توجد في الكويت عائلات عديدة تحمل الاسم نفسه لكنها لا تلتقي في الجذور والنسب ولا توجد صلة قرابة بينها. من هذه العائلات عائلة الحجي التي لم يكتب عنها الكثير ولم يسلط ما يكفي من الأضواء على رجالاتها، على الرغم من بروز عدد معتبر منهم في مناحي الحياة المختلفة.
تنقسم الأسرة التي تحمل لقب «الحجي» في الكويت إلى قسمين: «الحجي النواخذة»، وهم سكان فريج بن خميس في الحي الشرقي من العاصمة، وهؤلاء ينتمون إلى قبيلة المناصير، ونزحوا إلى الكويت قبل أكثر من 200 عام، فبنوا منازلهم على البحر مباشرة قبالة مبنى وزارة الخارجية الحالي، وعمل بعضهم في الغوص والتجارة وتسيير المراكب ما بين الكويت والهند البريطانية (مثل سفينة «فتح الخير»، وسفينة «طوبز»).
القسم الثاني من آل الحجي في الكويت تعود أصولهم إلى قبيلة الدواسر، وهم ممن نزحوا قديماً إلى الكويت من وادي الدواسر بنجد، فسكنوا أول ما سكنوا في منطقة القبلة من العاصمة. وقد برز منهم العديد من الأعلام ومنهم المرحوم حجي بن جاسم الحجي، الذي سيكون محور حديثنا هنا لما تميزت به مسيرته العملية من كفاح وسفر وتنقل دائم للارتقاء بذاته في الزمن الصعب، ناهيك عما اصطبغت به روحه من مشاعر وطنية صادقة فجعلته قلقاً ومهموماً بأحوال بلده وأمته العربية، وباحثاً عما يحقق به طموحاته العامة وأحلام مواطنيه في الإصلاح والتقدم ونبذ الفرقة والجهل والتخلف.
نشأ في أجواء ثقافية
ولد حجي بن جاسم بن محمد الحجي الدوسري بمنزل جده لأمه المرحوم أحمد الرشيد، بالقرب من مسجد النبهان في منطقة الوسط من العاصمة الكويت في الثلاثين من يناير سنة 1903، ابناً لوالده الذي كان قد حل بالكويت قادماً من بلدة السليل النجدية، بحثاً عن الرزق والأمان وهرباً من الفاقة وظروف عدم الاستقرار في نجد في القرن التاسع عشر. والدته تنتمي إلى عائلة الرشيد البداح التي كانت قد نزحت هي الأخرى إلى الكويت من مدينة الزلفي النجدية، بل هي أخت الشيخ عبدالعزيز بن أحمد الرشيد المنعوت بمؤرخ الكويت (لأنه أول من أصدر مؤلفاً عن تاريخ الكويت عام 1926)، والمنعوت أيضاً برائد الصحافة (لأنه كان صاحب أول مجلة كويتية عام 1928).
وهكذا فإن الشيخ عبدالعزيز الرشيد هو خال الحجي وأبوه الروحي والشخصية التي تأثر بها، فكانت نشأته في أجواء مفعمة بالأدب والثقافة والمعرفة من جهة، وبالتقوى والاستقامة من جهة أخرى، إذ كان الخال يأخذ ابن أخته معه ويطوف به على مجالس العلم والعلماء والشعراء والأدباء، فنشأ متأثراً برواد حركة الإصلاح والنهضة والأدب في الكويت، الذين كان خاله الرشيد أبرزهم، وصار واحداً من شعراء الكويت الأوائل ممن قادوا بشعرهم حركة الإصلاح الاجتماعي، وساهم في دعم أول الأندية الأدبية في بلاده وهو «النادي الأدبي» الكويتي، الذي رأى النور في أبريل عام 1924 من خلال فكرة تبناها خالد سليمان العدساني وأيدها المرحوم الشيخ عبدالله الجابر الصباح، قبل أن ينضم إليه عضواً عاملاً.
طالب مجتهد ومعلم طموح
تلقى الحجي تعليمه في البداية بمدرسة الملا زكريا الأنصاري، وفي عام 1913 انتقل منها للدراسة بالمدرسة المباركية (افتتحت في 22 ديسمبر 1911، وسميت كذلك نسبة إلى الشيخ مبارك الصباح، وهي المدرسة النظامية الأولى في تاريخ الكويت)، وكان خاله الرشيد يعمل بها آنذاك مدرساً قبل أن يصبح مديراً لها ما بين عامي 1917 و1919. بقي الحجي طالباً مجتهداً يتلقى العلم النافع في المدرسة المباركية لمدة ست سنوات انتهت بانتقاله إلى المدرسة العامرية (أول مدرسة خاصة أنشئت في الكويت عام 1919، وترجع تسميتها بالعامرية نسبة إلى موقعها في ديوان ابن عامر، وقد اشترك في تأسيسها كل من عبدالملك الصالح المبيض والشيخ أحمد الخميس والشيخ عبدالعزيز الرشيد، واستمرت تعمل لغاية عام 1921، وهو العام الذي أغلقت فيه بسبب انتقال مدرسيها للعمل في المدرسة الأحمدية). ويبدو أن انتقاله من المباركية إلى العامرية كان بتأثير من خاله أيضاً الذي كان في عداد مؤسسي هذه المدرسة.
كان أول عمل امتهنه الحجي بعد تخرجه من تلك المدارس وتتلمذه على يد لفيف من أوائل المربين، من أمثال خاله عبدالعزيز الرشيد والشيخ حافظ وهبة وعبدالملك الصالح المبيض والسيد عمر عاصم، هو التدريس في المدرسة المباركية، حيث كان من الأمور الاعتيادية في تلك الحقبة أن ينهي التلميذ دراسته بتفوق من مدرسة ما، ثم يختاره مدرسوها لينضم إليهم زميلاً في الهيئة التدريسية بالمدرسة ذاتها. وهكذا نرى أن الحجي زامل معظم من تلقى العلم على أيديهم، فاستفاد وأفاد.
ظل الرجل يعمل مدرساً في المباركية لمدة ثلاث سنوات انتهت بانتقاله مع كل زملائه المعلمين للعمل في المدرسة الأحمدية (افتتحت في أواخر مايو 1921 كثانية مدارس الكويت النظامية من بعد المباركية، وسميت بهذا الاسم نسبة للشيخ أحمد الجابر الصباح، وظلت تعمل إلى عام 1957 حينما تمّ هدمها). ومما يذكر عنه أنه قام بتدريس الكثيرين من أعلام وشيوخ ووجهاء الكويت إبان عمله في سلك التدريس، ومنهم: الشيخ صباح السالم الصباح وبدر خالد البدر القناعي وعبدالعزيز العلي العبدالوهاب المطوع وغيرهم.
وأثناء عمله مدرساً بالمدرسة الأحمدية لم يجد الحجي أدنى حرج في العودة إلى مقاعد الدرس كتلميذ، إذ قاده طموحه العلمي والمعرفي وحرصه على الارتقاء بذاته إلى تعلم اللغة الإنجليزية من خلال الالتحاق في عام 1922 بمدرسة المستشفى الأمريكاني (وتسمى أيضاً بمدرسة كالفرلي، وهي مدرسة أنشأتها الإرسالية الأمريكية بعد قدومها إلى الكويت عام 1911، بجهود القس كالفرلي وزوجته إلينور الشهيرة باسم الخاتونة حليمة).
كان لقراره الجريء بالالتحاق بهذه المدرسة، دون أدنى اكتراث بدعوات البعض المتعصب لمقاطعتها بحجة أن لها أهدافاً تبشيرية خبيثة، أثر كبير عليه، إذ استطاع بفضل ذكائه وإصراره واجتهاده أن ينهي مقررات المدرسة ويصبح متمكناً من اللغة الإنجليزية قراءة وكتابة وتحدثاً، وبالتالي قادراً على الانطلاق والبحث عن فرص وظيفية أفضل وأكثر مردوداً.
من الكويت إلى الأحساء
في عام 1925 ترك التدريس بالمدرسة الأحمدية، وراح يبحث عن وظيفة أخرى مختلفة وذات دخل أكبر، ولما فشل في العثور على ما يريد في وطنه قرر أن يترك الكويت إلى الأحساء.
سافر الحجي براً إلى الأحساء ضمن الكويتيين الذين ذهبوا إلى هناك بعد أن ضمها الملك عبدالعزيز آل سعود طيب الله ثراه إلى مملكته، حيث إن إمارة الأحساء تقدمت خلال فترة العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي بطلب الاستعانة بمجموعة من رجالات الكويت المتعلمين لإدارة شؤون الأحساء الإدارية والمالية والجمركية، فأقام الحجي فيها مدة لا بأس بها موظفاً في إداراتها. ورغم أن الرواتب الممنوحة آنذاك كانت مجزية وملبية لطموحات الكثيرين من هؤلاء الكويتيين لجهة تحسين ظروفهم المادية، إلا أن صاحبنا لسبب ما قرر العودة إلى الكويت.
بعد ذلك سافر الحجي بحراً إلى البحرين، التي كانت وقتذاك تعج بفرص العمل والنشاط التجاري إلى جانب حركة ثقافية وأدبية وعلمية نشطة، فوصلها عام 1925، حيث عمل كاتباً ومسؤولاً عن المراسلات لدى المحسن الكبير المرحوم التاجر يوسف بن عبدالرحمن فخرو (1873 ــ 1952)، الذي كان في تلك الحقبة من كبار تجار البارود والتمر واللؤلؤ، ومن ملاك السفن التجارية الضخمة الناقلة للبضائع بين موانئ الخليج والهند البريطانية. عمل صاحبنا بتفان واجتهاد عند فخرو لمدة تسع سنوات عاصر خلالها الكثير من الأحداث التي مرت على أرخبيل البحرين ومنها اكتشاف النفط في أراضيها بمنطقة جبل دخان لأول مرة في 16 أكتوبر 1931، ثم تدفق النفط بكميات تجارية في الثاني من يونيو 1932.
العمل في أرامكو
وفي عمل يدل على قلق الحجي المستمر من جهته، ورغبته في التجديد والبحث عن الأفضل، نراه يترك البحرين في مطلع الثلاثينات ويتجه مرة أخرى إلى السعودية وذلك للعمل مع شركة أرامكو في بدايات نشوئها وتطور أعمالها. لم يكن التحاق الرجل بأعمال هذه الشركة النفطية الرائدة في مركزها الرئيسي بمدينة الظهران صعباً؛ فمؤهلاته، ولاسيما إجادته اللغة الإنجليزية، سهلت الطريق أمام توظيفه مترجماً ومدرساً براتب مجز، بدليل أنه سرعان ما تمكن من ادخار مبلغ معتبر اشترى به منزلاً عربياً لإقامته بوسط مدينة الخبر، وهو المنزل الذي استأجرت منه شركة أرامكو في عام 1940 إحدى غرفه لتحويلها إلى مدرسة لتعليم موظفيها الحساب واللغة الإنجليزية، فصار يُشار إلى منزل الحجي هذا كأول مدرسة تمّ تأسيسها بمدينة الخبر، وتعلم فيها موظفو أرامكو السعوديون الأوائل ومنهم أول وثاني مديري أرامكو من السعوديين (علي إبراهيم النعيمي، وعبدالله صالح جمعة على التوالي) وسيف الحسيني وعبدالله الحسيني وعلي البلوشي وغيرهم من أبناء الخبر.
مترجماً عند أمير الشرقية
وبعد أن عمل لمدة قاربت 12 سنة لدى أرامكو، انتقل الحجي للعمل بالدمام مترجماً عند أمير المنطقة الشرقية الراحل سعود بن عبدالله بن جلوي آل سعود (1319 ـ 1386 للهجرة)، حيث رافق الأخير كمستشار ومترجم للقاءات سموه مع ضيوفه الأجانب، بل سافر بمعيته إلى الخارج في رحلات عديدة، منها رحلته إلى الهند في الخمسينات.
ومرة أخرى نجد الرجل يكرر ما فعله سابقاً، فيستقيل من وظيفته في إمارة المنطقة الشرقية، لكن هذه المرة بداعي الخلود إلى الراحة والعلاج، ويختار السفر إلى لبنان من أجل ذلك أسوة بالكثيرين من المقتدرين من أبناء الخليج آنذاك ممن كان يحلو لهم الاستجمام أو الاصطياف أو العلاج في ربوع لبنان الجميلة.
محطة بيروت وسنوات دبي
نحن الآن في منتصف خمسينات القرن العشرين تقريباً والحجي يخلد إلى الراحة والتأمل ومراجعة حساباته في بيروت، فإذا بمسؤولي الخطوط الجوية الكويتية يتصلون به عارضين عليه تولي قيادة مكتبهم حديث التأسيس ببيروت. يقبل الرجل العرض المغري ويصبح مديراً لـ«الكويتية» في لبنان لبضع سنوات، قبل أن يقرر في عام 1957 العودة مجدداً إلى وطنه للمساهمة في نهضته وتنميته، وقد صارت الكويت على مشارف الاستقلال. وهنا قيل إن الحجي كان يتوق للحصول على منصب متقدم في التشكيلات والتغييرات التي أعقبت استقلال الكويت سنة 1961، بسبب خبرته ومؤهلاته، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، إذ تمّ تعيينه كمسؤول في بلدية الكويت فوافق، حيث تمّ اختياره لعضوية اللجنة العقارية بالبلدية، ثم ما لبث أنْ صدر قرار عام 1963 بانتدابه إلى إمارة دبي للعمل في مكتب أنشأته الكويت هناك لتقديم المساعدات التنموية والفنية لإمارات الساحل المتصالح واليمن.
أخذ الحجي عائلته معه وسافر إلى دبي لتولي منصبه الجديد، فعاش في هذه الإمارة الفتية عدة سنوات من عمره، لكن طقس دبي الرطب لم يناسب صحته وهو ما دعاه للاستقالة والعودة إلى الكويت ليعيش فيها متقاعداً عن العمل الحكومي، مع رحلات كل صيف إلى لبنان للراحة، إلى أن انتقل إلى جوار ربه في مصيف شتورة اللبناني في 22 يوليو سنة 1974، فتمّ نقل جثمانه إلى الكويت ليدفن في ترابها.
إخوة الحجي ودروبهم المختلفة
للحجي إخوان ليسوا أقل شهرة منه، وإن كانت دروبهم مختلفة. فأخوه الأكبر هو «الملا عبدالرحمن جاسم الحجي» وهو من مواليد سنة 1907، ودرس الفلك بمكة المكرمة عام 1930 وافتتح له مدرسة لتعليم الفلك في الكويت عام 1944، لكنه سرعان ما أغلقها لأن الطالب الوحيد الذي درس عنده كان صالح بن محمد العجيري. أما أخوه الأصغر فهو وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السابق بدولة الكويت الشيخ «يوسف جاسم الحجي» (1923 ــ 2020) الذي تولى هذه الحقيبة الوزارية في الفترة ما بين 1976 و1981، التي شهدت قيامه بتأسيس بيت التمويل الكويتي وتأسيس كلية الشريعة بجامعة الكويت، وإطلاق برنامج الدعاة ومشروع الموسوعة الفقهية. وهو كأخيه حجي تلقى تعليمه بمدارس الكويت وعمل في مستهل حياته لدى شركة أرامكو بالظهران كاتباً للدوام، لكنه عاد إلى الكويت والتحق بالعمل بوزارة الصحة سنة 1943 ليتدرج في وظائفها المختلفة إلى أن اختير وكيلاً لوزارة الصحة في عام 1970، فساهم من خلال منصبه هذا في إنشاء أول مستشفى حكومي بالكويت، وإيصال الخدمات الصحية إلى خارج العاصمة وتأسيس الهلال الأحمر الكويتي. وفي عام 1984 شارك يوسف الحجي في تأسيس الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية وترأس اللجنة الكويتية للإغاثة التي قامت بأعمال إنسانية في المناطق المنكوبة من العالم الإسلامي، كما شارك في تأسيس العديد من الجمعيات الخيرية والمصارف الإسلامية وبيوت الزكاة والجوامع داخل الكويت وخارجها، ما أهله لنيل جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام سنة 2006 مناصفة مع السعودي الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين.
وأخيراً، فإن حجي جاسم الحجي له شعر جيد في موضوعات متنوعة سياسية ووطنية واجتماعية وتربوية وغزلية، وكانت له مبادرات شعرية ومراسلات مع عدد من شعراء زمنه مثل الشاعرين صقر الشبيب، وحسن بن السيد زيد النقيب، ووصفه خاله عبدالعزيز الرشيد بـ«الشاب الأديب والفاضل اللوذعي».
تنقسم الأسرة التي تحمل لقب «الحجي» في الكويت إلى قسمين: «الحجي النواخذة»، وهم سكان فريج بن خميس في الحي الشرقي من العاصمة، وهؤلاء ينتمون إلى قبيلة المناصير، ونزحوا إلى الكويت قبل أكثر من 200 عام، فبنوا منازلهم على البحر مباشرة قبالة مبنى وزارة الخارجية الحالي، وعمل بعضهم في الغوص والتجارة وتسيير المراكب ما بين الكويت والهند البريطانية (مثل سفينة «فتح الخير»، وسفينة «طوبز»).
القسم الثاني من آل الحجي في الكويت تعود أصولهم إلى قبيلة الدواسر، وهم ممن نزحوا قديماً إلى الكويت من وادي الدواسر بنجد، فسكنوا أول ما سكنوا في منطقة القبلة من العاصمة. وقد برز منهم العديد من الأعلام ومنهم المرحوم حجي بن جاسم الحجي، الذي سيكون محور حديثنا هنا لما تميزت به مسيرته العملية من كفاح وسفر وتنقل دائم للارتقاء بذاته في الزمن الصعب، ناهيك عما اصطبغت به روحه من مشاعر وطنية صادقة فجعلته قلقاً ومهموماً بأحوال بلده وأمته العربية، وباحثاً عما يحقق به طموحاته العامة وأحلام مواطنيه في الإصلاح والتقدم ونبذ الفرقة والجهل والتخلف.
نشأ في أجواء ثقافية
ولد حجي بن جاسم بن محمد الحجي الدوسري بمنزل جده لأمه المرحوم أحمد الرشيد، بالقرب من مسجد النبهان في منطقة الوسط من العاصمة الكويت في الثلاثين من يناير سنة 1903، ابناً لوالده الذي كان قد حل بالكويت قادماً من بلدة السليل النجدية، بحثاً عن الرزق والأمان وهرباً من الفاقة وظروف عدم الاستقرار في نجد في القرن التاسع عشر. والدته تنتمي إلى عائلة الرشيد البداح التي كانت قد نزحت هي الأخرى إلى الكويت من مدينة الزلفي النجدية، بل هي أخت الشيخ عبدالعزيز بن أحمد الرشيد المنعوت بمؤرخ الكويت (لأنه أول من أصدر مؤلفاً عن تاريخ الكويت عام 1926)، والمنعوت أيضاً برائد الصحافة (لأنه كان صاحب أول مجلة كويتية عام 1928).
وهكذا فإن الشيخ عبدالعزيز الرشيد هو خال الحجي وأبوه الروحي والشخصية التي تأثر بها، فكانت نشأته في أجواء مفعمة بالأدب والثقافة والمعرفة من جهة، وبالتقوى والاستقامة من جهة أخرى، إذ كان الخال يأخذ ابن أخته معه ويطوف به على مجالس العلم والعلماء والشعراء والأدباء، فنشأ متأثراً برواد حركة الإصلاح والنهضة والأدب في الكويت، الذين كان خاله الرشيد أبرزهم، وصار واحداً من شعراء الكويت الأوائل ممن قادوا بشعرهم حركة الإصلاح الاجتماعي، وساهم في دعم أول الأندية الأدبية في بلاده وهو «النادي الأدبي» الكويتي، الذي رأى النور في أبريل عام 1924 من خلال فكرة تبناها خالد سليمان العدساني وأيدها المرحوم الشيخ عبدالله الجابر الصباح، قبل أن ينضم إليه عضواً عاملاً.
طالب مجتهد ومعلم طموح
تلقى الحجي تعليمه في البداية بمدرسة الملا زكريا الأنصاري، وفي عام 1913 انتقل منها للدراسة بالمدرسة المباركية (افتتحت في 22 ديسمبر 1911، وسميت كذلك نسبة إلى الشيخ مبارك الصباح، وهي المدرسة النظامية الأولى في تاريخ الكويت)، وكان خاله الرشيد يعمل بها آنذاك مدرساً قبل أن يصبح مديراً لها ما بين عامي 1917 و1919. بقي الحجي طالباً مجتهداً يتلقى العلم النافع في المدرسة المباركية لمدة ست سنوات انتهت بانتقاله إلى المدرسة العامرية (أول مدرسة خاصة أنشئت في الكويت عام 1919، وترجع تسميتها بالعامرية نسبة إلى موقعها في ديوان ابن عامر، وقد اشترك في تأسيسها كل من عبدالملك الصالح المبيض والشيخ أحمد الخميس والشيخ عبدالعزيز الرشيد، واستمرت تعمل لغاية عام 1921، وهو العام الذي أغلقت فيه بسبب انتقال مدرسيها للعمل في المدرسة الأحمدية). ويبدو أن انتقاله من المباركية إلى العامرية كان بتأثير من خاله أيضاً الذي كان في عداد مؤسسي هذه المدرسة.
كان أول عمل امتهنه الحجي بعد تخرجه من تلك المدارس وتتلمذه على يد لفيف من أوائل المربين، من أمثال خاله عبدالعزيز الرشيد والشيخ حافظ وهبة وعبدالملك الصالح المبيض والسيد عمر عاصم، هو التدريس في المدرسة المباركية، حيث كان من الأمور الاعتيادية في تلك الحقبة أن ينهي التلميذ دراسته بتفوق من مدرسة ما، ثم يختاره مدرسوها لينضم إليهم زميلاً في الهيئة التدريسية بالمدرسة ذاتها. وهكذا نرى أن الحجي زامل معظم من تلقى العلم على أيديهم، فاستفاد وأفاد.
ظل الرجل يعمل مدرساً في المباركية لمدة ثلاث سنوات انتهت بانتقاله مع كل زملائه المعلمين للعمل في المدرسة الأحمدية (افتتحت في أواخر مايو 1921 كثانية مدارس الكويت النظامية من بعد المباركية، وسميت بهذا الاسم نسبة للشيخ أحمد الجابر الصباح، وظلت تعمل إلى عام 1957 حينما تمّ هدمها). ومما يذكر عنه أنه قام بتدريس الكثيرين من أعلام وشيوخ ووجهاء الكويت إبان عمله في سلك التدريس، ومنهم: الشيخ صباح السالم الصباح وبدر خالد البدر القناعي وعبدالعزيز العلي العبدالوهاب المطوع وغيرهم.
وأثناء عمله مدرساً بالمدرسة الأحمدية لم يجد الحجي أدنى حرج في العودة إلى مقاعد الدرس كتلميذ، إذ قاده طموحه العلمي والمعرفي وحرصه على الارتقاء بذاته إلى تعلم اللغة الإنجليزية من خلال الالتحاق في عام 1922 بمدرسة المستشفى الأمريكاني (وتسمى أيضاً بمدرسة كالفرلي، وهي مدرسة أنشأتها الإرسالية الأمريكية بعد قدومها إلى الكويت عام 1911، بجهود القس كالفرلي وزوجته إلينور الشهيرة باسم الخاتونة حليمة).
كان لقراره الجريء بالالتحاق بهذه المدرسة، دون أدنى اكتراث بدعوات البعض المتعصب لمقاطعتها بحجة أن لها أهدافاً تبشيرية خبيثة، أثر كبير عليه، إذ استطاع بفضل ذكائه وإصراره واجتهاده أن ينهي مقررات المدرسة ويصبح متمكناً من اللغة الإنجليزية قراءة وكتابة وتحدثاً، وبالتالي قادراً على الانطلاق والبحث عن فرص وظيفية أفضل وأكثر مردوداً.
من الكويت إلى الأحساء
في عام 1925 ترك التدريس بالمدرسة الأحمدية، وراح يبحث عن وظيفة أخرى مختلفة وذات دخل أكبر، ولما فشل في العثور على ما يريد في وطنه قرر أن يترك الكويت إلى الأحساء.
سافر الحجي براً إلى الأحساء ضمن الكويتيين الذين ذهبوا إلى هناك بعد أن ضمها الملك عبدالعزيز آل سعود طيب الله ثراه إلى مملكته، حيث إن إمارة الأحساء تقدمت خلال فترة العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي بطلب الاستعانة بمجموعة من رجالات الكويت المتعلمين لإدارة شؤون الأحساء الإدارية والمالية والجمركية، فأقام الحجي فيها مدة لا بأس بها موظفاً في إداراتها. ورغم أن الرواتب الممنوحة آنذاك كانت مجزية وملبية لطموحات الكثيرين من هؤلاء الكويتيين لجهة تحسين ظروفهم المادية، إلا أن صاحبنا لسبب ما قرر العودة إلى الكويت.
بعد ذلك سافر الحجي بحراً إلى البحرين، التي كانت وقتذاك تعج بفرص العمل والنشاط التجاري إلى جانب حركة ثقافية وأدبية وعلمية نشطة، فوصلها عام 1925، حيث عمل كاتباً ومسؤولاً عن المراسلات لدى المحسن الكبير المرحوم التاجر يوسف بن عبدالرحمن فخرو (1873 ــ 1952)، الذي كان في تلك الحقبة من كبار تجار البارود والتمر واللؤلؤ، ومن ملاك السفن التجارية الضخمة الناقلة للبضائع بين موانئ الخليج والهند البريطانية. عمل صاحبنا بتفان واجتهاد عند فخرو لمدة تسع سنوات عاصر خلالها الكثير من الأحداث التي مرت على أرخبيل البحرين ومنها اكتشاف النفط في أراضيها بمنطقة جبل دخان لأول مرة في 16 أكتوبر 1931، ثم تدفق النفط بكميات تجارية في الثاني من يونيو 1932.
العمل في أرامكو
وفي عمل يدل على قلق الحجي المستمر من جهته، ورغبته في التجديد والبحث عن الأفضل، نراه يترك البحرين في مطلع الثلاثينات ويتجه مرة أخرى إلى السعودية وذلك للعمل مع شركة أرامكو في بدايات نشوئها وتطور أعمالها. لم يكن التحاق الرجل بأعمال هذه الشركة النفطية الرائدة في مركزها الرئيسي بمدينة الظهران صعباً؛ فمؤهلاته، ولاسيما إجادته اللغة الإنجليزية، سهلت الطريق أمام توظيفه مترجماً ومدرساً براتب مجز، بدليل أنه سرعان ما تمكن من ادخار مبلغ معتبر اشترى به منزلاً عربياً لإقامته بوسط مدينة الخبر، وهو المنزل الذي استأجرت منه شركة أرامكو في عام 1940 إحدى غرفه لتحويلها إلى مدرسة لتعليم موظفيها الحساب واللغة الإنجليزية، فصار يُشار إلى منزل الحجي هذا كأول مدرسة تمّ تأسيسها بمدينة الخبر، وتعلم فيها موظفو أرامكو السعوديون الأوائل ومنهم أول وثاني مديري أرامكو من السعوديين (علي إبراهيم النعيمي، وعبدالله صالح جمعة على التوالي) وسيف الحسيني وعبدالله الحسيني وعلي البلوشي وغيرهم من أبناء الخبر.
مترجماً عند أمير الشرقية
وبعد أن عمل لمدة قاربت 12 سنة لدى أرامكو، انتقل الحجي للعمل بالدمام مترجماً عند أمير المنطقة الشرقية الراحل سعود بن عبدالله بن جلوي آل سعود (1319 ـ 1386 للهجرة)، حيث رافق الأخير كمستشار ومترجم للقاءات سموه مع ضيوفه الأجانب، بل سافر بمعيته إلى الخارج في رحلات عديدة، منها رحلته إلى الهند في الخمسينات.
ومرة أخرى نجد الرجل يكرر ما فعله سابقاً، فيستقيل من وظيفته في إمارة المنطقة الشرقية، لكن هذه المرة بداعي الخلود إلى الراحة والعلاج، ويختار السفر إلى لبنان من أجل ذلك أسوة بالكثيرين من المقتدرين من أبناء الخليج آنذاك ممن كان يحلو لهم الاستجمام أو الاصطياف أو العلاج في ربوع لبنان الجميلة.
محطة بيروت وسنوات دبي
نحن الآن في منتصف خمسينات القرن العشرين تقريباً والحجي يخلد إلى الراحة والتأمل ومراجعة حساباته في بيروت، فإذا بمسؤولي الخطوط الجوية الكويتية يتصلون به عارضين عليه تولي قيادة مكتبهم حديث التأسيس ببيروت. يقبل الرجل العرض المغري ويصبح مديراً لـ«الكويتية» في لبنان لبضع سنوات، قبل أن يقرر في عام 1957 العودة مجدداً إلى وطنه للمساهمة في نهضته وتنميته، وقد صارت الكويت على مشارف الاستقلال. وهنا قيل إن الحجي كان يتوق للحصول على منصب متقدم في التشكيلات والتغييرات التي أعقبت استقلال الكويت سنة 1961، بسبب خبرته ومؤهلاته، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، إذ تمّ تعيينه كمسؤول في بلدية الكويت فوافق، حيث تمّ اختياره لعضوية اللجنة العقارية بالبلدية، ثم ما لبث أنْ صدر قرار عام 1963 بانتدابه إلى إمارة دبي للعمل في مكتب أنشأته الكويت هناك لتقديم المساعدات التنموية والفنية لإمارات الساحل المتصالح واليمن.
أخذ الحجي عائلته معه وسافر إلى دبي لتولي منصبه الجديد، فعاش في هذه الإمارة الفتية عدة سنوات من عمره، لكن طقس دبي الرطب لم يناسب صحته وهو ما دعاه للاستقالة والعودة إلى الكويت ليعيش فيها متقاعداً عن العمل الحكومي، مع رحلات كل صيف إلى لبنان للراحة، إلى أن انتقل إلى جوار ربه في مصيف شتورة اللبناني في 22 يوليو سنة 1974، فتمّ نقل جثمانه إلى الكويت ليدفن في ترابها.
إخوة الحجي ودروبهم المختلفة
للحجي إخوان ليسوا أقل شهرة منه، وإن كانت دروبهم مختلفة. فأخوه الأكبر هو «الملا عبدالرحمن جاسم الحجي» وهو من مواليد سنة 1907، ودرس الفلك بمكة المكرمة عام 1930 وافتتح له مدرسة لتعليم الفلك في الكويت عام 1944، لكنه سرعان ما أغلقها لأن الطالب الوحيد الذي درس عنده كان صالح بن محمد العجيري. أما أخوه الأصغر فهو وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السابق بدولة الكويت الشيخ «يوسف جاسم الحجي» (1923 ــ 2020) الذي تولى هذه الحقيبة الوزارية في الفترة ما بين 1976 و1981، التي شهدت قيامه بتأسيس بيت التمويل الكويتي وتأسيس كلية الشريعة بجامعة الكويت، وإطلاق برنامج الدعاة ومشروع الموسوعة الفقهية. وهو كأخيه حجي تلقى تعليمه بمدارس الكويت وعمل في مستهل حياته لدى شركة أرامكو بالظهران كاتباً للدوام، لكنه عاد إلى الكويت والتحق بالعمل بوزارة الصحة سنة 1943 ليتدرج في وظائفها المختلفة إلى أن اختير وكيلاً لوزارة الصحة في عام 1970، فساهم من خلال منصبه هذا في إنشاء أول مستشفى حكومي بالكويت، وإيصال الخدمات الصحية إلى خارج العاصمة وتأسيس الهلال الأحمر الكويتي. وفي عام 1984 شارك يوسف الحجي في تأسيس الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية وترأس اللجنة الكويتية للإغاثة التي قامت بأعمال إنسانية في المناطق المنكوبة من العالم الإسلامي، كما شارك في تأسيس العديد من الجمعيات الخيرية والمصارف الإسلامية وبيوت الزكاة والجوامع داخل الكويت وخارجها، ما أهله لنيل جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام سنة 2006 مناصفة مع السعودي الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين.
وأخيراً، فإن حجي جاسم الحجي له شعر جيد في موضوعات متنوعة سياسية ووطنية واجتماعية وتربوية وغزلية، وكانت له مبادرات شعرية ومراسلات مع عدد من شعراء زمنه مثل الشاعرين صقر الشبيب، وحسن بن السيد زيد النقيب، ووصفه خاله عبدالعزيز الرشيد بـ«الشاب الأديب والفاضل اللوذعي».