-A +A
إعداد: محمد المشرعي mmashraee2@
الشعر عند العرب لم يكن قولاً عابراً، بل كان فضاءً واسعاً يعبر فيه العربيّ عن أحاسيسه، فيرسمها في لوحة رسامٍ، كأن من يقرأها أو يسمع بها، يعيش تفاصيلها، يعتز به أهله ويفتخرون بكل ما فيه، من الشعراء: همّام بن غالب بن صعصعة بن ناجية التميمي الدارمي، لقّب بالفرزدق لضخامة وتجهم وجهه، ولد في البصرة سنة 20هـ.يعد من كبار الشعراء العرب، شهد على نبوغه الحطيئة عندما سمع من الفرزدق بعض أشعاره، وكان الفرزدق ما زال شاباً، فقال له: «هذا والله الشعر لا ما تعلل به نفسك منذ اليوم، يا غلام أدركتَ مَن قَبلك، وسبقتَ مَن بَعدك». لم يدع باباً في الشعر إلا وطرقه، وقيل عنه «لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب ونصف أخبار الناس». اشتهر الفرزدق بعدائه مع جرير، حيث تبادلا قصائد الهجاء طويلاً فيما يعرف بشعر النقائض، إلا أن جرير رثاه بعد وفاته. للفرزدق قصة شهيرة حين حج الخليفة هشام بن عبدالملك، وعندما طاف لم يتمكن من الوصول إلى الحجر الأسود من كثرة ازدحام الناس، وأقبل الإمام زين العابدين فطاف بالبيت، فلما وصل إلى الحجر، تنحى الناس عن الحجر هيبة وإجلالاً له، فقال رجل لهشام، من هذا الرجل؟ فقال هشام: لا أعرفه؟ وكان الفرزدق حاضراً، فقال: أنا أعرفه، ثم أنشد قصيدته الميمية:

هَذا الذي تَعرِفُ البَطْحاءُ وَطْأتَه وَالبَيْتُ يعْرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ


توفي في البصرة سنة 110 للهجرة عن عمر ناهز 91 عاماً، ومن شعره:

أبَى الحُزْنُ أنْ أسْلَى بَنّي وَسَوْرَةٌ

أرَاهَا إذا الأيْدِي تَلاقَتْ غِضَابُهَا

وَما ابْنَايَ إلاّ مِثْلُ مَنْ قَد أصَابَهُ

حِبَالُ المَنَايَا مَرُّهَا واشْتِعَابُهَا

ثَوَى ابْنَايَ في بَيْتيْ مُقَامٍ كِلاهُمَا

أخِلّتُهُ عَنّي بَطِيءٌ ذَهَابُهَا

وَمَحْفُورَة لا مَاءَ فيهَا مَهيبَة

يُغَطّى بأعْوَاد المَنيّة نَابُهَا

أنَاخَ إلَيْهَا ابْنايَ ضَيْفَيْ مَقامَةٍ،

إلى عُصْبَةٍ مَا تُسْتَعَارُ ثِيَابُهَا

فَلَمْ أرَ حَيّاً قَدْ أتى دونَ نَفسِهِ

منَ الأرْضِ جُولا هُوّةٍ وَتُرَابُهَا

مِنَ النّاسِ إلاّ أنّ نَفْسِي تَعَلّقَتْ

إلى أجَلٍ حَتى يَجِيءَ مُصَابُهَا

وَكانُوا همُ المالَ الذي لا أبِيعُهُ،

وَدِرْعي إذا ما الحَرْبُ هَرّتْ كلابُهَا

وَكَمْ قاتلٍ للجُوعِ قَد كانَ منهمُ،

وَمِنْ حَيّةٍ قَدْ كانَ سُمّاً لُعَابُهَا

إذا ذُكِرَتْ أسْمَاؤهُمْ أوْ دُعُوا بها

تَكَادُ حَيَازِيمي تفَرّى صِلابُهَا

وَكنتُ بِهمْ كاللّيثِ في خِيسِ غابةٍ

أبَى ضَارَعاتٍ كانَ يُرْجَى نُشابُهَا

وَكُنْتُ وَإشْرَافي عَلَيْهِمْ وَما أرَى

لِنَفْسِيَ إذْ هُمْ في فُؤادِي لُبَابُهَا

كَرَاكِزِ أرْمَاحٍ تُجُزِّعْنَ بَعدَما

أُقِيمَتْ حَوَانِيهَا وَسُنّتْ حِرَابُهَا

إذا ذَكَرَتْ عَيْني الّذِينَ هُمُ لهَا

قَذىً هيجَ منها للبكاءِ انْسِكابُهَا

بَني الأرْضِ قد كانُوا بَنيّ فعَزّني

عَلَيْهِمْ، لآجَالِ المَنَايَا كِتَابُهَا

وَلوْلا الّذِي للأرْضِ ما ذَهَبَتْ بهم

وَلمّا تَفَلّلْ بِالسّيُوفِ حِرَابُهَا

وَكَائِنْ أصَابَتْ مُؤمِناً مِنْ مُصِيبةٍ

على الله عُقْبَاهَا، وَمِنْهُ ثَوابُهَا

هَجَرْنَا بُيُوتاً، أنْ تُزارَ، وَأهْلُها

عَزِيزٌ عَلَيْنا، يا نَوارُ، اجْتِنَابُهَا

وَداعٍ عَليّ الله لَوْ مِتُّ قَدْ رَأى

بِدَعْوَتِهِ مَا يَتّقي لَوْ يُجَابُهَا

وَمِنْ مُتَمَنٍّ أنْ أمُوتَ وَقد بَنَتْ

حَيَاتي لَهُ شُمّاً عِظَاماً قِبَابُهَا