* العهد العثماني في الجزائر كان احتلالاً مهيناً.. ساد فيه الاستبداد والظلم
* القراصنة بربروس أول حكام العهد العثماني كانوا من أب يهودي الأصل وأم كاثوليكية
* استغاث الجزائريون بقراصنة عثمانيين فكان الثمن 312 عاما من الاحتلال
* استأثر الأتراك بمقاليد السلطة وحرموا الجزائريين منها
* وضع العثمانيون «الكراغلة» (ابناء الإنكشاريين من أمهات جزائريات) في مرتبة دونية وحرموهم من المناصب
* لم يهتم العثمانيون بالصحة ولم يشيدوا أي مستشفى ولم تكن هناك مهنة للأطباء
* في العهد العثماني كان الجزائريون يداوون مرضاهم بالجن والأرواح ويجرون العمليات الجراحية عند الحلاقين
* اتسمت حقبة العثمانيين في الجزائر بتوقف مظاهر الحضارة فعم الجهل والتخلف
* على مدى 3 قرون لم يقدم العثمانيون الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم واكتفوا بجمع الضرائب
* حادثة «منشة الذباب» مسرحية سخيفة لتبرير الاحتلال الفرنسي وتهريب الوالي العثماني
* مطالب الوالي العثماني بتحصيل ديون التجار اليهود انتهت بتسليم الجزائر للفرنسيين
* سلم المحتل العثماني الجزائر للفرنسيين بلا مقاومة.. ومعاهدة «دي بورمن» فضحت الخيانة
* بعد عقود من الخيانة العثمانية.. تركيا تصوت في الأمم المتحدة ضد الاعتراف باستقلال الجزائر عام 1962
أثار موقف الجزائر العروبي، حكومة وشعباً، تجاه تطورات الأزمة في ليبيا إعجاب الكثيرين في الوطن العربي، فإضافة إلى رفض التدخلات التركية السافرة في الشأن الليبي ومساعي أردوغان لعسكرة وتدويل الصراع، استضافت الحكومة الجزائرية أيضا قمة «دول الجوار الليبي» في يناير الماضي، ودعت مخرجاتها إلى احترام سيادة ليبيا ورفض التدخل الأجنبي، كما أنها تصدت لمحاولات الرئيس التركي رجب أردوغان المتواصلة لحشر أنفه في الشأن الجزائري التي وصلت إلى حد قيامه بالحديث على لسان رئيس الدولة وتأويل كلامه حول الاستعمار الفرنسي، كما طلب من الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون تسليمه وثائق عن المجازر الفرنسية خلال الفترة الاستعمارية للجزائر، مدعيا أن رئيس الجزائر قال له: «إن فرنسا قتلت 5 ملايين جزائري.. علینا أن ننشر هذه الوثائق لیتذكر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن بلاده قتلت 5 ملايین جزائري»، وهو ما تعتبره الجزائر شأنا خاصا وله قدسية عند الجزائريين، وكانت دلالات البيان الذي أصدرته الخارجية الجزائرية حول تصريحات أردوغان واضحة تماماً، وهي أن الجزائر لن تسمح باستغلال قضية الاستعمار الفرنسي لتحقيق مكاسب سياسية وشخصية، خاصة أن أردوغان يتعاطى مع الحقائق التاريخية حول الجزائر والدول العربية على طريقة منظور الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش: «يمكنك خداع بعض الناس كل الوقت، وهؤلاء هم من تود التركيز عليهم»، وله سوابق في التطفل على الشأن الجزائري ومن بينها ما ذكره قبل أشهر قليلة من تصريحاته الأخيرة، حين قال في أواخر أبريل الماضي خلال كلمة ألقاها في ندوة حول الأرشيف العثماني «لا يمكن لفرنسا التي قتلت ملايين المسلمين في الجزائر أن تعطي تركيا دروساً في التاريخ».
هذه المواقف الجزائرية المتحفظة تجاه سياسات أردوغان لها جذور قديمة وتاريخ لا يمكن أن يسقط من الذاكرة الوطنية للجزائر، فكل مطلع على تاريخ العثمانيين في الجزائر يدرك أنه كان احتلالاً مهيناً وحكماً انتهازياً السمة السائدة فيه الاستبداد والظلم والجور والسرقة والنهب والفساد والشلل الحضاري التام، ومع ذلك حافظ الكثير من المؤرخين على شعرة معاوية في تقييم حقبة العثمانيين وتجنب الكثيرين تصنيفها كاحتلال أو استعمار أو غزو، وذلك باعتبار أن هناك «منة» تاريخية لا يستطيعون إنكارها، ألا وهي أن الجزائريين هم من جلبوا العثمانيين إلى عقر دارهم، بعد أن استنجد سلطان الجزائر سالم التومي مكرهاً بالقراصنة الموالين للعثمانيين، الأخوين خير الدين وعروج بربروس، للتصدي للغزو الإسباني، ولكن كما يقول المثل: «يستطيع الذئب تغيير جلده لا تغيير طبعه»، ولهذا دفعت الجزائر ثمناً باهظاً لتلك الاستغاثة، ضاعت بسببها أكثر من ثلاثة قرون من تاريخ الجزائر تحت وطأة حكم استبدادي ونظام جبائي نفعي، نهب خيرات البلاد وقوت العباد، وأبى المحتل العثماني أن يخرج من الجزائر إلا بتسليمها لمحتل آخر وبثمن بخس، ليسجل التاريخ للعثمانيين أنهم دخلوا الجزائر بالخيانة وعاشوا فيها على الخيانة ولم يخرجوا منها إلا بالخيانة.
القراصنة بربروس
نقلاً عن مذكرات القرصان «كيدر بربروس» المعروف بخير الدين التي كتبها وفقاً لفرمان بلغه من السلطان سليمان القانوني يطلب منه توثيق قصته عقب أن استولى على الجزائر، لأن العثمانيين الذين عمل الأخوان خير الدين وعروج بربروس لمصلحتهم ورفعوا رايتهم كغزاة بحريين، لم يكونوا على علم دقيق بتفاصيل سيرتهم ونشأتهم.
كان والدهم يعقوب آغا خزافاً ثم انضم إلى الفرسان «السباهيين» (فرق الخيالة وغالبيتهم من الأوروبيين الذين عملوا لمصلحة العثمانيين مقابل الحصول على أراض إقطاعية)، واستوطن مع بعض هؤلاء الفرسان في جزيرة مدللي اليونانية التي تقع شمال بحر إيجة، ثم تزوج من أرملة قسيس كاثوليكي من سكان الجزيرة تدعى كاترينا، وأنجب منها ابنتين وأربعة أبناء وهم: إسحاق، وأوروتش (المعروف باسم عروج)، ثم كيدر (المعروف بخير الدين)، وإلياس، ولا توجد معلومات دقيقة في المصادر والمراجع عن أصل وملة والدهم يعقوب آغا، ولكنه إما مسيحي أو يهودي الملة من أصل ألباني، ثم أسلم لاحقاً، وذلك وفقاً لما نقله المؤرخ بن أشنهو عن دييغو هايدو، الذي أضاف أيضاً بأن عروج كان مسيحياً ودخل في الإسلام لاحقاً (عبدالحميد بن أشنهو، دخول العثمانيين إلى الجزائر، ص 37-40).
ونشأ الأشقاء الثلاثة أوروتش (عروج) وكيدر (خير الدين) وإلياس على القرصنة البحرية بالقرب من مسقط رأسهم بين سيلانيك وأغريبوز اليونانية، ثم قرر عروج وشقيقه الأصغر إلياس توسعة نشاطهما بالقيام برحلة بحرية إلى طرابلس الشام لبيع غلمان مختطفين في أسواق العبيد، ولكنهما اصطدما في طريقهما بقوات بحرية من الرودسيون (نسبة إلى بحارة جزيرة رودس اليونانية)، وقتل إلياس في المواجهة فيما وقع شقيقه الأكبر عروج في الأسر لعدة سنوات ثم استطاع أن يهرب ويصل إلى سواحل تركيا، ومن هناك بدأ في التعرف على البحارة العثمانيين، وبسبب قصة أسره وأعمال القرصنة التي قام بها باحترافية اشتهر وذاع صيته بين البحارة الذين عمل معهم، وكان ذلك سبباً في انتقاله إلى مصر ليعمل لاحقاً قائدا لأحد الأساطيل البحرية التابعة لسلطان مصر المملوكي، وبمجرد أن بلغ هذا الخبر للرودسيين بدأوا في ملاحقة أسطوله لقتله قبل أن يبادر بالانتقام منهم، فشنوا غارة عليه في باياس (قرب مرفأ لواء اسكندرون)، ولكنه استطاع الهرب مجدداً بالدخول إلى بر الأراضي العثمانية، وقام لاحقاً بتجهيز سفينة من 18 مقعداً ليشن غارة مضادة على الرودسيين، ونتيجة للأضرار التي لحقت بهم قال حاكم رودس الملقب بـ«الأستاذ الأعظم»: «لقد ظهر قرصان يدعى عروج يملك سفينة ذات ثمانية عشر مقعدا ولا يكاد ينجو منه أحد، إنه يقوم بالاستيلاء على أموالنا وإحراق بلادنا، وكثيراً ما يأسر أطفالنا ويأخذهم إلى طرابلس الشام حيث يبيعهم في أسواقها، حتى صرنا لا نقدر على ركوب البحر خوفاً من شره.. هيا اذهبوا وتخلصوا منه بسرعة» (مذكرات خير الدين بربروس، ترجمة محمد دراج، ص35).
ظل الرودسيون يتتبعون عروج إلى أن وجدوا سفينته فهاجموها واستولوا عليها وأسروا طاقمها لكنه لم يكن عليها، فطلب عروج مساعدة صديقه العثماني «بيالة باي»، الذي كان يعمل خازناً لدى الأمير قرقود ابن السلطان بايزيد الثاني، بتجهيز سفينة له خاصة أنه سبق أن أهداه غلاماً إفرنجياً مختطفاً، فكتب بيالة باي طلباً بذلك إلى الأمير قرقود، قال فيه: «إن عروج عبد من عبيدكم، وهو يقوم بمجاهدة الكفار ليلاً ونهاراً، وانتصر عليهم في معارك كثيرة، غير أنه فقد سفينته، فهو يرغب في أن تتفضلوا عليه بسفينة يغزو عليها»، فساعده الأمير قرقود وقدم له ما يريد لأن العثمانيين في ذلك الوقت كانوا يسعون إلى استهداف غرب أوروبا منذ أن بسطت إسبانيا سيطرتها على قرطبة عام 1492 ما تسبب في هجرة آلاف السكان المسلمين إلى شمال أفريقيا، ثم في 1505 بدأ الإسبان والبرتغاليون بملاحقة المسلمين الفارين إلى شمال أفريقيا ضمن أهداف القضاء عليهم والتوسع الإقليمي في شمال أفريقيا، ولذلك دعم الأمير قرقود الإخوة بربروس لتعطيل حركة الملاحة الإسبانية والبرتغالية في غرب البحر المتوسط، فانطلقوا في عمليات قرصنة موسعة في الأبيض المتوسط، بدأوها باستهداف سفن البندقية الإيطالية والسطو عليها ونهب محتوياتها وأسر طواقمها وبيعهم في أسواق العبيد، وكذلك غاروا على العديد من السفن التجارية قرب نابولي وجنوى وصقلية وغيرها، وأصبحت لديهم ثروات ضخمة وأسطول من عشرات السفن من غنائم الغزو على سفن البضائع التابعة للأوروبيين، وتضاعفت أعداد القراصنة المقاتلين تحت رايتهم، حتى أصبحوا قوة مرعبة ذاع صيتها في البحر الأبيض المتوسط.
الاستيلاء على الجزائر
بعد وفاة بايزيد الثاني عام 1512 تولى ابنه السلطان سليم مقاليد الحكم بإعدام شقيقه الأمير قرقود، وهو ما دفع الإخوة بربروس إلى الابتعاد تجاه شمال أفريقيا خشية أن يعاديهم السلطان بسبب تقاربهم سابقاً مع شقيقه قرقود الذي كان يشكل خطراً على سلطته. ودخل أسطول الإخوة بربروس إلى ميناء حلق الوادي بتونس وكان مكوناً من سبع سفن محملة بالغنائم، وهناك أغدقوا على الأهالي والفقراء ببعض ما سرقوه من أموال وبضائع وقمح وزيت زيتون وعاج، إضافة إلى 400 أسير بينهم 79 امرأة، وباعوا هناك باقي الغنائم، ثم أرسلوا لسلطان تونس الحفصي حصته المكونة من 5 آلاف بندقية، وجاريتين في غاية الجمال، و4 غلمان جنويين، فاستقبلهم قائلا: «شرفتم مملكتي، بيض الله وجوهكم، أنتم أسيادنا»، وأصبحوا يترددون على تونس ويتصدقون من غنائمهم على الأهالي ويتوددون إليهم، وحين بدأت علاقة الإخوة بربروس تتنامى وتتوطد مع السكان امتعض سلطان تونس وبدأ بالتحفظ في العلاقة معهم خشية أن ينقلبوا عليه ويأخذوا مملكته. وقال خير الدين بربروس في مذكراته إن السلطان الحفصي أدرك حينها أنهم لم يعودوا مجرد «قراصنة»، خاصة أنهم في ذلك الوقت نجحوا في كسب ود السلطان سليم وإبداء الولاء للدولة العثمانية مجدداً، وهو ما دفع الإخوة بربروس للتردد على وجهة أخرى وهي الجزائر التي طرقوها منذ عام 1512 لاستكشافها ومعرفة حكامها وأعيانها، وفي تلك الفترة احتل الإسبان ميناء بجاية الجزائري على يد أميرهم بيدرو نفارو، فأصبحت الفرصة مواتية لهم للتدخل.
وقد كان تحفظ الحاكم الحفصي على تونس ومخاوفه من الإخوة بربروس في محلها، فعندما دخلوا الجزائر عام 1516 كقوة حامية بطلب من سلطان الجزائر سالم التومي الثعالبي للتصدي ضد الغزو الإسباني، قاموا بخيانته بعد فترة وجيزة من وصولهم، حيث ذهب عروج إلى منزل السلطان وغدر به وقتله بيديه داخل حمام منزله بمعاونة رمضان شاوش خادم السلطان التومي، ليعلن عروج نفسه سلطاناً على الجزائر، ثم ذهب إلى تلمسان لطرد الإسبان، وبعد أن نجح في ذلك قام سكان المدينة بتنصيب الجزائري «أبو زيان» حاكما، إلا أن عروج كرر الفعلة ذاتها وقتل «أبو زيان» لينصب نفسه مكانه (دخول الأتراك العثمانيين إلى الجزائر، ص 74-76)، وقد اعترف العثمانيون بتلك التطورات الجارية على الأرض في شمال أفريقيا وعرضوا الدعم المالي والسياسي على الأخوين بربروس معترفين بعروج حاكماً على الجزائر وخير الدين «أمير البحر» في غرب المتوسط، وفي عام 1518 لقي عروج حتفه خلال قتال الإسبان الذين استعادوا السيطرة على أجزاء من الجزائر بالتعاون مع بعض الجزائريين، فقاتل شقيقه خير الدين الإسبان بمساعدة العثمانيين ونجح في استعادة السيطرة على الجزائر، ومنذ ذلك الحين مكث العثمانيون في الجزائر لأكثر من 3 قرون.
حقبة عنصرية متخلفة
استأثر العنصر العثماني بمقاليد السلطة دون الجزائريين طوال فترات العهد العثماني في الجزائر التي ابتدأت بحقبة حكم «البايات» أو البكلربك وتعني «نائب الملك»، وكان يعين بفرمان من الباب العالي ويعمل تحت وصاية الحكم العثماني، واستمر حكم هؤلاء البايات بدءاً من القراصنة بربروس في 1518 إلى 1588، وعددهم 8 حكام، وتلاها حكم «الباشوات» من 1588 إلى 1659، وكان هؤلاء يعينون مباشرة من قبل الباب العالي في الأستانة، وبلغ عددهم 54 حاكما، ثم جاءت حقبة حكم «الآغوات» (1659-1671)، وعددهم 4 حكام فقط، وهي حقبة أوليغارشية كان الحكم فيها في أيدي أقلية من قادة الجيش، ثم جاء حكم «الدايات» (1671-1830) وهم من فئتي «طائفة الرياس» (القراصنة) والجنود الإنكشاريين، وعددهم 28 حاكماً آخرهم الداي حسين الذي سلم الجزائر لفرنسا وهرب.
ومنذ الأيام الأولى للتواجد العثماني في الجزائر تضجر السكان من تعامل الأتراك الفظ معهم، حيث فرضت الأقلية التركية سيطرتها على البلاد، وفرضوا اللغة التركية كلغة رسمية للبلاد وضاعفوا الضرائب على السكان وأبعدوهم تماما عن إدارة الحكم، حيث اقتصرت الفئة الحاكمة على الأتراك من قوات الإنكشارية الذين قاموا بحرمان الجزائريين من جميع المناصب الإدارية في الدولة، وتم تعيين «الكراغلة»، وهم أبناء الجنود الإنكشاريين من نساء جزائريات، في مرتبة أدنى، ولم يسلموا من سياسة العنصرية والإقصاء، وهو ما تسبب في العديد من الثورات الشعبية ضد الحكم العثماني الذي فرض نفسه بالحديد والنار.
وعلى مدى 3 قرون لم يهتم العثمانيون بتنمية الجزائر وتقديم الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم بقدر اهتمامهم بجمع الضرائب، ولم يشيدوا أي مستشفى ولم تكن هناك مهنة للأطباء، فكان الذين يقومون بالعلاج غالبا ما يداوون مرضاهم بالجن والأرواح، وكانوا يجرون العمليات الجراحية والكي عند الحلاقين، بينما كان لدى السلطات العثمانية أطباء يحملون مسمى «جراح باشي» للعناية بالإنكشاريين فقط، ونتيجة لعدم اهتمام المحتل العثماني بالصحة، انتشرت الأوبئة والأمراض، حيث أصاب وباء الطاعون الجزائر عدة مرات وفي سنوات مختلفة، ولقي الكثير من السكان في المدن والأرياف حتفهم، وكان سبب تناقص عدد سكان الجزائر أواخر العهد العثماني يرجع جزء منه إلى انتشار الأمراض والأوبئة كالكوليرا والتيفوس والجدري والسل والطاعون، وقد ساعد على توطن هذه الأوبئة انتشار المستنقعات وعدم استصلاحها وانعدام الاهتمام بالجانب الصحي حتى نهاية العهد العثماني في 1830 (أبوالقاسم سعدالله، محاضرات في تاريخ الجزائر، ص 168-169).
وكذلك كان هناك شبه إجماع بين المؤرخين على أن حقبة العثمانيين توقفت فيها مظاهر الحضارة فعم الجهل والتخلف، إذ لم يهتم الأتراك بالتعليم، بل تركته للعامة فكانت دور العلم تبنى من واردات أوقاف أصحابها من السكان الأصليين، وكان ميسورو الحال من أبناء الجزائر يرحلون إلى خارج البلاد للحصول على العلم، في المغرب وتونس ومصر والحجاز، وبالتالي انخفض مستوى التعليم في كامل القطر الجزائري، وكانت أمهات المدن التي اشتهرت بالعلم والعلماء في العهد الإسلامي، وقد أدى عدم اهتمام الأتراك بميدان العلم إلى انحدار المجتمع الجزائري في انتشار الخرافات والبدع والدجل والدروشة التي تبلورت في التوسلات بالأضرحة والقبور، فأصبح المجتمع خاملا قريبا إلى عالم الأموات منه إلى عالم الأحياء (محاضرات في تاريخ الجزائر المعاصر، بن قايد عمر، ص 14).
وإضافة إلى سياسة التهميش والإقصاء ضد السكان المحليين في الجزائر، اتبع المحتل العثماني منذ سيطرته على الجزائر سياسة ضريبية مجحفة من خلال نظام جبائي عملوا من خلاله على الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من الأموال من السكان بمضاعفة الضرائب وإخضاع القبائل الخارجة عن سلطتهم بالقوة، ورغم تدني المستوى المعيشي لدى السكان خاصة على مستوى سكان الأرياف، كانوا يدفعون الضرائب الباهظة بالقوة، وقد انعكس هذا الوضع على النمط المعيشي الذي تحول من نمط زراعي إلى نمط رعوي بسيط (أرزقي شويتام، المجتمع الجزائري في العهد العثماني، ص 259)، ونتيجة للتعامل السيئ مع السكان الأصليين، تولد لدى الجزائريين شعور بغربتهم في وطنهم، إذ كانت الضرائب تفرض عليهم مثلهم مثل الرعايا العبيد من المسيحيين وغيرهم (آرجرون، تاريخ الجزائر المعاصرة، ص11).
ولضمان بقائهم في الحكم، انتهج العثمانيون سياسة «فرق تسد» التي كانت من أنجع الأساليب في السيطرة على البلاد، واعتبروها وسيلة فعالة وضرورية لأي حاكم يريد السيطرة على زمام الأمور في الجزائر، وذلك بإحداث الصراعات والخلافات بين القبائل كي يستفيد هؤلاء الأتراك من هذه النزاعات بين الأهالي لإحكام سيطرتهم عليهم وحتى ينشغلوا عن التركيز في أمور السياسة والحكم (جميلة معاشي، الأسرة المحلية الحاكمة، ص270).
وكانت معاملة الأتراك للأهالي سيئة جدا، وقد تجلت هذه الفروقات في معاملة المذنبين، فإذا كان المذنب تركيا فإن العقوبة التي تقع عليه تكون في سرية تامة وأخف قساوة، أما إذا كان من السكان المحليين فيتفنن الأتراك حينها في اختراع وسائل التعذيب والإعدام لإرهاب الرعية (جميلة المعاشي، المجتمع والإنكشارية ص159)، وقد انطبق على حقبة الاحتلال العثماني الشنيعة وصف المؤرخ صالح العنتري الذي يعد أحد شهود العيان على تعسف وجور الأتراك، بقوله: «أين تمكن الأتراك من الأوطان صاروا يظلمون الناس ويسفكون دماءهم ويأخذون أموالهم بغير حق، ويعدون ولا يوفون بعهودهم حتى انعدمت الثقة بين الحاكم والرعية».
ونتيجة لهذا الوضع البائس، انتشر السخط بين السكان، فقامت العديد من الثورات ضد العثمانيين كنتيجة لحالة القهر والظلم والعنصرية الممنهجة من قبل المحتل العثماني الذي استمرت علاقاته بالمجتمع الجزائري تتسم بالسوء وتحت طابع نفعي بحت، فقامت العديد من حركات التمرد والاضطرابات الداخلية والثورات المتواصلة طوال العهد العثماني في الجزائر، بداية بنزاع أحمد بن القاضي في 1520 ضد خير الدين بربروس، ومروراً بسلسلة طويلة من الثورات على مدى 300 عام من الاحتلال، من بينها ثورة أحمد بن الصخري في شرقي الجزائر عام 1622 التي استمرت 25 عاما، وثورة ابن الأحرش في 1803 بسبب نظام الجباية المجحف الذي استخلص بالقوة رغم الفاقة التي أصابت السكان، وثورة عبدالقادر الدرقاوي عام 1804 التي استمرت 5 سنوات، وكانت نتيجة لسياسة التهميش التي اتبعها العثمانيون ضد السكان الأصليين وإقصائهم عن المناصب والوظائف الحكومية، وثورة محمد التيجاني في غرب الجزائر عام 1826 نتيجة الاستبداد وظلم الأهالي واحتقارهم، وثورة سويد (ثورة المحال)، وغيرها الكثير.
حادثة المنشة
وبعد 3 قرون من الاحتلال العثماني، وقعت حادثة مفصلية في تاريخ الجزائر، دفعت البلاد نحو منعطف أشد وطأة، وهو ما يعرف تاريخيا بـ«حادثة المروحة» أو «حادثة منشة الذباب»، التي وقعت في 29 أبريل 1827، وهي مشادة جرت بين الوالي العثماني الداي حسين والقنصل الفرنسي بيار دوفال، وأصبحت تعرف بأنها «الذريعة» التي استخدمتها فرنسا لاحتلال الجزائر.
وانطلقت شرارة الواقعة حين زار القناصل الأجانب، وبينهم القنصل الفرنسي دوفال، قصر الوالي العثماني الداي حسين لتهنئته بيوم عيد الفطر، فتطرق الوالي إلى قضية ديون متراكمة على فرنسا بلغت وفق تقديراته نحو 28 مليون فرنك فرنسي، وهي قيمة فواتير قمح استوردته فرنسا من الجزائر خلال فترة الحصار الاقتصادي الذي فرضته الدول الأوروبية عليها إبان الثورة الفرنسية، فاحتد النقاش بعد أن قال الداي إنه أرسل عدة خطابات إلى الملك شارل العاشر ولم يصله أي رد، متهماً القنصل دوفال بأنه السبب في عدم وصول الرد إليه، فأنكر على الفور تلك المزاعم، ليقوم الباشا العثماني غاضباً وكانت بيده منشة ذباب فلوح بها لطرد القنصل من المجلس، وقيل إن طرف ريشة المنشة لامس وجه القنصل فخرج على الفور متوعداً بإبلاغ حكومته بأنه تعرض للضرب، فكانت ريشة المنشة أو ما عرفت بـ«حادثة المروحة» هي الذريعة التي استندت إليها فرنسا لشن الحرب على الجزائر، حيث بعث شارل العاشر جيشه عام 1828 بحجة استرجاع مكانة وشرف فرنسا، وبدأ بفرض حصار على الجزائر لمدة 6 أشهر وبعدها قام الجيش الفرنسي بالدخول إلى السواحل الجزائرية، وانتهى الأمر بهروب الداي حسين واحتلال فرنسا للجزائر عام 1830.
ديون لليهود
وبالغوص في خلفيات وملابسات حادثة «منشة الذباب» في المراجع والوثائق والمصادر التاريخية، يتضح أن الوالي العثماني الداي حسين كان يسعى لتحقيق مكاسب مالية شخصية من ديون مسجلة على فرنسا تعود لتجار يهود في الجزائر، حيث منح الداي امتيازات خاصة لشركة يمتلكها تاجران يهوديان، وهما ميشيل بكري ونفتالي بوشناق، لتصدير القمح من الجزائر إلى فرنسا على هيئة قروض آجلة السداد خلال فترة الأزمة الاقتصادية التي لازمت الثورة الفرنسية، وبعد أن تراكمت الديون وتأخرت فرنسا عن السداد، قامت الحكومة الفرنسية بسبب مطالبات التجار وضغوطات الداي بتشكيل لجنة لمراجعة وحصر القيمة الإجمالية للديون وخلصت إلى تقديرها بنحو 7 ملايين فرنك فرنسي فقط، ودفعت نصف المبلغ إلى التاجر اليهودي بكري، وأبقت على باقي المبلغ في صندوق خصصته لدفع المستحقات على دفعات، ولكن الداي العثماني أصر على تقدير المبلغ الإجمالي للديون بنحو 28 مليون فرنك، وظل يراسل القنصل والسلطات الفرنسية إلى أن حدثت مشادة المروحة أو المنشة التي كانت ذريعة فرنسا المعلنة لاحتلال الجزائر.
تصرفات الحاكم المريبة
الحقيقة كانت لها أبعاد أكبر من أن تكون حادثة «منشة الذباب» ذريعة افتعلها الفرنسيون لاحتلال الجزائر، حيث كانت الدولة العثمانية في ذلك الوقت في حالة تراجع وانحسار كبير في قوتها بسبب خوضها سلسلة من الحروب التي خسرت غالبيتها، من بينها الهزيمة التي منيت بها في معركة يوبيتش ضد التمرد الصربي في 1518، وانتصار المتمردين اليونانيين في معركة درفناكيا في 1822، وفي أكتوبر 1827، أي بعد «حادثة المنشة» بأقل من 6 أشهر، خاضت الدولة العثمانية معركة «نافارين» البحرية ضد الحلفاء بريطانيا وفرنسا وروسيا، وأرسل الداي حسين الأسطول الجزائري للمشاركة في المعركة التي انتهت بهزيمة فادحة للعثمانيين وتدمير الأسطول الجزائري بشكل شبه كامل، وقد كان من نتائجها الخطيرة ضعف القوات البحرية للجزائر وعجزها عن حماية سواحلها.
وعلى الرغم من خطورة الوضع، قام الداي حسين الوالي على الجزائر بالتصعيد مع فرنسا، وهنا يقول المؤرخون إنه واصل ارتكاب أخطاء فادحة ومثيرة للتساؤلات، من بينها قيامه بإعدام قائد الجيش الآغا يحيى في 1827، الذي كان معروفاً ببراعته وخبرته لأكثر من 12 عاماً في هذا المنصب، وكان ذلك بحجة تلقيه تقارير من الخزناجي وزير المالية تفيد بأنه يخطط للانقلاب عليه بالتعاون مع بعض أعيان القبائل، والغريب في الأمر أنه قام بتعيين صهره الداي إبراهيم الذي لم تكن له أي خبرة أو علاقة بالجيش، ونتيجة لذلك لم يتخذ القائد الجديد أي إجراءات لحماية الجزائر من تهديدات فرنسا (مذكرات أحمد باي).
توقيع وثيقة العار والهروب
حين دخلت القوات الفرنسية إلى الجزائر في 19 يونيو 1830، رداً على «حادثة المنشة»، قام الوالي العثماني وفي غضون أقل من 15 يوماً بالتوقيع على معاهدة الاستسلام «دي بورمن» بتاريخ 5 يوليو 1830، وهي معاهدة جرت بين الوالي العثماني على الجزائر (الداي حسين) والماريشال دي بورمن قائد قوات الجيش الفرنسي، وقضت بتسليم الجزائر إلى فرنسا، ويتضح من بنودها أن الحاكم العثماني عقد الاتفاقية للحفاظ على حياته وأمواله فقط. وجاءت بنود الاتفاقية المخزية، كالتالي:
تسلم جميع الحصون التابعة للجزائر وموانئها إلى الجيوش الفرنسية.
تعهد الجيش الفرنسي بترك داي الجزائر على حريته ومعه جميع ثرواته الشخصية.
الداي حر في الانسحاب مع أسرته وثرواته الخاصة إلى المكان الذي يريده.
سيكون هو وكامل أفراد أسرته تحت حماية قائد الجيش الفرنسي طوال مدة بقائه في الجزائر.
ستقوم فرقة من الحرس بالسهر على أمن الداي وأسرته.
يضمن قائد الجيش الفرنسي نفس المزايا ونفس الحماية لجميع حراس الداي.
وفي أقل من 5 أيام فقط، غادر الداي حسين الجزائر بتاريخ 10 يوليو 1830 مع عائلته ووزرائه وحاشيته المكونة من 118 شخصًا، بينهم 58 امرأة، حاملاً معه ثروته على ظهر السفينة الفرنسية الشهيرة «جان دارك» التي نقلتهم إلى نابولي ليهنأ هناك بحياة كريمة، ثم زار لاحقاً باريس للاستجمام، وبعد عدة سنوات انتقل للإقامة في الإسكندرية التي توفي فيها عام 1838.
من التتريك إلى الفرنسة
لا خلاف على وحشية وبشاعة حقبة الاستعمار الفرنسي للجزائر وما ارتكبته خلالها من فظائع ومجازر على مدى 132 عاماً من الاحتلال الغاشم الذي انتهى بالنضال المسلح عبر ثورة التحرير الجزائرية التي راح ضحيتها أكثر من 1.5 مليون شهيد، وانتهت بإعلان استقلال الجزائر في 5 يوليو 1962، ولكن يجب أن لا نغفل أن السبب الرئيسي في الاحتلال الفرنسي للجزائر هو المحتل العثماني الذي قبع قبله جاثماً على صدور الجزائريين لثلاثة قرون ولا يقل عن المحتل الفرنسي في وحشيته وهمجيته وطغيانه.
والأدهى من ذلك، بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية قامت الجمهورية التركية بدعم قمع فرنسا للمقاومة الجزائرية، وصوتت ضد القرار الأممي حول الاعتراف باستقلال الجزائر عام 1962.
إلى هنا، لا يسعنا إلا أن نقول: «الذين لا يقرأون التاريخ محكوم عليهم أن يكرروه».