في مستشفى الدفاع بالخوض في مسقط، وفي تمام الساعة السابعة من مساء الإثنين الموافق 8 يوليو 2002، أغمضت عينيها إلى الأبد ورحلت إلى باريها عن عمر ناهز 91 عاما. تلك هي ابنة عمان البارة فاطمة بنت سالم المعمري التي دخلت تاريخ بلادها العبق وتاريخ الخليج العربي كله كأول فتاة تنال درجة الدكتوراه، بل الأولى التي تنالها في اللغات القديمة والآداب الرومانية واليونانية.
إن الكتابة عنها لها أهميتها القصوى، ليس فقط بسبب تحصيلها العلمي غير المسبوق، وإنما أيضا لأسباب أخرى كثيرة تتعلق بشخصيتها ومكان وزمان وظروف إنجازها الأكاديمي المذكور. ويكفي أن نشير في هذا السياق ابتداء إلى أنها امرأة نجحت في الالتحاق بالتعليم الجامعي في زمن استثنائي لم يكن حتى بمقدور الرجال فيه مواصلة تعليمهم الابتدائي. ففي زمنها كان محكوما على المرأة الخليجية ألا تبارح أسوار منزلها بحجج اجتماعية فما بالك بالسفر إلى الخارج. وفي زمنها لم يكن التعليم الأولي متاحا فما بالك بالتعليم الجامعي. هذا ناهيك عن أن السفر بحد ذاته كانت قضية تحيط بها العقبات لجهة وسائط النقل وانتظام عملها وسرعة بلوغها وجهاتها البعيدة. وتكتمل الصورة لو أضفنا إلى ما سبق ذكره أن المعمري عاصرت زمن عمالقة الأدب والفكر العرب وتتلمذت على أيديهم، وكانت شاهدة على بدايات التعليم العصري في مصر والتحاق الفتيات به.
أتت بما لم تأت به الأوائل
قهرت فاطمة الصعاب وتخطت العقبات واغتربت بعيدا. وقد ساعدها في ذلك انتماؤها إلى أسرة أرستقراطية آمنت بتعليم أبنائها، وتوفرت لديها ثروة استثمرتها في بناء عقول أفرادها، وامتلكت ثقافة الأخذ بأسباب الحياة الحديثة دون أدنى حساسية، وتشربت أفكار وقيم الحداثة بمفاهيم بدايات القرن العشرين.
والحقيقة أنه لولا قيام حفيدة ابن عمها السيدة آسيا البوعلي مستشارة العلوم الثقافية بمجلس البحث العلمي بسلطنة عمان في عام 2013 بوضع كتاب عنها من 289 صفحة من الحجم المتوسط تحت عنوان «الرائدة أ. د. فاطمة بنت سالم بن سيف المعمري: دراسة تاريخية وثائقية أكاديمية» باللغة الإنجليزية من بعد مراجعته من قبل الدكتور دومينيك إيديس، ولولا قيام «اللجنة العمانية للتربية والثقافة والعلوم» بطباعة الكتاب ونشره، لما عرفنا شيئا مفصلا عن المعمري وسيرتها العائلية وظروف نشأتها ومعارفها وأقاربها وأساتذتها وزملائها وتلاميذها وشهادتها ومسيرتها وإنجازاتها وألوان تكريمها وروحها الإنسانية، وغير ذلك مما أولته المؤلفة عناية فائقة على مدى 4 سنوات متواصلة من البحث والتقصي والرصد والكتابة والتوثيق. كما أن المؤلفة كانت موفقة في اختيار عنوان «الرائدة» لكتابها، فالمعمري بالفعل رائدة وتستحق هذا اللقب لأنها أتت بما لم تأت به الأوائل من بنات وطنها، بل إنها -والحق يقال- رائدة عظيمة نجحت بخطاها أن ترسم خريطة من العطاء الفكري والإنساني عبر ظرفية زمانية خاصة وفريدة، واهبةً حياتها للعلم ووقتها للمعرفة، ومن ثمّ مقيمة كناسكة في محراب العلم دون أن تتزوج أو تؤسس أسرة. والحقيقة أن الكتاب هو من النوع الذي تمتزج فيه السيرة الذاتية بمعناها الخاص بالدراسة الأكاديمية العلمية بمعناها العام. ومن دلائل مصداقية الكتاب أن مؤلفته ارتبطت بعلاقة قرابة وتلمذة وصداقة وصلة روحية وثقافية بفاطمة، الأمر الذي ساعدها على رسم صورة حقيقية بآفاقها المتنوعة للفقيدة.
ولدت المرحومة فاطمة بنت سالم بن سيف بن سعيد بن ماجد بن سعيد المعمري، في مارس من عام 1911، بجزيرة زنجبار، زمن أنْ كانت تحت الحكم العربي العماني. والدها هو سالم بن سيف بن سعيد أحد أبناء قبيلة المعمري التي ترجع أصولها إلى قرية «منصفة» بولاية «إبراء» في المنطقة الشرقية من السلطنة. وجدها هو سيف بن سعيد المعمري الذي آثر أن يهاجر إلى زنجبار على غرار ما كان يفعله أبناء القبائل العمانية المقتدرون الذين دأبوا على الهجرة من عمان إلى زنجبار والمناطق الأفريقية المحيطة بها منذ القرن 16 الميلادي، خصوصا أن هذه المناطق كانت -وقتذاك- تحت الحكم العربي العماني وظلت كذلك حتى يناير 1964 حينما أُطيح بحكم السلطان جمشيد بن عبدالله البوسعيدي (آخر سلاطين زنجبار العرب). وجدها الأكبر هو ماجد بن سعيد المعمري صاحب السور المعروف بـ«سور ماجد» وكان أحد قادة جيوش سلطان عمان الأشهر السيد سعيد بن سلطان بن أحمد البوسعيدي. أما والدتها فهي السيدة خديجة بنت عبدالله بن حمد البوسعيدي من الأسرة العمانية المالكة.
في زنجبار، أنجب الجد سيف المعمري أولاده الـ3؛ ماجد وسالم وسعيد، وأنجب سالم بدوره ابنته فاطمة التي كانت لها أخت غير شقيقة من جهة أمها تدعى «ريّا». وهكذا نشأت فاطمة وترعرعت في زنجبار وسط عائلة أرستقراطية ثرية كانت متمتعة بحس حضاري وبعد ثقافي ومعرفي.
ما كان يؤرق والدها سالم -آنذاك- أن ابنته فاقدة لثقافتها العربية ولا تتحدث سوى اللغة السواحيلية كغيرها من النساء والفتيات العربيات في زنجبار. فقرر هو وشقيقه سعيد، بعد أن توفي شقيقهما ماجد، أن يتركا زنجبار للإقامة في القاهرة كون الأخيرة هي منبع العلم ومركز الثقافة ومصدر التنوير في منطقة الشرق الأوسط (خلال القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20) وبالتالي فهي المكان الأنسب لتعليم أبنائهما الذكور والإناث وتزويدهم بالثقافة العربية والإسلامية.
صحيح أن زنجبار كانت في تلك المرحلة تملك نظاما تعليميا جيدا من خلال المدارس التبشيرية التي كانت تدرس المواد الحديثة والتخصصية باللغة الإنجليزية، غير أن الصحيح أيضا هو أن دراسة اللغة العربية وما يتعلق بالدين الاسلامي كان مفقودا أو يتم تدريسها من خلال بعض الكتاتيب البدائية. وبهذا كان أبناء العرب يتخرجون دون أدنى إلمام بلغتهم الأم وأمور عقيدتهم الإسلامية.
العيش في القاهرة
وهكذا نجدها تحل مع والدها وأسرتها وأسرة عمها في القاهرة في عام 1920، طلبا لثقافات أكثر تنوعا وحياة أرحب أفقا. ونجد والدها يشتري سكنا في حي غاردن سيتي الراقي ويقرر الاستقرار في مصر بدليل قيامه -آنذاك- باستثمار أمواله في شراء عقارات في بعض الأحياء القاهرية الراقية وقتذاك مثل مناطق الجيزة والمنيل وحدائق القبة وغاردن سيتي. وحينما اكتظت «غاردن سيتي» بحلول نهاية الخمسينات آثر أن ينتقل للإقامة في منطقة زراعية هادئة بعيدة عن الصخب. ولم تكن المنطقة التي اختارها سوى حي المهندسين الحالي في قلب القاهرة.
أوائل الخريجات
وفي فيلا جميلة بناها والدها في حي المهندسين وأطلق عليها اسم «فيلا الوفاء» وفاء لمصر التي احتضنته واحتضنت أسرته وعلمت أبناءه، عاشت فاطمة المرحلة الثانية من حياتها، من بعد مرحلتها الأولى في زنجبار، منذ نهاية الخمسينات وحتى عام 1974 حينما قررت ترك مصر للعودة إلى سلطنة عمان وطنها الأم ووطن أجدادها. وفي تلك الفيلا ترعرع وعاش مع فاطمة جميع إخوانها وأخواتها وهم؛ اعتدال ومحمد وزكية وسميرة وعواطف وناصر وسيف، علما بأن كل هؤلاء بقوا في مصر إلى أن أتموا دراساتهم الجامعية، وكانوا في صغرهم محل اهتمام ورعاية وإشراف أختهم فاطمة.
لكن ماذا عن رحلتها العلمية في مصر؟.. جريا على عادة العائلات الأرستقراطية المصرية في أوائل القرن العشرين لجهة إرسال أولادها وبناتها للتعليم في المدارس بلغات عربية وإنجليزية وفرنسية وألمانية، قرر والدها اتباع ذات النهج فأرسل أبناءه إلى مدارس مختلفة تنوعت لغة التعليم فيها بين العربية والإنجليزية والفرنسية.
كان نصيب فاطمة من ذلك أن تلتحق بالمدرسة السَنية الواقعة في شارع خيرت بمدخل حي السيدة زينب. وهذه المدرسة كانت في ذلك الزمن أعرق وأول مدرسة ثانوية تنشئها الحكومة المصرية لتعليم البنات مجانا، حيث تم تأسيسها في عام 1873م من قبل نظارة المعارف كي تكون نواة أولى لتعليم البنات في مصر تعليما حديثا صحيحا. هذا علما بأن هيئة تدريسها كانت مكونة من مدرسات إنجليزيات لجميع المواد عدا اللغة العربية، كما كان التعليم فيها ينقسم الى مرحلتين: الأولى هي المرحلة الابتدائية ومدتها 5 سنوات، والثانية هي المرحلة الثانوية ومدتها 5 سنوات أيضا، تحصل فيها الطالبة بعد 3 منها على شهادة (الكفاءة)، وفي نهاية المرحلة تحصل على (البكالوريا)، أي شهادة الثانوية العامة.
وطبقا لمجلة المصريات (L’EGYPTIENNE) الصادرة من القاهرة باللغة الفرنسية حصلت فاطمة على شهادة الكفاءة في عام 1927م. حيث نشرت المجلة في عددها الـ32 لشهر نوفمبر 1927 صورة فوتوغرافية للفتيات الـ8 اللواتي حصلن على شهادة الكفاءة في تلك السنة من المدرسة السنية وهن: فاطمة سالم، فضيلة عارف، عطية عبدالرزاق، سميرة سالم، زهيرة عبدالعزيز، فهيمة فهمي، نعيمة الأيوبي، ثروت التونسي. كما أن هذه المعلومة مثبتة في الكتيب الذي أصدرته المدرسة السنية الثانوية للبنات في عام 1973 بمناسبة عيدها المئوي.
من جهة أخرى، تفيد شهادة دراستها الثانوية الصادرة عن وزارة المعارف العمومية للدولة المصرية، أن «فاطمة سالم المولودة في زنجبار بتاريخ 3/3/1911م، تخرجت في القسم الأدبي نظام السنوات الخمس في شهر يونيو 1929م» والشهادة مؤرخة بتاريخ 21 نوفمبر 1929، وهو ما يثبت بالفعل أن فاطمة حصلت على شهادة الكفاءة سنة 1927م، ثم أكملت القسم الثاني (السنتين المتبقيتين) من المرحلة الثانوية لتتخرج في عام 1929م، حاصلة على شهادة الثانوية.
في سنة حصولها على شهادة الثانوية العامة، التحقت بكلية الآداب بالجامعة المصرية (جامعة القاهرة حاليا)، وتخصصت في الدراسات القديمة، فتخرجت بعد 4 سنوات وتحديدا ضمن طلبة دفعة مايو 1933م وهي تحمل درجة الليسانس في الآداب/ قسم الدراسات القديمة، طبقا لما هو مثبت في شهادة الليسانس الصادرة من الجامعة المصرية بتاريخ 6 يوليو سنة 1933. كان تخرج فاطمة من الجامعة مع بعض زميلاتها المصريات من خريجات مدرسة السنية الثانوية في تلك السنة حدثا تاريخيا، ونقطة تحول في مسيرة تعليم البنات، ليس في مصر فحسب، بل على مستوى العالم العربي إذ كان من المعتاد -آنذاك- أن أقصى مرحلة تصل إليها الفتاة في التعليم في أحسن الأحوال هي مرحلة الكفاءة الإعدادية، كما أن الحدث كان آية من آيات دخول مصر في حركة التنوير التي كان أحد أهدافها هو النهوض بالمرأة اجتماعيا وفكريا.
وهذا يعني أن فاطمة لم تكن فقط إحدى أوائل من حصلن على شهادتي الكفاءة والثانوية، بل وأيضا ضمن أوائل الخريجات الجامعيات. لم تكتف فاطمة بكل ما حققته من إنجازات دراسية، حيث كانت طموحاتها أكبر بكثير. ففي عام 1936 التحقت بمعهد التربية للبنات بالقاهرة لتتخرج بعد عام واحد وهي حاملة دبلوم التربية المؤرخ في 11 مايو سنة 1937م، الصادر من وزارة المعارف في المملكة المصرية. وفي 16 مايو سنة 1942م تم ّمنحتها درجة الماجستير بمرتبة الشرف الثانية من قسم الدراسات القديمة بكلية الآداب في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليا)، طبقا لشهادة الماجستير الصادرة في شهر مارس سنة 1943م.
طه حسين.. الأب الروحي لها
بعد حصولها على درجة الماجستير طمحت فاطمة أن يتم توظيفها في سلك التدريس بجامعة فؤاد الأول. لم تعترض الجامعة على توظيفها، لكنها قدمت لها عقد توظيف مؤقتا غير ثابت كونها غير مصرية، ذلك أن العقد الثابت من حق المصريين فقط لما يترتب عليه من حقوق مستقبلية متعلقة بالمعاشات ورواتب التقاعد وحقوق الابتعاث إلى الخارج. هذه الواقعة جعلتها تستاء وتشعر بالإهانة. هنا نجد عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين (توفي 1973) الذي كان يترأس آنذاك جامعة الفاروق (جامعة الإسكندرية حاليا) يتدخل معترضا لصالح تلميذته فاطمة المعمري، حيث كانت الأخيرة منذ تخرجها من المدرسة السنية الثانوية عام 1929 مقربة من طه حسين الذي كان على صلة حميمة بأسرتها، وكانت فاطمة تعتبره أبا روحيا لها لأنه هو من وجهها نحو التخصص في مجال الدراسات الأوروبية القديمة في مرحلتي الليسانس والماجستير بحكم اهتماماته بالحضارتين اليونانية والرومانية.
الجنسية المصرية
جملة القول أن تدخل طه حسين لصالحها ووقوفه إلى جانبها أثمر عن تقدمه شخصيا بطلب إلى مجلس الوزراء المصري لمنحها الجنسية المصرية كي تنال كامل حقوقها في التوظيف الأكاديمي. وبالفعل منح مجلس الوزراء المصري في 15 ديسمبر 1942م الجنسية المصرية للعمانية فاطمة بنت سالم المعمري، وفي العام التالي تم توظيفها مدرسة في كلية الآداب بجامعة الفاروق، ومن خلال التحاقها بسلك التعليم الجامعي نجحت في الحصول على فرصة الابتعاث إلى الخارج لنيل شهادة الدكتوراه، فسافرت في عام 1951م إلى بريطانيا في بعثة دراسية على نفقة الحكومة المصرية، حيث التحقت هناك بكلية الآداب التابعة لجامعة لندن التي منحتها درجة دكتوراه الفلسفة في مجال اللغة اللاتينية في الثامن من شهر نوفمبر سنة 1955م.
وهكذا أصبحت فاطمة أول امرأة على مستوى الخليج مزدوجة الجنسية وحاصلة على الدكتوراه، إذ لم يسبقها إلى هذا المجد العلمي أحد في منطقة الخليج العربي، لا من الرجال ولا من النساء. كما أصبحت ضمن الدفعة الثانية من أوائل العربيات اللواتي نلن درجتي الماجستير والدكتوراه.
درجة الدكتوراه هذه من جامعة بريطانية عريقة كجامعة لندن فتحت لها باب العمل الأكاديمي فعملت لعدة سنوات أستاذة في قسم الحضارة والآثار اليونانية والرومانية بجامعة الإسكندرية، وخلال هذه الفترة من حياتها قامت بتأسيس قسم الأدب اللاتيني بالجامعة وترأسته في ستينات القرن الـ20.
1974.. العودة للوطن والتكريم المُستحق
قلنا إن فاطمة تركت مصر عام 1974 لتعود إلى عمان، فعملت في الأخيرة منذ مطلع الثمانينات أستاذة للغة الإنجليزية في وزارة الدفاع والقوات المسلحة وتمّ تكريمها في عام 1982 كأول امرأة عمانية جامعية وحاصلة على الدكتوراه. لكنها قبل ذلك وتحديدا في عام 1974 عادت إلى مصر، حيث منحها الرئيس المصري السابق أنور السادات ميدالية ذهبية تذكارية ضمن المكرمات من رواد ورائدات القرن الـ20. وفي العام نفسه كرمتها جامعة الإسكندرية بمنحها شهادة تقدير لخدماتها طوال فترة عملها بالجامعة ولأفضالها على طلبة قسم اللغة اللاتينية.
ضمّ الكتاب الذي وضعته عنها آسيا البوعلي العديد من الشهادات لشخصيات عرفت فاطمة أو عملت معها. من هؤلاء الدكتور لطفي عبدالوهاب أستاذ الحضارة القديمة بجامعة الإسكندرية الذي عرفها خلال سنوات دراستهما بجامعة لندن، فقد وصفها بأنها رغم أستاذيتها إلا أنها كانت متواضعة بشكل غير عادي. ومنهم الدكتور سامي شنودة الأستاذ بقسم الآثار بجامعة الإسكندرية الذي زاملها أثناء رئاستها قسم الآثار اليونانية والرومانية في كلية الآداب بجامعة الإسكندرية، وتحدث عن الفرق بين جيل الرواد من الأساتذة والجيل الحالي قائلا: «إن جيل فاطمة سالم كان شغله الشاغل هو العلم، ومن ثم لم يستهو أحدهم منصب أو كرسي، ولم يكن يوما موضع اهتمامه. فقيمة شخصية كفاطمة تنبع من مكانتها العلمية والثقافية لا من رئاستها للقسم الذي رأسته في الجامعة». وفي السياق نفسه تحدث الباحث في التاريخ والآثار وأستاذ الفلسفة المصري مصطفى العبادي عنها قائلا: «إن أبحاثها تميزت بالجدية والدقة والعمق ومنها بحث عن فن الساتورا (فن الهجاء عند الرومان الذي أشبه ما يكون بفن التهكم في الأدب العربي كذلك الموجود في مقامات الحريري والهمذاني). أما الدكتورة عزة محمد كرارة فقد استرجعت ذكرياتها مع فاطمة وقالت إن حياتها في الإسكندرية مرتبطة بها واسمها يرتبط في ذهنها بدخولها قسم الآثار والحضارة اليونانية والرومانية بجامعة الإسكندرية في زمن لم يكن عميد الكلية حاصلا على الدكتوراه ولم يكن في الجامعة من الدكاترة سوى الدكتورة فاطمة سالم والدكتور محمد مندور والدكتور علي حافظ، حيث كانت فاطمة أول من قامت بتدريس اللغة اللاتينية ولم نسمع عن شخص في مصر يدرس اللغة اللاتينية سوى فاطمة سالم التي كانت أحيانا تعلمنا مقاطع من اللغة السواحيلية. وأما أستاذ تاريخ وفلسفة العلوم بجامعة الإسكندرية الدكتور ماهر عبدالقادر محمد علي فقد تطرق إلى المكانة التي احتلتها بحوث فاطمة الأكاديمية قائلا: «كنت واحداً من الفريق المكلّف بقراءة مجموعة من البحوث لعدد من الأساتذة بغية اختيار أفضلها لنشرها في كتاب تذكاري أعدته كلية الآداب، جامعة الإسكندرية، بمناسبة افتتاح مكتبة الإسكندرية في 26 أكتوبر 2002، وعليه وقع الاختيار على بحث بعنوان (فن الشعر لهوراتيوس ــ النقد الأدبي) للدكتورة فاطمة سالم، ليعاد نشره بهذا الكتاب، حتى يتسنى للعلماء والمثقفين بمختلف مستوياتهم الاطلاع عليه».
ونختتم بما قالته عنها ابنة أختها الدكتورة راوية بنت سعود البوسعيدي وزيرة التعليم العالي بسلطنة عمان ونصه: «كانت خالتي تتسم بسمات عديدة يشوبها كثير من التناقض، بيد أن أكثر ما لفت انتباهي قدرتها على سبر أغوار نفوس البشر، وقراءة أفكارهم؛ إذ كانت لمّاحة إلى أقصى درجة ولديها الخبرة والمراس في معرفة الناس وطبائعهم».
إن الكتابة عنها لها أهميتها القصوى، ليس فقط بسبب تحصيلها العلمي غير المسبوق، وإنما أيضا لأسباب أخرى كثيرة تتعلق بشخصيتها ومكان وزمان وظروف إنجازها الأكاديمي المذكور. ويكفي أن نشير في هذا السياق ابتداء إلى أنها امرأة نجحت في الالتحاق بالتعليم الجامعي في زمن استثنائي لم يكن حتى بمقدور الرجال فيه مواصلة تعليمهم الابتدائي. ففي زمنها كان محكوما على المرأة الخليجية ألا تبارح أسوار منزلها بحجج اجتماعية فما بالك بالسفر إلى الخارج. وفي زمنها لم يكن التعليم الأولي متاحا فما بالك بالتعليم الجامعي. هذا ناهيك عن أن السفر بحد ذاته كانت قضية تحيط بها العقبات لجهة وسائط النقل وانتظام عملها وسرعة بلوغها وجهاتها البعيدة. وتكتمل الصورة لو أضفنا إلى ما سبق ذكره أن المعمري عاصرت زمن عمالقة الأدب والفكر العرب وتتلمذت على أيديهم، وكانت شاهدة على بدايات التعليم العصري في مصر والتحاق الفتيات به.
أتت بما لم تأت به الأوائل
قهرت فاطمة الصعاب وتخطت العقبات واغتربت بعيدا. وقد ساعدها في ذلك انتماؤها إلى أسرة أرستقراطية آمنت بتعليم أبنائها، وتوفرت لديها ثروة استثمرتها في بناء عقول أفرادها، وامتلكت ثقافة الأخذ بأسباب الحياة الحديثة دون أدنى حساسية، وتشربت أفكار وقيم الحداثة بمفاهيم بدايات القرن العشرين.
والحقيقة أنه لولا قيام حفيدة ابن عمها السيدة آسيا البوعلي مستشارة العلوم الثقافية بمجلس البحث العلمي بسلطنة عمان في عام 2013 بوضع كتاب عنها من 289 صفحة من الحجم المتوسط تحت عنوان «الرائدة أ. د. فاطمة بنت سالم بن سيف المعمري: دراسة تاريخية وثائقية أكاديمية» باللغة الإنجليزية من بعد مراجعته من قبل الدكتور دومينيك إيديس، ولولا قيام «اللجنة العمانية للتربية والثقافة والعلوم» بطباعة الكتاب ونشره، لما عرفنا شيئا مفصلا عن المعمري وسيرتها العائلية وظروف نشأتها ومعارفها وأقاربها وأساتذتها وزملائها وتلاميذها وشهادتها ومسيرتها وإنجازاتها وألوان تكريمها وروحها الإنسانية، وغير ذلك مما أولته المؤلفة عناية فائقة على مدى 4 سنوات متواصلة من البحث والتقصي والرصد والكتابة والتوثيق. كما أن المؤلفة كانت موفقة في اختيار عنوان «الرائدة» لكتابها، فالمعمري بالفعل رائدة وتستحق هذا اللقب لأنها أتت بما لم تأت به الأوائل من بنات وطنها، بل إنها -والحق يقال- رائدة عظيمة نجحت بخطاها أن ترسم خريطة من العطاء الفكري والإنساني عبر ظرفية زمانية خاصة وفريدة، واهبةً حياتها للعلم ووقتها للمعرفة، ومن ثمّ مقيمة كناسكة في محراب العلم دون أن تتزوج أو تؤسس أسرة. والحقيقة أن الكتاب هو من النوع الذي تمتزج فيه السيرة الذاتية بمعناها الخاص بالدراسة الأكاديمية العلمية بمعناها العام. ومن دلائل مصداقية الكتاب أن مؤلفته ارتبطت بعلاقة قرابة وتلمذة وصداقة وصلة روحية وثقافية بفاطمة، الأمر الذي ساعدها على رسم صورة حقيقية بآفاقها المتنوعة للفقيدة.
ولدت المرحومة فاطمة بنت سالم بن سيف بن سعيد بن ماجد بن سعيد المعمري، في مارس من عام 1911، بجزيرة زنجبار، زمن أنْ كانت تحت الحكم العربي العماني. والدها هو سالم بن سيف بن سعيد أحد أبناء قبيلة المعمري التي ترجع أصولها إلى قرية «منصفة» بولاية «إبراء» في المنطقة الشرقية من السلطنة. وجدها هو سيف بن سعيد المعمري الذي آثر أن يهاجر إلى زنجبار على غرار ما كان يفعله أبناء القبائل العمانية المقتدرون الذين دأبوا على الهجرة من عمان إلى زنجبار والمناطق الأفريقية المحيطة بها منذ القرن 16 الميلادي، خصوصا أن هذه المناطق كانت -وقتذاك- تحت الحكم العربي العماني وظلت كذلك حتى يناير 1964 حينما أُطيح بحكم السلطان جمشيد بن عبدالله البوسعيدي (آخر سلاطين زنجبار العرب). وجدها الأكبر هو ماجد بن سعيد المعمري صاحب السور المعروف بـ«سور ماجد» وكان أحد قادة جيوش سلطان عمان الأشهر السيد سعيد بن سلطان بن أحمد البوسعيدي. أما والدتها فهي السيدة خديجة بنت عبدالله بن حمد البوسعيدي من الأسرة العمانية المالكة.
في زنجبار، أنجب الجد سيف المعمري أولاده الـ3؛ ماجد وسالم وسعيد، وأنجب سالم بدوره ابنته فاطمة التي كانت لها أخت غير شقيقة من جهة أمها تدعى «ريّا». وهكذا نشأت فاطمة وترعرعت في زنجبار وسط عائلة أرستقراطية ثرية كانت متمتعة بحس حضاري وبعد ثقافي ومعرفي.
ما كان يؤرق والدها سالم -آنذاك- أن ابنته فاقدة لثقافتها العربية ولا تتحدث سوى اللغة السواحيلية كغيرها من النساء والفتيات العربيات في زنجبار. فقرر هو وشقيقه سعيد، بعد أن توفي شقيقهما ماجد، أن يتركا زنجبار للإقامة في القاهرة كون الأخيرة هي منبع العلم ومركز الثقافة ومصدر التنوير في منطقة الشرق الأوسط (خلال القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20) وبالتالي فهي المكان الأنسب لتعليم أبنائهما الذكور والإناث وتزويدهم بالثقافة العربية والإسلامية.
صحيح أن زنجبار كانت في تلك المرحلة تملك نظاما تعليميا جيدا من خلال المدارس التبشيرية التي كانت تدرس المواد الحديثة والتخصصية باللغة الإنجليزية، غير أن الصحيح أيضا هو أن دراسة اللغة العربية وما يتعلق بالدين الاسلامي كان مفقودا أو يتم تدريسها من خلال بعض الكتاتيب البدائية. وبهذا كان أبناء العرب يتخرجون دون أدنى إلمام بلغتهم الأم وأمور عقيدتهم الإسلامية.
العيش في القاهرة
وهكذا نجدها تحل مع والدها وأسرتها وأسرة عمها في القاهرة في عام 1920، طلبا لثقافات أكثر تنوعا وحياة أرحب أفقا. ونجد والدها يشتري سكنا في حي غاردن سيتي الراقي ويقرر الاستقرار في مصر بدليل قيامه -آنذاك- باستثمار أمواله في شراء عقارات في بعض الأحياء القاهرية الراقية وقتذاك مثل مناطق الجيزة والمنيل وحدائق القبة وغاردن سيتي. وحينما اكتظت «غاردن سيتي» بحلول نهاية الخمسينات آثر أن ينتقل للإقامة في منطقة زراعية هادئة بعيدة عن الصخب. ولم تكن المنطقة التي اختارها سوى حي المهندسين الحالي في قلب القاهرة.
أوائل الخريجات
وفي فيلا جميلة بناها والدها في حي المهندسين وأطلق عليها اسم «فيلا الوفاء» وفاء لمصر التي احتضنته واحتضنت أسرته وعلمت أبناءه، عاشت فاطمة المرحلة الثانية من حياتها، من بعد مرحلتها الأولى في زنجبار، منذ نهاية الخمسينات وحتى عام 1974 حينما قررت ترك مصر للعودة إلى سلطنة عمان وطنها الأم ووطن أجدادها. وفي تلك الفيلا ترعرع وعاش مع فاطمة جميع إخوانها وأخواتها وهم؛ اعتدال ومحمد وزكية وسميرة وعواطف وناصر وسيف، علما بأن كل هؤلاء بقوا في مصر إلى أن أتموا دراساتهم الجامعية، وكانوا في صغرهم محل اهتمام ورعاية وإشراف أختهم فاطمة.
لكن ماذا عن رحلتها العلمية في مصر؟.. جريا على عادة العائلات الأرستقراطية المصرية في أوائل القرن العشرين لجهة إرسال أولادها وبناتها للتعليم في المدارس بلغات عربية وإنجليزية وفرنسية وألمانية، قرر والدها اتباع ذات النهج فأرسل أبناءه إلى مدارس مختلفة تنوعت لغة التعليم فيها بين العربية والإنجليزية والفرنسية.
كان نصيب فاطمة من ذلك أن تلتحق بالمدرسة السَنية الواقعة في شارع خيرت بمدخل حي السيدة زينب. وهذه المدرسة كانت في ذلك الزمن أعرق وأول مدرسة ثانوية تنشئها الحكومة المصرية لتعليم البنات مجانا، حيث تم تأسيسها في عام 1873م من قبل نظارة المعارف كي تكون نواة أولى لتعليم البنات في مصر تعليما حديثا صحيحا. هذا علما بأن هيئة تدريسها كانت مكونة من مدرسات إنجليزيات لجميع المواد عدا اللغة العربية، كما كان التعليم فيها ينقسم الى مرحلتين: الأولى هي المرحلة الابتدائية ومدتها 5 سنوات، والثانية هي المرحلة الثانوية ومدتها 5 سنوات أيضا، تحصل فيها الطالبة بعد 3 منها على شهادة (الكفاءة)، وفي نهاية المرحلة تحصل على (البكالوريا)، أي شهادة الثانوية العامة.
وطبقا لمجلة المصريات (L’EGYPTIENNE) الصادرة من القاهرة باللغة الفرنسية حصلت فاطمة على شهادة الكفاءة في عام 1927م. حيث نشرت المجلة في عددها الـ32 لشهر نوفمبر 1927 صورة فوتوغرافية للفتيات الـ8 اللواتي حصلن على شهادة الكفاءة في تلك السنة من المدرسة السنية وهن: فاطمة سالم، فضيلة عارف، عطية عبدالرزاق، سميرة سالم، زهيرة عبدالعزيز، فهيمة فهمي، نعيمة الأيوبي، ثروت التونسي. كما أن هذه المعلومة مثبتة في الكتيب الذي أصدرته المدرسة السنية الثانوية للبنات في عام 1973 بمناسبة عيدها المئوي.
من جهة أخرى، تفيد شهادة دراستها الثانوية الصادرة عن وزارة المعارف العمومية للدولة المصرية، أن «فاطمة سالم المولودة في زنجبار بتاريخ 3/3/1911م، تخرجت في القسم الأدبي نظام السنوات الخمس في شهر يونيو 1929م» والشهادة مؤرخة بتاريخ 21 نوفمبر 1929، وهو ما يثبت بالفعل أن فاطمة حصلت على شهادة الكفاءة سنة 1927م، ثم أكملت القسم الثاني (السنتين المتبقيتين) من المرحلة الثانوية لتتخرج في عام 1929م، حاصلة على شهادة الثانوية.
في سنة حصولها على شهادة الثانوية العامة، التحقت بكلية الآداب بالجامعة المصرية (جامعة القاهرة حاليا)، وتخصصت في الدراسات القديمة، فتخرجت بعد 4 سنوات وتحديدا ضمن طلبة دفعة مايو 1933م وهي تحمل درجة الليسانس في الآداب/ قسم الدراسات القديمة، طبقا لما هو مثبت في شهادة الليسانس الصادرة من الجامعة المصرية بتاريخ 6 يوليو سنة 1933. كان تخرج فاطمة من الجامعة مع بعض زميلاتها المصريات من خريجات مدرسة السنية الثانوية في تلك السنة حدثا تاريخيا، ونقطة تحول في مسيرة تعليم البنات، ليس في مصر فحسب، بل على مستوى العالم العربي إذ كان من المعتاد -آنذاك- أن أقصى مرحلة تصل إليها الفتاة في التعليم في أحسن الأحوال هي مرحلة الكفاءة الإعدادية، كما أن الحدث كان آية من آيات دخول مصر في حركة التنوير التي كان أحد أهدافها هو النهوض بالمرأة اجتماعيا وفكريا.
وهذا يعني أن فاطمة لم تكن فقط إحدى أوائل من حصلن على شهادتي الكفاءة والثانوية، بل وأيضا ضمن أوائل الخريجات الجامعيات. لم تكتف فاطمة بكل ما حققته من إنجازات دراسية، حيث كانت طموحاتها أكبر بكثير. ففي عام 1936 التحقت بمعهد التربية للبنات بالقاهرة لتتخرج بعد عام واحد وهي حاملة دبلوم التربية المؤرخ في 11 مايو سنة 1937م، الصادر من وزارة المعارف في المملكة المصرية. وفي 16 مايو سنة 1942م تم ّمنحتها درجة الماجستير بمرتبة الشرف الثانية من قسم الدراسات القديمة بكلية الآداب في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليا)، طبقا لشهادة الماجستير الصادرة في شهر مارس سنة 1943م.
طه حسين.. الأب الروحي لها
بعد حصولها على درجة الماجستير طمحت فاطمة أن يتم توظيفها في سلك التدريس بجامعة فؤاد الأول. لم تعترض الجامعة على توظيفها، لكنها قدمت لها عقد توظيف مؤقتا غير ثابت كونها غير مصرية، ذلك أن العقد الثابت من حق المصريين فقط لما يترتب عليه من حقوق مستقبلية متعلقة بالمعاشات ورواتب التقاعد وحقوق الابتعاث إلى الخارج. هذه الواقعة جعلتها تستاء وتشعر بالإهانة. هنا نجد عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين (توفي 1973) الذي كان يترأس آنذاك جامعة الفاروق (جامعة الإسكندرية حاليا) يتدخل معترضا لصالح تلميذته فاطمة المعمري، حيث كانت الأخيرة منذ تخرجها من المدرسة السنية الثانوية عام 1929 مقربة من طه حسين الذي كان على صلة حميمة بأسرتها، وكانت فاطمة تعتبره أبا روحيا لها لأنه هو من وجهها نحو التخصص في مجال الدراسات الأوروبية القديمة في مرحلتي الليسانس والماجستير بحكم اهتماماته بالحضارتين اليونانية والرومانية.
الجنسية المصرية
جملة القول أن تدخل طه حسين لصالحها ووقوفه إلى جانبها أثمر عن تقدمه شخصيا بطلب إلى مجلس الوزراء المصري لمنحها الجنسية المصرية كي تنال كامل حقوقها في التوظيف الأكاديمي. وبالفعل منح مجلس الوزراء المصري في 15 ديسمبر 1942م الجنسية المصرية للعمانية فاطمة بنت سالم المعمري، وفي العام التالي تم توظيفها مدرسة في كلية الآداب بجامعة الفاروق، ومن خلال التحاقها بسلك التعليم الجامعي نجحت في الحصول على فرصة الابتعاث إلى الخارج لنيل شهادة الدكتوراه، فسافرت في عام 1951م إلى بريطانيا في بعثة دراسية على نفقة الحكومة المصرية، حيث التحقت هناك بكلية الآداب التابعة لجامعة لندن التي منحتها درجة دكتوراه الفلسفة في مجال اللغة اللاتينية في الثامن من شهر نوفمبر سنة 1955م.
وهكذا أصبحت فاطمة أول امرأة على مستوى الخليج مزدوجة الجنسية وحاصلة على الدكتوراه، إذ لم يسبقها إلى هذا المجد العلمي أحد في منطقة الخليج العربي، لا من الرجال ولا من النساء. كما أصبحت ضمن الدفعة الثانية من أوائل العربيات اللواتي نلن درجتي الماجستير والدكتوراه.
درجة الدكتوراه هذه من جامعة بريطانية عريقة كجامعة لندن فتحت لها باب العمل الأكاديمي فعملت لعدة سنوات أستاذة في قسم الحضارة والآثار اليونانية والرومانية بجامعة الإسكندرية، وخلال هذه الفترة من حياتها قامت بتأسيس قسم الأدب اللاتيني بالجامعة وترأسته في ستينات القرن الـ20.
1974.. العودة للوطن والتكريم المُستحق
قلنا إن فاطمة تركت مصر عام 1974 لتعود إلى عمان، فعملت في الأخيرة منذ مطلع الثمانينات أستاذة للغة الإنجليزية في وزارة الدفاع والقوات المسلحة وتمّ تكريمها في عام 1982 كأول امرأة عمانية جامعية وحاصلة على الدكتوراه. لكنها قبل ذلك وتحديدا في عام 1974 عادت إلى مصر، حيث منحها الرئيس المصري السابق أنور السادات ميدالية ذهبية تذكارية ضمن المكرمات من رواد ورائدات القرن الـ20. وفي العام نفسه كرمتها جامعة الإسكندرية بمنحها شهادة تقدير لخدماتها طوال فترة عملها بالجامعة ولأفضالها على طلبة قسم اللغة اللاتينية.
ضمّ الكتاب الذي وضعته عنها آسيا البوعلي العديد من الشهادات لشخصيات عرفت فاطمة أو عملت معها. من هؤلاء الدكتور لطفي عبدالوهاب أستاذ الحضارة القديمة بجامعة الإسكندرية الذي عرفها خلال سنوات دراستهما بجامعة لندن، فقد وصفها بأنها رغم أستاذيتها إلا أنها كانت متواضعة بشكل غير عادي. ومنهم الدكتور سامي شنودة الأستاذ بقسم الآثار بجامعة الإسكندرية الذي زاملها أثناء رئاستها قسم الآثار اليونانية والرومانية في كلية الآداب بجامعة الإسكندرية، وتحدث عن الفرق بين جيل الرواد من الأساتذة والجيل الحالي قائلا: «إن جيل فاطمة سالم كان شغله الشاغل هو العلم، ومن ثم لم يستهو أحدهم منصب أو كرسي، ولم يكن يوما موضع اهتمامه. فقيمة شخصية كفاطمة تنبع من مكانتها العلمية والثقافية لا من رئاستها للقسم الذي رأسته في الجامعة». وفي السياق نفسه تحدث الباحث في التاريخ والآثار وأستاذ الفلسفة المصري مصطفى العبادي عنها قائلا: «إن أبحاثها تميزت بالجدية والدقة والعمق ومنها بحث عن فن الساتورا (فن الهجاء عند الرومان الذي أشبه ما يكون بفن التهكم في الأدب العربي كذلك الموجود في مقامات الحريري والهمذاني). أما الدكتورة عزة محمد كرارة فقد استرجعت ذكرياتها مع فاطمة وقالت إن حياتها في الإسكندرية مرتبطة بها واسمها يرتبط في ذهنها بدخولها قسم الآثار والحضارة اليونانية والرومانية بجامعة الإسكندرية في زمن لم يكن عميد الكلية حاصلا على الدكتوراه ولم يكن في الجامعة من الدكاترة سوى الدكتورة فاطمة سالم والدكتور محمد مندور والدكتور علي حافظ، حيث كانت فاطمة أول من قامت بتدريس اللغة اللاتينية ولم نسمع عن شخص في مصر يدرس اللغة اللاتينية سوى فاطمة سالم التي كانت أحيانا تعلمنا مقاطع من اللغة السواحيلية. وأما أستاذ تاريخ وفلسفة العلوم بجامعة الإسكندرية الدكتور ماهر عبدالقادر محمد علي فقد تطرق إلى المكانة التي احتلتها بحوث فاطمة الأكاديمية قائلا: «كنت واحداً من الفريق المكلّف بقراءة مجموعة من البحوث لعدد من الأساتذة بغية اختيار أفضلها لنشرها في كتاب تذكاري أعدته كلية الآداب، جامعة الإسكندرية، بمناسبة افتتاح مكتبة الإسكندرية في 26 أكتوبر 2002، وعليه وقع الاختيار على بحث بعنوان (فن الشعر لهوراتيوس ــ النقد الأدبي) للدكتورة فاطمة سالم، ليعاد نشره بهذا الكتاب، حتى يتسنى للعلماء والمثقفين بمختلف مستوياتهم الاطلاع عليه».
ونختتم بما قالته عنها ابنة أختها الدكتورة راوية بنت سعود البوسعيدي وزيرة التعليم العالي بسلطنة عمان ونصه: «كانت خالتي تتسم بسمات عديدة يشوبها كثير من التناقض، بيد أن أكثر ما لفت انتباهي قدرتها على سبر أغوار نفوس البشر، وقراءة أفكارهم؛ إذ كانت لمّاحة إلى أقصى درجة ولديها الخبرة والمراس في معرفة الناس وطبائعهم».