أدى العامان الماضيان إلى تأثيرات كبرى على الاقتصادات وأنظمة التعليم والرعاية الصحية حول العالم، وكان التكيّف مع التغييرات الطارئة بمثابة الخيار الوحيد أمام الدول والشركات وحتى الأفراد. ودون أدنى شك، يعد التغيير سمة دائمة سيشهدها واقعنا الطبيعي باستمرار، حيث سنضطر دائماً لاتخاذ قرارات صعبة وحساسة بينما نسعى نحو التقدم.
وفي الحقيقة، تجسد المرونة عاملاً جوهرياً لتحقيق الازدهار وسط التغيرات المتسارعة. وفي هذه المنطقة تحديداً، تشكل المرونة ميزة أساسية. ففي بعض التحديات التي تواجهنا، يعتبر البحث عن الجوانب الإيجابية والفرص عند ظهور مشكلة ما أمراً طبيعياً للغاية، ونؤمن بأن موظفينا يمثلون القوة الدافعة التي تضمن لنا تحقيق النجاح في نهاية المطاف.
التحديات التي تواجهنا اليوم
بالنظر إلى قطاع الرعاية الصحية العالمي الذي يلعب دوراً بالغ الأهمية في عالمنا اليوم، أحدثت جائحة كوفيد-19 واحداً من أكبر التغييرات الجذرية في هذا العصر، إن لم يكن أكبرها على الإطلاق. وتمثلت نتيجة ذلك بتسارع وتيرة التغيير على صعيد التكنولوجيا؛ فقد بات من الممكن تنفيذ المهام التي كان القطاع يحتاج سابقاً لسنوات طويلة لتنفيذها في غضون بضعة أشهر، وهذا دون شك جانبٌ إيجابي إلى حد كبير.
وتتصاعد حدة المشكلات المرتبطة بسلاسل التوريد والتضخم بشكل مستمر بالتوازي مع زيادة مستويات الطلب، الأمر الذي يزيد من شدة الضغوطات المفروضة على العاملين في قطاع الرعاية الصحية. وتؤثر هذه العوامل وغيرها على كيفية ممارسة الشركات للأعمال واتخاذ القرارات ووضع الاستراتيجيات. ويتعين على الشركات تتبع التغييرات بشكل مستمر على الصعيدين الداخلي والخارجي لضمان قدرتها على التعامل مع جميع السيناريوهات. وقد تتسم هذه العوامل الخارجية بصعوبة التعامل معها لأن الشركات لا تتمتع بأي سيطرة عليها لكنها تتأثر بها بكل تأكيد.
وبالنظر إلى المثال الفريد الذي كونته فترة العامين الماضيين، لا بد لنا من طرح التساؤل التالي: كيف يمكننا خوض غمار عالم يواصل زرع التحديات في طريقنا؟
تجاوز الأزمة والازدهار
في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتركيا، تعلمنا كيفية اكتساب مستويات المرونة التي نحتاجها لمواكبة التغيير والتصدي للأزمات، وندرك تماماً ما يتطلبه التكيف مع التغيير والظروف الطارئة، والحفاظ في الوقت نفسه على الشعور بالاستقرار.
ويجد بعضنا الحافز ببساطة في الحصول على فرصة أخرى للاستيقاظ ومواصلة حياته كل يوم، وقد يقول البعض إن كل يوم يحمل في جعبته تحديات جديدة، لكن الذين يتسمون بالمرونة يقولون إن كل تحدٍ هو في الواقع فرصة جديدة تتيح لنا البناء على الإنجازات السابقة.
وبالنسبة لنا في قطاع الرعاية الصحية، لا يمكننا الاكتفاء بتجاوز تبعات الأزمة ومواصلة العمل، بل يتعين علينا تحقيق الازدهار حتى نتمكن من مساعدة الأطباء على تحسين نتائج المرضى، كما يتعين علينا توظيف ما نتمتع به من مرونة وقدرة على مواكبة التغيير للحفاظ على المكانة المحورية للمرضى في صميم جميع أنشطتنا.
البحث عن الوجه الآخر
بالرغم من الصعوبات والتحديات البارزة التي فرضتها الجائحة، يتعين علينا في ذات الوقت أن نبحث عن جوانبها الإيجابية. وكما ذكرنا سابقاً، تتقدم عجلة الابتكار في مجال الرعاية الصحية بصورة أكثر سرعة وذكاء وديناميكية قياساً بأي وقت مضى.
وسيكون عدد المرضى في المستشفيات أقل من الفترات السابقة، مع استخدام المستشفيات بشكل حصري لعلاج الحالات الأكثر صعوبة واستفحالاً. وبالنسبة للأشخاص الآخرين، سنشهد اتجاهاً متنامياً ومستداماً لاستخدام تقنيات التطبيب عن بعد مثل مراقبة المرضى والاستشارات الافتراضية عبر الأثير الرقمي. ويمكن لأدوات كهذه أن تساعد على توفير السعة الاستيعابية في العيادات والمستشفيات للحالات الأشد خطورة. ومن ناحية التكنولوجيا، يطلب عملاؤنا أن نتعاون معهم لتعزيز إنتاجية أجهزتهم ومشافيهم. ويمكن للحلول الرقمية والأجهزة المعززة بالذكاء الاصطناعي أن تدعم هذه المساعي بشكل كبير من أجل ضمان تواجد الطواقم الطبية والمرضى والأجهزة في المواضع الأكثر حاجة. وعلاوة على ذلك، فرضت جائحة كوفيد-19 علينا التصرف بشكل سريع وأن تكون الحلول المعتمدة بسيطة ويسهل التعامل معها.
وكانت جميع هذه المواضيع – الصحة الافتراضية والحلول الرقمية والتنفيذ السريع – تمثل أهدافاً يسعى قطاع الرعاية الصحية لتحقيقها على مدار سنوات خلت. ويتمثل الجانب الإيجابي الذي توصلنا إليه في أن جائحة كوفيد-19 ساعدت على تسريع وتيرة تحقيق هذه الأهداف بالرغم من الاضطرابات التي تسببت بحدوثها.
التركيز على الموظفين والفرق
شهدت السنوات القليلة الماضية زيادة ملحوظة في الحاجة إلى التركيز على موظفينا وإبداء التعاطف والتضامن معهم. ويتعين علينا أن نسعى جاهدين لفهم حياتهم وظروفهم خارج أسوار العمل بشكل أفضل، كما ينبغي علينا إدراك حقيقة أن الأجيال المختلفة تعيش مراحل مختلفة من الحياة تفرض بدورها احتياجات مختلفة أيضاً. ودون أدنى شك، لا يوجد أي نموذج يمكن تعميمه على الجميع.
ومن الناحية الأخرى، توصّل العديد من الموظفين إلى طريقة جديدة لمقاربة التوازن بين الحياة والعمل كنتيجة لاعتماد نماذج العمل من المنزل. وتخضع العديد من الجوانب التي كانت تمثل جزءاً من المسار المعتاد للعمل قبل عامين للتدقيق في الوقت الراهن. وبات الموظفون يحظون بقدر أكبر من المرونة ويشعرون بالمزيد من الرضا تماماً على النحو الذي يرغبون ويطالبون به.
وتتمثل الشركات التي تجاوزت تبعات الجائحة بتلك التي منحت الأولوية لموظفيها وركزت عليهم على المدى الطويل. وخلصت هذه الشركات إلى نتيجة مفادها أن الاستثمار في المواهب التي تمتلكها يمثل نموذجاً أفضل للأعمال، بدلاً من مواجهة معدلات عالية لدوران العمالة وتكبد الخسائر. ويظهر هذا الأمر أيضاً للعملاء والموظفين على حد سواء أنكم - كقادة للأعمال - ملتزمون بالنظر إلى المستقبل بدلاً من مجرد انتظار أرباح الشهر القادم.
وعلاوة على ذلك، ينبغي على الشركات عدم إغفال جوانب الصحة النفسية للموظفين والبحث عن السبل الكفيلة بتعزيزها، وهي مسألة تطورت خلال العامين الماضيين لتتحول إلى ضرورة حقيقية بالنسبة للأعمال. وعندما نتعامل مع الصحة النفسية كأولوية، يمكن لهذا الأمر أن يمنح الموظفين إحساساً بالمسؤولية والهدف، والطاقة اللازمة لتطوير وتنفيذ الخطط الهامة، والقدرة على التعامل مع التغييرات التي تشكل جانباً حتمياً من حياتنا. وهناك الكثير من الأدلة التي تؤكد على حقيقة أن أماكن العمل التي تتمتع بمستويات عالية من الصحة النفسية بين الموظفين تكون أكثر إنتاجية وتحقيقاً للنجاح.
ومن خلال تسخير المرونة التي تشكل جزءاً جوهرياً من هويتنا، والتركيز على النظرة التفاؤلية، وامتلاك السمات الإنسانية التي تتيح لنا رؤية فرق العمل كأشخاص في المقام الأول، يمكننا الصمود في وجه التغييرات التي ستواصل الظهور في طريقنا.
بقلم نائل دباغ، مدير عام شركة «جنرال إلكتريك للرعاية الصحية» في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتركيا وآسيا الوسطى