شارك الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي رئيس هيئة علماء المسلمين الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى بكلمة افتتاحية أمس في انطلاقة «منتدى تعزيز السِّلْم» الذي عُقد في القاعة الكبرى لـ«إكسبو 2020 دبي»، بعنوان «المواطنة الشاملة من الوجود المشترك إلى الوجدان المتشارك»، برعاية وزير الخارجية والتعاون الدولي الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، الذي تم فيه تسليط الضوء على محورية «وثيقة مكة المكرمة» في ترسيخ قيم ومبادئ المواطنة الشاملة؛ حيث تضمنت سياقاً مضيئاً في ذلك، وهي الوثيقة التاريخية التي حظيت برعاية كريمة من لدن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ودعمٍ ضافٍ بمبادرة كريمة من لدن ولي عهده الأمير محمد بن سلمان، التي تميزت بحضور مفتي وعلماء الأمة الإسلامية بكافة مذاهبهم وطوائفهم، حيث أمضاها أكثر من 1200 مفتٍ وعالم وأكثر من 4500 مفكر إسلامي في مكة المكرمة بجوار الكعبة المشرفة؛ قِبْلَةِ ومرجع المسلمين كافة، في شهر رمضان المبارك لعام 1440هـ الموافق 2019.
وقد افتتح أعمال المنتدى وزير التسامح والتعايش الإماراتي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، ويستمر إلى 7 ديسمبر الجاري، حيث رحب في بداية كلمته بالأمين العام للرابطة كمتحدث رئيس في حفل افتتاح المنتدى.
وقال في معرض حديثه «إن اجتماعنا اليوم لمناقشة موضوع المواطنة الشاملة إنما هو تعبير مهم عن الثقة والأمل في مستقبل البشرية وعن اهتمام الحضور بتعزيز قيم التعارف والحوار والتفاهم والهدف المشترك، إضافة إلى دعم قنوات التعارف والتعايش بين الجميع، وهو تأكيد على دوركم المهم، بل وعلى دورنا جميعاً في توعية الإنسان والارتقاء بمعارفه ومداركه وقدراته وسلوكه، بل وكذلك في تمكينه في أداء دوره والأساس في تشكيل الحاضر وبناء المستقبل».
تلت ذلك كلمةُ أمين عام رابطة العالم الإسلامي، التي أشار فيها إلى أن موضوع المواطنة الشاملة -محمولاً على قيمه الدينية والثقافية المشتركة وقيمه الإنسانية بقانونها الطبيعي العام ونصوصه ومبادئه الدستورية الخاصة والعامة وقوانينه ومواثيقه وأعرافه الدولية- يعني في إطاره «المحلي» العيش المشترك على الأراضي الوطنية بكامل حقوقه وواجباته وتكافُؤ فرصه بكل معاني المساواة العادلة.
«استثمار» و«إدارة» و«حماية» كوكبنا
وقال: كما تعني المواطنة الشاملة في إطارها «العالمي» الشراكة الإنسانية في «استثمار» و«إدارة» و«حماية» كوكبنا الذي جعلنا الله تعالى خلائفَ فيه واستعمرنا فيه ليقوم الناس بالقسط، بالمدلول الشامل لمعنى القسط، ولا يتحقق ذلك إلا بالمعنى الحقيقي للأسرة الإنسانية بقيمها وقوانينها وأعرافها المشتركة.
وأضاف العيسى: إن المعنى الأول للمواطنة الشاملة تقوم بتدابيره وتحميه الدولة الوطنية، وعلى قدر كفاءتها يكون عطاؤها وأداؤها، بل ويكون وزنُها عند الله ثم عند الناس، أما المعنى الثاني فتقوم به قوى الخير كافة بإرادتها الصادقة والفاعلة، بدءاً من التعاون بين الأمم والشعوب في إطار علاقاتهم البينية «كلٌّ بحسبه»، أو في إطار منظومتهم الأممية العالمية بمنظماتها وهيئاتها كافة مؤطراً بالقوانين والمواثيق والمعاهدات والاتفاقيات والأعراف الدولية، ولكن عندما يكون الحديث عن المواطنة الشاملة يجري الاستطراد بكل سهولة نحو استعراض القيم والمبادئ المشار إليها، مع تفاصيل أخرى ذوات صلة، وكل ذلك واضح جلي، لا نحتاج معه لمزيد من الإسهاب والإكثار، وإنما حاجتنا في عالمنا إلى إرادة صادقة فاعلة تضع ثابتها على طريق العزيمة، ثم تمضي راشدةً نحو العمل المصدق للقول، وما دام الحال ما ذكر فإننا قبل ذلك في أمس الحاجة إلى تمهيد الطريق من خلال دراسة تحديات وعوائق و جدليات المواطنة الشاملة، ومن ثم إيجاد الحلول مع ضمانات استدامتها، هذه حاجة عالمنا أكثر من حاجته إلى مجرد التذكير بتلك القيم والمبادئ والتفاصيل الأخرى، نعم التذكير مهم، لكن الأهمَّ منه العملُ به، والأهم من العمل المجرد أخلاقيات التطبيق، فالنص الواحد على سبيل المثال تذهب به التوجهات والأهواء ذات اليمين وذات الشمال، والحق كلٌّ يدعي وصله والانتساب إليه، ومن ذلك لفيف متكاثر في عالمنا تحركهم رهانات سياسية بأهداف مكشوفة وواضحة، وفي سياقها رهاناتُ اتجاهاتٍ فكرية بنزعات متطرفة، وهم كما قلت كُثُر حول العالم ومن عقودٍ بل من قرون، وقد تجاوزوا في عدد من تلك السجالات منطق التفاهم والحوار الأخلاقي، ومن ذلك أدب التواصل بين الأمم والشعوب والدول، متجاهلين البحث عن الحقيقة التي ربما غابت أو غُيِّبت تفاصيلها وحيثياتها عنهم، «هذا على حُسن الظن بهم»، آخذين في كثير من الوقائع بمنطق سلبي مجرد أو براغماتية نفعية غير أخلاقية.
وتابع العيسى: ولعلي أقف عند قضية واحدة من قضايا المواطنة الشاملة كثيراً ما أرقت ولا تزال حيث يعاني عالمنا من عودة للعنصرية بجاهليتها المقيتة، وهي تتسلل لواذاً، ليس في دول متأخرة مادياً أو في دول تسمى بالنامية، بل في دول ترتقي بحسب تصنيفها السائد إلى العالم الأول، وعندما تبحث عن سببِ هذا التخلف الحضاري الذي لم يلحق بالتقدم المادي المذهل، تجده غالباً في شيءٍ واحدٍ، وهو حلقة مفقودة في التعليم، نعم التعليم الذي سَخَّر ساعات الدراسة كلها في التزود بالعلوم وحدها، ولم يجعل للتربية السلوكية التفاعلية وقتاً، فخرج العالِم الكبير، وهو غير متشبع بالقيم الدينية والوطنية والإنسانية، وربما قلنا من أجل اتفاق الجميع غير متشبع بالقيم الإنسانية المشتركة. ولذا فالذي صنع أسلحة الدمار الشامل، وهدد بها الوجود البشري، هذا العالِم تعلَّم العلم لكنه لم يتعلم القيم، كما لا يفوت التنبيه على أهمية دور الأسرة في ترسيخ القيم التي أشرنا إليها إذ هي نواة المجتمع بوصفها الشريك الأول والأهم في صياغة عقول النشء.
وثيقة مكة رسخَّت مفهوم المواطنة الشاملة
فيما نبه الشيخ الدكتور محمد العيسى إلى أن وثيقة مكة المكرمة التي حظيت برعاية كريمة من لدن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -يحفظه الله- ودَعَمَهَا بمبادرة كريمة ولي عهده الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، وأقرتها الدول الإسلامية في اجتماعهم الوزاري المنعقد في نيامي بالنيجر، قد خصصت في مادتها الثانية والعشرين سياقاً مضيئاً حول المواطنة الشاملة، مشيرة إلى أنها استحقاق تمليه مبادئ العدالة الإسلامية لعموم التنوع الوطني، يُحترم فيها الدستور والنظام المعبر عن الوجدان الوطني بإجماعه أو أكثريته، مؤكدة على «التمكين المشروع والكامل» للمرأة بوصفه من مرتكزات المواطنة الشاملة.
المواطنة الشاملة هدف وطني وعالمي
وأضاف أن هذا الأنموذج الذي يَمْتهن ذلك التوظيف غير الإنساني لا يَكتب اللهُ له نجاحاً مستداماً، والتاريخ القريب والبعيد شاهد على ذلك. وهذه الحالات وأخواتها تُلح بطلب جواب متكامل، والجواب يكمُن في المعنى الحقيقي لدراسة موضوع المواطنة الشاملة من كافة جوانبه، وتحديداً إبراز معنى الخصوصية الدينية والثقافية و«الدستورية بشكل عام وهو المعبر عن الضمير الوطني» لكل دولة، وبيان أهمية ذلك كله، وما يحمله من طابع الهوية الخاص الذي يجب تقديره، احتراماً للسيادة الوطنية بخصوصيتها الدينية والثقافية التي تمثل الوجدان الوطني السائد، ولا يتجاسر على محاولة اقتحامها إلا سطو شائن. إذن نحتاج في عالَمنا الواسع إلى حوار المواطنة الشاملة لأن هناك بُعداً غائباً عن الكثير في تفاصيلها وتداخلاتها، ولذا أقول إن المواطنة الشاملة «هدف وطني» و«هدف عالمي» يتطلب استيعابَ تفاصيله كافة، ومن ذلك مراعاة فروقه الدستورية والقانونية بحسب الحق السيادي بمنطقه الإيجابي في تشريعات وثقافة كل دولة، مع أهمية احترام الجميع للقوانين والمبادئ والأعراف الدولية والقيم الإنسانية المشتركة.
وزاد الشيخ الدكتور العيسى: وبناءً على أهمية استيعاب وتفهم تلك التفاصيل بفروقاتها فمن الصعب أن أضع مسطرة واحدة، لأقول هذا هو معنى المواطنة الشاملة، وما سواه يعد خارج سياقها، ولذا نقول ونكرر تجب مراعاة الفروق الدولية في خصوصية تدابيرها السيادية وقناعاتها الدينية والثقافية قبل تعميم النظريات والأحكام.
أفكار ما يسمى بالإسلام السياسي تحملت وزراً من الإسلاموفوبيا
وأضاف أن رابطة العالم الإسلامي أطلقت من أوروبا مبادرة تعزيز القيم الوطنية، وفي طليعة مستهدفاتها نشر الوعي بوجوب احترام دساتير وقوانين وثقافة الدول، سواءٌ من مواطنيها أو المقيمين على أراضيها، وذلك في أفق الفهم الصحيح للهوية الدينية والوطنية، تأسيساً على أنهما تتكاملان ولا تتعارضان، وذلك بالنظر لمقاصد الدين الداعية للسلم والوئام، والدين ما جاء ليحرض على سكينة المجتمعات ويؤثر على لحمتها الوطنية المتآلفة تحت أي ذريعة، كما لم يأت إلا آمراً بالوفاء بالعهود والمواثيق، وتأليف القلوب، والموازنة بين المصالح والمفاسد، والنظر في مآلات الأمور ببصيرة الشرع ومنطق العقل مع المطالبة المشروعة وفق قواعد وأحكام الدستور والقانون وبالسلم والسكينة بالخصوصية الدينية، هذا كله مع التنبيه على خطر أفكار ما يسمى بالإسلام السياسي، بوصفها خارج سياق مقاصد الشريعة الإسلامية إذ اختزلت تلك الأفكارُ الدينَ العظيم في هدف سياسي ضيق، تحملهم عليه أفكار فادحة الخطورة، نسجت لها رداءً مزوراً نسبته للدين، فكان الافتراء على الإسلام ابتداء من محسوبين على داخله، والافتراء عليه في ثاني الحال ممن تلقف هذه اللوثة من غير المسلمين فحسبوها على ديننا، وبخاصة ما حصل ويحصل من الفعل الضار للفيف هذه الجماعات، فكانت الكراهية في أبشع صورها، وتصعيد الصراع والصدام الحضاري بين الشرق والغرب، ثم ثالثة الأثافي التحريض على العنف والإرهاب، أو مباشرته، وهم في طليعة عدد من الأسباب لظاهرة الإسلاموفوبيا.
وختم كلمته بتهنئة دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة بيومها الوطني الخمسين متمنياً لها باسم رابطة العالم الإسلامي دوام الرخاء والنماء.
بن بيه: قيم التربية ترتقي بالمواطنة إلى المؤاخاة
وفي كلمته في حفل الافتتاح، قال رئيس منتدى تعزيز السلم الشيخ عبدالله بن بيه: إن المواطنة لا تنبني على مجرد المساواة في الحقوق والواجبات، ولا من خلال مفهومها القانوني البحت، بل لا قرار لها ولا استقرار إلا بتأسيسها على أساس متين من القيم، فبهذه القيم التي ترسيها التربية في النفوس ترتقي المواطنة إلى المؤاخاة، وتنتقل من الوجود المشترك إلى الوجدان المتشارك، لتكون المواطنة بذلك بوتقة تنصهر فيها كل الانتماءات، وبقدر الانسجام والانتظام بين هذه العناصر في الجماعة يجد المواطن مكانه والجماعة مكانتها.
وأضاف الشيخ بن بيه: إن الاعتراف بأثر كُلُيِّ الزمان الجديد في مفهوم المواطنة أمر حتمي، والتنكر له يؤدي لا محالة إلى الفشل، ولربما إلى الفتن؛ فتحقيق المواطنة المعاصرة يفترض القدرة على التواصل مع العصر؛ إذ يقدم جملة من المفاهيم والقيم بعناوين تتمثل في الحريات وحقوق الإنسان والمرأة والطفل، ويتميز بالتمازج بين الحضارات والتزاوج بين الثقافات في حركة دؤوبة وتطورات مذهلة من الذرة إلى المجرة.
وقد أشاد الشيخ بن بيه في كلمته بمضامين وثيقة مكة المكرمة في موضوع المواطنة الشاملة بوصف فضيلته أحد علماء هذه الوثيقة الذين قاموا بتسليمها ليد خادم الحرمين الشريفين راعي مؤتمرها التاريخي وجمعها المبارك.
من جهته، أوضح وزير الشؤون الدينية الباكستاني الشيخ نور الحق قادري أن موضوع الملتقى مهم لأن المواطنة ربما هي أهم لبنة على طريق الاستقرار والأمن والتنمية، مشيراً إلى عدد من الأفكار في موضوع المواطنة الشاملة لتحقيق هدفها المهم.
بعد ذلك بدأت جلسات المؤتمر والمشتملة على عدة محاور في موضوعه، وحضرها عدد من القيادات الدينية الإسلامية وغير الإسلامية مع عدد من المفكرين الدوليين.
وقد افتتح أعمال المنتدى وزير التسامح والتعايش الإماراتي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، ويستمر إلى 7 ديسمبر الجاري، حيث رحب في بداية كلمته بالأمين العام للرابطة كمتحدث رئيس في حفل افتتاح المنتدى.
وقال في معرض حديثه «إن اجتماعنا اليوم لمناقشة موضوع المواطنة الشاملة إنما هو تعبير مهم عن الثقة والأمل في مستقبل البشرية وعن اهتمام الحضور بتعزيز قيم التعارف والحوار والتفاهم والهدف المشترك، إضافة إلى دعم قنوات التعارف والتعايش بين الجميع، وهو تأكيد على دوركم المهم، بل وعلى دورنا جميعاً في توعية الإنسان والارتقاء بمعارفه ومداركه وقدراته وسلوكه، بل وكذلك في تمكينه في أداء دوره والأساس في تشكيل الحاضر وبناء المستقبل».
تلت ذلك كلمةُ أمين عام رابطة العالم الإسلامي، التي أشار فيها إلى أن موضوع المواطنة الشاملة -محمولاً على قيمه الدينية والثقافية المشتركة وقيمه الإنسانية بقانونها الطبيعي العام ونصوصه ومبادئه الدستورية الخاصة والعامة وقوانينه ومواثيقه وأعرافه الدولية- يعني في إطاره «المحلي» العيش المشترك على الأراضي الوطنية بكامل حقوقه وواجباته وتكافُؤ فرصه بكل معاني المساواة العادلة.
«استثمار» و«إدارة» و«حماية» كوكبنا
وقال: كما تعني المواطنة الشاملة في إطارها «العالمي» الشراكة الإنسانية في «استثمار» و«إدارة» و«حماية» كوكبنا الذي جعلنا الله تعالى خلائفَ فيه واستعمرنا فيه ليقوم الناس بالقسط، بالمدلول الشامل لمعنى القسط، ولا يتحقق ذلك إلا بالمعنى الحقيقي للأسرة الإنسانية بقيمها وقوانينها وأعرافها المشتركة.
وأضاف العيسى: إن المعنى الأول للمواطنة الشاملة تقوم بتدابيره وتحميه الدولة الوطنية، وعلى قدر كفاءتها يكون عطاؤها وأداؤها، بل ويكون وزنُها عند الله ثم عند الناس، أما المعنى الثاني فتقوم به قوى الخير كافة بإرادتها الصادقة والفاعلة، بدءاً من التعاون بين الأمم والشعوب في إطار علاقاتهم البينية «كلٌّ بحسبه»، أو في إطار منظومتهم الأممية العالمية بمنظماتها وهيئاتها كافة مؤطراً بالقوانين والمواثيق والمعاهدات والاتفاقيات والأعراف الدولية، ولكن عندما يكون الحديث عن المواطنة الشاملة يجري الاستطراد بكل سهولة نحو استعراض القيم والمبادئ المشار إليها، مع تفاصيل أخرى ذوات صلة، وكل ذلك واضح جلي، لا نحتاج معه لمزيد من الإسهاب والإكثار، وإنما حاجتنا في عالمنا إلى إرادة صادقة فاعلة تضع ثابتها على طريق العزيمة، ثم تمضي راشدةً نحو العمل المصدق للقول، وما دام الحال ما ذكر فإننا قبل ذلك في أمس الحاجة إلى تمهيد الطريق من خلال دراسة تحديات وعوائق و جدليات المواطنة الشاملة، ومن ثم إيجاد الحلول مع ضمانات استدامتها، هذه حاجة عالمنا أكثر من حاجته إلى مجرد التذكير بتلك القيم والمبادئ والتفاصيل الأخرى، نعم التذكير مهم، لكن الأهمَّ منه العملُ به، والأهم من العمل المجرد أخلاقيات التطبيق، فالنص الواحد على سبيل المثال تذهب به التوجهات والأهواء ذات اليمين وذات الشمال، والحق كلٌّ يدعي وصله والانتساب إليه، ومن ذلك لفيف متكاثر في عالمنا تحركهم رهانات سياسية بأهداف مكشوفة وواضحة، وفي سياقها رهاناتُ اتجاهاتٍ فكرية بنزعات متطرفة، وهم كما قلت كُثُر حول العالم ومن عقودٍ بل من قرون، وقد تجاوزوا في عدد من تلك السجالات منطق التفاهم والحوار الأخلاقي، ومن ذلك أدب التواصل بين الأمم والشعوب والدول، متجاهلين البحث عن الحقيقة التي ربما غابت أو غُيِّبت تفاصيلها وحيثياتها عنهم، «هذا على حُسن الظن بهم»، آخذين في كثير من الوقائع بمنطق سلبي مجرد أو براغماتية نفعية غير أخلاقية.
وتابع العيسى: ولعلي أقف عند قضية واحدة من قضايا المواطنة الشاملة كثيراً ما أرقت ولا تزال حيث يعاني عالمنا من عودة للعنصرية بجاهليتها المقيتة، وهي تتسلل لواذاً، ليس في دول متأخرة مادياً أو في دول تسمى بالنامية، بل في دول ترتقي بحسب تصنيفها السائد إلى العالم الأول، وعندما تبحث عن سببِ هذا التخلف الحضاري الذي لم يلحق بالتقدم المادي المذهل، تجده غالباً في شيءٍ واحدٍ، وهو حلقة مفقودة في التعليم، نعم التعليم الذي سَخَّر ساعات الدراسة كلها في التزود بالعلوم وحدها، ولم يجعل للتربية السلوكية التفاعلية وقتاً، فخرج العالِم الكبير، وهو غير متشبع بالقيم الدينية والوطنية والإنسانية، وربما قلنا من أجل اتفاق الجميع غير متشبع بالقيم الإنسانية المشتركة. ولذا فالذي صنع أسلحة الدمار الشامل، وهدد بها الوجود البشري، هذا العالِم تعلَّم العلم لكنه لم يتعلم القيم، كما لا يفوت التنبيه على أهمية دور الأسرة في ترسيخ القيم التي أشرنا إليها إذ هي نواة المجتمع بوصفها الشريك الأول والأهم في صياغة عقول النشء.
وثيقة مكة رسخَّت مفهوم المواطنة الشاملة
فيما نبه الشيخ الدكتور محمد العيسى إلى أن وثيقة مكة المكرمة التي حظيت برعاية كريمة من لدن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -يحفظه الله- ودَعَمَهَا بمبادرة كريمة ولي عهده الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، وأقرتها الدول الإسلامية في اجتماعهم الوزاري المنعقد في نيامي بالنيجر، قد خصصت في مادتها الثانية والعشرين سياقاً مضيئاً حول المواطنة الشاملة، مشيرة إلى أنها استحقاق تمليه مبادئ العدالة الإسلامية لعموم التنوع الوطني، يُحترم فيها الدستور والنظام المعبر عن الوجدان الوطني بإجماعه أو أكثريته، مؤكدة على «التمكين المشروع والكامل» للمرأة بوصفه من مرتكزات المواطنة الشاملة.
المواطنة الشاملة هدف وطني وعالمي
وأضاف أن هذا الأنموذج الذي يَمْتهن ذلك التوظيف غير الإنساني لا يَكتب اللهُ له نجاحاً مستداماً، والتاريخ القريب والبعيد شاهد على ذلك. وهذه الحالات وأخواتها تُلح بطلب جواب متكامل، والجواب يكمُن في المعنى الحقيقي لدراسة موضوع المواطنة الشاملة من كافة جوانبه، وتحديداً إبراز معنى الخصوصية الدينية والثقافية و«الدستورية بشكل عام وهو المعبر عن الضمير الوطني» لكل دولة، وبيان أهمية ذلك كله، وما يحمله من طابع الهوية الخاص الذي يجب تقديره، احتراماً للسيادة الوطنية بخصوصيتها الدينية والثقافية التي تمثل الوجدان الوطني السائد، ولا يتجاسر على محاولة اقتحامها إلا سطو شائن. إذن نحتاج في عالَمنا الواسع إلى حوار المواطنة الشاملة لأن هناك بُعداً غائباً عن الكثير في تفاصيلها وتداخلاتها، ولذا أقول إن المواطنة الشاملة «هدف وطني» و«هدف عالمي» يتطلب استيعابَ تفاصيله كافة، ومن ذلك مراعاة فروقه الدستورية والقانونية بحسب الحق السيادي بمنطقه الإيجابي في تشريعات وثقافة كل دولة، مع أهمية احترام الجميع للقوانين والمبادئ والأعراف الدولية والقيم الإنسانية المشتركة.
وزاد الشيخ الدكتور العيسى: وبناءً على أهمية استيعاب وتفهم تلك التفاصيل بفروقاتها فمن الصعب أن أضع مسطرة واحدة، لأقول هذا هو معنى المواطنة الشاملة، وما سواه يعد خارج سياقها، ولذا نقول ونكرر تجب مراعاة الفروق الدولية في خصوصية تدابيرها السيادية وقناعاتها الدينية والثقافية قبل تعميم النظريات والأحكام.
أفكار ما يسمى بالإسلام السياسي تحملت وزراً من الإسلاموفوبيا
وأضاف أن رابطة العالم الإسلامي أطلقت من أوروبا مبادرة تعزيز القيم الوطنية، وفي طليعة مستهدفاتها نشر الوعي بوجوب احترام دساتير وقوانين وثقافة الدول، سواءٌ من مواطنيها أو المقيمين على أراضيها، وذلك في أفق الفهم الصحيح للهوية الدينية والوطنية، تأسيساً على أنهما تتكاملان ولا تتعارضان، وذلك بالنظر لمقاصد الدين الداعية للسلم والوئام، والدين ما جاء ليحرض على سكينة المجتمعات ويؤثر على لحمتها الوطنية المتآلفة تحت أي ذريعة، كما لم يأت إلا آمراً بالوفاء بالعهود والمواثيق، وتأليف القلوب، والموازنة بين المصالح والمفاسد، والنظر في مآلات الأمور ببصيرة الشرع ومنطق العقل مع المطالبة المشروعة وفق قواعد وأحكام الدستور والقانون وبالسلم والسكينة بالخصوصية الدينية، هذا كله مع التنبيه على خطر أفكار ما يسمى بالإسلام السياسي، بوصفها خارج سياق مقاصد الشريعة الإسلامية إذ اختزلت تلك الأفكارُ الدينَ العظيم في هدف سياسي ضيق، تحملهم عليه أفكار فادحة الخطورة، نسجت لها رداءً مزوراً نسبته للدين، فكان الافتراء على الإسلام ابتداء من محسوبين على داخله، والافتراء عليه في ثاني الحال ممن تلقف هذه اللوثة من غير المسلمين فحسبوها على ديننا، وبخاصة ما حصل ويحصل من الفعل الضار للفيف هذه الجماعات، فكانت الكراهية في أبشع صورها، وتصعيد الصراع والصدام الحضاري بين الشرق والغرب، ثم ثالثة الأثافي التحريض على العنف والإرهاب، أو مباشرته، وهم في طليعة عدد من الأسباب لظاهرة الإسلاموفوبيا.
وختم كلمته بتهنئة دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة بيومها الوطني الخمسين متمنياً لها باسم رابطة العالم الإسلامي دوام الرخاء والنماء.
بن بيه: قيم التربية ترتقي بالمواطنة إلى المؤاخاة
وفي كلمته في حفل الافتتاح، قال رئيس منتدى تعزيز السلم الشيخ عبدالله بن بيه: إن المواطنة لا تنبني على مجرد المساواة في الحقوق والواجبات، ولا من خلال مفهومها القانوني البحت، بل لا قرار لها ولا استقرار إلا بتأسيسها على أساس متين من القيم، فبهذه القيم التي ترسيها التربية في النفوس ترتقي المواطنة إلى المؤاخاة، وتنتقل من الوجود المشترك إلى الوجدان المتشارك، لتكون المواطنة بذلك بوتقة تنصهر فيها كل الانتماءات، وبقدر الانسجام والانتظام بين هذه العناصر في الجماعة يجد المواطن مكانه والجماعة مكانتها.
وأضاف الشيخ بن بيه: إن الاعتراف بأثر كُلُيِّ الزمان الجديد في مفهوم المواطنة أمر حتمي، والتنكر له يؤدي لا محالة إلى الفشل، ولربما إلى الفتن؛ فتحقيق المواطنة المعاصرة يفترض القدرة على التواصل مع العصر؛ إذ يقدم جملة من المفاهيم والقيم بعناوين تتمثل في الحريات وحقوق الإنسان والمرأة والطفل، ويتميز بالتمازج بين الحضارات والتزاوج بين الثقافات في حركة دؤوبة وتطورات مذهلة من الذرة إلى المجرة.
وقد أشاد الشيخ بن بيه في كلمته بمضامين وثيقة مكة المكرمة في موضوع المواطنة الشاملة بوصف فضيلته أحد علماء هذه الوثيقة الذين قاموا بتسليمها ليد خادم الحرمين الشريفين راعي مؤتمرها التاريخي وجمعها المبارك.
من جهته، أوضح وزير الشؤون الدينية الباكستاني الشيخ نور الحق قادري أن موضوع الملتقى مهم لأن المواطنة ربما هي أهم لبنة على طريق الاستقرار والأمن والتنمية، مشيراً إلى عدد من الأفكار في موضوع المواطنة الشاملة لتحقيق هدفها المهم.
بعد ذلك بدأت جلسات المؤتمر والمشتملة على عدة محاور في موضوعه، وحضرها عدد من القيادات الدينية الإسلامية وغير الإسلامية مع عدد من المفكرين الدوليين.