عدنان الباجه جي
عدنان الباجه جي
-A +A
«عكاظ» (النشر الإلكتروني)

برحيل السياسي العراقي عدنان مزاحم الباجه جي أمس (الأحد) عن عمر ناهز (96 عاماً) في العاصمة الإماراتية أبوظبي، يضع الموت نهاية لتاريخ طويل من النضال والصراعات لأحد فرسان الدبلوماسية العربية.

التقى أول ملك للعراق.. ولام صدام وجهاً لوجه

هذا المناضل الذي لم يسكت على ضيم ولم يهادن من أجل قضية عراقية وعربية، ساهم في بناء الدولة العراقية الحديثة وأرسى دعائم وجودها دولياً، وشهد سقوطها متأسفاً.

فهو من قدر له أن يلتقي عندما كان عمره ثماني سنوات أول ملك للدولة العراقية الحديثة فيصل الأول، وأن يلوم صدام حسين -آخر قادة هذه الدولة- وجهاً لوجه عندما التقاه بعد سقوطها وهو في العقد الثامن من عمره، متسائلاً عما سببه للعراق من مصير.

ولد عدنان الباجه جي في 14 مايو 1923 في العاصمة العراقية بغداد، وهو من عائلة سياسية بارزة من مدينة الموصل، فأبوه مزاحم الباجه جي الذي كان رئيساً للوزراء عام 1947.

قبل عامين فقط من ولادته، كانت الدولة العراقية الحديثة قد تأسست، وقبل هذا الموعد امتد تاريخ من الحروب والمعارك توزعت مواقعها من البلقان وحتى شبه الجزيرة العربية وطرابلس والشام.

أول عراقي يولد بعملية قيصرية

سقطت والدته وهي في شهر حملها التاسع من عربة في عرض الشارع، عندما كانت العربات التي تجرها الخيول وسيلة النقل الوحيدة وقتذاك، فأصيبت بكسور خطيرة، فولادته لم تكن طبيعية، بل قيصرية وعسيرة، فكان أول طفل عراقي يولد بعملية قيصرية.

وإثر سقوط والدته تم نقلها إلى مستشفى المجيدية على الضفة الشرقية من نهر دجلة ببغداد، وكان المستشفى الوحيد الموجود في العاصمة العراقية، فقرر الأطباء إجراء عملية ولادة قيصرية كانت الأولى في تاريخ العراق الحديث.

أثرت هذه الحادثة على والدته التي تعذبت وتحملت آلاماً قاسية وأصبحت لا تقوى على السير دون مساعدة، وبسبب هذا الحادث وعملية الولادة القيصرية لم تستطع الإنجاب ثانية، وهذا ما يفسر كونه الابن الوحيد لعائلته.

تخرج عدنان الباجه جي من الجامعة الأمريكية بالعاصمة اللبنانية بيروت، ثم تابع دراسته العليا في كلية فيكتوريا التي كانت حينها مدرسة عمومية إنجليزية بالقاهرة.

عين سفيراً للعراق في الأمم المتحدة خلال ثورة 14 يوليو 1958 بقيادة عبدالكريم قاسم، ثم وزيراً للخارجية في عهد عبدالسلام عارف، أول حكومة مدنية بعد الثورة، وخدم خلال الحروب العربية مع إسرائيل في 1967.

عندما أطاح البعثيون بحكم عبدالرحمن عارف الرئيس الثالث لجمهورية العراق في يوليو 1968، كان الباجه جي خارج العراق، حيث فضل هذا الدبلوماسي عدم العودة للبلاد والعمل مع المعارضة العراقية التي كان عضواً بارزاً فيها.

في نفس العام، انتقل إلى دولة الإمارات وعمل مستشاراً قانونياً للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وأسهم في تشكيل البنية السياسية في الدولة، وشارك في وضع دستور دولة الإمارات.

عمل مساعداً لوزير الخارجية بالإمارات ومستشاراً لرئيس الدولة، وساهم في تحقيق نهضة الإمارات، إذ شغل العديد من المناصب الحكومية إلى جانب عضويته في مجموعة من أهم المؤسسات في أبوظبي.

وكان الباجه جي أحد المشاركين في الحملة الدبلوماسية التي انضمت دولة الإمارات على أثرها إلى منظمة الأمم المتحدة، لتكون الدولة الأولى التي تخاطب المنظمة باللغة العربية في 1972.

وبعد سقوط صدام حسين في 2013، كان الباجه جي من أبرز الشخصيات السياسية التي عادت للبلاد، وحينها جرى تعيينه رئيساً لمجلس الحكم الانتقالي الذي تشكل بتاريخ 12 يوليو 2003، كما تسلم رئاسة البرلمان باعتباره العضو الأكبر سناً.

وعرف الدكتور عدنان بكونه رجلاً معطاءً حريصاً على نقل خبرته الواسعة لتحقيق الفائدة للإمارات، فضلاً عن كونه مرجعاً ثرياً للمعلومات، ولذلك نال جائزة أبوظبي العام 2015.

وظل هذا الدبلوماسي ينادي بقيم المجتمع المدني وتنشيط مؤسساته وتعزيز سلطة القضاء المستقل، رافضاً الطائفية وداعياً لترسيخ المواطنة التي يشعر فيها العراقيون جميعاً بأنهم متساوون في الحقوق والواجبات.

يروي عدنان مزاحم الباجه جي عن والده أنه ولد سنة 1890 في البغيلة (النعمانية الآن)، حسبما يوضح في مؤلَّفه «مزاحم الباجه جي.. سيرة سياسية»، إذ ينتمي والده إلى قبيلة عبده المتفرعة من عشيرة شمر، وأمه تنحدر من عشيرة البوسلطان، «وكان مزاحم يعتز كثيراً بأخواله البوسلطان، ويفاخر بجذوره العربية الأصيلة من هذه القبيلة الشهيرة».

ومزاحم الباجه جي من أولئك الأوائل الذين تحملوا أعباء البناء الأول للعراق وسياسته الداخلية والخارجية، فعلى الرغم من أن عائلة الباجه جي تعد من العوائل البغدادية الثرية والمترفة والمعروفة، فإن هذا الرجل لم يكن محظوظاً في بداية نشأته، فقد أكمل دراسته الثانوية سنة 1907، وفي نفس العام توفيت والدته، ووقع أبوه في فراش المرض، فسافر إلى إسطنبول ليلتحق بعد عام من وصوله بكلية الحقوق هناك برعاية ابن عم والده هناك.

قبل ذهابه إلى إسطنبول، بدأ الفتى ذو الأعوام الـ15 يؤمن بالفكرة العربية باعتبارها الطريق الذي سيحرر العرب من الحكم العثماني (التركي)، إذ يقول عدنان عن والده: «كان قبل أن يكتشف انتماءه القومي العربي يدين بالولاء للسلطان العثماني باعتباره خليفة المسلمين، ولكن ابن عمته حمدي الباجه جي الذي كان يكبره بخمس سنوات كان يبشر بالقومية العربية، ويعلن أن العراق جزء لا يتجزأ من الأمة العربية، وأن من حق العرب أن يتخلصوا من الحكم العثماني وينالوا حريتهم واستقلالهم، وقد أثرت هذه الآراء تأثيراً عميقاً على والده (مزاحم) وأصبح منذ ذلك الوقت وحتى وفاته بعد ما يقرب الـ75 عاماً مؤمنا إيماناً لا يتزعزع بوحدة الأمة العربية».

في أبريل 1909 تم خلع السلطان عبدالحميد، فسيطرت جمعية الاتحاد والترقي التي يتزعمها أتراك متشبعون بالفكرة التركية الطورانية على الإمبراطورية العثمانية وكان هدفها تتريك جميع العناصر غير التركية، ومن ضمنهم العرب بالدرجة الأولى، وصهرها في القومية التركية، وكانت ردة الفعل العربية قوية، جاءت من خلال الجمعيات العربية السياسية السرية، وأخرى معلنة بلباس ثقافي في الظاهر وسياسي في السر.

وكان مزاحم الباجه جي يتعاون مع الشبان الذين كانوا يشاركونه في العقيدة، فانضم في إسطنبول إلى المنتدى الأدبي الذي كان يرأسه عبدالكريم قاسم الخليل (من عائلة الخليل المعروفة في صور بلبنان)، وهو أول الشهداء الذين أعدمهم الأتراك خلال الحرب العالمية الأولى، وأصبح مزاحم سكرتير النادي وعضو هيئته الإدارية، وكان من أعضائه الشهداء صالح حيدر ورفيق سلوم وسيف الدين الخطيب الذين أعدمهم جمال باشا سنة 1916، وكذلك جميل الحسيني ورياض الصلح، أول رئيس وزراء في لبنان بعد نيله الاستقلال عام 1943.

عاد مزاحم الباجه جي سنة 1911 إلى بغداد بسبب اشتداد المرض على والده، وقبل أن يتم دراسة الحقوق، حيث مات الأب تاركاً له إرثاً يقدر بـ10 ليرات ذهبية أنفقها على تكاليف الجنازة والدفن، لكن هذا لم يثنِه عن إكمال دراسته في كلية الحقوق ببغداد التي أنشأها والي بغداد ناظم باشا عام 1910.

عدنان الباجه جي غالبا ما كان يؤكد، وفي أكثر من مرة وموقع، نهجه القومي العربي وتمسكه بمشروع الوحدة العربية، وبانتمائه الأصيل إلى العراق، فمن الواضح أنه سار من حيث يدري على نهج والده، حتى أنه عندما عاد إلى بغداد بعد نحو أربعة عقود، مترئساً تجمعه «الديموقراطيين المستقلين»، أصدر جريدة سياسية يومية رصينة حملت اسم «النهضة» كان سيكتب لها أن تكون إضافة في تاريخ الصحافة العراقية لولا توقفها بسبب الأوضاع السائدة وشح الموارد المالية.