رجل كنا نسعد بلقياه وهو في عنفوان شبابه، كان في بداية الثلاثينات من عمره، يمر بجوار المدرسة التي كنا ندرس بها في المرحلة الابتدائية التي تقع في قريته أثناء الفسحة تحديدا، يعرف جميع تلاميذها وآباءهم، لأننا من مجموعة قرى متقاربة نسبيا، يسلم على هذا ويمسك بيد ذاك، ويحمل هذا على كتفيه ويمازح ذاك، يربط عمامة ذلك الطفل حول عنقه في وقت الشتاء والبرد، لا يغيب عن المدرسة أثناء سقوط الأمطار، يرشد الطلاب والمعلمين ويحذرهم حتى يتوقف المطر، يوجههم إلى الطرق التي يجب أن يسلكوها بعيدا عن بطن الوادي والشعاب، يعرف الدروب والقرى أكثر من المعلمين الذين كان أغلبهم حينها من الدول العربية. كان في اليوم الذي يأتي فيه إلى المدرسة يسأل كل تلميذ يقابله عن أسرته ويطلب منه أن يبلغها سلامه، كان له أبناء في تلك المدرسة في صفوف مختلفة، يقابلهم في تلك الفترة ويسألهم ويجلب لهم أحيانا بعض المأكولات من صنع البيت وينال بعض التلاميذ نصيبا منها، كنا نأنس به كثيرا ونفرح بلقائه، لأنه يمازحنا ويبتسم في وجوهنا ويسأل عن حالنا، بل أحيانا يشفع للبعض عند المعلمين ويجنبهم العقاب، كل المعلمين يحترمونه ويقدرونه. جواد كريم سخي ليس ببشاشته وملاطفته فقط، وإنما أيضا في بيته لأهله وضيوفه. صاحب نخوة وشهامة وفزعة وعون بعد الله للقريب والبعيد في الأعمال الزراعية التي كانت النشاط الرئيس لتلك القرى. لم أعرف يوما أنه قاطع أحدا، معروف بسعة صدره وحلمه، يعرفه الكثيرون من قرى بعيدة، له مكانة ومنزلة رفيعة بين كافة القرى ناهيك عن أقربائه وأصدقائه، رأيه سديد يستشار في قضايا أهل القرى. رزقه الله بذرية صالحة يتسابقون إلى بره وعمل كل ما يشعرون أنه يسعده ويبهجه، شملهم بحنانه وعطفه ورعايته بعد الله وهم صغار وأحسن تربيتهم، فبروه وهم كبار. قبل نحو عقدين أو أكثر لم تعد الزراعة ذات جدوى فقرر أن يتنقل بين العديد من مناطق المملكة للتعرف عليها، بنى له صداقات جميلة، كنا نسعد ونصغي لسماع قصصه في الحياة عموما وتلك الزيارات خصوصا، كان يزور أبناءه في العديد من المدن ويحظى كل من عرفه بلقائه والاستماع إلى حديثه العذب وطرائفه، يستضيف كل قريب وصديق يأتي من السفر وكان يأتي لزيارتهم رغم كبر سنه ويصر على دعوتهم. لا يترك مريضا يعرفه إلا وزاره في منزله أو المستشفى الذي هو فيه في المنطقة، أقعده المرض في العامين الأخيرين ولزم السرير الأبيض أكثر من ٩ أشهر. تناوب أبناؤه على البقاء بجانبه، لم يترك لوحده في أي يوم من أيام مرضه، رغم أنه كان في غيبوبة تامة طوال تلك الفترة، فجعت وغيري من كل من عرفه وأسرته وأقاربه ومحبوه بخبر وفاته، رحل عن عمر ناهز 100 عام، قضى 60 عاما مؤذنا للقرية، اللهم لا اعتراض على قضاء الله وقدره، إنه القريب في وده وعطفه وشهامته ونبله والقريب في صلة رحمه. إنه الشيخ عواض بن مسفر آل عبدان من قرية الجدلان بوادي بيدة، أعزي نفسي وكافة أسرته وأقاربه وكل ذويه ومحبيه وأصدقائه سائلا المولى عز وجل أن يلهمنا جميعا الصبر والسلوان، وأن يسكن الفقيد الفردوس الأعلى مع الصديقين والشهداء، إنه سميع مجيب الدعاء. إنا لله وإنا إليه راجعون.