توافد حجاج بيت الله الحرام منذ وقت مبكر إلى مسجد نمرة في مشعر عرفات اليوم (الاثنين) للاستماع إلى خطبة عرفة، وأداء صلاتي الظهر والعصر جمعا وقصرا؛ اقتداء بسنة النبي المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم.
وامتلأت جنبات المسجد الذي تبلغ مساحته 110 آلاف متر مربع والساحات المحيطة به التي تبلغ مساحتها ثمانية آلاف متر مربع بضيوف الرحمن.
وألقى إمام وخطيب المسجد الحرام عضو هيئة كبار العلماء الشيخ الدكتور بندر بن عبدالعزيز بليلة، خطبة عرفة قبل الصلاتين استهلها بحمد الله والثناء عليه، ودعا المسلمين إلى تقوى الله وامثال أوامره للفوز فوزا عظيما والفلاح في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى (والعاقبة للمتقين)، وقوله سبحانه في كتابه الكريم (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)، وقوله تعالى (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين).
وقال: إن مما أمركم الله به الإحسان كما قال تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى)، فيحسن العبد في عبادة الله كما في الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك). وأعظم ذلك الإحسان بالتوحيد، وإفراد الله بالعبادة كما قال سبحانه (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور)، وقال تعالى (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، فلا يعبد سوى الله، ولا يصلي إلا الله، ولا يدعى أحد غيره، كما قال تعالى (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه)، وقال تعالى (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا)، وقال تعالى (فصل لربك وانحر).
وهذا مقتضى شهادة التوحيد لا إله إلا الله، وقرينتها شهادة أن محمدا رسول الله، فيطاع أمره ويصدق خبره ولا يعبد الله إلا بما جاء به؛ لأن الله أكمل الدين فلا يحتاج إلى أن يزاد فيه بشيء من البدع، قال تعالى في الآية التي نزلت يوم عرفة (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).
ومن الإحسان في عبادة الله المحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها كل يوم، كما قال تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين)، وأداء الزكاة كما قال تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون)، ومن ذلك صوم رمضان كما قال تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه). وحج بيت الله الحرام كما قال تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا)، ومن الإحسان الإيمان بالله ربا ومعبودا والإيمان بملائكته وكتبه وجميع رسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره فقدر الله نافذ وقضاؤه لا محالة واقع.
وكيف لا يحسن الإنسان بعبادة الله وهو سبحانه قد أحسن إلى العباد وتفضل عليهم بصنوف النعم حيث أوجدهم من العدم، وأسبغ عليهم الخيرات، ووالى عليهم المسرات قال تعالى: (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة)، وقال تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)، وقال تعالى: (فتبارك الله أحسن الخالقين)، وقال تعالى: (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين).
ومن إحسانه سبحانه بالعباد أن أنزل إليهم الكتب وأرسل الرسل لهداية البشر، كما أنزل كتابه العظيم القرآن الكريم على محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)، وقال تعالى (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء)، وقال تعالى: (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون).
ومما أمر الله به الإنسان أن يحسن إلى مخلوقات الله بأنواع الإحسان قال تعالى: (وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين).
فيحسن الإنسان لكل من به صلة قال تعالى: (وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا).
ومن الإحسان تربية الأبناء والسعي في الترابط والتكافل الاجتماعي، فيحسن الزوج لزوجته ومطلقته وتحسن الزوجة لزوجها قال تعالى: (متاعا بالمعروف حقا على المحسنين) وقال تعالى: (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)، وقال تعالى: (وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا).
كما يشمل ذلك الإحسان إلى جميع الخلق في الأقوال اللفظية الجميلة قال تعالى: (وقولوا للناس حسنا)، وقال تعالى (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا)، ويشمل الإحسان للجميع بالفعل العادل الذي يستحقه كل أحد بحسب تصرفاته.
ومن ذلك الإحسان في الدعوة إلى الله، قال تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)، قال تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن).
ومن ذلك الإحسان في حسن الاستقبال والتحية قال تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان علىٰ كل شيء حسيبا).
ومن الإحسان إلى الناس الصبر على أذاهم كما قال تعالى: (واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين).
وشأن المؤمن أن يتبع أحسن الأقوال والأعمال قال تعالى: (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولٰئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب).
وما ذاك إلا للمؤمن لأن المؤمن يعلم أن الإحسان هو ميدان المنافسة والمسابقة كما قال تعالى: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور) وقال تعالى (وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هٰذا إلا سحر مبين)، وقال تعالى (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا).
إن الإنسان بإحسانه في عبادة الله وإحسانه إلى عباد الله يكون قد أحسن لنفسه قال تعالى (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم)، ويكون بذلك قد حاز محبة الله ومعيته والقرب من رحمته، قال تعالى (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين)، وقال تعالى (وإن الله لمع المحسنين)، وقال تعالى (وبشر المحسنين) وقال تعالى (إن رحمة الله قريب من المحسنين) وقال تعالى (إن الله لا يضيع أجر المحسنين)، وقال تعالى (ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى)، وقال تعالى (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولٰئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون)، وقال تعالى (ما على المحسنين من سبيل)، بل قد وعد الله المحسنين بخيري الدنيا والآخرة، قال تعالى (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار ٱلأخرة خير ولنعم دار المتقين)، وقال تعالى (إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين)، وقال تعالى (لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين) وقال تعالى (قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب).
وقال تعالى (هل جزآء الإحسان إلا الإحسان)، وقال تعالى (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمنٌ فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون).
فهنيئا لكم أيها المحسنون بمضاعفة الأجور كما قال صلى الله عليه وسلم (إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف). وقال تعالى (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها).
وإن من إحسان الله على العباد أن فتح لهم أبواب التوبة ليحسنوا بعد الإساءة ما داموا في زمن الإمهال لتغفر ذنوبهم كما قال تعالى (إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفورٌ رحيمٌ)، وقال تعالى (إن الحسنات يذهبن السيئات) وقال تعالى (ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار).
وإن مما جاءت به الشريعة مقابلة من أحسن بالدعاء والثناء والاعتراف بالإحسان، ولذا ذم النبي صلى الله عليه وسلم کفر الإحسان بإنكاره، وعدم الإقرار به.
وإن ممن أحسن إلى المسلمين قاطبة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان برعايتهما لأمر الحجيج وقيامهما على الحرمين الشريفين وسعيهما في حفظ الأمن فيهما وتوفير من يحسن للحجاج والمعتمرين مع حرصهما على سلامة موسم الحج من أن يكون محلا لانتشار الأمراض، أو أن يكون بؤرة للوباء والحرص على إقامة الشعيرة بشكل صحي يحقق متطلبات الوقاية والتباعد الاجتماعي، تحقيقا لمقاصد الشريعة في حفظ النفس، وامتثالا لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها، واذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها) فجزاهما الله خير الجزاء وبارك فيهما وجعلهما من أسباب الخير والهدى والسعادة للناس أجمعين.
حجاج بيت الله الحرام، أدوا مناسككم على وفق ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله (لتأخذوا عني مناسككم) ولقول الله عز وجل (وأتموا الحج والعمرة لله) فتكونون بذلك ممن أحسن أداء الحج، وأكثروا في هذا الموطن الشريف من الدعاء لأنفسكم وقرابتكم، ولولاة البلاد وللمسلمين عموما، فإنه (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة).
اللهم أحسن إلى عبادك المؤمنين، واجعلهم يحسن بعضهم لبعض، اللهم ألف ذات بينهم واجمع كلمتهم على الحق وأصلح قلوبهم.
خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرفة، ثم أذن بلال فأقام، وصلى الظهر مقصورة ركعتين، ثم أقام فصلى العصر مقصورة ركعتين، ثم وقف في عرفة على ناقته يذكر الله، ويدعوه فلما غرب قرص الشمس، سار إلى مزدلفة، وهو يقول: (يا أيها الناس، عليكم بالسكينة والوقار).
وحين وصل مزدلفة صلى المغرب ثلاثا، والعشاء ركعتين جمعا وقصرا، وبات بمزدلفة ثم صلى الفجر بها في أول وقتها، ودعا الله إلى أن أسفرت، وانطلق إلى منى فرمى جمرة العقبة بعد طلوع الشمس بسبع حصيات، وذبح هديه وحلق، بعد ذلك طاف طواف الإفاضة، وبقي في منى أيام التشريق يذكر الله، ويرمي الجمرات الثلاث بعد الزوال، يدعو عند الصغرى والوسطى، ورخص لأهل الأعذار في ترك المبيت بمنى، (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا)، وليكن من دعائكم (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولٰئك لهم نصيبٌ مما كسبوا والله سريع الحساب).
وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المكثُ بمنى إلى اليوم الثالث عشر وهو الأفضل، وأجاز التعجل في الثاني عشر. فلما فرغ من حجه طاف بالبيت قبيل سفره.
(سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلامٌ على المرسلين)، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على رسوله محمد الأمين.