يأتي الاتفاق التاريخي بين السعودية وإيران المتضمن عودة العلاقات الدبلوماسية بينهما وفتح السفارتين في طهران والرياض والقنصليتين في مشهد وجدة خلال مدة أقصاها شهران، برعاية الصين، في توقيت حساس ودقيق للغاية تشهده الساحتان الإقليمية والدولية على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية، واحتشاد الغرب الأوروبي والأمريكي ضد روسيا، وكذلك الانسحابات العسكرية الأمريكية من إقليم الشرق الأوسط، ثم من إقليم وسط آسيا تحديدًا من أفغانستان، بحثًا عن تعظيم مصالحها في شرق آسيا وتطويق الصين المنافس القوي للولايات المتحدة، وهو ما أحدث بدوره فراغًا إستراتيجيًّا يسهم في دفع القوى الإقليمية للبحث عن حلفاء دوليين أقوياء من ناحية، وإعادة وضع منظومات أمنية ذاتية لحماية الأمن والاستقرار من ناحية ثانية.
ويحسب تقرير المعهد الدولي للدراسات الإيرانية «رصانة» يأتي الاتفاق في ظل توجهات سعودية نحو مرحلة أكثر ديناميكية وانفتاحًا تجاه مجريات الشؤون الإقليمية والعالمية بحكم المقدّرات والإمكانات السعودية المتعددة ضمن رؤية سعودية طموحة (رؤية 2030) لتحويل المملكة إلى فاعل إقليمي مؤثر في الشرق الأوسط، بل ونقلها إلى مصافّ الدول المؤثرة عالميًا وتعزيز مصالحها إقليميًّا وعالميًّا.
وتتوجه المملكة العربية السعودية تدريجيًا نحو سياسة «تصفير المشاكل» لإنهاء التوترات الإقليمية القائمة وتعزيز المصالح والمكاسب الإستراتيجية، لا سيما مع ظهور توجه عام لدى العديد من الدول في الشرق الأوسط إلى تبني وتعزيز سياسة «صفر مشاكل» لتحقيق مصالحها الإستراتيجية الخاصة كمصر وتركيا.
وتثق المملكة في الصين كضامن دولي، إذ وافقت المملكة على توقيع الاتفاق بشكل رئيسي لأن الصين قطب دولي كبير، وتمتلك من أوراق الضغط ضد إيران ما يجعلها قادرة على التأثير في إيران لالتزام الاتفاق، فالصين بديل دولي موثوق لإيران، وأحد أعضاء مجلس الأمن دائمي العضوية، ومستورد رئيسي للنفط الإيراني حتى خلال أوقات العقوبات، وأهمّ شريك تجاري لإيران، كما أن للصين التأثير الأكبر في القرارات الاقتصادية والعضوية في عديد من المنظمات الاقتصادية الدولية الصاعدة مثل البريكس والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، كما أن الصين مزود سلاح رئيسي لإيران، وأوشكت أن تتبوأ المرتبة الأولى اقتصاديًّا حسب أحد المؤشرات الاقتصادية العالمية، وقلصت الفارق العسكري الكبير بينها والولايات المتحدة من حيث النوع والإنفاق العسكري.
وللصين مصلحة في توقيع الطرفين الاتفاق لاعتبارات اقتصادية، منها أن الدولتين مصدّران أساسيان للنفط الذي يشكل العصب الرئيسي لدوران عجلة الإنتاج الصيني الضخمة، كما أن الصين بحاجة إلى السعودية وإيران ضمن مساعيها لتنفيذ المشروع الصيني الاقتصادي العابر للحدود «الحزام والطريق»، فالدولتان مفصليتان على الطريق، فضلًا عن الاعتبارات السياسية كون الدولتين مهمتين سياسيًّا للصين ضمن مفهوم الشراكة الإستراتيجية الشاملة لتعظم المصالح والمنافع المتبادلة وتعديد البدائل الدولية للنظام الدولي، واعتبارات أمنية منها أن إنهاء الخلاف بين الطرفين يضمن سلامة التجارة الصينية المارة عبر مضيقَي هرمز وباب المندب الإستراتيجيين.
وتشير الاتفاقية إلى استفادة الجانب الإيراني من تجربة الماضي المرير، وسنوات القطيعة السبع وتداعياتها السلبية المتعارف عليها على الداخل الإيراني، حيث يأتي الاتفاق في توقيت حساس للغاية بالنسبة إلى إيران من الناحية الاقتصادية، على المستوى الشعبي والحكومي على حدٍّ سواء، نظرًا إلى اجتماع عدة مؤثرات خارجية وداخلية فاقمت الوضع الاقتصادي الإيراني، بداية من إعادة فرض العقوبات الأمريكية منذ عام 2018، وتداعيات كورونا في 2020، والحرب الروسية - الأوكرانية في 2021، والاحتجاجات الداخلية على مقتل مهسا أميني في 2022.
فمن ناحيةٍ يعاني الاقتصاد من تباطؤ النمو الاقتصادي وتسرب الاستثمارات إلى الخارج، وتواجه مالية الحكومة عجزًا ماليًّا كبيرًا ومتزايدًا مع محدودية الإيرادات النفطية، ولا تستطيع الوصول إلى كل احتياطها المجمدة بالخارج لفك ضائقتها المالية، إضافة إلى تراجع صادراتها، وتحوّل ميزان التجارة من فائض إلى عجز بمليارات الدولارات، ما عزز انهيار قيمة العملة المحلية أمام العملات الأجنبية.
ومن ناحية أخرى، يكتوي الشعب الإيراني بنار التضخم منذ أكثر من عامين، ولم يستطِع أيٌّ من الرئيس السابق حسن روحاني، أو الحالي إبراهيم رئيسي، مواجهته، حتى أصبح واحدًا من أكبر هواجس الإيرانيين وتسبب في إيقاع ملايين الأفراد تحت خط الفقر.
وأضحت هذه المتغيرات تشكل تهديدًا، ليس فقط لاستقرار المجتمع، بل والنظام الحاكم بأسره، وتدفعه إلى محاولة إحداث تغييرات سياسية ضرورية قبل خروج الوضع الداخلي عن سيطرته.
وتسبب قطع السعودية علاقاتها الدبلوماسية مع إيران قبل نحو 7 سنوات، على خلفية الاعتداءات على المقار الدبلوماسية السعودية في طهران ومشهد، في تعزيز حالة العزلة الإقليمية لإيران، وهو ما زاد إيران ضغطًا، بل ونبذًا في المنطقة العربية، إذ بلغ إجمالي عدد الدول العربية التي قطعت أو خفضت علاقاتها الدبلوماسية مع إيران بفعل سياساتها التدخلية المتكررة نحو 12 دولة عربية، ما نسبته أكثر من 60% من الدول العربية، وبالتالي فالأزمة مع إيران لا تخص دولة عربية بذاتها وإنما تخص أكثر من 60% من الدول العربية، مع وضع إيران في حالة عزلة غير مسبوقة وحسابات دولية معقدة ألقت بظلالها السلبية على إيران وعلاقاتها الإقليمية وزادت عزلتها الدولية أيضًا، ولذلك شكلت حالة العزلة دافعًا مهمًّا وراء المحاولات الإيرانية المتكررة لتسوية العلاقات مع الرياض.
ومنذ أن أعلنت السعودية وإيران التوصل لاتفاق حول استئناف علاقاتهما الدبلوماسية المقطوعة منذ 2016، بعد مفاوضات قادتها الصين، توالت ردود الفعل المحلية والإقليمية والدولية، حول أثر هذا الاتفاق والبُعد الذي يحمله في ما يتعلق بمستقبل الاستقرار في دول المنطقة.
وتجلَّى الموقف السعودي في تصريحات وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، الذي قال إن الاتفاق السعودي - الإيراني على عودة العلاقات الدبلوماسية يؤكد الرغبة المشتركة لدى الجانبين لحل الخلافات عبر التواصل والحوار، مشددًا على أن هذا الاتفاق لا يعني التوصل إلى حل لكافة الخلافات العالقة بين البلدين، وأن الأصل في العلاقات الدولية هو وجود علاقات دبلوماسية بين الدول، ويتعزز ذلك في حال دولتين جارتين بحجم المملكة وإيران تجمعهما روابط عدَّة دينية وثقافية وتاريخية وحضارية مشتركة.
وقال وزير الدولة مستشار الأمن الوطني في السعودية الدكتور مساعد بن محمد العيبان، إن الترحيب السعودي بمبادرة الرئيس الصيني لتطوير علاقات حسن الجوار يأتي انطلاقًا من نهج المملكة الثابت والمستمر منذ تأسيسها في التمسك بمبادئ حسن الجوار، والأخذ بكل ما من شأنه تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم، وانتهاج مبدأ الحوار والدبلوماسية لحل الخلافات.
وجاء الموقف الرسمي الإيراني مرحبًا بالاتفاق، حيث رحَّب به المسؤولون الإيرانيون في مختلف مستوياتهم، وأكد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان، أن استئناف العلاقات بين إيران والمملكة العربية السعودية يوفر إمكانيات كبيرة للبلدين والمنطقة والعالم الإسلامي، معتبرًا أن سياسة الجوار المحور الرئيسي للسياسة الخارجية لحكومة إبراهيم رئيسي، وأنها تمضي بقوة في المسار الصحيح، ويعمل الجهاز الدبلوماسي بنشاط نحو إعداد المزيد من الخطوات الإقليمية.
ويمثل الحد من نفوذ الأذرع الإيرانية في المنطقة أحد أهم عوامل نجاح الاتفاق في المستقبل والدفع نحو حلول سياسية تجعل الدول الإقليمية أكثر استقرارًا، خاصةً إذا تعاونت إيران مع السعودية في تهيئة السبل الكفيلة ببسط الأمن والاستقرار في دول المنطقة، وبالتالي فإن إقدام إيران على توقيع الاتفاق يشكل اختبارًا حقيقيًا لمدى سيطرة إيران على أذرعها في المنطقة.
وأثار الاتفاق بين السعودية وإيران ردود فعل إقليمية مرحِّبة بالخطوة، حيث رحَّبت دول الخليج العربي بالاتفاق، كما رحَّبت دول عربية أخرى كالعراق ومصر ولبنان وسورية وتونس والجزائر والسودان، معتبرةً الاتفاق إيذانًا ببدء صفحة جديدة من العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
وجاء الرد الأمريكي مرحبًا بالاتفاق شريطة أن يؤدي إلى تخفيف التوتر في المنطقة ووقف الحرب في اليمن وضمان أمن السعودية، وهنّأت موسكو على لسان نائب وزير خارجيتها، ميخائيل بوغدانوف، السعودية وإيران والصين على التوصل إلى اتفاق عودة العلاقات بين الرياض وطهران، كما رحَّب الاتحاد الأوروبي بالاتفاق معربًا عن تطلُعه إلى تنفيذ الاتفاق.
وتعتبر القضايا الإقليمية محلَّ الخلاف والنزاع بين السعودية وإيران الاختبارَ الحقيقي للاتفاق، وقدرة الضامن الصيني على تجسيده، وأهمها الوضع في اليمن، والأزمة الرئاسية اللبنانية، والأوضاع في الساحة السورية، والملف النووي الإيراني.
ويجد الاتفاق دعمًا قويًا من جانب الصين التي لديها رغبة في الانخراط في الشرق الأوسط، وهو دور ينسجم مع توجهات الصين الدبلوماسية على الساحة الدولية في إطار مساعيها لمراجعة الهيمنة الأمريكية بما في ذلك مبادرتها للأمن العالمي، ومقترحها لتسوية الصراع الروسي - الأوكراني، وذلك ضمن تغير نهجها الخارجي ورغبتها في موازنة الحضور الأمريكي في مختلف الساحات بما في ذلك الشرق الأوسط.
كما أن هناك مصلحة صينية اقتصادية وأمنية لأن الاتفاق يوفر للصين نفوذًا يساعدها في تحقيق مشروع الحزام والطريق الذي يمر عبر البلدين نحو أفريقيا والعالم، فضلًا عن تدفق المصالح بما فيها تدفق الطاقة بوصف إيران والمملكة من كبار موردي الطاقة للصين، وبالتالي يضمن الاتفاق استقرارًا إقليميًا وينهي خلافًا بين شريكين مهمين للصين؛ الأمر الذي يخدم هذه التطلعات. ولا شك أن الاتفاق بعد جولات العراق وعمان كان بحاجة إلى قوى كبرى كالصين حتى يرى النور، كونها طرفًا مقبولًا من الجانبين.