في تاريخ الأمم والشعوب ثمة فترات سياسية صعبة تتطلب السرية في العمل والنشاط الدبلوماسي، وبالتالي ضرورة أن تُعهد المهمة لشخصيات تتصف بصفات خاصة مثل الولاء والكتمان والذكاء وسرعة البديهة والقدرة على العمل لساعات طويلة ومهارة مخاطبة الآخر باللغة التي يفهمها والجلد على التفاوض والإلمام بقواعد الإقناع.
هذه الصفات والمهارات توفرت في شخص المرحوم الشيخ كمال أدهم، فالتصق اسمه تحديداً بالفترة التي تولى فيها الراحل الكبير الملك فيصل بن عبدالعزيز، رحمه الله، الحكم ما بين عامي 1964 و1975، وهي فترة شهدت أحداثا مفصلية مثل الحرب الأهلية اليمنية، وتأزم العلاقات السعودية - المصرية، وإطلاق فكرة التضامن الإسلامي، وهزيمة يونيو/ حزيران 1967، وانسحاب بريطانيا من شرق السويس، وأزمة أيلول الأسود بين الفصائل الفلسطينية والجيش الأردني، ووفاة الرئيس المصري جمال عبدالناصر وبدء عهد الرئيس أنور السادات، والاستعداد لحرب أكتوبر 1973، واستخدام سلاح النفط في الصراع العربي الإسرائيلي.
ولأن كمال أدهم تولى وقتها إدارة بعض هذه الملفات المهمة في جو من السرية بأمر من الفيصل، وكان يجول في دهاليز السياسة الإقليمية والعربية والدولية، متنقلاً ما بين الرياض والقاهرة وطهران وواشنطن ولندن وغيرها من العواصم، حاملاً الرسائل، أو مُقرباً وجهات النظر، أو طارحاً الأفكار والمبادرات، فقد اعتقد الكثيرون من عامة الناس خطأ أنه يترأس جهاز المخابرات السعودية (الاستخبارات العامة حاليا). وفي هذا السياق، قال الأديب والمستشار ورجل الأعمال وأحد أبرز المؤسسين للعمل الاستخباراتي في السعودية الأستاذ أحمد بن محمد باديب ما مفاده أن الشيخ كمال أدهم كان من أهم رجال الدولة في عصر الملك فيصل بن عبدالعزيز، وكان شديد الذكاء ويعمل بصمت مستشاراً خاصاً لجلالته، لكن لم يثبت رسمياً أنه تولى رئاسة جهاز المخابرات السعودية، ولم يدرج اسمه ضمن رؤساء هذا الجهاز أو حتى العاملين به.
الاسم اللامع في عالم الدبلوماسية والعودة للحكومة
ومع احتدام الحرب الباردة بين العملاقين الأمريكي والسوفياتي في الستينات، وتنامي الاكتشافات البترولية في المنطقة العربية، وما أفرزته هذه التطورات من صراعات وتقلبات سياسية واقتصادية وعسكرية واجتماعية في الشرق الأوسط والعالم العربي، وجد أدهم أن واجبه يحتم عليه أن يكون في خدمة مليكه، جندياً يقدم المشورة وينفذ ما يُطلب منه من مهام خارجية بصمت، مستثمراً علاقاته المتشعبة وحنكته وذكائه واطلاعه الواسع. وهكذا لمع اسمه في عالم الدبلوماسية والاتصالات الخارجية مثلما لمع قبل ذلك في عالم التجارة والأعمال.
وبعد وفاة الفيصل في الخامس والعشرين من مارس 1975، واصل أدهم عمله الحكومي إلى جانب الملك خالد بن عبدالعزيز، ومن ثم إلى جانب خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز رحمهما الله. واستمر يعمل بتفانٍ وإخلاص ونزاهة في خدمة وطنه إلى أن وافته المنية في التاسع عشر من أكتوبر سنة 1999 عن عمر ناهز 71 عاما. وكانت وفاته في القاهرة إثر نوبة قلبية. أما مراسم تشييعه فكانت في مكة المكرمة التي دفن بها بمقبرة العدل بحضور أولاده من زوجته «عين الحياة بنت عثمان فوزي» التي تزوجها عام 1957 وتوفيت في الأول من أكتوبر 2005، بعد أن أنجبت له مشعل وسارة وسلطان وفيصل والدكتور سامي والدكتور إبراهيم والدكتور القاضي فوزي.
وبهذا أُسدل الستار على حياة الرجل الذي عاصر خمسة من ملوك السعودية، والإنسان الذي وصفه وزير التجارة السعودي الأسبق وأول رئيس لمجلس إدارة الخطوط الجوية السعودية الشيخ أحمد صلاح جمجوم في كتابه «أحمد صلاح جمجوم يتذكر» بـ«شخصية مميزة بخلق وعفة وثقافة عالية ووعي وذكاء وحكمة»، والمحسن الذي قال عنه الأستاذ أحمد بن محمد باديب إنه امتلك قوائم طويلة بأسماء لعائلات كثيرة فقيرة في المملكة ومصر، فكان يرسل إليها مرتبات تجاوز إجماليها ملايين الريالات. وأخيراً، لابد من الإشارة إلى أن أدهم كان عضوا في مجلس أمناء الجامعة الأمريكية بالقاهرة منذ عام 1982م حتى وفاته، علما بأن الجامعة قامت، بعد رحيله، وتحديداً في السابع من أبريل 2008م بتغيير اسم مركز الصحافة الإلكترونية التابع لها ليصبح اسمه «مركز كمال أدهم للتدريب والبحث الصحفي».
الظاهرة.. الأذكى
كتب منصور العساف في صحيفة الرياض (2018/3/9) نقلا عن باديب أنه في عهد الملك فيصل قام جلالته بإنشاء مكتب للاتصالات الخارجية «جمع فيه المستشارين، وهم الأمير سلطان بن عبدالعزيز، والأمير نايف بن عبدالعزيز، والشيخ كمال أدهم، والدكتور رشاد فرعون، وخصص لكل مستشار منهم منطقة في خريطة العالم، يكون مسؤولا عنها. وكان الشيخ كمال أدهم مسؤولا عن تأمين الاتصالات السرية مع رؤساء دول معينة وأجهزة معينة (...) وكان المكتب من أهم أجهزة الدولة السرية والعلنية، خاصة في فترة التعبئة لحرب العاشر من رمضان 1973م». وفي السياق نفسه، نقل العساف عن المؤرخ محمد عنان قوله عن كمال أدهم إنه «كان رئيس الاتصالات الخارجية، وأنا اعتبره ظاهرة، متمكناً من ضبط الاتصالات الخارجية مع الملك فيصل بطريقة لا يوجد أذكى منها أبداً، والاتصال بين الملك والرؤساء وليس بين جهاز استخبارات أو مخابرات. كان هو كل شيء، فمثلاً في المهمات الشخصية والخاصة كان يذهب هو شخصياً ولا يكلف سفيراً أو غيره، ولذا كان الملك فيصل يثق فيه ثقة كبيرة».
مشاريع عملاقة
واستمرارا لانخراطه في عالم الأعمال امتلك أدهم، إلى جانب شركة عرين، عددا من الشركات القابضة والمحدودة الأخرى التي عملت في مجالات المقاولات والديكور والطيران والأدوية والصناعات المختلفة والنفط، من أهمها «شركة المباني» التي أسسها عام 1972م وتولت تنفيذ العديد من المشاريع المحلية والإقليمية؛ مثل الطرق ومدرجات المطارات والأبراج السكنية والتجارية ومشاريع الصرف الصحي والمختبرات ومراكز الأبحاث والمرافق الخدمية المتنوعة. وفي عام 1982 مدت شركة المباني نشاطها إلى خارج السعودية فقامت مثلاً بالمساهمة في تحديث شبكات الطرق في لبنان، وافتتحت لنفسها فرعاً في مسقط تولت من خلاله مشروع ترسيم الحدود بين المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان. وما بين عامي 1993 و1994 ساهمت المباني بشكل فعال في برنامج إعادة إعمار لبنان. وفي سنة 2001 نفذت مشروع ترسيم الحدود بين المملكة وجمهورية اليمن.
باني الملز في الرياض
بعد تخرجه من بريطانيا وعودته إلى السعودية، انخرط أدهم في عالم الأعمال، فأسس في عقد الخمسينات، حينما كان في مقتبل عمره، شركة «عرين» للإنشاءات التي أوكلت إليها حكومة الملك سعود بن عبدالعزيز، رحمه الله، تنفيذ مشاريع كبرى، لعل أهمها وأبرزها بناء «حي الملز» و«حي البحر الأحمر» الحديثين في الرياض، واللذين كان قد تقرر بناؤهما -آنذاك- تمهيداً لنقل مقار وزارات الدولة وموظفيها من جدة إلى الرياض. وهكذا قامت شركة عرين ببناء نحو ألف وحدة سكنية (مع مرافقها الضرورية كالمدارس والمساجد) على ثلاثة نماذج لاستيعاب فئة المديرين العامين، وفئة الموظفين العاديين، وفئة ذوي العائلات الصغيرة. كما قامت ببناء عدد من العمارات على شارع الستين بالملز لتوزيع شققها على الموظفين العزاب.
وبعد نجاح شركة عرين في هذا المشروع، واصلت أعمالها في تشييد عدد من المقار الحكومية والخاصة وبناء القصور والمنازل الفارهة في جدة والرياض وغيرهما من مدن المملكة (مثل قصر الحمراء بجدة الذي لم يسكنه الملك وتمّ تحويله بأمر منه إلى قصر للضيافة)، ناهيك عن المنزل الضخم الذي بنته شركة عرين لصالح الشيخ عبدالله الطريقي (توفي 1997م)، أول وزير للبترول والثروة المعدنية، بالرياض. والمفارقة أن أدهم اشترى هذا البيت من الطريقي لاحقا. وقد فصّل منصور العساف هذه الحكاية في مقاله بصحيفة الرياض (مصدر سابق) فقال إن شركة عرين قامت ببناء المنزل المذكور من تصميم المهندس محمود عمر بشارع الجامعة في حي الملز (كانت العامة تسميه آنذاك حي عرين نسبة إلى الشركة التي بنته)، وفي مطلع الستينات وقع خلاف بين أدهم والوزير الطريقي حول عقد الشركة اليابانية التي كانت قد مُنحت حق التنقيب عن النفط في المنطقة المحايدة، وهي «شركة النفط العربية»، وحينما أبعد الطريقي عن وزارة البترول والثروة المعدنية أوكل إلى زميله رجل الأعمال السعودي/ الفلسطيني عمر العقاد بيع المنزل فاشتراه كمال أدهم الذي شيده. وبعد أن عاد الطريقي إلى المملكة في أعقاب سنوات طويلة من الغياب افتتح مكتبه الاستشاري بشارع الستين بالملز وسط المنازل التي شيدتها شركة أدهم. وحدث بعد ذلك أن غادر الطريقي إلى القاهرة مرافقاً لابنته التي كانت تدرس هناك، وهي نفس الفترة التي كان أدهم فيها مقيماً بالقاهرة. وتشاء الأقدار أن يتوفى الرجلان في القاهرة وينقل جثمان كل منهما إلى المملكة للدفن: الطريقي في الرياض، وأدهم في مكة.
بين آل ثنيان وآل سعود
أما قربه من الفيصل وعلاقته الوثيقة بجلالته فيعود إلى أسباب عائلية. فالمعروف أن الفيصل، حينما كان نائبا للملك على الحجاز ووزيراً للخارجية في عهد والده الملك المؤسس تزوج سنة 1932 من الأميرة «عفت بنت محمد بن عبدالله بن ثنيان آل سعود» التي أنجبت للفيصل الأمراء محمد وسعود وعبدالرحمن وبندر وتركي، والأميرات سارة ولطيفة ولولوة وهيفاء.
والأميرة عفت تنتمي إلى أسرة آل ثنيان التي هي فرع من آل سعود وتلتقي معهم في جدهم الأول سعود بن محمد بن مقرن والد الإمام محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية سنة 1744م. وطبقا لما نشرته المجلة العربية (عدد مايو 2020) فإنه بعد سقوط الدولة السعودية الأولى عام 1818 على يد إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا والي العثمانيين على مصر، عمل محمد علي باشا محمد على تقويض حكم عبدالله بن سعود وتنصيب الأمير خالد بن سعود المترعرع في مصر حاكما محله. ولما نجح في ذلك سنة 1838 ظهر الأمير عبدالله الثنيان آل سعود لينازع الأمير خالد بن سعود الحكم، وقد نجح الأخير وحكم نجد لمدة لم تتجاوز السنتين انتهت بالقبض عليه وسجنه ثم وفاته عام 1843م.
وقد ولد لعبدالله الثنيان بعد وفاته ابن سمي على اسمه، وهذا عاش في نجد حتى بلغ الثلاثين، آثر بعدها الابتعاد عن تنافس وحروب أبناء عمومته بالسفر مع عائلته إلى إسطنبول عام 1880م، ممنيا النفس باقتناص فرصة سياسية عن طريق الدولة العثمانية. وهناك استضافهم السلطان العثماني عنده في «دولمة بهجه»، وتزوج من سيدة شركسية اسمها «روح تاز هانم» فأنجبت له عددا من الأولاد، من بينهم الأميران أحمد بن عبدالله بن ثنيان، ومحمد بن عبدالله بن ثنيان. سمع الأمير أحمد بانتصارات ابن عمه الملك عبدالعزيز ففر من تركيا وجاء إلى الرياض عام 1911 لنصرته وتقديم خدماته، خصوصاً أنه كان متعلماً ويجيد اللغات التركية والإنجليزية والفرنسية والألمانية، فشارك في بعض فتوحات توحيد المملكة، ثم عينه الملك المؤسس مستشاراً سياسياً له، وعهد إليه بتمثيله في عدد من المفاوضات مع خصومه، كما اختاره ليرافق ابنه الأمير (الملك) فيصل في رحلته الأولى إلى إنجلترا وفرنسا وبلجيكا مروراً ببومباي والبحرين عام 1919م. واستمر أحمد الثنيان يعمل في خدمة مليكه إلى أن توفي في الرياض سنة 1923 باستثناء فترة قصيرة في عام 1916 ترك فيها نجد إلى البحرين للإقامة عند حاكمها آنذاك الشيخ عيسى بن علي آل خليفة رحمه الله.
أما الأمير محمد الثنيان، فقد تخرج طبيباً، وصار جندياً في الجيش العثماني، وتزوج من السيدة التركية «آسيا هانم» التي أنجبت له الأميرة عفت في عام 1915 ثم شقيقها زكي. وبعد مقتل زوجها في حروب البلقان، تزوجت آسيا هانم من إبراهيم أدهم فأنجبت له كمال وأحمد ومظفر. وهكذا فإن كمال أدهم هو أخ غير شقيق للأميرة عفت حرم الملك فيصل، وخال أبنائها المذكورين آنفا.
ابن للفيصل
ولد الشيخ كمال إبراهيم أدهم في إسطنبول سنة 1928، وكانت لأخته غير الشقيقة الأميرة عفت الثنيان دور مكمل لدور أمه في رعايته وتنشئته. وحينما انتقلت الأخيرة إلى السعودية بسبب اقترانها بالفيصل، انتقل هو الآخر معها وكان آنذاك في سن الرابعة، فواصلت الأميرة عفت رعايته والاهتمام بشؤونه. لذا قيل إن كمال أدهم نشأ وتربى في قصر الفيصل، بل كان الفيصل يعامله كأحد أبنائه. وحول الجزئية الأخيرة نقل الكاتب والمؤرخ الروسي ألكسي فاسيليف في كتابه «الملك فيصل: شخصيته وعصره وإيمانه» (دار الساقي للطباعة والنشر/لندن/2012 ترجمة خيري الضامن) نقلا عن الأستاذ أحمد عبدالوهاب (أحد أقرب مستشاري الملك فيصل والذي رباه الملك في قصره بالحجاز بعد أن توفي والده عبدالوهاب وتركه يتيما في الثالثة عشرة من عمره)، إن أدهم كان ابنا للفيصل.. رباه مثلما رباني.. وكنت أنا وهو أول الأولاد الذين يلعبون في منزل الملك حين كان نائبا لوالده في الحجاز.
وبسبب هذه العلاقة المبكرة والطويلة بينه وبين الفيصل، لم يكن غريباً ما قاله باديب من أن أدهم كان يعرف بدقة ما يريده الفيصل فينفذه له بمهارة فائقة. ومما قاله باديب أيضا إن أدهم كان صاحب فراسة ويقرأ الآخرين جيداً، مما جعل الفيصل يعتمد عليه في أحايين كثيرة لجهة ترشيح بعض الشخصيات لشغل مناصب رسمية معينة.
خريج مدرسة الفيصل
درس أدهم في مدارس جدة والرياض أولاً ثم أكمل تعليمه في كلية فيكتوريا بالإسكندرية، قبل أن ينتقل إلى بريطانيا لإتمام تعليمه الجامعي في جامعة كامبريدج العريقة. وبسبب نشأته على يد الأميرة المتعلمة والمثقفة عفت الثنيان، وترعرعه في مدرسة الفيصل السياسية، وتنقله في أكثر من بلد لإتمام تعليمه، فقد برز كواحد من الشخصيات السعودية المثقفة المتقنة لأربع لغات (العربية والإنجليزية والفرنسية والتركية) وهو ما سهل الكثير من مهامه واتصالاته الدبلوماسية الخاصة لصالح المملكة في عهد الفيصل.
هذه الصفات والمهارات توفرت في شخص المرحوم الشيخ كمال أدهم، فالتصق اسمه تحديداً بالفترة التي تولى فيها الراحل الكبير الملك فيصل بن عبدالعزيز، رحمه الله، الحكم ما بين عامي 1964 و1975، وهي فترة شهدت أحداثا مفصلية مثل الحرب الأهلية اليمنية، وتأزم العلاقات السعودية - المصرية، وإطلاق فكرة التضامن الإسلامي، وهزيمة يونيو/ حزيران 1967، وانسحاب بريطانيا من شرق السويس، وأزمة أيلول الأسود بين الفصائل الفلسطينية والجيش الأردني، ووفاة الرئيس المصري جمال عبدالناصر وبدء عهد الرئيس أنور السادات، والاستعداد لحرب أكتوبر 1973، واستخدام سلاح النفط في الصراع العربي الإسرائيلي.
ولأن كمال أدهم تولى وقتها إدارة بعض هذه الملفات المهمة في جو من السرية بأمر من الفيصل، وكان يجول في دهاليز السياسة الإقليمية والعربية والدولية، متنقلاً ما بين الرياض والقاهرة وطهران وواشنطن ولندن وغيرها من العواصم، حاملاً الرسائل، أو مُقرباً وجهات النظر، أو طارحاً الأفكار والمبادرات، فقد اعتقد الكثيرون من عامة الناس خطأ أنه يترأس جهاز المخابرات السعودية (الاستخبارات العامة حاليا). وفي هذا السياق، قال الأديب والمستشار ورجل الأعمال وأحد أبرز المؤسسين للعمل الاستخباراتي في السعودية الأستاذ أحمد بن محمد باديب ما مفاده أن الشيخ كمال أدهم كان من أهم رجال الدولة في عصر الملك فيصل بن عبدالعزيز، وكان شديد الذكاء ويعمل بصمت مستشاراً خاصاً لجلالته، لكن لم يثبت رسمياً أنه تولى رئاسة جهاز المخابرات السعودية، ولم يدرج اسمه ضمن رؤساء هذا الجهاز أو حتى العاملين به.
الاسم اللامع في عالم الدبلوماسية والعودة للحكومة
ومع احتدام الحرب الباردة بين العملاقين الأمريكي والسوفياتي في الستينات، وتنامي الاكتشافات البترولية في المنطقة العربية، وما أفرزته هذه التطورات من صراعات وتقلبات سياسية واقتصادية وعسكرية واجتماعية في الشرق الأوسط والعالم العربي، وجد أدهم أن واجبه يحتم عليه أن يكون في خدمة مليكه، جندياً يقدم المشورة وينفذ ما يُطلب منه من مهام خارجية بصمت، مستثمراً علاقاته المتشعبة وحنكته وذكائه واطلاعه الواسع. وهكذا لمع اسمه في عالم الدبلوماسية والاتصالات الخارجية مثلما لمع قبل ذلك في عالم التجارة والأعمال.
وبعد وفاة الفيصل في الخامس والعشرين من مارس 1975، واصل أدهم عمله الحكومي إلى جانب الملك خالد بن عبدالعزيز، ومن ثم إلى جانب خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز رحمهما الله. واستمر يعمل بتفانٍ وإخلاص ونزاهة في خدمة وطنه إلى أن وافته المنية في التاسع عشر من أكتوبر سنة 1999 عن عمر ناهز 71 عاما. وكانت وفاته في القاهرة إثر نوبة قلبية. أما مراسم تشييعه فكانت في مكة المكرمة التي دفن بها بمقبرة العدل بحضور أولاده من زوجته «عين الحياة بنت عثمان فوزي» التي تزوجها عام 1957 وتوفيت في الأول من أكتوبر 2005، بعد أن أنجبت له مشعل وسارة وسلطان وفيصل والدكتور سامي والدكتور إبراهيم والدكتور القاضي فوزي.
وبهذا أُسدل الستار على حياة الرجل الذي عاصر خمسة من ملوك السعودية، والإنسان الذي وصفه وزير التجارة السعودي الأسبق وأول رئيس لمجلس إدارة الخطوط الجوية السعودية الشيخ أحمد صلاح جمجوم في كتابه «أحمد صلاح جمجوم يتذكر» بـ«شخصية مميزة بخلق وعفة وثقافة عالية ووعي وذكاء وحكمة»، والمحسن الذي قال عنه الأستاذ أحمد بن محمد باديب إنه امتلك قوائم طويلة بأسماء لعائلات كثيرة فقيرة في المملكة ومصر، فكان يرسل إليها مرتبات تجاوز إجماليها ملايين الريالات. وأخيراً، لابد من الإشارة إلى أن أدهم كان عضوا في مجلس أمناء الجامعة الأمريكية بالقاهرة منذ عام 1982م حتى وفاته، علما بأن الجامعة قامت، بعد رحيله، وتحديداً في السابع من أبريل 2008م بتغيير اسم مركز الصحافة الإلكترونية التابع لها ليصبح اسمه «مركز كمال أدهم للتدريب والبحث الصحفي».
الظاهرة.. الأذكى
كتب منصور العساف في صحيفة الرياض (2018/3/9) نقلا عن باديب أنه في عهد الملك فيصل قام جلالته بإنشاء مكتب للاتصالات الخارجية «جمع فيه المستشارين، وهم الأمير سلطان بن عبدالعزيز، والأمير نايف بن عبدالعزيز، والشيخ كمال أدهم، والدكتور رشاد فرعون، وخصص لكل مستشار منهم منطقة في خريطة العالم، يكون مسؤولا عنها. وكان الشيخ كمال أدهم مسؤولا عن تأمين الاتصالات السرية مع رؤساء دول معينة وأجهزة معينة (...) وكان المكتب من أهم أجهزة الدولة السرية والعلنية، خاصة في فترة التعبئة لحرب العاشر من رمضان 1973م». وفي السياق نفسه، نقل العساف عن المؤرخ محمد عنان قوله عن كمال أدهم إنه «كان رئيس الاتصالات الخارجية، وأنا اعتبره ظاهرة، متمكناً من ضبط الاتصالات الخارجية مع الملك فيصل بطريقة لا يوجد أذكى منها أبداً، والاتصال بين الملك والرؤساء وليس بين جهاز استخبارات أو مخابرات. كان هو كل شيء، فمثلاً في المهمات الشخصية والخاصة كان يذهب هو شخصياً ولا يكلف سفيراً أو غيره، ولذا كان الملك فيصل يثق فيه ثقة كبيرة».
مشاريع عملاقة
واستمرارا لانخراطه في عالم الأعمال امتلك أدهم، إلى جانب شركة عرين، عددا من الشركات القابضة والمحدودة الأخرى التي عملت في مجالات المقاولات والديكور والطيران والأدوية والصناعات المختلفة والنفط، من أهمها «شركة المباني» التي أسسها عام 1972م وتولت تنفيذ العديد من المشاريع المحلية والإقليمية؛ مثل الطرق ومدرجات المطارات والأبراج السكنية والتجارية ومشاريع الصرف الصحي والمختبرات ومراكز الأبحاث والمرافق الخدمية المتنوعة. وفي عام 1982 مدت شركة المباني نشاطها إلى خارج السعودية فقامت مثلاً بالمساهمة في تحديث شبكات الطرق في لبنان، وافتتحت لنفسها فرعاً في مسقط تولت من خلاله مشروع ترسيم الحدود بين المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان. وما بين عامي 1993 و1994 ساهمت المباني بشكل فعال في برنامج إعادة إعمار لبنان. وفي سنة 2001 نفذت مشروع ترسيم الحدود بين المملكة وجمهورية اليمن.
باني الملز في الرياض
بعد تخرجه من بريطانيا وعودته إلى السعودية، انخرط أدهم في عالم الأعمال، فأسس في عقد الخمسينات، حينما كان في مقتبل عمره، شركة «عرين» للإنشاءات التي أوكلت إليها حكومة الملك سعود بن عبدالعزيز، رحمه الله، تنفيذ مشاريع كبرى، لعل أهمها وأبرزها بناء «حي الملز» و«حي البحر الأحمر» الحديثين في الرياض، واللذين كان قد تقرر بناؤهما -آنذاك- تمهيداً لنقل مقار وزارات الدولة وموظفيها من جدة إلى الرياض. وهكذا قامت شركة عرين ببناء نحو ألف وحدة سكنية (مع مرافقها الضرورية كالمدارس والمساجد) على ثلاثة نماذج لاستيعاب فئة المديرين العامين، وفئة الموظفين العاديين، وفئة ذوي العائلات الصغيرة. كما قامت ببناء عدد من العمارات على شارع الستين بالملز لتوزيع شققها على الموظفين العزاب.
وبعد نجاح شركة عرين في هذا المشروع، واصلت أعمالها في تشييد عدد من المقار الحكومية والخاصة وبناء القصور والمنازل الفارهة في جدة والرياض وغيرهما من مدن المملكة (مثل قصر الحمراء بجدة الذي لم يسكنه الملك وتمّ تحويله بأمر منه إلى قصر للضيافة)، ناهيك عن المنزل الضخم الذي بنته شركة عرين لصالح الشيخ عبدالله الطريقي (توفي 1997م)، أول وزير للبترول والثروة المعدنية، بالرياض. والمفارقة أن أدهم اشترى هذا البيت من الطريقي لاحقا. وقد فصّل منصور العساف هذه الحكاية في مقاله بصحيفة الرياض (مصدر سابق) فقال إن شركة عرين قامت ببناء المنزل المذكور من تصميم المهندس محمود عمر بشارع الجامعة في حي الملز (كانت العامة تسميه آنذاك حي عرين نسبة إلى الشركة التي بنته)، وفي مطلع الستينات وقع خلاف بين أدهم والوزير الطريقي حول عقد الشركة اليابانية التي كانت قد مُنحت حق التنقيب عن النفط في المنطقة المحايدة، وهي «شركة النفط العربية»، وحينما أبعد الطريقي عن وزارة البترول والثروة المعدنية أوكل إلى زميله رجل الأعمال السعودي/ الفلسطيني عمر العقاد بيع المنزل فاشتراه كمال أدهم الذي شيده. وبعد أن عاد الطريقي إلى المملكة في أعقاب سنوات طويلة من الغياب افتتح مكتبه الاستشاري بشارع الستين بالملز وسط المنازل التي شيدتها شركة أدهم. وحدث بعد ذلك أن غادر الطريقي إلى القاهرة مرافقاً لابنته التي كانت تدرس هناك، وهي نفس الفترة التي كان أدهم فيها مقيماً بالقاهرة. وتشاء الأقدار أن يتوفى الرجلان في القاهرة وينقل جثمان كل منهما إلى المملكة للدفن: الطريقي في الرياض، وأدهم في مكة.
بين آل ثنيان وآل سعود
أما قربه من الفيصل وعلاقته الوثيقة بجلالته فيعود إلى أسباب عائلية. فالمعروف أن الفيصل، حينما كان نائبا للملك على الحجاز ووزيراً للخارجية في عهد والده الملك المؤسس تزوج سنة 1932 من الأميرة «عفت بنت محمد بن عبدالله بن ثنيان آل سعود» التي أنجبت للفيصل الأمراء محمد وسعود وعبدالرحمن وبندر وتركي، والأميرات سارة ولطيفة ولولوة وهيفاء.
والأميرة عفت تنتمي إلى أسرة آل ثنيان التي هي فرع من آل سعود وتلتقي معهم في جدهم الأول سعود بن محمد بن مقرن والد الإمام محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية سنة 1744م. وطبقا لما نشرته المجلة العربية (عدد مايو 2020) فإنه بعد سقوط الدولة السعودية الأولى عام 1818 على يد إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا والي العثمانيين على مصر، عمل محمد علي باشا محمد على تقويض حكم عبدالله بن سعود وتنصيب الأمير خالد بن سعود المترعرع في مصر حاكما محله. ولما نجح في ذلك سنة 1838 ظهر الأمير عبدالله الثنيان آل سعود لينازع الأمير خالد بن سعود الحكم، وقد نجح الأخير وحكم نجد لمدة لم تتجاوز السنتين انتهت بالقبض عليه وسجنه ثم وفاته عام 1843م.
وقد ولد لعبدالله الثنيان بعد وفاته ابن سمي على اسمه، وهذا عاش في نجد حتى بلغ الثلاثين، آثر بعدها الابتعاد عن تنافس وحروب أبناء عمومته بالسفر مع عائلته إلى إسطنبول عام 1880م، ممنيا النفس باقتناص فرصة سياسية عن طريق الدولة العثمانية. وهناك استضافهم السلطان العثماني عنده في «دولمة بهجه»، وتزوج من سيدة شركسية اسمها «روح تاز هانم» فأنجبت له عددا من الأولاد، من بينهم الأميران أحمد بن عبدالله بن ثنيان، ومحمد بن عبدالله بن ثنيان. سمع الأمير أحمد بانتصارات ابن عمه الملك عبدالعزيز ففر من تركيا وجاء إلى الرياض عام 1911 لنصرته وتقديم خدماته، خصوصاً أنه كان متعلماً ويجيد اللغات التركية والإنجليزية والفرنسية والألمانية، فشارك في بعض فتوحات توحيد المملكة، ثم عينه الملك المؤسس مستشاراً سياسياً له، وعهد إليه بتمثيله في عدد من المفاوضات مع خصومه، كما اختاره ليرافق ابنه الأمير (الملك) فيصل في رحلته الأولى إلى إنجلترا وفرنسا وبلجيكا مروراً ببومباي والبحرين عام 1919م. واستمر أحمد الثنيان يعمل في خدمة مليكه إلى أن توفي في الرياض سنة 1923 باستثناء فترة قصيرة في عام 1916 ترك فيها نجد إلى البحرين للإقامة عند حاكمها آنذاك الشيخ عيسى بن علي آل خليفة رحمه الله.
أما الأمير محمد الثنيان، فقد تخرج طبيباً، وصار جندياً في الجيش العثماني، وتزوج من السيدة التركية «آسيا هانم» التي أنجبت له الأميرة عفت في عام 1915 ثم شقيقها زكي. وبعد مقتل زوجها في حروب البلقان، تزوجت آسيا هانم من إبراهيم أدهم فأنجبت له كمال وأحمد ومظفر. وهكذا فإن كمال أدهم هو أخ غير شقيق للأميرة عفت حرم الملك فيصل، وخال أبنائها المذكورين آنفا.
ابن للفيصل
ولد الشيخ كمال إبراهيم أدهم في إسطنبول سنة 1928، وكانت لأخته غير الشقيقة الأميرة عفت الثنيان دور مكمل لدور أمه في رعايته وتنشئته. وحينما انتقلت الأخيرة إلى السعودية بسبب اقترانها بالفيصل، انتقل هو الآخر معها وكان آنذاك في سن الرابعة، فواصلت الأميرة عفت رعايته والاهتمام بشؤونه. لذا قيل إن كمال أدهم نشأ وتربى في قصر الفيصل، بل كان الفيصل يعامله كأحد أبنائه. وحول الجزئية الأخيرة نقل الكاتب والمؤرخ الروسي ألكسي فاسيليف في كتابه «الملك فيصل: شخصيته وعصره وإيمانه» (دار الساقي للطباعة والنشر/لندن/2012 ترجمة خيري الضامن) نقلا عن الأستاذ أحمد عبدالوهاب (أحد أقرب مستشاري الملك فيصل والذي رباه الملك في قصره بالحجاز بعد أن توفي والده عبدالوهاب وتركه يتيما في الثالثة عشرة من عمره)، إن أدهم كان ابنا للفيصل.. رباه مثلما رباني.. وكنت أنا وهو أول الأولاد الذين يلعبون في منزل الملك حين كان نائبا لوالده في الحجاز.
وبسبب هذه العلاقة المبكرة والطويلة بينه وبين الفيصل، لم يكن غريباً ما قاله باديب من أن أدهم كان يعرف بدقة ما يريده الفيصل فينفذه له بمهارة فائقة. ومما قاله باديب أيضا إن أدهم كان صاحب فراسة ويقرأ الآخرين جيداً، مما جعل الفيصل يعتمد عليه في أحايين كثيرة لجهة ترشيح بعض الشخصيات لشغل مناصب رسمية معينة.
خريج مدرسة الفيصل
درس أدهم في مدارس جدة والرياض أولاً ثم أكمل تعليمه في كلية فيكتوريا بالإسكندرية، قبل أن ينتقل إلى بريطانيا لإتمام تعليمه الجامعي في جامعة كامبريدج العريقة. وبسبب نشأته على يد الأميرة المتعلمة والمثقفة عفت الثنيان، وترعرعه في مدرسة الفيصل السياسية، وتنقله في أكثر من بلد لإتمام تعليمه، فقد برز كواحد من الشخصيات السعودية المثقفة المتقنة لأربع لغات (العربية والإنجليزية والفرنسية والتركية) وهو ما سهل الكثير من مهامه واتصالاته الدبلوماسية الخاصة لصالح المملكة في عهد الفيصل.