المعركة الأولى التي تتوازن فيه الخسائر إلى حد بعيد، منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية كانت في مدينة باخموت، تلك المدينة التي وازنت المآسي والخسائر بين المتصارعين، فكلا الطرفين الروسي والأوكراني اعترفا بصعوبة المعركة وبأن الخسائر الفادحة رغم بعض التباينات، إلا أن المواجهة ما زالت مستمرة فيما يشبه «عض الأصابع» بين المتنازعين.
وفي الوقت الذي يرجح خبراء عسكريون سيطرة القوات الروسية على المدينة، يعتقد مسؤولون في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، أن أي انتصار روسي لن يكون إلا رمزياً، في إشارة إلى استمرار الدعم الأوروبي إلى الجيش الأوكراني.
لكن، لماذا كل هذا الضجيج الإعلامي حول معركة باخموت التي استمرت ما يقارب 7 أشهر من القتال العنيف بين الجيشين الروسي والأوكراني؟ وما أهمية هذه المعركة سياسياً وعسكرياً بالنسبة للطرفين؟
لم يكن الصراع الروسي الأوكراني على باخموت وليد اللحظة، بل يمتد إلى 9 أعوام، ففي العام 2014، سيطر مقاتلون موالون لروسيا على المدينة بعد معارك ضارية مع الجيش الأوكراني، وأعلنوا أن هذه المدينة جزءاً من «جمهورية دونيتسك الشعبية»، إلا أن القوات الأوكرانية استعادتها في شهر يوليو من العام نفسه، وبقيت هذه المدينة في ذاكرة المقاتلين الموالين لروسيا إلى أن جاءت العملية العسكرية الروسية في 24 فبراير من عام 2022 لتعود هذه المدينة إلى الواجهة العسكرية.
وفي هذا السياق، يرى خبراء في العلوم العسكرية أن الأهمية الاستراتيجية لهذه المدينة تكمن في تميز موقعها الجغرافي، إذ تعتبر المدينة مركزاً صناعياً مهماً، وأحد أكبر مراكز صناعة الآلات الثقيلة في أوكرانيا، كما أنها تشكل عقدة مواصلات مهمة، إذ يمر بها خط سكك حديدية يربط جنوب وشرق حوض دونيتسك بالغرب والشمال، كما أنها مركز رئيسي للملح الصخري، وتسهم بـنحو 30 % من إنتاج أوكرانيا من هذه المادة التي تقع مناجمها في سوليدار على بعد 10 كيلومترات شمال شرق المدينة.
ومن هذه الأهمية الجغرافية والاقتصادية، تأتي قراءة الحرب الضروس للسيطرة عليها، إذ ما يزال المقاتلون الأوكرانيون يأملون في الحفاظ على المدينة على الرغم من التصريحات الغربية التي توحي بقرب خسارتها وسقوطها في قبضة القوات الروسية.
الأمر الآخر الذي يفسر شراسة القتال الروسي في باخموت إضافة إلى المعطيات السابقة، هي حاجة الجيش الروسي إلى انتصار من هذا النوع خصوصاً بعد 4 أشهر من انسحاب قواته من خيروسون الأمر الذي أصاب الهيبة العسكرية الروسية بكسر معنوي، لذا فإن المعركة في باخموت ستكون على الأرجح من نصيب الجيش الروسي.
ويرى خبراء في الشؤون العسكرية، أن احتدام المعركة في باخموت، وأهمية تحقيق الانتصار فيها تأتي بهدف تحسين شروط التفاوض في أية وساطة محتملة في المستقبل لإنهاء الحرب ووقف إطلاق النار، خصوصاً أن الصين دخلت على خط الحرب الروسية الأوكرانية، ويعتزم رئيسها زيارة روسيا ولقاء الرئيس فلاديمير بوتين، وسط أنباء عن إجراء مكالمة هاتفية للمرة الأولى مع نظيره الأوكراني من أجل الدخول في وساطة لحل الصراع المتواصل منذ أكثر من عام، وبالتالي من مصلحة الرئيس الروسي أن يحرز أي تقدم عسكري في هذه اللحظة الحرجة من عمر الحرب.
في كل الأحوال ومن خلال المواقف الأوروبية المصممة على دعم الجيش الأوكراني بكل أنواع السلاح، وتوجيهات الرئيس الروسي للمؤسسات العسكرية بزيادة الإنتاج الصناعي العسكري، لا تلوح في الأفق أية بادرة للتوصل إلى تسوية عسكرية وسياسية، إذ ما زال الموقفان الأوكراني والروسي عند نقطة الصفر في 24 فبراير (بداية الحرب)، وبالتالي فإن الميزان العسكري لم يعد هو الحاسم في الحرب الروسية الأوكرانية، وهذا ما يشير إلى استمرار الحرب لمدة أطول.