سُطرت على رمالها الذهبية صفحات التاريخ.. رسمت أنامل سكانها نقوشاً حجرية لتشكل متحفاً حياً يروي حكايات وأسرار حضارات قديمة مرت على أرض الجزيرة العربية.
شكّل موقعها الإستراتيجي في سالف العصر جسراً حضارياً بين الشرق والغرب، بوصفها إحدى محطات قوافل «طريق البخور».. لتغير مفهوم الصحراء وتحولها إلى ملتقى للحوار الثقافي والحضاري والنهضة العمرانية.. أبهجت زوارها بمهرجانات وفعاليات محفوفة بالمتعة والإثارة.. إنها العُلا.
الموقع
تقع العُلا في الجزء الشمالي الغربي من المملكة، وهي إحدى محافظات منطقة المدينة المنورة وتبعد عنها باتجاه الشمال 300 كم، تبلغ مساحتها الطولية 25 كم، وعرضها ما بين 3 إلى 5 كم، تتمتع العُلا بموقع جغرافي تميز عن غيره من المواقع بتشكيلاته الجبلية المتنوعة وكثبانه الرملية الذهبية، مناخها (قارّي) حار في الصيف، وبارد في الشتاء، وترتفع عن سطح البحر حوالى (700) متر، وتتبع لها ما يقارب (300) قرية، فيما يصل عمر الاستيطان البشري فيها لـ 4000 عام.
رحالة ومستكشون
جذبت منطقة الجزيرة العربية الكثير من الرحالة والمستكشفين من غير العرب الذين تكبدوا عناء السفر منذ أكثر من 100 عام لزيارتها، من أجل دراسة تراثها القديم وآثارها الموغلة في القدم، كـ«مدائن صالح» التي تعود إلى 300 سنة قبل الميلاد، ووصفها المؤرخون بأنها مرآة حضارات العالم القديم في الجزيرة العربية.
زار الرحالة الفرنسيان «أنطوان جوسن» و«رفائيل سافينياك»، مدائن صالح عام 1907م، واستكشفا النقوش: «النبطية»، و«المعينية» و«اللحيانية» و«الثمودية» التي وجدت في البيوت المنحوتة على جبالها، وعملا على تحليلها وترجمتها إلى معانِ معروفة، فضلاً عن تقديم وصف شامل لآثار موطن «الأنباط» المعروف بـ«الحِجر» عند المؤرخين والجغرافيين العرب.
ولم تقتصر رحلة «جوسن وسافينياك» على البحث عن الآثار البائدة بل درساها بعمق بحسب مركز الملك سلمان لدراسات تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها في جامعة الملك سعود، حيث زارا الجزيرة العربية ثلاث مرات أولها عام 1907م ووصلا إلى مدائن صالح، ولم يتمكنا من زيارة «العلا» لكنهما عادا إليها في عامي 1909 و1910م.
وتميز الرحالة الفرنسيان عن غيرهما من الجنسيات الأخرى بشغفهما للتراث القديم، حيث قام المستكشف الفرنسي شارل هوبر برحلتين إلى الجزيرة العربية؛ أولاهما عام 1880م، والثانية عام 1884م، زار خلالهما: الجوف، حائل، جبة، بريدة، تيماء، وخيبر.
كما تشير أيضاً العديد من الدراسات التاريخية إلى أن «العُلا» زارها رحالة مسلمون خلال رحلتهم إلى الحج، ومنهم: ابن بطوطة سنة 726هـ، وعبدالقادر الجزيري الأنصاري سنة 961هـ.
مدائن صالح
مدينة الحِجر أو مدائن صالح، موقع أثري في محافظة العُلا، و«الحِجر» اسم ديار ثمود بوادي القرى بين المدينة المنورة وتبوك، ويقال: الحجر كانت تعرف بمدائن صالح أو قرى صالح. وتقع الحجر على بعد 22 كم شمال شرق مدينة العلا ـ عند دائرة عرض 47ـ26 شمالاً، وخط طول 53ـ37 شرقاً، ويطلق الحجر على هذا المكان منذ أقدم العصور، ويستمد الحجر شهرته التاريخية من موقعه على طريق التجارة القديم الذي يربط جنوب شبه الجزيرة العربية والشام، ومن أصحابه المعروفين بـ«قوم ثمود» الذين جاء القرآن بذكرهم بأنهم لبوا دعوة نبي الله صالح، ثم ارتدوا عن دينهم، وعقروا الناقة التي أرسلها الله لهم آية، فحقّ بذلك العذاب على الكافرين من قوم صالح عليه السّلام.
الحضارتان «اللحيانية» و«النبطية»
بحسب علماء الآثار، سُكنت مدينة «الحِجر» (مدائن صالح) من قبل الثموديين في الألفية الثالثة قبل الميلاد، ومن بعدهم سكنها اللحيانيون في القرن التاسع، وفي القرن الثاني قبل الميلاد احتل الأنباط مدينة «الحِجر»، وأسقطوا دولة بني لحيان واتخذوا من بيوت الحجر معابد ومقابر، وقد نسب الأنباط بناء مدينة «الحِجر» لنفسهم في النقوش التي عثر عليها.
ولكن مدينة «الحِجر» تحتوي على كمية هائلة من النقوش المعينية واللحيانية التي تحتاج لدراسة رموزها وفكها، ومناطق العُلا وديدان والخربية هي آثار لحيانية، وأقدمها ربما يعود إلى 1700 قبل الميلاد حسب الكتابات، وقد دُمر جزء منها بزلزال.
وثبت لدى الباحثين أن الأنباط هم أول من استوطن الحِجر «مدائن صالح»، وقاموا بتعميرها، ويرى الباحثون أن أصل الأنباط من الجزيرة العربية، وذكر المؤرخ ديودور الصقلي أن الأنباط أسسوا مملكة ضخمة امتدت من عاصمتهم البتراء «سلع» شمالاً إلى الحِجر «مدائن صالح» جنوباً، وتظهر بقايا مدائن صالح الأعمال الهندسية الرائعة التي اشتهروا بها، حيث تجد أكثر من 131 قبراً ضخماً منحوتاً على صخور واقفة منفردة، وسط عالم متموج من الرمال، وجزر من صخور الحجر الرملي المتحللة التي تآكلت وتموجت لتصبح أشكالاً منحوتة رائعة.
طريق البخور
تبوأت العُلا موقعاً تجارياً مهماً على طريق القوافل القديم، واحتل موقع «الحِجر» مكاناً إستراتيجياً على طريق التجارة القديم «طريق البخور»، الذي ربط جنوب الجزيرة العربية بشمالها وبالمراكز الحضارية في بلاد الرافدين وبلاد الشام ومصر، حيث كانت العُلا نقطة التقاء وممراً لقوافل التجارة القادمة من أفريقيا وآسيا وجنوب شبه الجزيرة العربية التي تحمل التوابل والعطور والبخور، لذا سميت بـ«طريق البخور»، ولم تكمن أهمية محافظة العُلا في وجود «مدائن صالح» وطرق القوافل التجارية وحسب، بل يوجد في القرية التراثية مسجد بناه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالحجارة، وخط محرابه بعظم، فأطلق عليه مسجد «العظام»، ويحيط بالقرية من ثلاثة اتجاهات عدد من الحقول، ومزارع النخيل، والحمضيات، والفواكه، كما تميزت أرض العلا بتربة خصبة صالحة للزراعة، ووفرة كبيرة من المياه العذبة التي تنبع من 35 عينًا جوفية، وفقًا لما ذكرت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني في عدة تقارير لها.
الهيئة الملكية
في ظل رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان جرى تأسيس هيئة مستقلة لمحافظة العُلا، بمسمى «الهيئة الملكية لمحافظة العلا»، وتعكس الهيئة أهمية تطوير محافظة العلا على نحو يتناسب مع قيمتها التاريخية، وما تشتمل عليه من مواقع أثرية، بما يحقق المصلحة الاقتصادية والثقافية المتوخاة، والأهداف التي قامت عليها رؤية المملكة 2030.
وتعمل الهيئة الملكية على تنشيط المنطقة وحمايتها والمحافظة على تفاصيلها على المدى الطويل، وذلك من خلال إحداث تحول جذري ومستدام بمشاركة سكان المنطقة، يسهم في تعزيز السياحة الداخلية والخارجية، والتعرف على ثقافات عالمية متنوعة.
وجلبت الهيئة لمحافظة العُلا عدداً من المطاعم والنزل العالمية بين أوديتها وجبالها، صممت وفق أحدث المقاييس الهندسية مع الحفاظ على أدق تفاصيل الطبيعة الخلابة إلى جانب تطوير وتدريب أبناء وبنات المحافظة من خلال برامج الابتعاث لدراسة تخصصات السياحة والضيافة، والتاريخ، وعلوم الآثار، والفنون وتاريخ الفنون، وتطوير المتاحف، والتصميم الحضري والعمراني، والتخطيط البيئي، والتقنيات الزراعية، وإدارة المرافق والخدمات في أكبر وأهم الجامعات والمعاهد العالمية. فيما تهدف الهيئة إلى استقطاب مليوني زائر سنوياً بحلول عام 2035، وتوفير 38 ألف فرصة عمل جديدة.
شتاء طنطورة
استطاعت المملكة أن تكشف عن كنوز العلا للزوار والسياح عبر برامج تسويقية مختلفة، عززت من حضوره على مختلف الأصعدة، شملت المؤتمرات والملتقيات والمنتديات العالمية، ومنها «شتاء طنطورة»، وهو مهرجان عالمي يسلط الضوء على الفنون والثقافة والتاريخ والتراث في محافظة العُلا، جذبت فعالياته السياح والزوار من مختلف دول العالم والاستمتاع بالعروض الفنية والثقافة والمغامرات، ليستضيف عدداً من الفعاليات العالمية، منها أول بطولة في العالم لبولو الصحراء، وعدد من المعارض الفنية التي أقيمت في الهواء الطلق كمعرض «ديزرت إكس العلا»، الذي تأسس لربط المجتمعات والثقافات الصحراوية من خلال الفن المعاصر، بالإضافة إلى سباقات الفروسية ورالي العلا والمناطيد، وعدد كبير من الفعاليات الثقافية والفنية والموسيقية والرياضية المختلفة. ودعم الحضور الناجح الخطوات التي انتهجتها المملكة مؤخرا لدعم قطاع السياحة، من استقبال السياح عالمياً، منها إطلاق التأشيرة السياحية الإلكترونية، وخدمات الحجز وتحديد مدة الرحلة السياحية وغيرها من الخدمات الأخرى.
مسرح مرايا
وثّقت موسوعة غينيس للأرقام القياسية مسرح مرايا الذي تم إنشاؤه بالعُلا، ضمن قائمتها للأرقام القياسية كأكبر مبنى مغطى بالمرايا في العالم، وأطلق على «مسرح مرايا» هذا الاسم نظرًا لاكتساء واجهته بالمرايا العملاقة لتعكس سحر الطبيعة الخلابة في العلا، وتمت إزاحة الستار عن الواجهة الاستثنائية الجديدة لـ«مسرح مرايا» في حفل خاص أقامته الهيئة الملكية لمحافظة العلا، خلال الموسم الثاني من مهرجان «شتاء طنطورة».
يتسع المسرح لنحو 500 شخص، ويتخذ تصميم «مسرح مرايا» الذي يقع في وادي عشار بالقرب من سفح حرة عويرض البركانية، المزود بأحدث النظم الصوتية المسرحية والأوبرالية، شكلاً مكعباً، تغطي جدرانه الخارجية المرايا بشكل كامل، ليكون امتداداً معماريا لطبيعة العلا الساحرة، في حين تبلغ مساحة واجهة المسرح الخارجية 9740 متراً مربعاً من المرايا.
شجرة اللبان العربي
هي شجرة «البيرغرينا» تنتمي إلى عائلة نباتات «المورينغا»، وتستخدم زيوتها في الصناعات الطبية كمواد معطرة ومطهرة وكذلك في صناعات العطور ومساحيق التجميل.
وتعمل هيئة العُلا على تنمية زراعتها مع المزارعين المحليين، كذلك قامت الهيئة بالتعاون معهم لشراء وعصر 2500 كجم من بذور «البيرغرينا»، وذلك خلال موسم الحصاد الحالي، بغرض إرسال الزيت المستخرج إلى مختبرات عالمية متخصصة في اختبار الجودة والبدء في تسويقها دولياً، لتصبح إحدى دعائم الاقتصاد المحلي في العُلا.
هذا ولا تزال للعُلا أسرار تضرب في عمق التاريخ، جمال صحرائها ونقاء نسماتها العليلة غذاء للروح.. أما محاكاة الممالك والحضارات التي مرت من هناك فهي حكاية أخرى.
* مشاريع الهيئة الملكية في العُلا:
منتجع الشرعان
محمية الشرعان
برنامج حماية
برنامج الابتعاث الدولي
الصندوق العالمي لحماية النمر العربي
محمية شرعان
أطلق ولي العھد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع رئيس مجلس إدارة الھيئة الملكية لمحافظة العُلا الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، محمية شرعان الطبيعية في محافظة العُلا عام 2019م، كجزء من سلسلة من المشاريع الإستراتيجية الرئيسية التي تقوم بھا الھيئة الملكية لمحافظة العُلا.
وضعت محمية شرعان الطبيعية، معياراً جديداً في المنطقـة لإعادة التوازن بين النظم البيئية، ويركز تطوير المحمية الطبيعية على إعادة تأھيل النظام البيئـي الطبيعـي، وإعادة توطين الأنواع الأصيلة فـي المنطقـة، وتطوير الغطاء النباتي عن طريق زراعة أشجار «الأكاسيا» الأصيلة، وإطلاق الأنواع البرية فـي المحمية طبقاً للمقـاييس العالمية، وتحديداً وفقاً لإرشادات الاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة.
كما تم إنشاء أكبر صندوق عالمي من نوعه لحماية النمر العربـي باسـم: «الصندوق العالمي لحماية النمر العربي»، إذ سيمكّن ھذا المشروع من إعادة توطين النمر العربي في المنطقة مستقبلاً. وخلال إطلاق المحمية، تم إطلاق 10 وعـول، و10 مـن طيـور النعام أحمر الرقبة، و20 غزالاً.