهزة مخابراتية أو جماعات وأحزاب وتيارات تديرها قوى خفية لخدمة أهداف جهات تدفع أموالا في سبيل ذلك وتحقق الشهرة للمنجم وكثرة المتابعين.

شغف فضولي لتهدئة القلق العارم

‏ يرى الاستشاري النفسي الدكتور محمد الحامد، أن قراءة المستقبل واستشراف الغيب يشكّل نقطة جذب لكثير من أفراد المجتمع خصوصا الشريحة ذات التعليم المتوسط وما دون ذلك، وعزا شغفهم بالمنجمين إلى الفضول الفطري الناشئ عن قلق الوجود والميل الدائم لدى الإنسان لتهدئة هذا القلق العارم أو رفع وتيرته إلى أقصى مدى. ويرى أن حالة عدم اليقين التي تصيب البعض من جراء صروف الدهر ومجريات الحياة الطبيعية بشقيها السلبي والإيجابي تنحو بصاحبها منحى البحث عن قرار في قاع أزمته الوجودية التي تشكل صراعا داخليا لا يهدأ إلا باستمرار البحث في اللا معقول. وعدّ الحامد من السذاجة تمثل العرافين وقراء الطالع والمتنبئين باعتبارهم أيقونات تملك تميزا عن البشر بما تملكه من حاسة سادسة وسابعة وثامنة فوق العادة تجعلهم قادرين على فك هذا اللغز الوجودي الذي استعصى على العلماء والفلاسفة بالنظر إلى بلوراتهم في طقوس إحيائية. وكشف أن نمط شخصياتهم وتكوينهم النفسي يميل إلى ادعاء المعرفة والزهو بالذات وجنون العظمة ما يتيح لهم استغلال الآخر «المأزوم» عبر أداء يصطبغ بصبغة نرجسية تؤمن بامتلاك ذاتها لقدرات وطاقات تتفوق بها على الآخر الذي يقف مشدوها أمام بريق هذا النوع من الشخصيات المؤثرة والكاريزمية، فيقوم كل طرف بتغذية عوار الطرف الآخر في حلزون جدلي تصاعدي لا يقف عند حدود الوهم بل يتعداه إلى اعتناق الوهم والتماهي معه.

ولفت الحامد إلى دخول المنطق الرياضي متمثلا في نظرية الاحتمالات باعتبارها أداة قوية يستخدمها هؤلاء المتعالمون لتوظيفها في تنبؤاتهم، إلا أن التحيز الانتقائي في ذاكرة المتلقي المأزوم لا ترى إلا ما حدث أو اقترب من الحدوث وإن ندر، وتلغي ما لم يحدث أو يقترب من الحدوث وإن كثر، مشيرا إلى أن هذا ديدن العقل البدائي المتخلف ثقافيا واجتماعيا في تعامله مع واقعه وتفاعله مع ما يحيط به. وأكد تركيز المنجمين على مفهوم أن التاريخ يعيد نفسه من خلال التنبؤ بكارثة طبيعية أو جائحة صحية أو أزمة سياسية أو حروب وصراعات عالمية وفقا لنموذج تكرار الأنماط التي يصح التنبؤ به بحكم احتمال مبني على معطيات حاضرة، إلا أن التوظيف يأخذ زخما يتعالى به إلى منزلة خارقة للعادة وتضخيم الوهم على أنه حقيقة.

وعزا رواج بضاعتهم إلى السوشال ميديا بما تقوم به من تلميع صورة الجهل والتعالم من خلال جحافل الدهماء والمغيبين فكريا وتصدير «قارئة الفنجان» وترميزها على حساب العقل والمنطق والدِّين.