انتهت الحرب الأوكرانية الروسية قبل أن تبدأ، وتحول سيل التهديدات الروسية للناتو والولايات المتحدة وأوكرانيا إلى مفاوضات سلام حول الضمانات بعدم ضم «الناتو» لأوكرانيا حفاظا على أمن روسيا.
وعلى الرغم من أن الحرب انتهت عمليا وتراجعت روسيا عن قرار الصدام، إلا أنه في الوقت ذاته فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا يزال قادرا على شن الحرب لكنه غير مستعد لها بسبب التكلفة الدولية للغزو وتأثيرها على تغيير الخارطة الدولية، ومن يعرف بوتين جيدا يدرك أنه مستعد لهذه الحرب لكنه غير قادر على تحمل النتائج المترتبة عليها.
في التسعينات ورطت السفيرة الأمريكية في العراق الرئيس الراحل صدام حسين في حرب الكويت، وفي اللقاء الذي دار بينهما قالت أبريل غلاسبي: إن أمريكا لا تملك أي رأي حول الصراعات (العربية- العربية) مثل خلافاتك الحدودية مع الكويت، وكانت النتيجة دخول صدام المستنقع وخروج الجيش العراقي مهزوما أمام التحالف الدولي بل ومطاردته إلى داخل بغداد وتحطيمه.
في الأزمة الأوكرانية، من يراقب تصريحات الرئيس جو بايدن في بدايتها لا يرى أن هناك حزما أمريكيا واضحا حيال النوايا الروسية للغزو، بل يُفهم من بعض التصريحات أن واشنطن لن تكون الرادع لهذا الغزو، فتصريح بايدن قال فيه إن الولايات المتحدة لن ترسل قوات أمريكية إلى أوكرانيا وأنها لا تريد مواجهة معها!.
وعندما تعامل بوتين مع التصريحات الغربية بهدوء وبرود، رفعت الولايات المتحدة من الاستفزازات للجانب الروسي، بل إن واشنطن حددت اليوم الذي سيغزو فيه بوتين كييف (16 فبراير)، فيما حددت بريطانيا الساعة التي سيتم فيها الهجوم، ومع ذلك احتفظ بوتين بالهدوء مرة أخرى، لأنه يدرك حجم الترسانة العسكرية الغربية (الناتو)، وأنه لن يكون في حرب سهلة كما في القرم أو سورية اللتان تعتبران خارج المجال الحيوي لحلف الناتو.
وعندما قال بايدن إن بوتين سيقدم على غزو أوكرانيا في تصريح استفزازي يحرج الروس ويضعهم في حالة الغزو أو التراجع، ردت الخارجية الروسية بالقول «إن تصريحات واشنطن بشأن غزو روسي مزعوم لأوكرانيا هدفها استفزاز موسكو عسكريا»، داعية الدول الغربية إلى التوقف عن المساهمة في عسكرة الأزمة، وعلى ما يبدو فإن روسيا اكتشفت الورطة الغربية التي كانت ساحتها أوكرانيا وأن هذه الحرب في الكثير من جوانبها محاولة لجر روسيا إلى صراع طويل الأمد مع الناتو.
قولا واحدا، انتهت المخاوف من حرب روسية ضد أوكرانيا، ولم يعد هناك إمكانية أن تخوض القوات الروسية حربا على بقعة حليفة مع الناتو، لذا منح بوتين ألمانيا الحليف الاقتصادي فرصة العمل على ردم الهوة بين الناتو وروسيا، فكانت زيارته إلى موسكو لوضع أسس للحوار حول المطالب الروسية الأمنية خصوصا وأن ألمانيا وواشنطن لوحتا بوقف خط الغاز الروسي نورد ستريم 2 الذي بلغت كلفته 11 مليار دولار، ما يعني حربا اقتصادية جديدة على روسيا.
وفي المؤتمر الصحفي الذي جمع بوتين مع المستشار الألماني أولاف شولتس في موسكو أصر الرئيس الروسي على أن يتم البت في إغلاق موضوع عضوية أوكرانيا في الناتو اليوم وليس في المستقبل.
كان الكمين الغربي لقيصر روسيا كبيرا على الأرض الأوكرانية، استفزازات يومية وحشد غربي وسلاح أمريكي واستنفار شعبي أوكراني، بينما وصلت الحشود الروسية على الحدود إلى الحد الأعلى لإعلان الحرب، لكن روسيا كسبت جولة جدية من التفاوض فيما لايزال الجيش على الحدود وإن كان قد سحب بعض عناصره، لكن الدب الروسي على ما يبدو كان واعيا بشكل كاف وتعامل بمبدأ حافة الهاوية.
بعد الارتياح الذي بات واضحا على الجانب الأوروبي بعدم إقدام روسيا على الغزو وإحباط كل أدوات الحشد الإعلامي الغربي خصوصا الأمريكي- البريطاني، نشرت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا صورة التقطت (الأربعاء)، وظهر فيها وزيرا الدفاع والخارجية «شويغو ولافروف» وهما مستغرقان في ضحكتين واسعتين، وذلك بعد أن مرت بسلام «ساعة الصفر» التي روج لها الغرب وضرب لها موعدا، بل ونسج لها تفاصيل متكاملة، بعد أن دق طبول الحرب معلنا عن «غزو روسي وشيك لأوكرانيا».
أرادت روسيا أن تأخذ الغرب إلى الزاوية البعيدة التي يتم من خلالها حسم الأمور لا الوعود ولا التسويف، ونجت من فخ غربي طويل على غرار الفخ الأفغاني في السبعينات لتبدأ قطف ثمار التصعيد الذي ما يزال قائما على الحدود الأوكرانية.