هذه شخصية سعودية عصامية بمعنى الكلمة حيّرت كل من عرفها أو قرأ عنها، لجهة صبره على الفاقة والعوز وقلة الحيلة، ولجهة مثابرته ومعاناته من أجل تحسين ظروفه المعيشية وإثبات ذاته حتى قيض الله له أن يلتحق بالعمل الحكومي برتبة جندي، وصولا إلى منصب قائد الحرس الملكي برتبة فريق أول، ومن ثمّ التقاعد، وتقلد وظيفة مستشار في الديوان الملكي برتبة وزير، ليبدأ بعد ذلك مشوارا مختلفا قلما سار عليه نظراؤه من العسكريين المتقاعدين، وهو مشوار البذل والعطاء في دروب الخير والبر والإحسان، بناء للمساجد والمدارس ودور الأيتام ومآوي الأرامل والعجزة، ومشافي غسل الكلى ومراكز تأهيل المعاقين، وتوزيع للصدقات على المعوزين والمشردين، وتفقد لحاجات المستضعفين من رجال ونساء وأطفال.
والحقيقة أن تجربة الرجل مع العطاء والبذل، كما كتب الزميل بدر الخريف في صحيفة الشرق الأوسط (26 /9 /2008): «تحتاج إلى محلل نفسي أو راصد اجتماعي لأنها تجربة تطرح تساؤلات عن الباعث والمحرك الأعمق لمثل هذه التجربة والمواقف التي هي أقرب للأسطورة منها إلى الحقيقة في زمن غابت فيه مثل هذه المبادرات بل وأصبحت شبه مستحيلة، فهو قد نجح مع قلة في العالم في تثبيت صور التضحية والإيثار والبذل والعطاء بلا حدود، بلا ضوابط، بلا وجل أو خوف وبلا مِنّة، وبعيدا عن الضوضاء. إنه يكرر في وجدانه صوراً مُثلى عن العمل الخيري في كل مكان من كشمير شرقاً إلى الصحراء الكبرى غرباً مروراً بجبال السروات وطويق وصعيد مصر وجبال أطلس وقاسيون والنيل الأبيض».
ولد الفريق أول عبدالله بن راشد البصيلي سنة 1922 بمدينة البكيرية في منطقة القصيم، وتوفي في الثلاثين من يوليو 2011 عن عمر ناهز التسعين. وما بين الميلاد والرحيل شهدت حياته تقلبات وتنقلات مثيرة صنعت منه في نهاية المطاف شخصية من طراز رفيع ذي حضور إنساني ملموس ومكانة اجتماعية مرموقة.
في سن السادسة عشرة يقرر الفتى البكيراوي الحالم بالخروج من أسر القرية والبيت الطيني المتهالك والحياة الرتيبة ومطاوعة الكتاتيب أن يتمرد على أوضاعه هذه، فيحزم ملابسه الرثة ومتاعه البسيط في كيس من القماش ويتسلل بها من دار أهله الكبيرة التي كانت تضم والده وأعمامه الأربعة مع عائلاتهم المكونة من 25 فردا ما بين نساء ورجال وفتيان وبنات، دون أن يخبر أحدا بعزمه على الذهاب إلى الرياض بحثا عن عمل ومستقبل أفضل من البقاء في حدود البكيرية، ومنزل طيني محدود المساحة، وطعام مقتصر على التمر والقرصان والمرقوق والجريش، وعمل طيلة النهار في فلاحة الأرض.
الرحلة إلى الرياض
لم يكن الوصول إلى الرياض في ذلك الزمن، رغم قربها النسبي من البكيرية، أمرا سهلا. فوسيلة النقل كانت سيارات الشحن، وأجرة السفر كانت ريالين لمن يريد الجلوس في كابينة القيادة، وريالا ونصف الريال للجلوس في صندوق الشاحنة مع الأمتعة والبضائع. اضطر الفتى أن يجلس في الصندوق لأن نقوده كانت قليلة جدا. وهكذا وصل إلى الرياض بعد رحلة استغرقت 30 ساعة اضطر خلالها أن يجاور حمولة من الحطب وأن يتوسد لفافة حاجياته، محاولا النوم والاسترخاء لكن دون جدوى. لقد وصل إلى محطة تحقيق أحلام لطالما داعبت مخيلته. وصلها وهو لا يملك من حطام الدنيا سوى حاجياته البسيطة التافهة وبضعة ريالات، ومبادئ في القراءة، ومحفوظات من قصار السور لقنه إياها مطوع القرية عبدالرحمن السالم الذي كثيرا ما عاقبه بالفلقة.
وما إن وصل إلى الرياض حتى اكتشف أنها لا تختلف كثيرا عن مسقط رأسه، فمنازلها كانت وقتذاك طينية وناسها كما الناس في قريته، وكذا الطعام والطقس. غير أن الاختلاف الذي سرعان ما لاحظه هو أن شوارع الرياض كانت أكثر اتساعا، وأزقتها أكثر حركة، وأسواقها أكثر صخبا وازدحاما، وبضائعا أكثر تنوعا.
أولاً.. البحث عن عمل
لم يضيع البصيلي وقته في البحث عن سكن في الرياض مثلما اعتاد كل من يصل إليها من خارجها. بدلا من ذلك راح على الفور يبحث عن عمل يقتات منه ويفتح أمامه سبل الارتقاء بالذات. طرق أبواب المتاجر والمنازل والمزارع، لكن الإجابة كانت واحدة «لا شواغر». بعضهم قالها بأدب والبعض الآخر قالها بجفاء. أما الأعذار فتراوحت ما بين كساد السوق الذي لا يسمح بالتوظيف أو صغر سن البصيلي آنذاك، وبالتالي الخشية من عدم تحمله للمهام التي قد توكل إليه. لم ييأس الفتى البكيراوي، فتشاور مع أخيه محمد الذي كان يعمل حارسا في قصر المصمك، ومع بعض أصدقاء الأخير حول الخيارات الوظيفية المتاحة والمناسبة له. فاكتشف أن المتاح لا يتعدى بعض المهن الحرفية التي لا يجيدها، إضافة إلى العسكرية. تأمل البصيلي وفكر كثيرا وهرش رأسه مرارا ولم ينم في تلك الليلة. لكن ما إن بزغت شمس اليوم التالي إلا وكان قد اتخذ قرارا لا رجعة فيه هو الانضمام إلى الجهاز العسكري.
تاريخ الحرس الملكي
وهكذا توجه إلى مقر الحرس الملكي الذي كان اسمه مرتبطا بالعظمة والوجاهة، ومقره باعثا على الرهبة. كان الزمن آنذاك زمن الملك المؤسس عبدالعزيز طيب الله ثراه. وقبل أن نستطرد في الحديث، من المفيد أن نذكر شيئا عن هذا الجهاز العسكري، المكلف بتأمين الحراسة للملك وولي عهده وكبار ضيوف البلاد والقصور والدواوين الملكية. لقد مرّ الحرس الملكي في السعودية بثلاث مراحل رئيسية في تاريخه. ففي المرحلة الأولى، التي بدأت بإتمام توحيد البلاد السعودية، لم يكن هناك تشكيل بهذا الاسم وإنما كانت هناك قوة من الجيش تقوم بأعمال الحرس الملكي تحت اسم القوة الشرقية. وفي المرحلة الثانية تمّ رسميا تشكيل لواء باسم لواء الحرس الملكي مرتبط بوزارة الدفاع والطيران، ثم تمّ فصله عن وزارة الدفاع وألحق بـ«إمارة القصور والحرس الملكي»، قبل أن يُعاد ربطه مجددا بوزارة الدفاع، وانتهت هذه المرحلة في سنة 1964 بدمج الحرس الملكي بالجيش تحت مسمى «اللواء الرابع». أما المرحلة الثالثة فقد بدأت بتكوين الحرس الملكي من بعض قوات اللواء الرابع الموجودة في الرياض وجدة والمرتبطة برئاسة الأركان بوزارة الدفاع والطيران، وربطها بالقوات البرية. وفي عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز صدر الأمر السامي بدمج اللواء الخاص في الحرس الوطني مع الحرس الملكي في جهاز واحد تحت اسم «قيادة الحرس الملكي».
البداية «عريف»
وليس «جندي»
يوم أن ذهب البصيلي إلى قيادة الحرس الملكي باحثا عن عمل، كان قائد الجهاز هو «سعيد جودت»، أحد العسكريين الذين وضعوا نواة الجيش العربي السعودي إلى جانب آخرين من أمثال جعفر الطيار وسعيد كردي وأحمد بدوي ومحسن الحارثي وإبراهيم الطاسان وخالد علمدار وغيرهم ممن كان مقر قيادتهم في مكة المكرمة. ومن بعد أن عمل جودت لسنوات في حراسة الملك عبدالعزيز خلال موسم الحج وأثناء مكوث جلالته في الحجاز، تمّ نقله بأمر الملك في أواخر الثلاثينات الميلادية إلى الرياض لقيادة الحرس الملكي والدفاع عن العاصمة، حيث اتخذ من قصر عبدالله الشبيلي مقرا في بادئ الأمر، وقام بفتح باب التجنيد أمام الراغبين في العمل بالسلك العسكري.
قدم الفتى البصيلي طلبه إلى سعيد جودت شفاهة، طالبا العمل كعسكري، لكن الأخير رده بسبب صغر سنه، وما إن راح الفتى يخطو بخطوات متثاقلة ونفس كسيرة نحو باب الخروج، إلا وجودت يناديه ويطرح عليه بعض الأسئلة التي انتهت بقبوله وتسجيله وإلحاقه على الفور بمهاجع الجنود وإخضاعه لدورة تدريبية مكثفة ابتداء من اليوم التالي.
ومن المفارقات التي حدثت له بـُعيد استقراره في مهاجع الجنود، أن قائد سريته الضابط سعيد العمري أبلغه بمنحه رتبة عريف بدلا من جندي بسبب إجادته للقراءة والكتابة، لكنه رفض وأصر على أن يكون جنديا خوفا من تعدد المسئوليات، وكي لا يتورط في إدارة الآخرين وإصدار الأوامر إليهم. ولأن عقوبة من يخالف أوامر رؤسائه الأرفع منه رتبة في العمل العسكري هو الإيقاف، فقد تمّ إيقافه وإيداعه السجن الذي لم يخرج منه إلا بعد أن صرخ من داخل سجنه موافقا على تقلد رتبة العريف.
وتمضي الأيام بصاحبنا وهو يجتهد ويحاول أن يواجه أعباء العسكرية بالانضباط والمناقبية المفترضة ليأتي عقد الأربعينات الذي تمّ في مطلعه تكليفه بالذهاب إلى مدينة الخرج كقائد سرية، ثم ذهب بعد ذلك في مهمة مماثلة إلى الطائف، قبل أن تصله أنباء بتعيينه مديرا لأمن المطار التابع لقيادته، حيث نصب خيمة في أرض المطار كمقر وسكن له. بعد نحو عامين من هذه التطورات المهنية في حياة البصيلي صدر أمر بترفيعه إلى رتبة «ملازم ثاني». وقتها فقط شعر الرجل أن بريق النجمة التي تزين كتفيه هي مقدمة لمستقبل واعد وأن الحظ قد ابتسم له أخيرا، لكن دون توقع وصوله ذات يوم إلى قيادة الحرس الملكي وملازمته لخمسة من ملوك بلاده في رحلاتهم الداخلية والخارجية.
وما إنْ اقتربت الأربعينات الميلادية من نهايتها إلا والبصيلي ملتحق بالعمل في الديوان الملكي للملك عبدالعزيز، حيث تدرج في وظائف مختلفة، وفي الوقت نفسه خضع لدورات عسكرية متنوعة في داخل البلاد كان جلها دورات مشاة متقدمة وتأسيسية، بالإضافة إلى دورة عسكرية عالية تعادل دورات كلية القيادة والأركان في وقتنا الحاضر، وكان معه في هذه الدورة الأخيرة 15 ضابطا كلهم برتبة «قائد» فيما كان هو الوحيد برتبة «نقيب»، وكان من بين هؤلاء الضباط الـ 15، الضابط سعيد العمري الذي عاقبه بالسجن في بداية التحاقه بالعسكرية.
متى رأس الحرس الملكي؟
عندما أعيد تشكيل جهاز الحرس الملكي زمن الملك فيصل رحمه الله في منتصف الستينات تقريبا، رشحه الفيصل للذهاب إلى اليمن لرئاسة الجانب السعودي في اللجنة العسكرية المكلفة بإنهاء الحرب في اليمن بين القوات المصرية المساندة للجمهوريين وخصومهم الملكيين، وبالفعل ذهب البصيلي إلى اليمن وأمضى فيها ستة أشهر، وحينما عاد إلى الرياض تمّ ترفيعه إلى رتبة «مقدم» ورشحه الأمير سلطان بن عبدالعزيز وزير الدفاع والطيران آنذاك للملك فيصل كي يتولى قيادة الحرس الملكي بدلا من قائده السابق العميد مرزوق التركي. غير أن الفيصل رفض الاقتراح بحجة أن البصيلي لم يصل بعد إلى الرتبة العسكرية التي تؤهله للمنصب، ناهيك عن أن تعيينه بهذه الطريقة قد تثير أقاويل حول المحاباة، وبعد أخذ ورد بين الفيصل وأخيه الأمير سلطان تمت الموافقة في عام 1966 على ترفيعه إلى رتبة «عميد» وتعيينه قائدا جديدا للحرس الملكي. ومذاك واصل البصيلي عمله قائداً للحرس الملكي في عهد الملك خالد، ثم الملك فهد رحمهما الله، وفي عام 1987 أحيل إلى التقاعد، وعيّن مستشاراً بالديوان الملكي برتبة وزير، ثم تفرغ للأعمال الخيرية المتنوعة إلى أن لقي وجه ربه في عام 2011. وهكذا أسدل الستار على حياة رجل عاصر الملوك عبدالعزيز وسعود وفيصل وخالد وفهد رحمهم الله أجمعين، وخدم وطنه بإخلاص وتفانٍ وجسد نموذجا للإنسان السعودي الذي لا يؤمن بالمستحيل.
الرحلة الخارجية الأولى
قلنا إن البصيلي رافق ملوك بلاده في رحلاتهم الخارجية، لكن البداية كانت مع الملك عبدالعزيز حينما توجه جلالته إلى مصر في رحلة علاجية في الأربعينات، وكان البصيلي وقتها برتبة «وكيل ضابط»، حيث كان شاهدا على اجتماعات مليكه مع الملك فاروق الأول والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت ورئيس الحكومة البريطانية ونستون تشرتشل. كما كان من ضمن الضباط الذين رافقوا الملك سعود إلى الولايات المتحدة سنة 1957، فكانت تلك هي رحلته الأولى إلى بلاد الغرب. أما في ما يخص رحلات الملكين فيصل وخالد فقد رافقهما في جميع رحلاتهما شرقا وغربا. وكذا كان الحال مع الملك فهد حتى عام 1987 وهو العام الذي ترك فيه العمل.
والحقيقة أن تجربة الرجل مع العطاء والبذل، كما كتب الزميل بدر الخريف في صحيفة الشرق الأوسط (26 /9 /2008): «تحتاج إلى محلل نفسي أو راصد اجتماعي لأنها تجربة تطرح تساؤلات عن الباعث والمحرك الأعمق لمثل هذه التجربة والمواقف التي هي أقرب للأسطورة منها إلى الحقيقة في زمن غابت فيه مثل هذه المبادرات بل وأصبحت شبه مستحيلة، فهو قد نجح مع قلة في العالم في تثبيت صور التضحية والإيثار والبذل والعطاء بلا حدود، بلا ضوابط، بلا وجل أو خوف وبلا مِنّة، وبعيدا عن الضوضاء. إنه يكرر في وجدانه صوراً مُثلى عن العمل الخيري في كل مكان من كشمير شرقاً إلى الصحراء الكبرى غرباً مروراً بجبال السروات وطويق وصعيد مصر وجبال أطلس وقاسيون والنيل الأبيض».
ولد الفريق أول عبدالله بن راشد البصيلي سنة 1922 بمدينة البكيرية في منطقة القصيم، وتوفي في الثلاثين من يوليو 2011 عن عمر ناهز التسعين. وما بين الميلاد والرحيل شهدت حياته تقلبات وتنقلات مثيرة صنعت منه في نهاية المطاف شخصية من طراز رفيع ذي حضور إنساني ملموس ومكانة اجتماعية مرموقة.
في سن السادسة عشرة يقرر الفتى البكيراوي الحالم بالخروج من أسر القرية والبيت الطيني المتهالك والحياة الرتيبة ومطاوعة الكتاتيب أن يتمرد على أوضاعه هذه، فيحزم ملابسه الرثة ومتاعه البسيط في كيس من القماش ويتسلل بها من دار أهله الكبيرة التي كانت تضم والده وأعمامه الأربعة مع عائلاتهم المكونة من 25 فردا ما بين نساء ورجال وفتيان وبنات، دون أن يخبر أحدا بعزمه على الذهاب إلى الرياض بحثا عن عمل ومستقبل أفضل من البقاء في حدود البكيرية، ومنزل طيني محدود المساحة، وطعام مقتصر على التمر والقرصان والمرقوق والجريش، وعمل طيلة النهار في فلاحة الأرض.
الرحلة إلى الرياض
لم يكن الوصول إلى الرياض في ذلك الزمن، رغم قربها النسبي من البكيرية، أمرا سهلا. فوسيلة النقل كانت سيارات الشحن، وأجرة السفر كانت ريالين لمن يريد الجلوس في كابينة القيادة، وريالا ونصف الريال للجلوس في صندوق الشاحنة مع الأمتعة والبضائع. اضطر الفتى أن يجلس في الصندوق لأن نقوده كانت قليلة جدا. وهكذا وصل إلى الرياض بعد رحلة استغرقت 30 ساعة اضطر خلالها أن يجاور حمولة من الحطب وأن يتوسد لفافة حاجياته، محاولا النوم والاسترخاء لكن دون جدوى. لقد وصل إلى محطة تحقيق أحلام لطالما داعبت مخيلته. وصلها وهو لا يملك من حطام الدنيا سوى حاجياته البسيطة التافهة وبضعة ريالات، ومبادئ في القراءة، ومحفوظات من قصار السور لقنه إياها مطوع القرية عبدالرحمن السالم الذي كثيرا ما عاقبه بالفلقة.
وما إن وصل إلى الرياض حتى اكتشف أنها لا تختلف كثيرا عن مسقط رأسه، فمنازلها كانت وقتذاك طينية وناسها كما الناس في قريته، وكذا الطعام والطقس. غير أن الاختلاف الذي سرعان ما لاحظه هو أن شوارع الرياض كانت أكثر اتساعا، وأزقتها أكثر حركة، وأسواقها أكثر صخبا وازدحاما، وبضائعا أكثر تنوعا.
أولاً.. البحث عن عمل
لم يضيع البصيلي وقته في البحث عن سكن في الرياض مثلما اعتاد كل من يصل إليها من خارجها. بدلا من ذلك راح على الفور يبحث عن عمل يقتات منه ويفتح أمامه سبل الارتقاء بالذات. طرق أبواب المتاجر والمنازل والمزارع، لكن الإجابة كانت واحدة «لا شواغر». بعضهم قالها بأدب والبعض الآخر قالها بجفاء. أما الأعذار فتراوحت ما بين كساد السوق الذي لا يسمح بالتوظيف أو صغر سن البصيلي آنذاك، وبالتالي الخشية من عدم تحمله للمهام التي قد توكل إليه. لم ييأس الفتى البكيراوي، فتشاور مع أخيه محمد الذي كان يعمل حارسا في قصر المصمك، ومع بعض أصدقاء الأخير حول الخيارات الوظيفية المتاحة والمناسبة له. فاكتشف أن المتاح لا يتعدى بعض المهن الحرفية التي لا يجيدها، إضافة إلى العسكرية. تأمل البصيلي وفكر كثيرا وهرش رأسه مرارا ولم ينم في تلك الليلة. لكن ما إن بزغت شمس اليوم التالي إلا وكان قد اتخذ قرارا لا رجعة فيه هو الانضمام إلى الجهاز العسكري.
تاريخ الحرس الملكي
وهكذا توجه إلى مقر الحرس الملكي الذي كان اسمه مرتبطا بالعظمة والوجاهة، ومقره باعثا على الرهبة. كان الزمن آنذاك زمن الملك المؤسس عبدالعزيز طيب الله ثراه. وقبل أن نستطرد في الحديث، من المفيد أن نذكر شيئا عن هذا الجهاز العسكري، المكلف بتأمين الحراسة للملك وولي عهده وكبار ضيوف البلاد والقصور والدواوين الملكية. لقد مرّ الحرس الملكي في السعودية بثلاث مراحل رئيسية في تاريخه. ففي المرحلة الأولى، التي بدأت بإتمام توحيد البلاد السعودية، لم يكن هناك تشكيل بهذا الاسم وإنما كانت هناك قوة من الجيش تقوم بأعمال الحرس الملكي تحت اسم القوة الشرقية. وفي المرحلة الثانية تمّ رسميا تشكيل لواء باسم لواء الحرس الملكي مرتبط بوزارة الدفاع والطيران، ثم تمّ فصله عن وزارة الدفاع وألحق بـ«إمارة القصور والحرس الملكي»، قبل أن يُعاد ربطه مجددا بوزارة الدفاع، وانتهت هذه المرحلة في سنة 1964 بدمج الحرس الملكي بالجيش تحت مسمى «اللواء الرابع». أما المرحلة الثالثة فقد بدأت بتكوين الحرس الملكي من بعض قوات اللواء الرابع الموجودة في الرياض وجدة والمرتبطة برئاسة الأركان بوزارة الدفاع والطيران، وربطها بالقوات البرية. وفي عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز صدر الأمر السامي بدمج اللواء الخاص في الحرس الوطني مع الحرس الملكي في جهاز واحد تحت اسم «قيادة الحرس الملكي».
البداية «عريف»
وليس «جندي»
يوم أن ذهب البصيلي إلى قيادة الحرس الملكي باحثا عن عمل، كان قائد الجهاز هو «سعيد جودت»، أحد العسكريين الذين وضعوا نواة الجيش العربي السعودي إلى جانب آخرين من أمثال جعفر الطيار وسعيد كردي وأحمد بدوي ومحسن الحارثي وإبراهيم الطاسان وخالد علمدار وغيرهم ممن كان مقر قيادتهم في مكة المكرمة. ومن بعد أن عمل جودت لسنوات في حراسة الملك عبدالعزيز خلال موسم الحج وأثناء مكوث جلالته في الحجاز، تمّ نقله بأمر الملك في أواخر الثلاثينات الميلادية إلى الرياض لقيادة الحرس الملكي والدفاع عن العاصمة، حيث اتخذ من قصر عبدالله الشبيلي مقرا في بادئ الأمر، وقام بفتح باب التجنيد أمام الراغبين في العمل بالسلك العسكري.
قدم الفتى البصيلي طلبه إلى سعيد جودت شفاهة، طالبا العمل كعسكري، لكن الأخير رده بسبب صغر سنه، وما إن راح الفتى يخطو بخطوات متثاقلة ونفس كسيرة نحو باب الخروج، إلا وجودت يناديه ويطرح عليه بعض الأسئلة التي انتهت بقبوله وتسجيله وإلحاقه على الفور بمهاجع الجنود وإخضاعه لدورة تدريبية مكثفة ابتداء من اليوم التالي.
ومن المفارقات التي حدثت له بـُعيد استقراره في مهاجع الجنود، أن قائد سريته الضابط سعيد العمري أبلغه بمنحه رتبة عريف بدلا من جندي بسبب إجادته للقراءة والكتابة، لكنه رفض وأصر على أن يكون جنديا خوفا من تعدد المسئوليات، وكي لا يتورط في إدارة الآخرين وإصدار الأوامر إليهم. ولأن عقوبة من يخالف أوامر رؤسائه الأرفع منه رتبة في العمل العسكري هو الإيقاف، فقد تمّ إيقافه وإيداعه السجن الذي لم يخرج منه إلا بعد أن صرخ من داخل سجنه موافقا على تقلد رتبة العريف.
وتمضي الأيام بصاحبنا وهو يجتهد ويحاول أن يواجه أعباء العسكرية بالانضباط والمناقبية المفترضة ليأتي عقد الأربعينات الذي تمّ في مطلعه تكليفه بالذهاب إلى مدينة الخرج كقائد سرية، ثم ذهب بعد ذلك في مهمة مماثلة إلى الطائف، قبل أن تصله أنباء بتعيينه مديرا لأمن المطار التابع لقيادته، حيث نصب خيمة في أرض المطار كمقر وسكن له. بعد نحو عامين من هذه التطورات المهنية في حياة البصيلي صدر أمر بترفيعه إلى رتبة «ملازم ثاني». وقتها فقط شعر الرجل أن بريق النجمة التي تزين كتفيه هي مقدمة لمستقبل واعد وأن الحظ قد ابتسم له أخيرا، لكن دون توقع وصوله ذات يوم إلى قيادة الحرس الملكي وملازمته لخمسة من ملوك بلاده في رحلاتهم الداخلية والخارجية.
وما إنْ اقتربت الأربعينات الميلادية من نهايتها إلا والبصيلي ملتحق بالعمل في الديوان الملكي للملك عبدالعزيز، حيث تدرج في وظائف مختلفة، وفي الوقت نفسه خضع لدورات عسكرية متنوعة في داخل البلاد كان جلها دورات مشاة متقدمة وتأسيسية، بالإضافة إلى دورة عسكرية عالية تعادل دورات كلية القيادة والأركان في وقتنا الحاضر، وكان معه في هذه الدورة الأخيرة 15 ضابطا كلهم برتبة «قائد» فيما كان هو الوحيد برتبة «نقيب»، وكان من بين هؤلاء الضباط الـ 15، الضابط سعيد العمري الذي عاقبه بالسجن في بداية التحاقه بالعسكرية.
متى رأس الحرس الملكي؟
عندما أعيد تشكيل جهاز الحرس الملكي زمن الملك فيصل رحمه الله في منتصف الستينات تقريبا، رشحه الفيصل للذهاب إلى اليمن لرئاسة الجانب السعودي في اللجنة العسكرية المكلفة بإنهاء الحرب في اليمن بين القوات المصرية المساندة للجمهوريين وخصومهم الملكيين، وبالفعل ذهب البصيلي إلى اليمن وأمضى فيها ستة أشهر، وحينما عاد إلى الرياض تمّ ترفيعه إلى رتبة «مقدم» ورشحه الأمير سلطان بن عبدالعزيز وزير الدفاع والطيران آنذاك للملك فيصل كي يتولى قيادة الحرس الملكي بدلا من قائده السابق العميد مرزوق التركي. غير أن الفيصل رفض الاقتراح بحجة أن البصيلي لم يصل بعد إلى الرتبة العسكرية التي تؤهله للمنصب، ناهيك عن أن تعيينه بهذه الطريقة قد تثير أقاويل حول المحاباة، وبعد أخذ ورد بين الفيصل وأخيه الأمير سلطان تمت الموافقة في عام 1966 على ترفيعه إلى رتبة «عميد» وتعيينه قائدا جديدا للحرس الملكي. ومذاك واصل البصيلي عمله قائداً للحرس الملكي في عهد الملك خالد، ثم الملك فهد رحمهما الله، وفي عام 1987 أحيل إلى التقاعد، وعيّن مستشاراً بالديوان الملكي برتبة وزير، ثم تفرغ للأعمال الخيرية المتنوعة إلى أن لقي وجه ربه في عام 2011. وهكذا أسدل الستار على حياة رجل عاصر الملوك عبدالعزيز وسعود وفيصل وخالد وفهد رحمهم الله أجمعين، وخدم وطنه بإخلاص وتفانٍ وجسد نموذجا للإنسان السعودي الذي لا يؤمن بالمستحيل.
الرحلة الخارجية الأولى
قلنا إن البصيلي رافق ملوك بلاده في رحلاتهم الخارجية، لكن البداية كانت مع الملك عبدالعزيز حينما توجه جلالته إلى مصر في رحلة علاجية في الأربعينات، وكان البصيلي وقتها برتبة «وكيل ضابط»، حيث كان شاهدا على اجتماعات مليكه مع الملك فاروق الأول والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت ورئيس الحكومة البريطانية ونستون تشرتشل. كما كان من ضمن الضباط الذين رافقوا الملك سعود إلى الولايات المتحدة سنة 1957، فكانت تلك هي رحلته الأولى إلى بلاد الغرب. أما في ما يخص رحلات الملكين فيصل وخالد فقد رافقهما في جميع رحلاتهما شرقا وغربا. وكذا كان الحال مع الملك فهد حتى عام 1987 وهو العام الذي ترك فيه العمل.