لا تدخل اتهامات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب وزعماء المنطقة أخيراً للنظام الإيراني برعاية الإرهاب ضمن ما قد يصنف بـ«حرب كلامية» بين هذه الأطراف، فالاتهامات تستند إلى كم هائل من الأعمال والممارسات التخريبية المنتهكة لسيادات الدول، يشنها النظام الإيراني خفية عبر شبكات معقدة من الجواسيس والميليشيات العسكرية والتنظيمات الإرهابية، بإشراف مباشر من الحرس الثوري الإيراني ووكالة الاستخبارات التابعة له.
وهذه الأعمال التخريبية التي يمارسها النظام الإيراني ليست خاضعة من جانبه لردود أفعال عارضة على سياسات لا تحظى برضاه في الدول المستهدفة مما يجعلها عرضة للتغيير، بل أعمال ممنهجة ذات نسق أيديولوجي ديني وتنظيمي مستمر زمنياً بغير انقطاع منذ اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979 إلى الآن، ما يرقى بها إلى نوع من الحروب الخفية التي تستهدف زعزعة واستقرار الدول الأخرى، لكن لماذا تخوض إيران هذه الحروب التي تعتمد فيها على الميليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية وكل الأساليب التي لا يقرها النظام الدولي؟
أيديولوجيا عدائية
تكمن الإجابة في المستويات الأيديولوجية والتنظيمية (إدارة وتجنيداً وانتشاراً) والمالية التي تصدر عنها خطط وتدابير هذه الحروب، إذ أنها تنبع في أحد مستوياتها من أيديولوجيا إيران الدينية القائمة على اتخاذ التشيع بصيغته الإمامية مذهباً رسمياً، وهي أيديولوجيا ترى في المحيط المخالف لها مذهبياً وسطاً معادياً يجب استهدافه عبر دعاوى «تصدير الثورة»، كما تنبع في الشق السياسي لهذه الأيديولوجيا من العداء للدول التي ناهضت الثورة الإيرانية في أوج تشكلها واندلاعها وساندت شاه إيران عندئذ محمد رضا بهلوي، والتي اعتاد النظام الإيراني على وصفها ضمن أدبياته بـ«دول الاستكبار العالمي»، معتبراً مناوئتها له «عدائاً للإسلام»، وفي صدارة هذه الدول الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثَمّ تعد هذه الأيديولوجيا الدينية المحرك الذاتي للتوجهات العدائية للنظام ضد الدول الأخرى، وتشير في هذا المستوى إلى أن إيران تشن هذه الحروب من منطلق عقائدي.
وتنظيمياً يخطط ويدير هذه الحروب الحرس الثوري الإيراني التابع لسلطات ما يسمى بـ«ولاية الفقيه» التي يجسدها حالياً المرشد الأعلى علي خامنئ الذي يمثل أعلى سلطة في البلاد، فالحرس الثوري هو الجهة المسؤولة عن إيجاد الشبكات التنفيذية لهذه الحروب من الناحية العملية، سواء بالنسبة للتشكيلات والخلايا والأفراد الملكفين بأهدافها، أو الوسائل التي تمكنهم من تحقيقها، أو الخطط التي يعملون عليها، أو نطاقات الانتشار التي يتوزعون عليها.
لكن خطورة اضطلاع الحرس الثوري بالمسؤولية التنظيمية لهذه الحروب، تتجاوز مجرد توفير النسق المادي واللوجيستي لها إلى ضمان المجال الذي يكفل استدامتها واستمراريتها، وبناء على ذلك لا يتوقع لها أن تتوقف مادامت تصدر عن كيان تنظيمي منتج لها، كما لا يتوقع لها أن تنته بالنظر إلى أنها نشاط موازي لوجود النظام الإيراني نفسه.
نطاق التخريب
ويضم النطاق التخريبي لحروب إيران الخفية بحسب العمليات الإرهابية التي نفذتها وافتضح أمرها دول المنطقة: ففي السعودية تقف إيران خلف تفجير أبراج الخبر عام 1996 وتفجيرات الرياض عام 2003 من خلال ما يسمى بـ«حزب الله الحجاز»، وفي الكويت استهدفت إيران منشآت حكومية وسفارات عبر العديد من الخلايا الإرهابية منها ما عرف إعلامياً أخيراً بـ«خلية العبدلي» التي ضمت 26 إرهابياً أصدرت محكمة التمييز الكويتية أحكاماً بالإعدام والمؤبد على بعضهم في يونيو (حزيران) الماضي.
ويشمل النطاق أيضاً الولايات المتحدة الأمريكية وهي من أوائل الدول التي استهدفتها إيران، إذ أقدمت في 23 أكتوبر (تشرين أول) 1983 على تفجير مقر القوات البحرية الأمريكية «المارينز» في بيروت ما أسفر عن مقتل 249 جندياً أمريكياً وإصابة العشرات، في واقعة أليمة أحيت أمريكا ذكراها الـ34 الإثنين الماضي، ويضم النطاق كذلك الدول الأوروبية وبعض دول أمريكا اللاتينية كالأرجنتين، ودول أفريقية منها غينيا والسودان والنيجر، ودول آسيوية كأذربيجان وأفغانستان وباكستان والهند.
وفي هذا الصدد، كشفت دراسة أوروبية أجرتها اللجنة الدولية للبحث عن العدالة «آي إس جي» والجمعية الأوروبية لحرية العراق «إي آي إف إيه» ومقرهما بروكسل، أن «الدور التخريبي للحرس الثوري الإيراني شمل 14 دولة عربية وإسلامية في منطقة الشرق الأوسط وحدها خلال الثلاثين سنة الماضية»، ولفتت الدراسة الصادرة أوائل مارس (آذار) الماضي إلى أن وتيرة أنشطة «الثوري» الإرهابية تصاعدت منذ عام 2013، واتخذت مدى أبعد في التصعيد عقب إبرام إيران للاتفاق النووي مع الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن إضافة لألمانيا عام 2015.
الكيانات الشريرة
وعلى مستوى التجنيد والعتبئة، تعتمد إيران في حروبها الخفية على منظومة واسعة من الكيانات المعلنة والسرية تضم ميليشيات عسكرية، وشبكات تجسس، وتنظيمات إرهابية، وشركات تجارية، تنتشر عبر جغرافيا الشرق الأوسط والعالم، ففي العراق شكلت طهران العشرات من الميليشيات الشيعية المتطرفة منها «الحشد الشعبي» و«ومنظمة بدر» و«عصائب أهل الحق» التي ارتكبت فظائع إنسانية بشعة بحق العراقيين، وفي لبنان ميليشيا «حزب الله»، وفي اليمن ميليشيا الحوثي، وفي الكويت ميليشيا «حزب الله الكويتي».
وتدعم إيران في البحرين ما يسمى بـ«تيار الوفاء الإسلامي» وذراعه الإرهابي تنظيم «سرايا الأشتر»، وأسست في فسلطين «حركة الصابرين» التي ظهرت للعلن في أبريل 2014 وتتكون من شيعة فلسطينيين، وفي سورية جندت قرابة 70 ألف عنصر للحرب بالوكالة عن نظام بشار الأسد، وفي باكستان «لواء زينبيون»، وفي أفغانستان «لواء فاطميون» الذي يعد أهم مصدر للحرس الثوري الإيراني في تأمين المجندين للحرب في سورية.
العلاقات السرية
أما عن علاقة النظام الإيراني بالتنظيمات الإرهابية، فلقد أكد مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية «سي آي إيه» مايك بومبيو وجود علاقة بين النظام الإيراني وتنظيم القاعدة الإرهابي، وقال خلال كلمته في ندوة الأمن والدفاع التي نظمتها «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات» في واشنطن في 19 أكتوبر الجاري: «إن علاقة تنظيم القاعدة بإيران علاقة سرية ومفتوحة، وهناك العديد من المعلومات غير المعلنة تؤكد وجود هذه العلاقة، ففي أوقات عديدة عمل الإيرانيون مع تنظيم القاعدة»، ولفت إلى أن أشكال التعاون بينهما لا تقتصر على تسهيل النظام الإيراني لعبور عناصر القاعدة فحسب، بل إن هذه التسهيلات ذاتها تجري ضمن اتفاق سري يشمل تقديم مساعدات نشطة لأعضاء القاعدة.
وفيما يعتبر توضيحاً لأحد المصادر المهمة للمعلومات التي تمتلكها واشنطن والتي أشار إليها بومبيو، كشف توم دونيلون مستشار الأمن القومي السابق للرئيس باراك أوباما في خبر نشرته صحيفة «ويكليستاندرد» هذا الأسبوع، أن «كمية الوثائق التي حصلت عليها الاستخبارات الأمريكية في الغارة التي أطاحت بزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن تكفي لملء مكتبة كلية صغيرة»، مبيناً أن «تلك الملفات التي لم تعلن بعد، والتي توثّق العلاقات بين تنظيم القاعدة وإيران، هي من أهم الوثائق المتفجرة التي لا تزال غير مكشوفة أمام الشعب الأمريكي».
اختلاق «داعش»
وحول تاريخ هذه العلاقات المشينة بين إيران و«القاعدة» وتنظيم «داعش» الإرهابي، أشار تقرير أصدره المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية في مايو (آيار) الماضي إلى أن الحرس الثوري أنشأ منذ تسعينات القرن الماضي علاقات نشطة مع تنظيم القاعدة وتنظيمات متطرف أخرى، وهذه العلاقات اتخذت أبعاداً غير مسبوقة خلال السنوات الأخيرة في العراق وسورية.
وكشف التقرير ذاته أن النظام الإيراني أمر الأسد بإطلاق سراح 1500 سجين إرهابي عام 2011، كما أوعز لنوري المالكي أيضاً بإطلاق سراح 1000 متطرف من سجون العراق، وشكل هؤلاء الإرهابيين النواة الأولى لتنظيم «داعش»، وذلك في محاولة من إيران لخلق عدو مناهض لها وللأسد؛ لتبرير الفظائع التي ترتكب في قمع المعارضين لهما في سورية والعراق.
ولا تقف دموية إيران عند ما سبق، إذ ثبت تورطها في 168 عملية اغتيال سياسي ضد شخصيات تصدت لمخططاتها التخريبية، منها اغتيال المدعي والمحقق الأرجنتيني ألبيرتو نيسمان الذي قتل بطلقة في الرأس في يناير 2015، قبل يوم واحد من الإدلاء بشهادته أمام الكونغرس الأرجنتيني حول ما قيل عن تغطية الحكومة الأرجنتينية لتفجيرات إيران الإرهابية للمركز اليهودي عام 1994، وهو اغتيال كشفت أدلته صحيفة «وول ستريت جورنال»، ونقلته عنها لجنة شؤون العلاقات العامة السعودية الأمريكية «سابراك» في تقريرها الذي أصدرته أوائل سبتمبر (أيلول) الماضي، ووثقت فيه عشرات الجرائم الإرهابية التي ارتكبتها إيران في أمريكا اللاتينية.
تكلفة زهيدة
وفي المستوى المالي، يعود اعتماد إيران على الميليشيات والتنظيمات الإرهابية وبقية الأساليب الإجرامية في شن هذه الحروب الخفية ضد من تعتبرهم أعدائها؛ إلى انخفاض تكلفة هذه الحروب وعظم نتائجها في بسط النفوذ الإيراني، وإطلالة على جغرافيا الشرق الأوسط كفيلة بشرح ذلك، فإيران تتمتع بنفوذ حقيقي في العراق وسورية ولبنان واليمن عبر ميليشياتها في الوقت الذي تتآمر فيه ضد دول عديدة أخرى.
وبلغة الأرقام، ووفقاً لما أعلنه المتحدث باسم الحكومة الإيرانية محمد باقر نوبخت، فإن حصة الحرس الثوري الإيراني في الموازنة الإيرانية للعام الحالي لم تتجاوز 6.9 مليار دولار، وهي أعلى حصة يحصل عليها إلى الآن، إذ كانت العام الماضي 4.5 مليار دولار، و«الثوري» هو الجهة المنوطة بشن هذه الحروب.
ولم تذهب أعلى التقديرات بعيداً عن ضعف قيمة هذه الميزانيات تقريباً، فوفقاً لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، فإن الثمن الإجمالي لكافة الأنشطة التخريبية لإيران بما فيها دعم الأسد لا يتجاوز 10 مليارات دولار سنوياً (حفنة دولارات)، منها نحو ملياري دولار تمثل حجم الدعم الإيراني للميليشيات الطائفية في العراق وسورية بواقع 300 دولار شهرياً لحوالي 140 ألف عنصر إلى جانب 900 دولار شهرياً لكل مقاتل حامل للسلاح، وفي المحصلة فإن إجمالي المبلغ يعد تكلفة زهيدة للغاية مقارنة بعوائد إيران الاقتصادية وحجم ميزانيتها والمكاسب الاستراتيجية التي تجنيها من زعزعة استقرار الدول، كما أنه لا يكاد يذكر إذا قورن بالتكلفة الباهظة التي تتحملها هذه الدول في حماية نفسها من إرهاب إيران.