عادل حدجامي
عادل حدجامي
-A +A
عرض: علي الرباعي Al_ARobai@
يرى المفكر المغربي الدكتور عادل حدجامي، أن واحدة من التعاليم الأكثر شهرة ورسوخاً عن الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه قوله، «إننا لا نأتي إلى الحقيقة إلا مكرهين»، كون سؤال الحقيقة، مخضّب بالدم، واجتهد مؤرخو الفكر والشرّاح عقب الفيلسوف في بيان مطويّات هذا القول، وبسط ما جاء فيه مجملاً على مستويين اثنين: الأول قيمي، إذ بيّن هؤلاء أنّ النظر «الجينيالوجي» يكشف عن أنّ خلف كلّ عنصر سام أصل غير سام، وأنّ الأصل في كلّ قيمة هو قيمة غير أصلية، فالأخلاق هي مسألة قوة وعنف ورهان دم وسلطة، والثاني معرفي، ووضّح هؤلاء، أنّ مقصود نيتشه هو بيان كون الفكر لا يأتي إلى الحقيقة بإرادته، فلا توافق أو تلاؤم قبلي موجود بين الفكر والعالم، وبين العقل والحقيقة، كما اعتقد كثير من المثاليين، ممّن فهم الفكر باعتباره الفعل الطبيعي لملكة طبيعية، فالأصل في كلّ شيء هو الغرابة والنفور، والفاعل في كلّ شيء هو التدافع الخارجي وليس التوافق الداخلي، فلا شيء «يحدث» بشكل هادئ ومسالم، ولا شيء يريد أيّ شيء، فحتى الحكمة لا تتحقق ابتداء إلا بدافع «كره» أول، لهذا كان الأصل في محبّة الحكمة هو كره الحكمة.

وأوضح حدجامي، أننا لا نخالف الواقع إن قلنا إنّ الاهتمام بالجانب الأول ومؤدياته في فكر (نيتشه) ربما غلب على الجانب الثاني منه، إذ توجّه جلّ الاهتمام إلى العنصر القيمي والأخلاقي لما يحتويه من إحالات نقدية، عملية، وسياسية، بيد أنّ الثاني ظلّ أقلّ درساً، لأنه أكثر تجريداً وأبعد غوراً، فهو يتعلق بنقد الأسس الأعمق لمسلماتنا عن ماهية الفكر، فيهدمها كلها ويجعل بذلك كلّ مستنداتنا الأخلاقية عنه تتهاوى، إذ إنّ ما يعنيه قول مثل هذا، هو أنّه ليس من ضمان قبلي لأيّ صورة نقيمها عن الفكر، فوراء كلّ تأسيس لا أساس أصلياً، ووراء كلّ حقيقة معتقد ظرفي (بلغة بيرس)، ووراء كلّ مفهوم بساط محايثة يجعله ممكناً (بلغة دولوز)، ووراء كلّ عقل هناك الطبيعة التي تصنعه وتحتويه وتجعل تفكيره فيها لا يكون ممكناً إلا بها (بلغة برغسون). نتائج مذهب مثل هذا كثيرة جداً وخطيرة، إذ يسقط إثرها الاعتقاد الساذج في أنّ الخطأ مسألة «خطأ»، أي كونه مجرد اعوجاج ظرفي في المسار «السليم» للفكر، خطأ ينبغي أن نرفعه باعتماد منهجية سليمة كما ذهب إلى ذلك ديكارت، إذ القضية تصير حينها أنطولوجية وليست إبستمولوجية.


وذهب إلى أنه بسقوط هذا الضمان الافتراضي الذي نقحمه في الفكر إقحاماً دون دليل عليه، لدواعٍ أخلاقية خالصة، يصير ما كان بدهياً بذاته، أي «واضحاً متميزاً» بلغة (ديكارت) إشكالياً وملتبساً، ويصير ما كان ضرورياً مجرّد عرض وظرف، وتصير كلّ «حقائقنا» مجرد تأويلات تتقاسمها إرادات قوة لا متناهية تستبدّ بها لتسكنها المعاني، التي لا تفتأ تتغير في كل حين، في تاريخ لا سند له إلا كاووس العالم ورميات نرده التي يُعاد رميها في كلّ لحظة من جديد.

ولفت حدجامي إلى أن النقد المعرفي لمعنى الحقيقة ولمطوياته الأخلاقية، والنظر إلى التفكير باعتباره فعلاً للخارج ولقوى العالم لم يبتدئ مع نيتشه، بل سبقه مفكرون كبار، إذ نجد له أصولاً في فكر (هيوم)، الذي جعل كلّ مسلمات العقل، بما فيها قوانين العلم، صدى لأثر المادة في النفس، إذ الأصل عنده في كلّ معارفنا هو «انطباع» المحسوس في الحسّ لا غير، كما نجد لهذا النقد صدى قوياً عند كانط في تحليله لحدود العقل، نظريّه وعمليّه، وحصره لطموحات المعرفة في حدود الظاهر، كاشفاً بهذا التحليل عن «أوهام» هذا العقل التي ينتجها هو نفسه لنفسه، ومقوّضاً تماسك (الكوجيطو الديكارتي) المزعوم، بكشفه عن شرط الزمن الذي يسكنه وينخره من الداخل، بل إننا نجد بعض عناصر هذا النقد مع بداية الفلسفة نفسها، أي مع أفلاطون، فأفلاطون هو الفيلسوف الذي قدّم التفكير باعتباره فعل «تذكّر»، الأصل فيه تضارب الحسّ والذاكرة، وهو الذي بيّن ألا توافق قبلياً بين الملكات.

وعدّ الأصل في الفكر، اصطدام الحسّ بالفكر، اصطدام يُرغَم الفكر معه على الصعود، لترميم صدعه، نحو الذاكرة كي تسعفه، وهو ما يعني أنّ الأصل في المعرفة هو الاختلاف والعنف، والأكيد أنّ هذا الوعي المبكّر والقوي الذي حققه (أفلاطون) هو ما يُفسّر ولع المفكرين المعاصرين به، حتى جعلوا منه «الفارماكون»، الحليف والعدو، السمّ والترياق.

بيد أنه رغم هذا الوعي المبكر والحضور الدائم الذي كان في تاريخ الفلسفة لهذا التصوّر الخارجي عن الفكر والاختلاف عن الحقيقة، فإنّ صيغته الأتم والأبرز لم تتحقق في نظرنا إلا مع (سبينوزا) وفي نظريته عن الانفعالات تحديداً، فصحيح أنّ التجريبيين قتلوا علاقة العقل بالعالم درساً، وأنّ (كانط) من بعدهم شرّحها تشريحاً.

واستعاد حدجامي، الإنسان عند (سبينوزا) الذي هو ليس جوهراً كما تصوّره الديكارتيون، بل هو مجرد حال من أحواله، تماماً كما النبتة والحشرة والحيوان، وهو حال لا يعي من وجوده، في هذا الجوهر الكل، إلا صفتين اثنتين هما الامتداد والفكر، والعلّة في ذلك هي كونه هو ذاته يتكوّن من هاتين الصفتين فقط، فلا يمكن أن يعي إلا ما يكونه، أمّا باقي الصفات فلا يعي منها شيئاً، لأنه الجزء وهي الكل، والحقيقة أنّ هذا التصور «الحالي» لماهيّة الإنسان عند سبينوزا، الذي يحضر فيه باعتباره مجرد جزء في عالم هو الكل، أي مجرد تعبير ظرفي عن طبيعة تخترقه، هو الأساس الذي يستند إليه لبيان كون الإنسان دائماً تابعاً ولاحقاً في وعيه وفكره وإدراكه، أي بيان أنّ فعل التفكير عنده ليس ممارسة حرّة لذات حرّة، كما اعتقد القدامى، وإنّما انفعال وعنف يخرج بأثره إلى التحقق مضطراً ومكرهاً دائماً.

ولذا فإن الإنسان، مقدار قوة في مقابل مقادير حوله، أي استعداد للانفعال بالقوى فيزيائياً، هذا هو الأصل، وكلّ انفعال فيزيائي ينتج عنه انفعال في النفس، أي انعكاس في النفس، لأنّ ما يكون فعلاً في الجسم يكون فعلاً في النفس في الوقت نفسه، إذ لا انفصال بين الجسم والنفس، أو ما يسميه الثيولوجيون بالروح، فالانفعال هو دائماً وحدة تعبّر عن نفسها في الإنسان من حيث هو حال في صفتين: الجسم بالنسبة للامتداد والنفس بالنسبة للفكر.

وأضاف، وبحسب هذا التصور لا يصير للإنسان أي دور في وعيه بذاته والعالم، فكلّ هذا فعل للإله أو للجوهر بذاته، فالفكر ليس فعلاً واعياً، نقدم عليه في لحظة نختارها، بل هو دفع من الخارج بسبب علة ترد هي نفسها إلى علة أخرى وفق تسلسل ينتهي إلى العلة الأخيرة التي تفعل وفق ذاتها وهي الجوهر، حتى وإن كان هذا الفعل لا يتحقق إلا وفق وجوب وضرورة.