الناشر محمد ربيع
الناشر محمد ربيع
سالم الغميطي
سالم الغميطي
-A +A
علي الرباعي (الباحة)Al_ARobai@
ابتدع الإنسان منذ بدء حياته في مجموعات بشرية آليات عدة تعينه على التواصل مع غيره من بني جنسه. لم تكن الرسائل سوى وسيلة من وسائل التعبير عن مشاعر أو بث معلومة أو استخبار نبأ، وكان الرومان أول الأمم تأسيساً لخدمة البريد في العالم، فأشعلت النار على قمم الجبال، وهي رسالة بصرية تبشّر أو تُنذر، وتدريب الحمام الزاجل لنقل رسائل الإغريق، ووظفه الإمبراطور الروماني (أوكتافيوس الثالث)، لتبادل أخبار وخطط الحرب مع قائد الجيش بروتس. وفي عهد الدولة الأموية وضع معاوية بن أبي سفيان أول نظام للبريد العربي، وجعل من مدينة البصرة وقتها مركزاً له، ويُعد فن الرسائل عند العرب من الفنون الأدبية، وازدهر في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وهو فن نثري جميل يظهر مقدرة الكاتب وموهبته الكتابية وروعة أساليبه البيانية القوية.

بريد تطوعي


قبل العهد الزاهر كانت الرسائل تُنقل عن طريق أصحاب المحلات التجارية، ويمر باعث الرسالة بأحد الدكاكين فيسلمهم الرسالة، ويتطوعون للقيام بخدمة البريد، بوضع أكياس من القماش الأبيض مكتوب عليها اسم المدينة أو القرية ويقوم صاحب الرسالة بإدخال رسالته ومن ثم يتم إرسالها باستخدام الدواب مع المسافرين، ويوضع البريد الوارد في أماكن خاصة داخل الدكاكين ومن له رسالة يحضر لأخذها، وكان البريد يحمل على الدواب في رحلات تستغرق أياماً. أنشئت مديرية الأعمال البريدية 1354هـ. وكانت مصلحة البرق والبريد والهاتف قبل 1373هـ ثم انتقلت لوزارة المواصلات تحت مسمى (وكالة وزارة المواصلات للشؤون السلكية واللاسلكية والبريدية) وصدر أول طابع بريد سعودي 1334هـ. وتعتبر المملكة ثاني دولة عربية تصدر الطوابع البريدية العادية والتذكارية. صدرت أول ميزانية مستقلة للبريد في رجب 1392هـ إثر إنشاء المديرية العامة للبريد، وأنشئت وزارة البرق والبريد والهاتف (وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات حالياً) وتعد من أقدم مؤسسات الدولة.

«أراجع البوسطة كل يوم والتاني»!

اعتاد الآباء والإخوة والأقارب عندما يسافر قريب أو أخ أو صديق أو ابن، التأكيد عليه بأن يكتب لهم بمجرد وصوله وأن يضمّن الرسالة تفاصيل عن عمله وظروف حياته، وعندما يكتب لا ينسى الإشادة بنعمة الرسائل كونها نصف المواجهة، فيما يتضمن الظرف في الأسفل عبارة «شكراً لساعي البريد».

وعبّرت أغنية الفنان الراحل حيدر فكري «أرسلت لك حُبي، بخطاب من قلبي، راعيني بس جاوب، نوّر لي يوم دربي، استنى أشوف ردك، والرد ما جاني، واراجع البوسطة.. كل يوم والتاني) عن مشاعر أجيال كانت تنتظر وتترقب وصول رسالة من حبيب أو قريب، ويمر زمن الانتظار عصيباً ومشحوناً بالاحتمالات المربكة إلا أن صاحب الأمل لا يفقد أمله، ويظل يلتمس الأعذار ويصطنع المبررات، ولا يكل ولا يمل من مراجعة صندوق البريد بصفة شبه يومية، وكما قال المُتنبي

وما صبابة مشتاق على أمل

مِنَ اللّقَاءِ كمُشْتَاقٍ بلا أمَلِ

اليائسون.. و«لا تردين الرسايل»

يذهب بنا مهندس الكلمة الأمير بدر بن عبدالمحسن إلى تصوير حالة العاشق اليائس عندما يفقد آخر وميض لشمس الأمل قبل غروبها، فيثور على المعشوق المتهاون باللقاء والمتخيل أن بالإمكان إرواء الغليل برسالة مخطوطة، فيأتي الرد الصارخ (لا تردين الرسايل ويش اسوي بالورق، وكل معنى للمحبة ذاب فيها واحترق).

ولم يخل الأدب العالمي من تخليد ساعي البريد، وعندما حاصر وزير الدفاع التشيلي الجنرال أوجستو بينوشيه، قصر الرئاسة بالدبابات، مطالباً الرئيس سلفادور الليندي بالاستسلام 1973، وقتل الليندي على أبواب القصر. وفي الشهر ذاته، مات «صديق الرئيس»، الشاعر الحائز على نوبل، بابلو نيرودا. فاستلهم الروائي أنطونيو سكارميتا من الأحداث، خيوط عمله الأكثر شهرة «ساعي بريد نيرودا»، المترجم إلى 30 لغة. ويؤكد سكارميتا، في بداية روايته أن عمله الصحفي كان وراء إنجاز روايته التي تأخر في كتابتها كثيراً، ونقلها إلى العربية المترجم الفلسطيني الراحل صالح علماني، وصدرت عن دار ممدوح عدوان في دمشق، وفي 1994، عرضت الرواية في شريط سينمائي من إخراج ميشيل رادفورد، ونال جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي 1995.

الاتصالات المرئية ورسائل «الواتساب»

بقدر ما تمثل التقنية راحة ورفاهية لمستخدمها والمستفيد منها إلا أنها تغتال في ثنايا إنجازاتها المادية الكثير من المعنويات، إذ أطفأت لهيب الشوق للرسائل الخطية المعطرة أحياناً أو المرسوم بين سطورها قلوب وسهام أو تلك المحرقة في أطرافها بأعقاب السجائر أو أعواد الحطب تعبيراً عن بلوغ الشوق منتهاه، ما يؤكد أن الميكنة تنال من إنسانيتنا ومشاعرنا وإن لم نشعر في ظل الاجتياح المتنامي والقدرة الخارقة على احضار الغائب في أقل من ثانية بين يديك بصوته وصورته مهما تباعدت بينك وبينه المسافات.

موثّق تاريخ وجغرافية الباحة

يؤكد الناشر محمد ربيع الغامدي أن الرسالة الخطية تمثل له كنزاً لا يزال يحتفظ به منذ ما يزيد على نصف قرن، وعد الرسائل وسيلة لقهر المسافة والبعد والغربة وتخفيف أعراض الاغتراب، موضحاً أنه شغف بالرسائل منذ أن صادف المثقف التهامي محمد بن رداد يستلم في كل شهر مجلة «هنا لندن» ومجلة «هنا عمان» من دكان أبيه عم ربيع الخياط! مشيراً إلى أن الاتساع أزاح العنوان فأقنع أباه بتسجيل اشتراك في البريد وحصل على صندوق في بريد الطائف، فأصبح مشتركاً في مجلات «هنا لندن» و«هنا عمان» و«قافلة الزيت»، وعبر العنوان كاتب صحف البلاد وعكاظ والمدينة وندوة المستمعين في إذاعة لندن وما يطلبه المستمعون ومسابقة الأحرف في الإذاعة السعودية، وكاتب كلية الملك فيصل الجوية وكاتب كوكب الشرق السيدة أم كلثوم، وقال لها: أنا شاب رقيق الحال وأرغب في حضور حفلتك القادمة ولا أملك مؤونة ذلك، وجاءه رد لطيف من مكتبها يعد بتحقيق رغبته وما كان يعلم أنها تعيش أيامها الأخيرة. وبانتهاء اشتراك والده في البريد انتقل ابن ربيع لإرسال رسائله من مكتب البريد الرئيس في شارع البريد وبريد حي الشهداء القريب من البازان ويستقبل الرد عبر المكتبة السعودية بشارع حسان، وقامت بينه وبين صفحات التعارف علاقة حميمة عبر الرسائل فكسب رصيداً من الأصدقاء، سعوديين وغير سعوديين، انتظر رسائلهم بشغف وشوق شديدين، ولفت إلى أنه برغم مرور نصف قرن على تلك الفترة فما زال يتردد حتى اليوم على مكان المكتبة وكأنما مروره يزيد في شجرة عمره غصنا أخضر في كل مرة.

وانتقل إلى مكة المكرمة للدراسة في الجامعة، فاتخذ من كلية التربية عنواناً، وكان يبعث رسائله من بريد الغزّة، وتصله مجلة رابطة العالم الإسلامي، وفي الباحة اتخذ من دكان العم سعدي بن حامد عنواناً، وفي ظل انشغاله بالتدريس وانهماكه الشديد في مناشط التعليم شط به العمل بعيداً عن الرسائل والمراسلة إلا قليلاً وعندما انتقل إلى جدة بعد عقدين كان البريد أكثر حضوراً فاشترك فيه وعاد إلى المراسلات ثانية، ومع عودته الأخيرة للباحة جعل صندوق البريد أولوية، وما يزال بريد الباحة بيته الثاني حتى اليوم. ويضيف: كنت وما زلت أحترم البريد وساعي البريد وكان جيلنا لا ينسى أبداً أن يكتب على المغلف من خارجه عبارة شكراً لساعي البريد.

قروي واحد يكتب رسائل قبيلة

لم يكن القُراء والكُتّاب قبل 60 عاماً بهذه الوفرة التي نعيشها اليوم، ولذا كان يلجأ كبار وكبيرات السن وبعض الزوجات للبحث في القُرى المجاورة عن كاتب يخط له جواباً لعزيز عليهم يعمل في إحدى المدن، ويؤكد التربوي سالم الغميطي أنه عاش وعايش تلك المرحلة التي يفتّش فيها آباء وأمهات عن كاتب أو قارئ لكتابة رسالة أو قراءتها. وأوضح أنه دفع لأول رسالة بعثها من بريد الظفير 4 قروش زمن الملك فيصل رحمه الله.