بتاريخ 29 أبريل الماضي نشرت وكالة أنباء «الأناضول» التركية الرسمية تغريدة متشنجة عبر حسابها الرسمي على موقع «تويتر»، وبلغة متدنية وهابطة لا نقرأها عادة إلا في الصحف الصفراء ووسائل إعلامية «غير رسمية»، زعمت من خلالها وجود «دعوات للعبث بالحرم المكي وإزالة الرواق العثماني»، مضيفة: «من الغريب المريب أن نجد من يتمنى إزالة معلم من معالم عمارة المسجد الحرام، لا لشيء سوى لأن هذا المعلم ارتبط تاريخياً ببناته، وهم سلاطين الدولة العثمانية ومنها أخذ اسمه: (الرواق العثماني)»، وهي مغالطة لا أساس لها في جل المصادر والمراجع التاريخية التي وثّقت تاريخ عمارة المسجد الحرام، وتسطو بذلك الطرح المختل على الرواق الذي شيده أمير المؤمنين الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه في إطار التوسعة التي أجراها عام 26 للهجرة.
وكانت تلك التغريدة مقدمة لتقرير أعدته الإخوانية المتطرفة إحسان الفقيه، أرادت من خلاله أن تحاضر علينا باستعلاء عن تاريخ ومآثر السلاطين العثمانيين في إصلاح وتجديد وعمارة المسجد الحرام، مبطنة طرحاً سياسياً مؤدلجاً في سياق أهداف مشروع نظام الرئيس رجب أردوغان الرامية لإعادة إحياء تاريخ الإمبراطورية العثمانية، إلا أن التقرير وقع في قراءة خاطئة حول تاريخ الرواق العثماني.
وأمام سيل الانتقادات التي تلقتها «الأناضول» عبر موقع «تويتر» حول تلك المغالطة التاريخية اضطرت إلى نشر تغريدة أخرى تؤكد من خلالها أن «الرواق العثماني» ينسب إلى الخليفة عثمان بن عفان، إلا أنها بدلاً من أن تعتذر للقراء والمتابعين، تمادت بألفاظ نابية ضد المغردين الذين صححوا خطأها، إذ وصفتهم بـ«الذباب الإلكتروني»، وقامت بتعديل التقرير المذكور بمحتوى هابط في مفرداته، يتهم المغردين السعوديين بأنهم «يسوغون العبث بالمسجد الحرام والقيمة الأثرية للرواق لمجرد أن الناس يتداولون القول بنسبته للعثمانيين».
وكان من الواضح أن ما طرحته «الأناضول» من مغالطات وإساءات ما هو إلا انعكاس لسيكولوجية نظام أردوغان ورؤيته السياسية ذات النزعة الإمبريالية المضطربة، التي تسعى إلى فرض هيمنتها إقليمياً وإعادة حقبة «الاستعمار العثماني» من خلال تلميع ذلك التاريخ الدموي والترويج لأحلام وأوهام «الخلافة»، ومحاولة إخفاء الكثير من الحقائق البائسة عن الحقبة العثمانية في العالم العربي وما ارتكب خلالها من جرائم وانتهاكات.
عمارة المسجد الحرام في العهد العثماني
أما عمارة المسجد الحرام في عهد الدولة العثمانية فكانت بعد مرور أكثر من 953 عاماً من بناء الرواق والتوسعة التي شهدها الحرم المكي في عهد عثمان رضي الله عنه، وكانت العمارة العثمانية للمسجد عبارة عن أعمال إعادة بناء وترميم وصيانة، أبرزها في عهد السلطان سليم الثاني عام 979هـ، وشملت ترميم وتطوير رواق عثمان الذي أضيفت إليه القباب محل السقف الخشبي، وبعد وفاة سليم الثاني عام 982هـ، أكمل ابنه السلطان مراد الثالث عام 984هـ الإصلاحات المتبقية.
ولكن لم تشهد عمارة الحرم المكي خلال الحقبة العثمانية أي توسعة وزيادة في مساحته، بينما شهد المسجد الحرام 8 توسعات في العهود الإسلامية التي سبقت الدولة العثمانية، منها عمليتا توسعة في فترة الصحابيين عمر بن الخطاب (17هـ) وعثمان بن عفان (26هـ)، ثم توسعتان في فترة الدولة الأموية في عهد عبدالله بن الزبير (17هـ) والوليد بن عبدالملك (91هـ)، ثم 4 توسعات في فترة الدولة العباسية في عهد أبو جعفر المنصور (137هـ- 140هـ) ومحمد المهدي (160هـ- 164هـ) والمعتضد بالله (284هـ) والمقتدر بالله (306هـ).
وبقيت مساحة المسجد الحرام في العهد العثماني عند الحد الذي بلغته توسعة الخليفة العباسي المقتدر بالله سنة 306هـ والذي أضاف للحرم المكي مساحة 950 متراً مربعاً، بعد أن ضم دارين للسيدة زبيدة وهي حفيدة أبو جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسيين وزوجة هارون الرشيد الخليفة العباسي الخامس، ولكن كانت المباني السكنية تنمو على مر السنين حول المسجد الحرام وتزحف نحوه حتى اتصلت به، وهكذا كان الحال بالنسبة للمسعى، فقد فصلت المباني الخاصة بينه وبين المسجد الحرام، وأصبح على مرّ العصور طريقاً ضيقاً، تقوم على جانبيه الحوانيت، تملؤها السلع المختلفة، وترتفع فوقها المساكن طبقات (رشدي الصالح ملحس محقق كتاب «تاريخ مكة» لأبو الوليد الأزرقي، الجزء الثاني، ص 330). وهذه المساحة الضيقة التي ظل المسجد الحرام محدوداً فيها طيلة عهد العثمانيين، بدأت تضيق بالوافدين، إذ كان عددهم يزداد في كل موسم عن سابقه، وبدأت أروقة المسجد الحرام ورحابه تضيق بهم في أوقات الصلاة، خصوصاً في أيام الجمع، إذ يضطر كثير منهم لأداء الفريضة في الطرقات والأزقة المحيطة بالحرم، وكلما مرت الأعوام، ازداد العدد كثرة والزحام اشتداداً، وازداد شعور سكان مكة وزوارها من الحجاج والمعتمرين شعورا بالضيق، وارتفعت أكفهم بالدعاء إلى الله سبحانه وتعالى، بأن يهيئ لبيته المشرف من يقوم بتوسعته وتجديد عمارته، ولكن أحداً من ملوك المسلمين أو أمرائهم لم يفكر في زيادة شبر في مساحته، بعد زيادة المقتدر (الأزرقي، أخبار مكة، ص330).
وعلى الرغم من السيادة العثمانية على مصر بعد دخولها سنة 923هـ، ظلت مصر خلال العهد العثماني هي من تتولى كسوة الكعبة وعمارة المسجد الحرام وتوفير مواد البناء والمهندسين والعمال، إلى أن جاء عهد محمد علي باشا الذي قام بحل الوقف الخاص بالكعبة وأنشأ إدارة حكومية تتولى الكسوة (تقي الدين الفاسي، شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، ص 172). ومسألة عدم القيام بتوسعة للحرم المكي في العهد العثماني رغم الحاجة إلى ذلك، كانت مرتبطة بالوضع المالي السيئ في شبه الجزيرة العربية تحت الولاية العثمانية، إذ كانت الخزينة دائماً ما تتعرض لضائقة مالية نتيجة تأخير وصول أموال الميزانيات المخصصة للحجاز لأشهر عدة، وقد وثقت دراسة أعدها الدكتور سهيل صابان، المتخصص في تاريخ الدولة العثمانية بجامعة الملك سعود، بعنوان «المراسلات المتعلقة بالأمور المالية لولاية الحجاز في سجل العينيات رقم 873»، أوضاع المصروفات والإنفاق خلال مراحل زمنية محددة في العهد العثماني، ونستنتج منها الأحوال المالية المتردية في ذلك الوقت ومنها تأخر تسليم الرواتب لأشهر عدة، إضافة إلى علاقة تمرد القبائل بعدم تسليم المخصصات المالية، وكشفت الدراسة أن سد نقص الميزانية كان يتم تحصيله من الرسوم التي تجمع من الولايات العثمانية الأخرى، من بينها العراق وسورية ولبنان ومصر، وهي أموال جباية الضرائب التي يفرضها المحتل العثماني على مواطني الدول العربية، بمعنى أن «صرة القروش» السلطانية التي يصرف منها على الحجاز وحاجات الحرمين الشريفين كانت تجمع من جباية الرسوم والضرائب المفروضة على المواطنين في الدول العربية ومن بعض الأوقاف، ولم تكن تأتي بشكل أساسي من خزينة الباب العالي، وحتى الغلال كانت تأتي من مصر وحوران وبغداد، وفي مراسلة من الباب العالي إلى محافظ المدينة المنورة حول حاجات ترميم الحجرة النبوية بتاريخ 22 نوفمبر 1874، نستنتج مدى امتعاض الباب العالي من الشروع في إجراء ترميمات «ضرورية» قبل موافقة الباب العالي الذي تأخر في تأدية التكاليف وتوفير هذه المصروفات الأساسية، متعللاً بحسب ما ورد في الوثيقة العثمانية المؤرشفة حول «دفاتر المصروفات» (رقم 873 صفحة 289)، بأنه كان يتطلب إذن السلطان قبل الشروع في الترميم، وهذا على سبيل المثال لا الحصر، حول تقتير الإنفاق على الحرمين في العهد العثماني.
توسعة الحرم في عهد عثمان بن عفان
وحول تاريخ عمارة المسجد الحرام، فقد أجريت في عهد الخليفة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- التوسعة الثانية للحرم المكي (26هـ)، بعد أن كثرت أعداد المساكن المحيطة بالحرم حتى التصقت به، وكانت التوسعة الأولى عام 17هـ في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
وأمر عثمان بن عفان بشراء المساكن المحيطة بالحرم المكي لاستيعاب قاصدي المسجد الحرام من المصلين والمعتمرين والحجاج، تماماً كما فعل قبله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ولكن أبى حينها بعض أصحاب الدور بيعها واستلام أثمانها من أجل استكمال التوسعة، فما كان من سيدنا عثمان إلا أن ثمّنها وأمر بهدمها على أصحابها، فصاحوا به، فقال: «جرّأكم علي حلمي عنكم، فقد فعل بكم عمر هذا فلم يصح به أحد»، وأمر بحبسهم، ثم شفع فيهم عبدالله بن خالد بن أسيد أمير مكة فأخرجهم وأخذوا قيمة دورهم، وزاد عثمان في بناء المسجد الحرام وأمر بتجديد أنصاب الحرم (تاريخ الطبري الجزء الرابع، ص 252)، (أخبار مكة في قديم الدهر للإمام الفاكهي، الجزء الثاني، ص 158).
وجعل عثمان بن عفان للمسجد الحرام أروقة، وكان أول من اتخذ الأروقة له (الحافظ ابن ظهيرة، تاريخ مكة، ص 197)، (البلاذري، فتوح البلدان، ص53)، (الزركشي، «إعلام الساجد»، ص57)، وزاد مساحة المسجد الحرام بمقدار 2040 متراً مربعاً لتصبح مساحة المسجد نحو 4390 متراً مربعاً (الشريف محمد آل عبدالله، الزيادات في الحرم المكي الشريف).
غالبية هذه المراجع والمصادر وثّقت نشأة الرواق «العثماني» قبل وجود الدولة العثمانية، والخلاصة في هذه المسألة هي أن الرواق «العثماني» يعود تاريخ إنشائه للخليفة عثمان بن عفان الذي كان أول من استخدم الأساطين والأعمدة في بناء الرواق.
جذور اللغة البذيئة
والحقيقة التي يجب ألا نغفلها حول استخدام تلك اللغة المتعالية على الآخرين والهابطة في مفرداتها، مثل تلك التي وردت في التغريدة التي بثتها وكالة أنباء «الأناضول» حول الرواق العثماني والتقرير المرفق معها، ووصفها لـ«المغردين السعوديين» بأنهم مجموعة من المحرضين، هي في أساسها لغة متأصلة في التاريخ العثماني، ويتجلى هذا الأمر بوضوح في مئات الخطابات والمراسلات الرسمية المتداولة بين الباب العالي ومسؤولي الولايات التابعة لها خلال «الحقبة العثمانية» في الوطن العربي، التي كانت تعج بالألفاظ النابية والبذيئة في وصف خصومها وكل من عارض الوجود العثماني الذي كان احتلالاً واستعماراً فرض وجوده بالحديد والنار في كل قطر من أقطار الوطن العربي.
ومن النماذج على تلك اللغة البذيئة التي كانت تستخدم في المراسلات ما بين الباب العالي وقادة الولايات العثمانية، على سبيل المثال وليس الحصر، (الوثيقة رقم 77 في أرشيف دار الوثائق المصرية، بتاريخ 21 نوفمبر 1811)، وهي رسالة إلى الباب العالي تبشر بفتح ينبع البر، وصف فيها «ابن جبارة» (جابر بن جبارة العياشي) أمير ينبع في عهد الدولة السعودية الأولى و«مسعود بن مضيان الظاهري» الذي كان حاكماً على المدينة المنورة وقائد الجيش السعودي في منطقة المدينة المنورة حينها، بـ«الملعونين» وأتباعهما بـ«الحشرات»، ونعتوهم بالملاحدة والخوارج. وهناك مئات المراسلات التي استخدمت فيها تلك الألفاظ واللغة الهابطة والكثير من المفردات النابية التي نترفع عن ذكرها، وتم توثيق كم هائل منها في كتاب (وثائق تاريخ شبه الجزيرة العربية في العصر الحديث، إعداد وتحقيق أ.د. عبدالرحيم عبدالرحيم) المكون من 7 أجزاء كانت من ضمن أبرز الشواهد على وجود ثقافة سائدة ومتجذرة في استخدام تلك الألفاظ البذيئة من قبل العثمانيين الأوائل والتي كانت انعكاساً لثقافة المحتل العثماني الاستبدادية الذي كان ينظر لنفسه سيداً ومن يحكمهم في الأقطار العربية عبيداً.
ولم يكن استخدام تلك الألفاظ واللغة النابية مقتصراً على مراسلات القيادات العثمانية، بل امتد استخدامها حتى عند المؤرخين الذين استمالتهم الدولة العثمانية لتلميع تاريخها، ونستشهد في ذلك -على سبيل المثل لا الحصر- بالمؤرخ النهروالي، وما كتبه عنه حمد الجاسر محقق كتاب (البرق اليماني في الفتح العثماني)، قائلاً: «بحكم عمله وبحكم سيطرة الدولة العثمانية على الحرمين الشريفين، يعتبر صنيعة للدولة، بل يصح أن يوصف بأنه مؤرخها الرسمي من علماء العرب، ومن هنا تبرز ناحية من نواحي الضعف في هذا الكتاب. هذه الناحية التي قد تطغى على عاطفة المؤلف طغياناً كبيراً يبرز أثره في استعمال كثير من الكلمات (النابية) في حق من يصفهم بأنهم أعداء (ملك البرين والبحرين) ويصفهم بأوصاف هي ألصق بأعدائهم من الغزاة، كالخروج عن الدين، والإلحاد، وطاعة الشيطان». وأبدع الجاسر -رحمه الله- في تبرير أسباب تقديم ونشر كتاب النهروالي رغم ما فيه من انحياز وتزلف مفرط للدولة العثمانية وأعذار وتبريرات واهية لما اقترفوه من جرائم وفظائع في شبه الجزيرة العربية ويقصد بها «إرضاء طرف واحد»، موضحاً: «إلا أن هذا الكتاب -مع ما فيه- يعتبر ذا أهمية تاريخية متعددة الجوانب، فهو يصور جانباً كبيراً من صمود بلادنا وبطولة أبنائها أمام جحافل الغزو الخارجي».
وكانت تلك التغريدة مقدمة لتقرير أعدته الإخوانية المتطرفة إحسان الفقيه، أرادت من خلاله أن تحاضر علينا باستعلاء عن تاريخ ومآثر السلاطين العثمانيين في إصلاح وتجديد وعمارة المسجد الحرام، مبطنة طرحاً سياسياً مؤدلجاً في سياق أهداف مشروع نظام الرئيس رجب أردوغان الرامية لإعادة إحياء تاريخ الإمبراطورية العثمانية، إلا أن التقرير وقع في قراءة خاطئة حول تاريخ الرواق العثماني.
وأمام سيل الانتقادات التي تلقتها «الأناضول» عبر موقع «تويتر» حول تلك المغالطة التاريخية اضطرت إلى نشر تغريدة أخرى تؤكد من خلالها أن «الرواق العثماني» ينسب إلى الخليفة عثمان بن عفان، إلا أنها بدلاً من أن تعتذر للقراء والمتابعين، تمادت بألفاظ نابية ضد المغردين الذين صححوا خطأها، إذ وصفتهم بـ«الذباب الإلكتروني»، وقامت بتعديل التقرير المذكور بمحتوى هابط في مفرداته، يتهم المغردين السعوديين بأنهم «يسوغون العبث بالمسجد الحرام والقيمة الأثرية للرواق لمجرد أن الناس يتداولون القول بنسبته للعثمانيين».
وكان من الواضح أن ما طرحته «الأناضول» من مغالطات وإساءات ما هو إلا انعكاس لسيكولوجية نظام أردوغان ورؤيته السياسية ذات النزعة الإمبريالية المضطربة، التي تسعى إلى فرض هيمنتها إقليمياً وإعادة حقبة «الاستعمار العثماني» من خلال تلميع ذلك التاريخ الدموي والترويج لأحلام وأوهام «الخلافة»، ومحاولة إخفاء الكثير من الحقائق البائسة عن الحقبة العثمانية في العالم العربي وما ارتكب خلالها من جرائم وانتهاكات.
عمارة المسجد الحرام في العهد العثماني
أما عمارة المسجد الحرام في عهد الدولة العثمانية فكانت بعد مرور أكثر من 953 عاماً من بناء الرواق والتوسعة التي شهدها الحرم المكي في عهد عثمان رضي الله عنه، وكانت العمارة العثمانية للمسجد عبارة عن أعمال إعادة بناء وترميم وصيانة، أبرزها في عهد السلطان سليم الثاني عام 979هـ، وشملت ترميم وتطوير رواق عثمان الذي أضيفت إليه القباب محل السقف الخشبي، وبعد وفاة سليم الثاني عام 982هـ، أكمل ابنه السلطان مراد الثالث عام 984هـ الإصلاحات المتبقية.
ولكن لم تشهد عمارة الحرم المكي خلال الحقبة العثمانية أي توسعة وزيادة في مساحته، بينما شهد المسجد الحرام 8 توسعات في العهود الإسلامية التي سبقت الدولة العثمانية، منها عمليتا توسعة في فترة الصحابيين عمر بن الخطاب (17هـ) وعثمان بن عفان (26هـ)، ثم توسعتان في فترة الدولة الأموية في عهد عبدالله بن الزبير (17هـ) والوليد بن عبدالملك (91هـ)، ثم 4 توسعات في فترة الدولة العباسية في عهد أبو جعفر المنصور (137هـ- 140هـ) ومحمد المهدي (160هـ- 164هـ) والمعتضد بالله (284هـ) والمقتدر بالله (306هـ).
وبقيت مساحة المسجد الحرام في العهد العثماني عند الحد الذي بلغته توسعة الخليفة العباسي المقتدر بالله سنة 306هـ والذي أضاف للحرم المكي مساحة 950 متراً مربعاً، بعد أن ضم دارين للسيدة زبيدة وهي حفيدة أبو جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسيين وزوجة هارون الرشيد الخليفة العباسي الخامس، ولكن كانت المباني السكنية تنمو على مر السنين حول المسجد الحرام وتزحف نحوه حتى اتصلت به، وهكذا كان الحال بالنسبة للمسعى، فقد فصلت المباني الخاصة بينه وبين المسجد الحرام، وأصبح على مرّ العصور طريقاً ضيقاً، تقوم على جانبيه الحوانيت، تملؤها السلع المختلفة، وترتفع فوقها المساكن طبقات (رشدي الصالح ملحس محقق كتاب «تاريخ مكة» لأبو الوليد الأزرقي، الجزء الثاني، ص 330). وهذه المساحة الضيقة التي ظل المسجد الحرام محدوداً فيها طيلة عهد العثمانيين، بدأت تضيق بالوافدين، إذ كان عددهم يزداد في كل موسم عن سابقه، وبدأت أروقة المسجد الحرام ورحابه تضيق بهم في أوقات الصلاة، خصوصاً في أيام الجمع، إذ يضطر كثير منهم لأداء الفريضة في الطرقات والأزقة المحيطة بالحرم، وكلما مرت الأعوام، ازداد العدد كثرة والزحام اشتداداً، وازداد شعور سكان مكة وزوارها من الحجاج والمعتمرين شعورا بالضيق، وارتفعت أكفهم بالدعاء إلى الله سبحانه وتعالى، بأن يهيئ لبيته المشرف من يقوم بتوسعته وتجديد عمارته، ولكن أحداً من ملوك المسلمين أو أمرائهم لم يفكر في زيادة شبر في مساحته، بعد زيادة المقتدر (الأزرقي، أخبار مكة، ص330).
وعلى الرغم من السيادة العثمانية على مصر بعد دخولها سنة 923هـ، ظلت مصر خلال العهد العثماني هي من تتولى كسوة الكعبة وعمارة المسجد الحرام وتوفير مواد البناء والمهندسين والعمال، إلى أن جاء عهد محمد علي باشا الذي قام بحل الوقف الخاص بالكعبة وأنشأ إدارة حكومية تتولى الكسوة (تقي الدين الفاسي، شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، ص 172). ومسألة عدم القيام بتوسعة للحرم المكي في العهد العثماني رغم الحاجة إلى ذلك، كانت مرتبطة بالوضع المالي السيئ في شبه الجزيرة العربية تحت الولاية العثمانية، إذ كانت الخزينة دائماً ما تتعرض لضائقة مالية نتيجة تأخير وصول أموال الميزانيات المخصصة للحجاز لأشهر عدة، وقد وثقت دراسة أعدها الدكتور سهيل صابان، المتخصص في تاريخ الدولة العثمانية بجامعة الملك سعود، بعنوان «المراسلات المتعلقة بالأمور المالية لولاية الحجاز في سجل العينيات رقم 873»، أوضاع المصروفات والإنفاق خلال مراحل زمنية محددة في العهد العثماني، ونستنتج منها الأحوال المالية المتردية في ذلك الوقت ومنها تأخر تسليم الرواتب لأشهر عدة، إضافة إلى علاقة تمرد القبائل بعدم تسليم المخصصات المالية، وكشفت الدراسة أن سد نقص الميزانية كان يتم تحصيله من الرسوم التي تجمع من الولايات العثمانية الأخرى، من بينها العراق وسورية ولبنان ومصر، وهي أموال جباية الضرائب التي يفرضها المحتل العثماني على مواطني الدول العربية، بمعنى أن «صرة القروش» السلطانية التي يصرف منها على الحجاز وحاجات الحرمين الشريفين كانت تجمع من جباية الرسوم والضرائب المفروضة على المواطنين في الدول العربية ومن بعض الأوقاف، ولم تكن تأتي بشكل أساسي من خزينة الباب العالي، وحتى الغلال كانت تأتي من مصر وحوران وبغداد، وفي مراسلة من الباب العالي إلى محافظ المدينة المنورة حول حاجات ترميم الحجرة النبوية بتاريخ 22 نوفمبر 1874، نستنتج مدى امتعاض الباب العالي من الشروع في إجراء ترميمات «ضرورية» قبل موافقة الباب العالي الذي تأخر في تأدية التكاليف وتوفير هذه المصروفات الأساسية، متعللاً بحسب ما ورد في الوثيقة العثمانية المؤرشفة حول «دفاتر المصروفات» (رقم 873 صفحة 289)، بأنه كان يتطلب إذن السلطان قبل الشروع في الترميم، وهذا على سبيل المثال لا الحصر، حول تقتير الإنفاق على الحرمين في العهد العثماني.
توسعة الحرم في عهد عثمان بن عفان
وحول تاريخ عمارة المسجد الحرام، فقد أجريت في عهد الخليفة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- التوسعة الثانية للحرم المكي (26هـ)، بعد أن كثرت أعداد المساكن المحيطة بالحرم حتى التصقت به، وكانت التوسعة الأولى عام 17هـ في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
وأمر عثمان بن عفان بشراء المساكن المحيطة بالحرم المكي لاستيعاب قاصدي المسجد الحرام من المصلين والمعتمرين والحجاج، تماماً كما فعل قبله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ولكن أبى حينها بعض أصحاب الدور بيعها واستلام أثمانها من أجل استكمال التوسعة، فما كان من سيدنا عثمان إلا أن ثمّنها وأمر بهدمها على أصحابها، فصاحوا به، فقال: «جرّأكم علي حلمي عنكم، فقد فعل بكم عمر هذا فلم يصح به أحد»، وأمر بحبسهم، ثم شفع فيهم عبدالله بن خالد بن أسيد أمير مكة فأخرجهم وأخذوا قيمة دورهم، وزاد عثمان في بناء المسجد الحرام وأمر بتجديد أنصاب الحرم (تاريخ الطبري الجزء الرابع، ص 252)، (أخبار مكة في قديم الدهر للإمام الفاكهي، الجزء الثاني، ص 158).
وجعل عثمان بن عفان للمسجد الحرام أروقة، وكان أول من اتخذ الأروقة له (الحافظ ابن ظهيرة، تاريخ مكة، ص 197)، (البلاذري، فتوح البلدان، ص53)، (الزركشي، «إعلام الساجد»، ص57)، وزاد مساحة المسجد الحرام بمقدار 2040 متراً مربعاً لتصبح مساحة المسجد نحو 4390 متراً مربعاً (الشريف محمد آل عبدالله، الزيادات في الحرم المكي الشريف).
غالبية هذه المراجع والمصادر وثّقت نشأة الرواق «العثماني» قبل وجود الدولة العثمانية، والخلاصة في هذه المسألة هي أن الرواق «العثماني» يعود تاريخ إنشائه للخليفة عثمان بن عفان الذي كان أول من استخدم الأساطين والأعمدة في بناء الرواق.
جذور اللغة البذيئة
والحقيقة التي يجب ألا نغفلها حول استخدام تلك اللغة المتعالية على الآخرين والهابطة في مفرداتها، مثل تلك التي وردت في التغريدة التي بثتها وكالة أنباء «الأناضول» حول الرواق العثماني والتقرير المرفق معها، ووصفها لـ«المغردين السعوديين» بأنهم مجموعة من المحرضين، هي في أساسها لغة متأصلة في التاريخ العثماني، ويتجلى هذا الأمر بوضوح في مئات الخطابات والمراسلات الرسمية المتداولة بين الباب العالي ومسؤولي الولايات التابعة لها خلال «الحقبة العثمانية» في الوطن العربي، التي كانت تعج بالألفاظ النابية والبذيئة في وصف خصومها وكل من عارض الوجود العثماني الذي كان احتلالاً واستعماراً فرض وجوده بالحديد والنار في كل قطر من أقطار الوطن العربي.
ومن النماذج على تلك اللغة البذيئة التي كانت تستخدم في المراسلات ما بين الباب العالي وقادة الولايات العثمانية، على سبيل المثال وليس الحصر، (الوثيقة رقم 77 في أرشيف دار الوثائق المصرية، بتاريخ 21 نوفمبر 1811)، وهي رسالة إلى الباب العالي تبشر بفتح ينبع البر، وصف فيها «ابن جبارة» (جابر بن جبارة العياشي) أمير ينبع في عهد الدولة السعودية الأولى و«مسعود بن مضيان الظاهري» الذي كان حاكماً على المدينة المنورة وقائد الجيش السعودي في منطقة المدينة المنورة حينها، بـ«الملعونين» وأتباعهما بـ«الحشرات»، ونعتوهم بالملاحدة والخوارج. وهناك مئات المراسلات التي استخدمت فيها تلك الألفاظ واللغة الهابطة والكثير من المفردات النابية التي نترفع عن ذكرها، وتم توثيق كم هائل منها في كتاب (وثائق تاريخ شبه الجزيرة العربية في العصر الحديث، إعداد وتحقيق أ.د. عبدالرحيم عبدالرحيم) المكون من 7 أجزاء كانت من ضمن أبرز الشواهد على وجود ثقافة سائدة ومتجذرة في استخدام تلك الألفاظ البذيئة من قبل العثمانيين الأوائل والتي كانت انعكاساً لثقافة المحتل العثماني الاستبدادية الذي كان ينظر لنفسه سيداً ومن يحكمهم في الأقطار العربية عبيداً.
ولم يكن استخدام تلك الألفاظ واللغة النابية مقتصراً على مراسلات القيادات العثمانية، بل امتد استخدامها حتى عند المؤرخين الذين استمالتهم الدولة العثمانية لتلميع تاريخها، ونستشهد في ذلك -على سبيل المثل لا الحصر- بالمؤرخ النهروالي، وما كتبه عنه حمد الجاسر محقق كتاب (البرق اليماني في الفتح العثماني)، قائلاً: «بحكم عمله وبحكم سيطرة الدولة العثمانية على الحرمين الشريفين، يعتبر صنيعة للدولة، بل يصح أن يوصف بأنه مؤرخها الرسمي من علماء العرب، ومن هنا تبرز ناحية من نواحي الضعف في هذا الكتاب. هذه الناحية التي قد تطغى على عاطفة المؤلف طغياناً كبيراً يبرز أثره في استعمال كثير من الكلمات (النابية) في حق من يصفهم بأنهم أعداء (ملك البرين والبحرين) ويصفهم بأوصاف هي ألصق بأعدائهم من الغزاة، كالخروج عن الدين، والإلحاد، وطاعة الشيطان». وأبدع الجاسر -رحمه الله- في تبرير أسباب تقديم ونشر كتاب النهروالي رغم ما فيه من انحياز وتزلف مفرط للدولة العثمانية وأعذار وتبريرات واهية لما اقترفوه من جرائم وفظائع في شبه الجزيرة العربية ويقصد بها «إرضاء طرف واحد»، موضحاً: «إلا أن هذا الكتاب -مع ما فيه- يعتبر ذا أهمية تاريخية متعددة الجوانب، فهو يصور جانباً كبيراً من صمود بلادنا وبطولة أبنائها أمام جحافل الغزو الخارجي».