أحمد ينهي تركيب العكس
أحمد ينهي تركيب العكس
-A +A
حسام الشيخ (جدة)
hussamalshikh@

باءت كل محاولات إخراجه من تحت السيارة بالفشل، وأصر أن يحكي حكايته، بنظرات خاطفة من بين فراغات صاج السيارة والكفر الأمامي، أثناء إصلاح الـ«عكس»، فطريقة عمله غريبة، لا يعتمد فيها على البصر، لدرجة أن بإمكانه أن يؤديه، حتى ولو كان معصوب العينين.


لم يتخيل أحمد عبدالرازق الشهير بـ«بليه» أن قصوره في استيعاب قواعد اللغة العربية، سيكون سببا في انتقاله إلى عروس البحر الأحمر، بعدما ترك المدرسة قبل 15 عاما، وفضل أن يعيش في شارع الورش بمدينة الزقازيق، باحثا عن «صنعة» تنفعه في حياته، بعد أن حصل على صفر في مادة اللغة العربية.

شهر كامل قضاه في شارع الورش بالزقازيق، دون أن يحصل على جنيه واحد، يساعد هذا في البحث عن مفتاح 14، ويناول ذاك الكوريك لرفع السيارة، ويشتري مسامير للزبون المستعجل، ويجري خلف آخر ليخبره بمكان ورشة إصلاح السيارات الأوتوماتيك، وحين غاب أحد العمال الصغار في ورشة الميكانيكا، طلب صاحبها أن يحل محله، ومنذ تلك اللحظة التصق به اسم «بليه».

أخيرا. خرج «بليه» من تحت السيارة، ليكمل: «قضيت سنوات طويلة تحت السيارات، حتى أصبحت أهم «صنيعي» في الورشة، ثم جاءت الفرصة للعمل في ورشة سيارات بجدة».. صمت قليلا.. زاغت عيناه بعيدا.. ابتسم، ثم قال: تركت المدرسة، لأني بالفعل لم أكن أهوى التعليم، ورغم أني أكسب الآن ضعفي راتب زملائي المتعلمين، إلا أنهم في النهاية «أفندية».

سبعة أعوام، قضاها «بليه» في جدة، أثقلت خبرته، في إصلاح جميع أنواع السيارات، وجعلت آماله عريضة، إذ ينتوي فتح ورشته الخاصة حين عودته إلى الزقازيق، ليكتب عليها بالخط العريض «ورشة عروس البحر الأحمر.. لصاحبها بليه». فيما تظل أجمل ساعاته، تلك التي يقضيها أمام بحر جدة، يوم الجمعة من كل أسبوع، ليصطاد السمك، يلقي صنارته، ينتظر ساعات، يحلق خلالها بذاكرته إلى مدينته، متذكرا أيام طفولته، التي لم يستمتع بها، يستحضر نصائح أمه وأبيه التي لم يعرها اهتماما، يستفيق فجأة على حركة الصنارة، يسحبها بسرعة، يكتشف أنها لم تلتقط شيئا.. يعيدها مرة ثانية، غير أنها في كل مرة تخرج خالية. يؤمن «بليه» أن الأمانة مفتاح النجاح في أي مهنة، فالمعروف عنه أنه «ميكانيكي شاطر» لا يطلب قطعة غيار جديدة إلا لو كانت القطعة القديمة قد استهلكت تماما، فهو يضع نفسه مكان صاحب السيارة، ويعلم تماما أن قطع غيار السيارات غالية الثمن. منهيا حديثه بقوله: «الناس هنا طيبون، وبصراحة أنا لا أستغل طيبتهم، فالمعروف عني أني واحد من الصنيعية القليلين الذين عندهم ضمير».