هناك مبدأ صيني ثابت يتمحور حول أنه في حال وجود عدو مشترك بين الصين وأحد حلفائها أو شُركائِها، فإنها تلتزم بالمبدأ الماوي (نسبة إلى ماو تسي تونغ) بأن يُحارِب كل طرف هذا العدو بطريقته، وهذا يعني أن الصين لن تواجه خصومها بشكل مباشر في المناطق التي يتمتع فيها الخصم بأفضلية إستراتيجية، بينما تميل إلى تبنّي موقف هجومي في المناطق التي تتمتع فيها بمزايا إستراتيجية.. وبناء على هذا المبدأ، فإن السياسة الصينية المثلى في الشرق الأوسط ما زالت تقوم على تجنُّب المواجهة المباشرة مع الخصوم. ومن ثمَّ، فإن العلاقة مع إيران لا تخرج عن كونها إحدى هذه الأدوات الجيو-إستراتيجية والجيو-اقتصادية والنفطية التي تعتمدها بكين في حربها الاقتصادية والسياسية مع واشنطن.والسؤال الأبرز الآن: هل يمكن للاتفاق الصيني - الإيراني الإستراتيجي الذي وقع في طهران أمس (السبت) أن يشكل تهديداً إستراتيجياً للولايات المتحدة ويجبرها على العودة للاهتمام بمنطقة الشرق الأوسط، وليس فقط بمنطقة بحر الصين، بحسب الإستراتيجية الدفاعية الأمريكية؟ وهل سيعمق اتفاق «الربع قرن» الذي يتضمن استثمارات بنحو 400 مليار دولار التعاون العسكري والنفطي والاقتصادي بين بكين وطهران، ما يمنح الصين موطئ قدم في منطقة كانت تشغل بال الولايات المتحدة إستراتيجيا منذ عقود؟ كون الاتفاق يتضمن تدريبات وتمارين مشتركة، وتطويرا للأسلحة وتبادل المعلومات الاستخبارية وتوسيع الوجود الصيني في البنوك والاتصالات والموانئ والسكك الحديدية وعشرات المشاريع الأخرى الإيرانية، كما ستحصل بكين بمقابله على إمدادات منتظمة من النفط الإيراني على مدى السنوات الـ25 القادمة. ويؤكد محللون سياسيون أن هناك إستراتيجية صينية تطبق منذ سنوات تقوم على النفاذ إلى أكبر عدد ممكن من الموانئ البحرية، سواء من خلال الحصول على امتيازات عسكرية (مثل القاعدة في جيبوتي) أو امتيازات اقتصادية مثل تطوير البنية التحتية في هذه الموانئ (ميناء جوادر الباكستاني على بحر العرب)، أو ما يعرف اليوم بالممر الاقتصادي الصيني الباكستاني (سي بيك). وتراوحت مدة عقود الامتياز الصيني لهذه الموانئ بين 10 أعوام و99 عاماً. كما شملت الموانئ المرتبطة بالمحيط الهندي في ميانمار وهامبانتوتا في (سريلانكا)، وفيدهو فينولهو (المالديف). ويعتبر دخول الصين في تلك المناطق بمثابة إعادة تموضع وبناء المحاور والتحالفات القائمة، إلا أن التقييم الإستراتيجي على ضوء اتفاقية بكين - طهران أنه سيترتب عليها تغيير في قواعد اللعبة واختلال في موازين القوى بالمنطقة وقد يتعزَّز هذا التوجُّه في حالة استمرار استقطاب الولايات المتحدة لطهران والدفع بسياسة احتواء النظام الإيراني أكثر على ضوء دخول الصين في هذه الشراكة. ولا يمكن التقليل إطلاقا من حجم المكاسب الإيرانية المتوقعة لكن الاتفاق لا يزال يواجه العديد من التحديات، أبرزها وجود معارضة إيرانية داخلية، ترى أن نظام الملالي «باع» السيادة الإيرانية للصين، كما سيفتح الاتفاق الباب أمام الصين لتسريع وتيرة تنفيذ مبادرة الحزام والطريق خصوصا أنها تسعى للحصول على موقع إستراتيجي في مدخل الخليج العربي وهو ما يتحقق لها من خلال اتفاق الشراكة، إذ ستتمكن من الوصول إلى مرافق الموانئ في إيران وميناءين على طول ساحل بحر عمان، ويمثل موقع ميناء جاسك على مضيق هرمز، الذي يمر عبره معظم النفط العالمي للصين، أهمية إستراتيجية حاسمة للولايات المتحدة الأمريكية. ويرى مراقبون آخرون أن الاتفاق يتعرَّض لمبالغات سياسية وتحليلية، وأنه لن يُؤدي إلى إحداث تغيير كبير في مستوى العلاقات الصينية - العربية والخليجية، وتستند تلك الرؤية على أن الاتفاق لا يتسم بأي خصوصية تميزه عن اتفاقات الشراكة الإستراتيجية الأخرى بين الصين ودول المنطقة، ومن ثمَّ لن تكون له تداعيات إستراتيجية مهمة. ويعتقد هؤلاء أن الصين ترغب في موقع جيوسياسي أفضل لتحدي الولايات المتحدة بهدف تخفيف الضغط الأمريكي على مصالحها الأساسية في البحر الشرقي وبحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان، واتباع سياسة مرنة منخفضة التكلفة في دعم طهران أمام واشنطن، وتحميلها للعقوبات الأمريكية على الشركات الصينية نتيجة الاستثمار الصيني في طهران. ويؤكد المراقبون أن بكين تدرك جيدا حساسية الملف الإيراني، وأنها لا يمكن أن تضحي بمصالحها الجيو-إستراتيجية مع دول الخليج والمنطقة والعالم من أجل عيون النظام الإيراني كون بكين لها تاريخ من علاقات الشراكة مع دول المنطقة ولا يمكن ان تتنازل عنها. وأخيرا وليس آخر هل اتفاق ربع القرن تغيير في قواعد اللعبة أم إعادة تموضع.. ننتظر لنرى.