-A +A
إعداد: فهد البندر fahadalbandar@
الشعر عند العرب لم يكن قولاً عابراً، بل كان فضاءً واسعاً يعبر فيه العربيّ عن أحاسيسه، فيرسمها في لوحة رسامٍ، كأن من يقرأها أو يسمع بها، يعيش تفاصيلها، تملؤها الحكمة الأخّاذة، والأخلاق السامية الرفيعة، يعتز به أهله ويفتخرون بكل ما فيه، وإن شابته بعض الشوائب لا تعكر صفوه الجميل، ومن الشعراء: عمر بن عبدالله بن أبي ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر المخزومي القرشي، لُقِّب بالعاشق لكثرة الغزل في شعره، وبالمغيريّ نسبة إلى جده، يكنى أبا الخطَّاب، وأبا حفص، وأبا بشر، لأنه كما قيل وُلد ليلة مقتل عمر بن الخطاب، وقيل عن هذا الحدث فيما بعد: زهق الحق وظهر الباطل بالنظر إلى شعرِه الغزليّ! وهو أحد شعراء العصر الأموي، ويعد زعيم فن الغزل في زمانه، وأرقّ شعراء عصره، وهو من طبقة جرير والفرزدق، وصُنّف على أنه لم يكن في قريش كلّها أشعر منه، ولد بمكة المكرمة عام ٢٣هـ، وتوفي سنة ٩٣هـ، يقول:

قِف بِالدِيارِ عَفا مِن أَهلِها الأَثَرُ


عَفّى مَعالِمَها الأَرواحُ وَالمَطَرُ

بِالعَرصَتَينِ فَمَجرى السَيلِ بَينَهُما

إِلى القَرينِ إِلى ما دونَهُ البُسُرُ

تَبدو لِعَينَيكَ مِنها كُلَّما نَظَرَت

مَعاهِدُ الحَيِّ دَوداةٌ وَمُحتَضَرُ

وَرُكَّدٌ حَولَ كابٍ قَد عَكَفنَ بِهِ

وَزَينَةٌ ماثِلٌ مِنهُ وَمُنعَفِرُ

مَنازِلُ الحَيِّ أَقوَت بَعدَ ساكِنِها

أَمسَت تَرودُ بِها الغِزلانُ وَالبَقَرُ

تَبَدَّلوا بَعدَها داراً وَغَيَّرَها

صَرفُ الزَمانِ وَفي تَكرارِهِ غِيَرُ

وَقَفتُ فيها طَويلاً كَي أُسائِلَها

وَالدارُ لَيسَ لَها عِلمٌ وَلا خَبَرُ

دارُ الَّتي قادَني حَينٌ لِرُؤيَتِها

وَقَد يَقودُ إِلى الحَينِ الفَتى القَدَرُ

خَودٌ تُضيءُ ظَلامَ البَيتِ صورَتُها

كَما يُضيءُ ظَلامَ الحِندِسِ القَمَرُ

مَجدولَةُ الخَلقِ لَم توضَع مَناكِبُها

مِلءُ العِناقِ أَلوفٌ جَيبُها عَطِرُ

مَمكورَةُ الساقِ مَقصومٌ خَلاخِلُها

فَمُشبَعٌ نَشِبٌ مِنها وَمُنكَسِرُ

هَيفاءُ لَفّاءُ مَصقولٌ عَوارِضُها

تَكادُ مِن ثِقَلِ الأَردافِ تَنبَتِرُ

تَفتَرُّ عَن واضِحِ الأَنيابِ مُتَّسِقٍ

عَذبِ المُقَبَّلِ مَصقولٍ لَهُ أُشُرُ

كَالمِسكِ شَيبَ بِذَوبِ النَحلِ يَخلِطُهُ

ثَلجٌ بِصَهباءَ مِمّا عَتَّقَت جَدَرُ

تِلكَ الَّتي سَلَبَتني العَقلَ وَاِمتَنَعَت

وَالغانِياتُ وَإِن واصَلنَنا غُدُرُ

قَد كُنتُ في مَعزِلٍ عَنها فَقَيَّضَني

لِلحَينِ حِينَ دَعاني لِلشَفا النَظَرُ

إِنّي وَمَن أَعمَلَ الحُجّاجُ خَيفَتَهُ

خَوصَ المَطايا وَما حَجّوا وَما اِعتَمَروا

لا أَصرِفُ الدَهرَ وُدّي عَنكِ أَمنَحُهُ

أُخرى أُواصِلُها ما أَورَقَ الشَجَرُ

أَنتِ المُنى وَحَديثُ النَفسِ خالِيَةً

وَفي الجَميعِ وَأَنتِ السَمعُ وَالبَصَرُ

يا لَيتَ مَن لامَنا في الحُبِّ مَرَّ بِهِ

مِمّا نُلاقي وَإِن لَم نُحصِهِ العُشُرُ

حَتّى يَذوقَ كَما ذُقنا فَيَمنَعَهُ

مِمّا يَلِذُّ حَديثُ النَفسِ وَالسَهَرُ

دَسَّت إِلَيَّ رَسولاً لا تَكُن فَرِقاً

وَاِحذَر وُقيتَ وَأَمرُ الحازِمِ الحَذَرُ

إِنّي سَمِعتُ رِجالاً مِن ذَوي رَحِمي

هُمُ العَدُوُّ بِظَهرِ الغَيبِ قَد نَذَروا

أَن يَقتُلوكَ وَقاكَ القَتلَ قادِرُهُ

وَاللَهُ جارَكَ مِمّا أَجمَعَ النَفَرُ

السِرُّ يَكتُمُهُ الاثنانِ بَينَهُما

وَكُلُّ سِرٍّ عَدا الاثنَينِ مُنتَشِرُ

وَالمَرءُ إِن هُوَ لَم يَرقُب بِصَبوَتِهِ

لَمحَ العُيونِ بِسوءِ الظَنِّ يَشتَهِر