حين انتهى «داعش» من آخر المعارك في الباغوز على الحدود العراقية السورية في البوكمال، انتشر مئات المقاتلين في البادية، ظنا من هذا التنظيم وفق أيديولوجيته أن المعركة لم تنته وهذه جولة، ولكن ثمة جولات!
كانت البادية الخيار الأفضل لفلول التنظيم لأسباب عدة أبرزها معرفته بتفاصيلها من العراق إلى سورية، وأنها منطقة مكشوفة لا يمكن لأي جيش أو قوة عسكرية كسب معركة فيها، بينما ظلت بعض الخلايا الصغيرة تعاكس في شرق الفرات ودير الزور، لكن البادية ظلت المأوى الأفضل والهدف العسكري لمليشيات إيران والأسد والقوات الروسية التي ما زالت حتى الآن جزءا من هذه المعارك نظرا لضعف الإمكانات الإيرانية والسورية، يضاف إليها البعد الاقتصادي لروسيا في دائرة البادية.
مع تنامي سطوة التنظيم في البادية وعلى طريق تدمر/دير الزور الذي أوقع المئات من القتلى من صفوف النظام السوري، وخصوصا من الفرقة الرابعة، كانت روسيا تخطط لاستثمارات اقتصادية في قطاع الغاز والنفط، وحين وجدت ضعف المنظومة العسكرية للنظام والمليشيات الإيرانية في مواجهة داعش زجت بقواتها لحماية محيط آبار الغاز في البادية السورية ودير الزور.
وبحسب وكالة «أعماق» التابعة لداعش، فإن الهجمات التي نفّذها التنظيم عام 2020 بلغت 593 هجوما معظمها كانت في البادية السوريّة، ناهيك عن هجمات 2021 التي شكلت ضغطا على القوات المتحالفة في سورية، ما دفع الروس إلى رفع مستوى التركيز على فلول التنظيم لتأمين خطوط الغاز والقضاء على التهديد الإرهابي في المنطقة الواسعة التي تربط أربع محافظات سورية (دير الزور، الرقة، حمص، حماة)، وتشكل نصف سورية على أطراف المدن.
وفي سبتمبر من العام الحالي، زجت روسيا للمرة الأولى في قتال التنظيم إلى منطقة السخنة 230 كلم شرق حمص وسط سورية بـ300 مقاتل وقوات عسكرية من الفيلق الخامس لرصد تحركات فلول «داعش»، وملاحقتها في بادية حمص الممتدة إلى دير الزور وحماية آبار النفط والغاز من هجمات محتملة.
بعد دخول الروس على خط المواجهة في البادية، ظهر على التنظيم تساؤل «الغاز»، وهو: لماذا كل هذا الدعم الروسي لقوات الأسد وإيران في البادية من أجل قتال التنظيم؟
وكانت النتيجة أن المصالح الروسية الاقتصادية (النفط، الغاز) في البادية، كانت هي العامل الأساسي في التدخل ضد التنظيم، وحصل هذا في حقل التيم النفطي الغني، في غرب الفرات الذي تسيطر عليه المليشيات الإيرانية، وقد دارت معاك شرسة بين التنظيم والمليشيات في محيط حقل التيم والبادية، إلا أنها لم تقض على التنظيم بقدر ما أبعدت شبح الخوف.
في المقابل تراجعت إلى حد كبير هجمات التنظيم في مناطق شرق الفرات، حيث السيطرة الامريكية الكردية في إطار ترتيب الأولويات، واقتصرت عمليات التحالف على عمليات إنزال واعتقال أفراد أغلبهم ليسوا من «داعش».
ويبدو مسار الهجمات التي يشنها التنظيم على مناطق البادية، مستهدفا الجيش السوري والروسي والمليشيات الإيرانية في ازدياد مستمر، وفي معظمها هجمات نوعية، ما دفع الروس إلى إنشاء قواعد عسكرية في تدمر بها أجهزة تنصت ورصد، إلا أنها لم تسفر عن أية نتيجة، وبقي التنظيم مصدر خطر على المصالح الروسية الاقتصادية.
وعلى الرغم من كل الانتصارات التي يدعيها البعض ضد «داعش»، إلا أن فلول التنظيم ما زالت قائمة في سورية، التي لم تشهد الاستقرار حتى الآن، لكن هذا الظهور ليس على شكل كيان، وهي الفكرة التي تخلى عنها التنظيم بعد سقوط الباغوز (مارس 2019)، إذ فضل نظام الهجمات وإرهاق الخصم من غير مواقع ثابتة، ما جعله يختار الميدان الأسهل بالنسبة له في البادية السورية حتى يتمكن من مشاكسة كل القوى اللاعبة في المحافظات الأربع، وضرب المصالح الروسية.
إلا أن السؤال المهم في رصد عمليات التنظيم وتكتيكاته العسكرية هو: لماذا تبقى قاعدة التنف الأمريكية والقريبة من حركة التنظيم بعيدة عن استهداف التنظيم؟ ولماذا تغيب طائرات التحالف الدولي عن المعارك مع «داعش»، على الرغم من التنسيق الأمريكي الروسي في سورية؟
لقد كان اختيار التنظيم للبادية سؤالا حيويا على مستوى إقليمي، إذ إن البادية تشكل نقطة التقاء بين ثلاث دول؛ سورية والعراق والأردن، وبالتالي يسهل على التنظيم إعادة تشكيل نفسه في هذا المثلث، باعتباره الحاضنة الأساسية له، ومن هنا تبدأ استراتيجية ملاحقة فلوله ومنعه من النمو والازدهار.
النتيجة؛ لا يمكن الجزم بأن «داعش» انتهى من سورية بشكل نهائي، فهو ما زال يمتلك القدرة على ضرب مصالح حيوية والقيام بعمليات استنزاف على المدى البعيد.