ناجيان في قارب الموت اختصرا تفاصيل الرحلة السوداء، ما قبلها وما بعدها لينتهي بكلامهما كل كلام.
الناجي الأول، صرخ باسم جميع الركاب وهو على سرير قسم الطوارئ في مستشفى طرابلس الحكومي قائلاً: «أنا ضحية كل الرؤساء، ضحية كل السياسيين، ضحية هؤلاء الفاسدين، ضحية الذين لا يستقوون إلا على الفقراء».
الناجي الثاني على رصيف مرفأ المدينة الحزينة وقف ينتظر زوجته وأولاده لعلهم يكونون من الناجين صارخاً: «إن نجت عائلتي سأُعيد محاولة الهروب مرة ثانية وثالثة، هذا البلد لا يمكن أن نعيش فيه وهؤلاء الزعماء والسياسيين موجودون. إما أن نعيش نحن في هذا البلد أو أن يعيشوا هم. أحدنا يجب أن يموت أو أن يهرب الشعب الفقير أو الزعماء والمسؤولون الفاسدون».
مركب الموت في طرابلس ليس المركب الأول، ومن المؤكّد أنه لن يكون المركب الأخير. شاطئ أفقر مدينة على شرق المتوسط، لا يمكننا أن ننتظر منه أن يُرسل من مرفأه بواخر تجارية محمّلة بالبضائع والمنتجات. بل جُلّ ما هو قادر عليه إرسال مراكب محمّلة باليائسين والمحبطين والفقراء المشردين.
مدينة فيها ثلاثة من أغنى أثرياء العرب وفقاً لتقرير مجلة «فوربس» العالمية الأخير، إلا أنها في الوقت نفسه مدينة العاطلين عن العمل، الباحثين عن الرغيف، اللاهثين وراء لقمة العيش، مدينة أكثرية سكانها تحت خط الفقر. طرابلس مدينة الناخبين الذين يأتون إلى المهرجانات الانتخابية لعلهم يحظون بكرسي بلاستيكي يبيعونه كي يُطعموا عائلاتهم بثمنه.
في لبنان، يطلقون على مدينة طرابلس لقب «الفيحاء». أما الزمن الرديء سلب منها «الفيحاء» ليصفها بالمدينة «الحزينة». عشرات الضحايا من أهل المدينة ابتلعهم البحر الذي لم يكن لعنتهم الوحيدة، فلعنتهم أيضاً أنهم من أبناء هذه المدينة، من الطائفة المحبطة المهيمن على قرارها، الطائفة اليتيمة المتّهم أولادها تارة بالتطرف، وتارة بالجريمة المنظمة. عشرات الضحايا لو سقطوا بعيداً عن طرابلس على شاطئ جارتها مدينة البترون التي تبعد بضعة كيلومترات لأقيل الوزراء وأُوقف الضباط والجنود. عشرات الضحايا لو ماتوا على شاطئ الأوزاعي أو في مدينة صور لوُضِع كل المسؤولين في أقبية السجون.
رُكاب قارب الموت، لم يموتوا لأنهم صعدوا إلى ذاك المركب، بل ماتوا لأنهم أبناء المدينة المنسية، وأبناء الطائفة المنسية، لأنهم الشعب الذي ليس هناك من يسأل عنه.