- من اغتال أديب الشيشكلي في البرازيل؟
- الانضمام للعراق كانت معركة الشيشكلي مع الأحزاب
- الاتجاهات السياسية للرئيس السوري دوليا وإقليميا
- 2000 وثيقة عن حقبة حكم الأديب
- ماذا قال مهاتير محمد عن سورية عام 1952؟
- الزراعة كانت آخر أيام رئيس سورية في البرازيل
..........................
كتاب جديد صدر أخيرا للمؤلفين بسام برازي وسعد فنصة هو الأول من نوعه الذي يقترب بدقة من حياة ومسيرة الرئيس السوري الراحل أديب الشيشكلي، يسلط الضوء على مرحلة مازالت جدلية متشابكة من تاريخ سورية السياسي، إذ تضمن الكتاب إجابات كثيرة عن حقبة حكم الشيشكلي، وكيف آلت سورية إليه ؟وما هي أهم المحطات التي مرت بها البلاد، فضلا عن شرح خلفية الانقلابات العسكرية في سورية.
الكتاب الذي صدر عن دار «رياض الريس للكتب والنشر» في 573 صفحة، اعتمد على آلاف الوثائق (نحو 2000 وثيقة) من الخارجية الأمريكية والفرنسية والبريطانية، إضافة للشهادات الحية التي قدمها معاصرون لفترة حكم الشيشكلي، واحتوت الوثائق والشهادات على كثير من المعلومات التي تُنشر للمرة الأولى، إذ يمكن اعتبار هذا الكتاب الوثيقة الأكثر جدية في الحديث عن أهم مرحلة في تاريخ سورية، وهي مرحلة الرئيس الراحل أديب الشيشكلي من الانقلاب الأول 19/12/ 1949 إلى مغادرته بعد انقلاب 25 / 2 / 1954 ضده.
الجمهورية لن تزول
سلط الكتاب على المرحلة التي تحدى فيها السياسيون الرجل العسكري الذي استفزته الطبقة السياسية -آنذاك- من بينهم معروف الدواليبي وأكرم الحوراني وشخصيات أخرى، إذ حاولت الطبقة السياسية احتكار العمل وتغييب الدور العسكري من التشكيل خصوصا وزارة الدفاع، ما دفع الشيشكلي قائد الأركان -آنذاك- إلى اعتقال الحكومة وزجها بالسجن باستثناء وزيرين فقط، وهنا دشن الشيشكلي مرحلة جديدة من حكم سورية قائمة على عدم تجاوز العسكر وانفراد السياسيين المتخاصمين بالحكم.
يكشف الكتاب بشكل لافت التباين بين الطبقة العسكرية التي كان يرأسها الشيشكلي والطبقة السياسية السورية خلال حرب النكبة، هذا التباين الذي أثر على الحرب العربية الإسرائيلية، إذ كانت الطبقة السياسية غير مقتنعة بالحرب، وفي حوار بين الشيشكلي والقوتلي رئيس الدولة رد القوتلي على طلب الشيشكلي بالسلاح والإمداد «ماذا أفعل والعين بصيرة واليد قصيرة»!؟
وعلى ما يبدو شكلت أحداث فلسطين الوعي السياسي والعسكري والعروبي للشيشكلي التي كانت فلسطين منذ بداية تشكل شخصيته العسكرية حاضرة في كل مراحل حياته، وهو ما يبدو من خلال الروايات المتعاقبة حول طموحاته وأولوياته بمحاربة إسرائيل.
الكتاب غني بالجوانب التاريخية من الحياة السياسية السورية والوثائق والرسائل الدبلوماسية بين سفارات الدول الغربية ووثائق أخرى حصل عليها الكاتبان، بعيدا عن سيرة الشيشكلي الشخصية، فهو يسرد تاريخا ثريا من مسيرة سورية، إذ يذكر أن البلاغ رقم 1 في 19/12/1949 الذي أعلن عنه أديب الشيشكلي بانقلابه على سامي الحناوي، كان تحت شعار «الجمهورية لن تزول إلا على جثتي»، وبالفعل نفذ الشيشكلي هذه المقولة التي قالها للمقدم محمد معروف شريك سامي الحناوي بالانقلاب، كما قالها الشيشكلي للصحفي بشير فنصة في سهرة في أحد النوادي الليلية في دمشق، وهنا قضى الشيشكلي على محاولات ضم سورية إلى العراق التي كان يدعمها حزب الشعب، رغم أن نائب رئيس الوزراء العراقي أحمد مختار بابان قال خلال زيارته إلى دمشق في حقبة الحناوي «إن بغداد ليست راغبة بالاتحاد مع سورية» وحينها كان اعتراض الشيشكلي على الاتحاد أن العراق مازال تحت الوصاية البريطانية وهذا يعني أن الاتحاد مع العراق إخضاع سورية للحكم البريطاني. واللافت في البيان رقم 1 الذي أذاعه الشيشكلي عبر إذاعة دمشق كقولة إبعاد الجيش عن السياسة إلا في حال تعرضت البلاد للخطر، ولعل هذه النقطة هي الصداع الذي عانى منه الشعب السوري طوال الفترة 1949 – 1970 بسبب تداخل الجيش بالسياسة.
وفي بادرة لحسن النية من المؤسسة العسكرية وبعد الانقلاب الثاني 29/11/ 1951 وضع الشيشكلي نفسه نائب رئيس الأركان، رغم أنه المدبر الأساسي للانقلاب، وترك الطبقة السياسية تعمل على تأسيس الحكومة والبرلمان وترتيب الحياة السياسية، فالجمهورية عادت بحسب قوله ولا مخاوف بعد الآن.!
يتوقف الكاتبان بشكل دقيق على شخصية أكرم الحوراني، التي بدت حسب المؤلفين أنها شخصية متلونة مدعية إلى حد كبير، وهو شخصية كانت تؤيد كل الانقلابات إن لم تكن تشارك عبر بعض الضباط من حزبه الاشتراكي العربي، إلا أنه سرعان ما ينقلب حين يتجاهله قادة الانقلاب، وحتى خلال الوحدة السورية مع مصر، حين وجد نفسه مهمشا أمام جمال عبدالناصر بدأ بالتحريض على الانفصال، ويرى البعض أن الحوراني من أكثر الشخصيات السياسية السورية التي أضرت بالحركة السياسية، إذ كان في كثير من الأحوال رأس الفتنة.!
وبحسب الكتاب «الحقيقة المغيبة.. أديب الشيشكلي» فإن فترة حكم الشيشكلي العسكرية الأولى، أولت أهمية لأمرين: الحصول على السلاح من أجل تقوية الجيش السوري لمواجهة إسرائيل، والتركيز على التنمية الاقتصادية والنهضة الزراعية، وأصدرت حكومة خالد العظم آنذاك بداية عام 1950 قانون التعاونيات الذي يقوم على تجميع القوى الزراعية والصناعية في سبيل تأمين المواد للمستهلكين بأرخص الأسعار، ووضع قانون الضمان الاجتماعي لرفع مستوى العامل، وتنشيط الصناعات الوطنية، الأمر الذي كان له دور في الرخاء الاقتصادي في بداية الخمسينيات بعد رحيل الشيشكلي. وجنت دمشق في تلك الحقبة الكثير من الأموال بسبب فصل الاقتصاد الجمركي السوري عن لبنان وإقامة الحواجز الجمركية، الأمر الذي أنهى احتكار بيروت للتجارة السورية اللبنانية، ودفع تجار دمشق للتوسع إلى الخارج للحصول على وكالات عالمية، ما جعل دمشق عاصمة اقتصادية حيوية ومركزا ماليا مهما، أما الانجاز الأهم في حقبة الشيشكلي فهو دستور سبتمبر 1950 الذي يعتبر من أنجع الدساتير التي مرت على الجمهورية السورية، إذ كان نتيجة الاطلاع والاستعانة بـ15 دستورا أوروبيا وآسيويا، وإلى الآن يتم الحديث عن دستور 1950 في ظل نقاش اللجنة الدستورية بين المعارضة والنظام.
بناء جيش سوري قوي
يدافع الكتاب عن حقبة الشيشكلي على المستويات الاقتصادية والعسكرية على وجه التحديد، ويسرد عدة شهادات موثقة عن شخصيات عاصرته يعترفون بأن الألوية بالنسبة للشيشكلي كان بناء جيش سوري قوي، ودعا خبراء ألمان وبريطانيين وأمريكيين لإعادة بناء الجيش وفق أسس مهنية، وكان له الدور الأبرز في ترميم واستحداث المطارات العسكرية، فضلا عن روح الانضباط التي تحلى بها الجيش وفق شهادة عبدالحق شحادة. أما على المستوى الاقتصادي فيذكر الكاتبان زيارة مهاتير محمد في 1952، واطلاعه على ملامح تطور الحياة الاقتصادية ليعود إلى ماليزيا ويقول إنه يحلم أن تكون بلاده مثل سورية!. بحسب تأكيد الكتاب استنادا لشهادات موثقة.
وينفي الكتاب عن الشيشكلي تهمة الديكتاتور، متسائلا كيف لديكتاتور أن يسمح بعودة خصومه السياسيين (أكرم الحوارني- ميشيل عفلق – صلاح البيطار)، من المنفى بعد أن تم انتخابه رئيسا للجمهورية في تموز 1953!؟
في الفصول الأخيرة من الكتاب يقول المؤلفان إن سورية دخلت في فوضى سياسية كبيرة بعد رحيل الشيشكلي، وتنازعت الأحزاب في ما بينها، وبدأت الصراعات على المقاعد السياسية خصوصا على رئاسة الجمهورية وعلى البرلمان ورئاسة الحكومة، وما إن تألفت الحكومة الجديدة برئاسة فارس الخوري عقب الانتخابات، حتى دخلت سورية في صراع عنيف بين الحزب القومي والتيار البعثي والضباط الشيوعيين، فيما زاد الطين بلة اغتيال العقيد عدنان المالكي أحد أبرز الضباط السوريين ليكون رحيل الشيشكلي فصلا جديدا ذا طابعا فوضويا سياسيا وعسكريا كلف سورية الكثير.
يُفنذ المؤلفان الشائعات عن حياة الشيشكلي الباذخة بعد أن استقر به المطاف في باريس، وحكاية الأموال المهربة له التي تناقلها الخصوم آنذاك، ويؤكدان أن الشيشكلي كان يعيش حياة متواضعة، بل إنه كان يعتمد على الوجبات الطلابية في جامعة السوربون، فيما يؤكد مرافقه في المنفى عبدالحق شحادة أنه كان يعيش حياة ضنكة وأن كل ما قيل عن الأموال التي حملها معه مجرد أكاذيب وادعاءات، إلى أن انتهى به المطاف مزارعا في البرازيل ليغادر الوسط السياسي والعسكري ويعود إلى النشأة الأولى، حيث بدأ في المدرسة الزراعية في سلمية، وانصرف إلى العمل الزراعي بعد أن تقدم بطلب قرض من أحد البنوك البرازيلية كمستثمر في الميدان الزراعي.
علاقة حزب البعث بحادثة الاغتيال
أما رواية الاغتيال للرئيس الشيشكلي في 27 أيلول 1964، فقد أوضح الكتاب أن ثمة علاقة بين وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1963 وبين عملية الاغتيال، ويروي شهادة مناف الهندي القنصل العام للسفارة السورية في البرازيل الذي كان متهما بحادثة اغتيال الشيشكلي، إذ ينفي الهندي الذي تألم كثيرا وهو يرى في ملف التحقيق في وزارة العدل البرازيلية صورة الشيشكلي مضرجا بالدم على الأرض، ويؤكد في شهادته التي وثقها الكتاب أن حادثة الاغتيال لم تكن ثأرا كما تم الترويج لها إطلاقا. ويكشف في شهادته أن وزير الدفاع حمد عبيد وهو من الطائفة الدرزية وأحد قيادات حزب البعث الذي تولى السلطة 1963 قال له خلال زيارته إلى دمشق بين 1966- 1967 اعترف بمقتل الشيشكلي وقال نعم أنا الذي أمرت بقتل الشيشكلي.
إن السؤال الأول في العلاقات المدنية العسكرية.. «من يحرس الحارس»، فالحارس هو الجيش الذي يحرس الدولة لكن من سيقف إلى جانب الحارس! هذه الجدلية المعقدة هي سر العلاقة بين العسكر والسياسة والمجتمع، وهي السؤال الذي ظل جوابه صعبا في الحالة السورية منذ انقلاب حسني الزعيم الأول في أغسطس 1949.
حاول الراحل الشيشكلي أن يكون الحارس في حقبة من حقب سورية، لكنه لم يجد من يحرسه!، الشيشكلي الذي قال مقولته الشهيرة «لن تزول الجمهورية السورية إلا على جثتي» وقاد ثلاثة انقلابات عسكرية من أجل هذا الوعد، الذي دفع ثمنه مقتولا، وجد نفسا حارسا وحيدا للجمهورية من دون حراسة، ليغادر سورية وكأنه غادر حلم بناء الدولة.
من الصعب فهم فلسفة الشيشكلي في هذه المرحلة دون إعادة التفكير في سوية حينذاك ما قبل تلك الحقبة وما بعدها، وهذا ما فتح الباب أمام الاتهامات للشيشكلي بأنه ديكتاتور سورية، علما أنه الرئيس الوحيد الذي تخلى عن السلطة بعد شرارة حلب في 25 شباط 1954، ليخرج من سورية نهائيا عبر لبنان وانتهى به المطاف في البرازيل مقتولا وهو معتزل الحكم والسياسة.
الرئيس الهارب من أحلامه
الاستنتاج الوحيد الذي يمكننا من فهم إدارة الشيشكلي لسورية، أنه كان يريد إعادة رسم «سيستم» جديد في بلد عصفت به السجالات السياسية الفارغة -آنذاك- في الوقت الذي كان سورية على خط النار مع إسرائيل، كما أن طموحات الشيشكلي في استعادة فلسطين من إسرائيل -وفق منطق تلك الفترة- جعلته يحّيد كل هذه السجالات من أجل هذه الأهداف، وعلى ما يبدو أن الرئيس الذي جاء إلى الحكم بانقلاب عسكري، لم يتمكن من التفاهم مع المحيط السياسي والعسكري لبناء دولة قوية وهذا كل ما تحتاجه سورية في تلك المرحلة.
ويقودنا هذا الاستنتاج إلى تطلعات الشيشكلي لبناء دولة متينة سياسيا واقتصاديا وثقافيا، وهو ما يشير إليه الكتاب في بعض فصوله، إذ يذكر أن الشيشكلي اعتمد على نخبة من الكفاءات القانونية والاقتصادية والعلمية في التصنيع والزراعة وقوة الجيش، وهو ما جعلها تشهد نموا وازدهارا لم يتكرر خلال عهود الحكم اللاحقة. وهذا يبين أن الشيشكلي لم يتمكن من مشروع بناء الدولة بسبب الأوضاع التي كانت تمر بها سورية من صراع سياسي واستقطابات إقليمية كانت تهدف إلى ضم سورية إلى أحلاف ذات أبعاد استعمارية حينذاك وعلى رأسها حلف بغداد.
على ما يبدو فإن الرئيس الشيشكلي لم يهرب من سورية، وإنما هرب من أحلامه التي رأى أنها صعبة التحقق في سورية، فالأحلام الكبيرة ليست فقط مستحيلة التحقق بل من الصعب أن يشاركك إياها أحد، وهذه هي الشيفرة التي يمكن من خلالها فهم حقبة الشيشكلي، وفي ذات الوقت، إذا فهمنا طموحات هذا الرجل في بناء سورية القوية سوف نستوعب أيضا من ينعته بالديكتاتور.. لكن من يعرف الشيشكلي بالطبع لن يستسيغ هذا الوصف إطلاقا!؟
والسؤال الأخير: هل ثمة ديكتاتور يخرج من السلطة من دون دماء؟، وهل من ديكتاتور يعفو عن قاتليه، ويسمح بعودة معارضيه، وبانعقاد مؤتمرات تحرض ضده كما حدث في مؤتمر حمص (يوليو) 1953، إذ حمل المؤتمرون على الشيشكلي ووصفوه بالديكتاتور وهو على رأس السلطة، لكن المؤتمر مر من دون أية عمليات انتقام سياسي أو جسدي!؟