قدر الله للبعض أن يولد كفيفا وأن يعيش طوال حياته في ظلام دامس. لكن فاقدي البصر عوضهم الخالق جلت قدرته بالبصيرة أي بالعقل والفطنة والإدراك الذي مكنهم من شق طريقهم في الحياة كما الأصحاء، وربما أكثر. وإذا كان أحد الأمثلة الأكثر شيوعا على هذا الصعيد في العالم يتجسد في الأديبة والمحاضرة والناشطة الأمريكية «هيلين كيلر» (توفيت 1968)، فإن حالة الدكتور طه حسين (توفي 1973) هي الأبرز على مستوى العالم العربي. فالأخير لم يكتف بمواصلة تعليمه العالي في ديار الاغتراب وهو كفيف، وإنما بزّ معاصريه، علما وريادة في الأدب وتدريسا وتأليفا وتبوؤا للمناصب الحكومية الرفيعة. غير أن في منطقة الخليج العربي أيضا نماذج مشابهة من الجنسين استطاعت بهمة واقتدار قهر الظلام والخروج من عتمته إلى رحاب الحياة العامة وضيائها، مسطرة أروع الأمثلة على خرافة فكرة «المستحيل».
صحيح أن أول من أحدث اختراقا لجهة بعث الأمل عند المكفوفين هو الفرنسي لويس برايل (توفي 1852)، وذلك من خلال تطوير ما يسمى «طريقة برايل»، وهو نظام كتابة وقراءة عالمي يستخدمه فاقدو البصر بتمرير الأصابع على حروف مكتوبة بنتوءات بارزة (من واحد إلى ستة نتوءات)، لكن الصحيح أيضا أن هذا النظام لا يحقق لمستخدميه الطامحين بلوغ مرادهم إذا لم تتوفر لديهم الإرادة والاستعداد المشفوعين بالصبر والدأب المتواصل والإيمان بأن «من يتهيب صعود الجبال ** يعش أبد الدهر بين الحفر» و«إن ربك يعطي كل ذي همم ** ويجعل الصعب ميسورا لمن عملا».
وحي لقمان
ولئن كان هذا هو ما آمنت به المحامية والأكاديمية السعودية «وحي لقمان» ابنة الصحافي الراحل الصديق فاروق محمد لقمان رحمه الله، التي تعتبر أول سعودية كفيفة تحصل على درجة الدكتوراه في القانون من جامعة القاهرة (1998)، وتعمل ضمن أعضاء هيئة التدريس في قسم القانون بكلية الإدارة والاقتصاد بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، فإن قصة شقيقتها العمانية «شيخة محمود الجساسي» ربما كانت أكثر إثارة وبالتالي أدعى للسرد بسبب ما أحاط بها من صعاب شتى واغتراب في سن صغير، وعشق لمجاراة الأصحاء، وشغف بأكثر من مجال. إن قصتها باختصار هي قصة ملهمة لا يجب أن تمر مرور الكرام، إنما يجب التوقف عندها كونها بحق قصة من قصص العاشقين لذواتهم.
ابنة عبري
ولدت شيخة في مدينة عبري، على بعد 279 كيلومترا من مسقط. وعبري هي إحدى مدن محافظة الظاهرة الواقعة غرب سلطنة عمان عند نقطة التقاء حدود سلطنة عمان مع الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وهو ما أكسب هذه المحافظة موقعا متميزا وجعلها مركزا تجاريا واقتصاديا وبشريا هاما، ناهيك عن تميزها بالكثير من المواقع الأثرية.
كانت شيخة هي الطفل الأول لوالدها المنحدر من قبيلة بني جساس العدنانية، التي يتصل نسبها إلى جساس بن مرة بن وهب بن شيبان بن بكر بن وائل، وقد ولدت فاقدة للبصر فلم تكتمل فرحة والديها لكنهما رضيا بقضاء الله وقدره وأحاطاها منذ اليوم الأول لميلادها برعاية خاصة، مصممين على أن يبثا فيها روح الإرادة والعزيمة كي تصبح أفضل من المبصرين. وبطبيعة الحال بدأ والداها رحلة الأمل للبحث عن علاج لطفلتهما إلا أن ردود الأطباء كانت مخيبة لآمالهما، الأمر الذي أجبرهما على التكيف مع حالة شيخة التي راحت تكبر رويدا رويدا وتكثر من الحركة والضجيج واللعب غير مدركة اختلاف وضعها عن أقرانها. وبعد مرور بضع سنوات قررت والدتها أن تلحقها بروضة الأطفال التي كانت تحتضن معظم أقرانها من سكان الحي. وهكذا لم تشعر شيخة بأنها مختلفة عن الآخرين إلا بعد أن نقلت إلى مركز الوفاء الاجتماعي لذوي الاحتياجات الخاصة بولاية عبري حيث بدأت تتعلم طرق القراءة والكتابة المخصصة لمن كان في وضعها.
معهد النور
وفي هذه الأثناء كان والدها يريد لها إكمال دراستها النظامية في مدرسة ذات برامج خاصة بالمكفوفين، فطرق أبوابا كثيرة دون جدوى لأن السلطنة آنذاك كانت خالية من مثل هذه المدرسة، ثم لأن المدارس الحكومية العادية رفضت قبول شيخة بسبب وضعها الذي يستوجب عناية خاصة. لم يفقد الأب الأمل، وواصل محاولاته إلى أن تكللت بموافقة وزارة التربية والتعليم العمانية على ابتعاثها إلى البحرين لإتمام تعليمها الابتدائي والإعدادي في المعهد البحريني ــ السعودي للمكفوفين الذي كان يعرف آنذاك بـ«معهد النور». وهذا المعهد، الذي يعتبر ثمرة من ثمار التعاون بين المملكتين الشقيقتين، هو مؤسسة خيرية تأسست عام 1973 بمدينة المحرق قبل أن يـُنقل مقرها إلى مدينة عيسى عام 1991، وتهدف إلى مساعدة الأفراد المعاقين بصريا وتمكينهم من أن يعيشوا حياة مستقلة كريمة في المجتمع من خلال التعليم والتدريب والتكنولوجيا.
وحيدة في البحرين
وهكذا وصلت شيخة إلى البحرين وحيدة دون أهلها، وهي في سن الثامنة لتبدأ رحلة كفاحها وصمودها ضد الظلام. وبطبيعة الحال واجهتها صعوبات شتى في بلد لم تزره من قبل ووسط أناس لا تعرفهم، بل إنها كرهت التعليم لأن الموضوع ارتبط في ذهنها آنذاك بالابتعاد عن الأهل والوطن والخلان، ثم لأنها اعتقدت خطأ أن والدها بعثها إلى البحرين تخلصا منها ومن مسؤولياته تجاهها.
بمرور الوقت نجحت شيخة في التكيف مع وضعها الجديد والتعود على من حولها وما يجري في بيئتها البحرينية، خصوصا بعد أن تعلمت طريقة برايل، حيث راحت تكثر من القراءة والكتابة وتحقق ذاتها من خلال الحصول على المراتب الأولى في المعهد والمشاركة في مختلف الأنشطة الثقافية، بدليل نجاحها في حصد لقب «أفضل قارئ» مرتين على التوالي.
في حوار لها مع موقع «نوت» الإلكتروني في فبراير 2018 أخبرتنا شيخة أن تميزها في المعهد أمدها بشعور أنها تمثل بلادها وتمثل البحرين أيضا، فراحت تجتهد لتمثيلهما خير تمثيل، وهو ما تحقق بحصولها على نسبة 97% في سنتها الدراسية الأخيرة. حيث تخرجت في يونيو عام 2004 ضمن الفوج العاشر من خريجي المعهد، وتمّ تكريمها في «عيد العلم» السنوي من قبل الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء. وفي لحظة تخرجها ذكّرها والدها، الذي كان بجانبها، بأن قراره بإرسالها إلى البحرين لم يكن تخلصا منها وإنما رغبة منه في حصولها على نفس العلم الذي يتلقاه الأصحاء. وعليه عادت شيخة إلى السلطنة بعد أن أمضت في رحاب معهد المكفوفين تسع سنوات كاملة كانت كفيلة ــ بحسب برامج المعهد ــ كي تندمج على إثرها في المدارس الثانوية العادية ضمن الطلبة الأصحاء.
أول كفيفة في المدرسة
وهكذا التحقت شيخة بعد عودتها إلى وطنها بمدرسة الغالية بنت ناصر الثانوية في ولاية عبري، فكانت أول كفيفة تدرس بها. ورغم أن المدرسة لم تكن مهيأة لتدريس فتاة كفيفة، إلا أنها تمكنت من اجتياز كافة العقبات، بإرادتها الصلبة وشغفها بالعلم علاوة على مساعدة كل المحيطين بها من أجل أن تحقق أحلامها (إلى درجة أن المدرسة سمحت لها بإجراء كافة اختباراتها بطريقة شفوية)، وكانت النتيجة أن استطاعت الحصول على المرتبة الأولى على القسم التطبيقي في الصف الثاني عشر بنسبة 94.88%.
الإنجليزية رغم الصعاب
لكن ماذا فعلت في أعقاب إتمامها المرحلة الثانوية؟ قررت أن تواصل تعليمها الجامعي بالالتحاق بجامعة السلطان قابوس في مسقط، مفضلة التخصص في اللغات، وخصوصا اللغة الإنجليزية. لكن مرة أخرى نجدها تصطدم بمعوق جديد. فالجامعة لئن قبلتها للدراسة في كلية الآداب والعلوم الاجتماعية، إلا أنها رفضت التحاقها بكلية اللغة الإنجليزية مخيرة إياها ما بين تخصص اللغة العربية وتخصص التاريخ. لم تستسلم شيخة للأمر وواصلت محاولاتها، إلى أن نجحت في إقناع المسؤولين بقدرتها على دراسة التخصص المرغوب والاستجابة لكافة متطلباته وشروطه بما في ذلك جعل سنتها الأولى سنة تجريبية للتأكد من قدراتها.
دعونا نقرأ ما قالته عن الصعوبات التي واجهتها في مرحلتها الجامعية: «كانت أبرز المشاكل هي عدم توفر الكتب بطريقة برايل، أو بأقراص سمعية، فتخصصي يحتاج إلى الاطلاع الدائم وقراءة الكتب والصحف والمجلات، وكل ذلك لا يتوافر دائما على شبكة الإنترنت، كما أن النظر يساعد المترجم في تذكر تهجئة الكلمات باللغة الإنجليزية، ولكن مع افتتاح المعمل الخاص بذوي الاحتياجات الخاصة، انجلى الظلام بعض الشيء، فأصبح بالإمكان المسح الضوئي للكتب، وتحويلها إلى ملفات وورد ومن ثم قراءتها من خلال الشاشات الناطقة».
وبمجرد تخرجها من الجامعة بنجاح، حاملة درجة البكالوريوس في تخصص الترجمة راحت تبحث عن وظيفة كي تحقق استقلاليتها المادية وتبرز مواهبها العلمية في خدمة وطنها، فكاتبت جهات عديدة وأجرت مقابلات وامتحانات كثيرة إلى أن وفقت في العثور على فرصة وظيفية تحت التدريب لمدة شهرين لدى «هيئة تقنية المعلومات» المعروفة بـ«عمان الرقمية»، حيث اكتشف مسؤولو الهيئة مدى قدرتها الفائقة في التعامل مع التكنولوجيا في أداء الأعمال الموكلة لها، فكان أن تغيرت نظرتهم إليها وكان قرارهم بتعيينها في وظيفة أخصائية إعلام وتوعية وتدقيق لغوي وكتابة وترجمة المحتويات باللغتين العربية والإنجليزية وإدارة الحملات الإعلامية والترويجية. وهنا أيضا لم يمض على عملها سوى عامين إلا والاختيار يقع عليها لتصبح «موظفة الشهر».
شغف القيادة والإدارة والتطوير
على أن الباحثين عن التميز والارتقاء، والمجبولين على الشغف بأكثر من مجال، من أمثال شيخة، لا يستطيعون الاكتفاء بشهادة جامعية يتيمة وتخصص وحيد. ومن هنا كان قرارها أن تواصل تعليمها العالي وصولا إلى نيل درجة الماجستير في إدارة الأعمال. أما لماذا إدارة الأعمال؟ فلأن لديها ــ بحسب قولها ــ «شغفا كبيرا في مجال القيادة والإدارة والتطوير، فالإدارة تدخل في جميع حياتنا وليس فقط في الجانب الوظيفي، كما أن عشقي للتحدي هو ما حفزني لدخول هذا الجانب، فمن النادر أن نجد كفيفا عمانيًا متخصصا في هذا المجال، فأرغب أن ينعكس هذا الإنجاز في أعمالي القادمة ويطور من ذاتي أكثر مما سبق، ويمكنني في المساهمة من تطوير حياة ذوي الإعاقة، ومستواهم الفكري والثقافي بشكل أكبر».
رغبة جامحة في التعلم
انطلاقا من هذا المفهوم وإشباعا لتلك الرغبة الجامحة كاتبت شيخة عدة جامعات من أجل قبولها، فكان نصيبها الرفض، إلى أن نجحت عام 2017 في الالتحاق ببرنامج التعلم عن بُعد بجامعة بدفوردشير البريطانية التي منحتها درجة الماجستير في العام التالي، لتقول بذلك للدنيا كلها إنه «لا إعاقة بوجود الإرادة والطموح»، وإن «الإعاقة إنْ وجدتْ فهي إعاقة العقول والقلوب».
واليوم تعمل شيخة من خلال وظيفتها بهيئة تقنية المعلومات العمانية على تنفيذ خطة الهيئة حول نشرالتوعية بسياسة النفاذ الرقمي لذوي الإعاقة وكبار السن. وهذه الخطة واحدة من المبادرات التي وضعتها الهيئة بالشراكة مع مختلف الجهات الحكومية والخاصة في السلطنة لتسهيل وصول ذوي الإعاقة للمواقع الإلكترونية، والحصول على الخدمات الإلكترونية وتوفير الوسائل والوسائط التي تسهل من النفاذية الرقمية لجميع فئات المجتمع بمن فيهم ذوو الإعاقة. وتركز الخطة على عدد من القطاعات من تلك المعنية بتقديم خدماتها لهذه الفئات كقطاع التعليم والصحة والنقل والاتصالات والإعلام والحكومة الإلكترونية والعمال والخدمات الاجتماعية والمصارف، من خلال توفير أجهزة كجهاز الأسطر الإلكترونية المخصص للمكفوفين الذي يُستخدم فيه نظام برايل، بحيث يمكن للكفيف من دخول المواقع والتصفح واللمس لتحديد المواقع على الخرائط.
تؤمن شيخة إيمانا شديدا، من واقع تجربتها الشخصية، أنه مع وجود التكنولوجيا المساعدة، أصبح بإمكان فاقدي البصر والآخرين من فئة ذوي الاحتياجات الخاصة ممارسة وأداء أعمالهم بشكل مستقل وفعال، بل صار المستقبل أمامهم واعدا.
تحدث الكاتب الكويتي يوسف عبدالرحمن عنها في مقال له بجريدة الأنباء الكويتية (24/5/2017) فذكر ضمن أمور أخرى أن شيخة موهوبة في الخط العربي وفي حفظ القرآن، حيث حصلت على المركز الثاني في إحدى مسابقات القرآن الكريم، ولديها لوحات كثيرة بالخط العربي تطمح في الاتجار بها، كما أنها تشق طريقها بثبات نحو الترجمة الأدبية. وأضاف أن الإنجاز الإنساني لهذه الفتاة العمانية الطموحة يذكره بما قاله الشاعر اللبناني الكبير جبران خليل جبران:
في قلب كل شتاء ربيع يختلج
وراء نقاب كل ليل فجر يبتسم
واختتم الكاتب مقاله بالإشارة إلى مقابلة أجرتها هيئة الإذاعة البريطانية مع شيخة فقال معلقا: «ولكم أن تتخيلوا لو أن هذه الأسرة استكانت وركنت إلى الانهزام أمام الإعاقة.. هل رأينا واستمعنا لابنتنا شيخة الجساسي؟ إنني أوجه الأنظار، خاصة الأمهات والآباء، إنْ رزقكم الله بأطفال ذوي إعاقة تقبلوا الأمر بصدر رحب واعملوا كل ما في وسعكم وأعطوهم الرعاية والفرصة وادمجوهم في المجتمع، ولا تعزلوهم بل أعطوهم الثقة واعملوا معهم في النور».
وأخيرا سألوها في أحايين كثيرة عن كيفية رؤيتها للجمال، فكان جوابها أن الجمال بالنسبة لها تجربة وإحساس وليس رؤية، موضحة أنها ترى الجمال في سماعها لأصوات الموج، أو شعورها بنسمات الهواء البارد تلفح وجهها، أو إحساسها بفرح من حولها من خلال ضحكاتهم. وذات مرة سألتها إحداهن إنْ كانت تتمنى أن تبصر فأجابت دون تردد أنها تعودت الآن على حياة المكفوفين، وأنها باتت راضية وقانعة بوضعها. أما من قالت لها في أحد الأيام: «تبدين كما لو نسيت أنك كفيفة» فقد ردت عليها قائلة: «إنه لشيء جميل لو اعتقد من حولي أنني لست مختلفة عن بقية البشر، وأن الاختلاف الوحيد هو أنني فاقدة لإحدى حواسي ليس إلا».
صحيح أن أول من أحدث اختراقا لجهة بعث الأمل عند المكفوفين هو الفرنسي لويس برايل (توفي 1852)، وذلك من خلال تطوير ما يسمى «طريقة برايل»، وهو نظام كتابة وقراءة عالمي يستخدمه فاقدو البصر بتمرير الأصابع على حروف مكتوبة بنتوءات بارزة (من واحد إلى ستة نتوءات)، لكن الصحيح أيضا أن هذا النظام لا يحقق لمستخدميه الطامحين بلوغ مرادهم إذا لم تتوفر لديهم الإرادة والاستعداد المشفوعين بالصبر والدأب المتواصل والإيمان بأن «من يتهيب صعود الجبال ** يعش أبد الدهر بين الحفر» و«إن ربك يعطي كل ذي همم ** ويجعل الصعب ميسورا لمن عملا».
وحي لقمان
ولئن كان هذا هو ما آمنت به المحامية والأكاديمية السعودية «وحي لقمان» ابنة الصحافي الراحل الصديق فاروق محمد لقمان رحمه الله، التي تعتبر أول سعودية كفيفة تحصل على درجة الدكتوراه في القانون من جامعة القاهرة (1998)، وتعمل ضمن أعضاء هيئة التدريس في قسم القانون بكلية الإدارة والاقتصاد بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، فإن قصة شقيقتها العمانية «شيخة محمود الجساسي» ربما كانت أكثر إثارة وبالتالي أدعى للسرد بسبب ما أحاط بها من صعاب شتى واغتراب في سن صغير، وعشق لمجاراة الأصحاء، وشغف بأكثر من مجال. إن قصتها باختصار هي قصة ملهمة لا يجب أن تمر مرور الكرام، إنما يجب التوقف عندها كونها بحق قصة من قصص العاشقين لذواتهم.
ابنة عبري
ولدت شيخة في مدينة عبري، على بعد 279 كيلومترا من مسقط. وعبري هي إحدى مدن محافظة الظاهرة الواقعة غرب سلطنة عمان عند نقطة التقاء حدود سلطنة عمان مع الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وهو ما أكسب هذه المحافظة موقعا متميزا وجعلها مركزا تجاريا واقتصاديا وبشريا هاما، ناهيك عن تميزها بالكثير من المواقع الأثرية.
كانت شيخة هي الطفل الأول لوالدها المنحدر من قبيلة بني جساس العدنانية، التي يتصل نسبها إلى جساس بن مرة بن وهب بن شيبان بن بكر بن وائل، وقد ولدت فاقدة للبصر فلم تكتمل فرحة والديها لكنهما رضيا بقضاء الله وقدره وأحاطاها منذ اليوم الأول لميلادها برعاية خاصة، مصممين على أن يبثا فيها روح الإرادة والعزيمة كي تصبح أفضل من المبصرين. وبطبيعة الحال بدأ والداها رحلة الأمل للبحث عن علاج لطفلتهما إلا أن ردود الأطباء كانت مخيبة لآمالهما، الأمر الذي أجبرهما على التكيف مع حالة شيخة التي راحت تكبر رويدا رويدا وتكثر من الحركة والضجيج واللعب غير مدركة اختلاف وضعها عن أقرانها. وبعد مرور بضع سنوات قررت والدتها أن تلحقها بروضة الأطفال التي كانت تحتضن معظم أقرانها من سكان الحي. وهكذا لم تشعر شيخة بأنها مختلفة عن الآخرين إلا بعد أن نقلت إلى مركز الوفاء الاجتماعي لذوي الاحتياجات الخاصة بولاية عبري حيث بدأت تتعلم طرق القراءة والكتابة المخصصة لمن كان في وضعها.
معهد النور
وفي هذه الأثناء كان والدها يريد لها إكمال دراستها النظامية في مدرسة ذات برامج خاصة بالمكفوفين، فطرق أبوابا كثيرة دون جدوى لأن السلطنة آنذاك كانت خالية من مثل هذه المدرسة، ثم لأن المدارس الحكومية العادية رفضت قبول شيخة بسبب وضعها الذي يستوجب عناية خاصة. لم يفقد الأب الأمل، وواصل محاولاته إلى أن تكللت بموافقة وزارة التربية والتعليم العمانية على ابتعاثها إلى البحرين لإتمام تعليمها الابتدائي والإعدادي في المعهد البحريني ــ السعودي للمكفوفين الذي كان يعرف آنذاك بـ«معهد النور». وهذا المعهد، الذي يعتبر ثمرة من ثمار التعاون بين المملكتين الشقيقتين، هو مؤسسة خيرية تأسست عام 1973 بمدينة المحرق قبل أن يـُنقل مقرها إلى مدينة عيسى عام 1991، وتهدف إلى مساعدة الأفراد المعاقين بصريا وتمكينهم من أن يعيشوا حياة مستقلة كريمة في المجتمع من خلال التعليم والتدريب والتكنولوجيا.
وحيدة في البحرين
وهكذا وصلت شيخة إلى البحرين وحيدة دون أهلها، وهي في سن الثامنة لتبدأ رحلة كفاحها وصمودها ضد الظلام. وبطبيعة الحال واجهتها صعوبات شتى في بلد لم تزره من قبل ووسط أناس لا تعرفهم، بل إنها كرهت التعليم لأن الموضوع ارتبط في ذهنها آنذاك بالابتعاد عن الأهل والوطن والخلان، ثم لأنها اعتقدت خطأ أن والدها بعثها إلى البحرين تخلصا منها ومن مسؤولياته تجاهها.
بمرور الوقت نجحت شيخة في التكيف مع وضعها الجديد والتعود على من حولها وما يجري في بيئتها البحرينية، خصوصا بعد أن تعلمت طريقة برايل، حيث راحت تكثر من القراءة والكتابة وتحقق ذاتها من خلال الحصول على المراتب الأولى في المعهد والمشاركة في مختلف الأنشطة الثقافية، بدليل نجاحها في حصد لقب «أفضل قارئ» مرتين على التوالي.
في حوار لها مع موقع «نوت» الإلكتروني في فبراير 2018 أخبرتنا شيخة أن تميزها في المعهد أمدها بشعور أنها تمثل بلادها وتمثل البحرين أيضا، فراحت تجتهد لتمثيلهما خير تمثيل، وهو ما تحقق بحصولها على نسبة 97% في سنتها الدراسية الأخيرة. حيث تخرجت في يونيو عام 2004 ضمن الفوج العاشر من خريجي المعهد، وتمّ تكريمها في «عيد العلم» السنوي من قبل الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء. وفي لحظة تخرجها ذكّرها والدها، الذي كان بجانبها، بأن قراره بإرسالها إلى البحرين لم يكن تخلصا منها وإنما رغبة منه في حصولها على نفس العلم الذي يتلقاه الأصحاء. وعليه عادت شيخة إلى السلطنة بعد أن أمضت في رحاب معهد المكفوفين تسع سنوات كاملة كانت كفيلة ــ بحسب برامج المعهد ــ كي تندمج على إثرها في المدارس الثانوية العادية ضمن الطلبة الأصحاء.
أول كفيفة في المدرسة
وهكذا التحقت شيخة بعد عودتها إلى وطنها بمدرسة الغالية بنت ناصر الثانوية في ولاية عبري، فكانت أول كفيفة تدرس بها. ورغم أن المدرسة لم تكن مهيأة لتدريس فتاة كفيفة، إلا أنها تمكنت من اجتياز كافة العقبات، بإرادتها الصلبة وشغفها بالعلم علاوة على مساعدة كل المحيطين بها من أجل أن تحقق أحلامها (إلى درجة أن المدرسة سمحت لها بإجراء كافة اختباراتها بطريقة شفوية)، وكانت النتيجة أن استطاعت الحصول على المرتبة الأولى على القسم التطبيقي في الصف الثاني عشر بنسبة 94.88%.
الإنجليزية رغم الصعاب
لكن ماذا فعلت في أعقاب إتمامها المرحلة الثانوية؟ قررت أن تواصل تعليمها الجامعي بالالتحاق بجامعة السلطان قابوس في مسقط، مفضلة التخصص في اللغات، وخصوصا اللغة الإنجليزية. لكن مرة أخرى نجدها تصطدم بمعوق جديد. فالجامعة لئن قبلتها للدراسة في كلية الآداب والعلوم الاجتماعية، إلا أنها رفضت التحاقها بكلية اللغة الإنجليزية مخيرة إياها ما بين تخصص اللغة العربية وتخصص التاريخ. لم تستسلم شيخة للأمر وواصلت محاولاتها، إلى أن نجحت في إقناع المسؤولين بقدرتها على دراسة التخصص المرغوب والاستجابة لكافة متطلباته وشروطه بما في ذلك جعل سنتها الأولى سنة تجريبية للتأكد من قدراتها.
دعونا نقرأ ما قالته عن الصعوبات التي واجهتها في مرحلتها الجامعية: «كانت أبرز المشاكل هي عدم توفر الكتب بطريقة برايل، أو بأقراص سمعية، فتخصصي يحتاج إلى الاطلاع الدائم وقراءة الكتب والصحف والمجلات، وكل ذلك لا يتوافر دائما على شبكة الإنترنت، كما أن النظر يساعد المترجم في تذكر تهجئة الكلمات باللغة الإنجليزية، ولكن مع افتتاح المعمل الخاص بذوي الاحتياجات الخاصة، انجلى الظلام بعض الشيء، فأصبح بالإمكان المسح الضوئي للكتب، وتحويلها إلى ملفات وورد ومن ثم قراءتها من خلال الشاشات الناطقة».
وبمجرد تخرجها من الجامعة بنجاح، حاملة درجة البكالوريوس في تخصص الترجمة راحت تبحث عن وظيفة كي تحقق استقلاليتها المادية وتبرز مواهبها العلمية في خدمة وطنها، فكاتبت جهات عديدة وأجرت مقابلات وامتحانات كثيرة إلى أن وفقت في العثور على فرصة وظيفية تحت التدريب لمدة شهرين لدى «هيئة تقنية المعلومات» المعروفة بـ«عمان الرقمية»، حيث اكتشف مسؤولو الهيئة مدى قدرتها الفائقة في التعامل مع التكنولوجيا في أداء الأعمال الموكلة لها، فكان أن تغيرت نظرتهم إليها وكان قرارهم بتعيينها في وظيفة أخصائية إعلام وتوعية وتدقيق لغوي وكتابة وترجمة المحتويات باللغتين العربية والإنجليزية وإدارة الحملات الإعلامية والترويجية. وهنا أيضا لم يمض على عملها سوى عامين إلا والاختيار يقع عليها لتصبح «موظفة الشهر».
شغف القيادة والإدارة والتطوير
على أن الباحثين عن التميز والارتقاء، والمجبولين على الشغف بأكثر من مجال، من أمثال شيخة، لا يستطيعون الاكتفاء بشهادة جامعية يتيمة وتخصص وحيد. ومن هنا كان قرارها أن تواصل تعليمها العالي وصولا إلى نيل درجة الماجستير في إدارة الأعمال. أما لماذا إدارة الأعمال؟ فلأن لديها ــ بحسب قولها ــ «شغفا كبيرا في مجال القيادة والإدارة والتطوير، فالإدارة تدخل في جميع حياتنا وليس فقط في الجانب الوظيفي، كما أن عشقي للتحدي هو ما حفزني لدخول هذا الجانب، فمن النادر أن نجد كفيفا عمانيًا متخصصا في هذا المجال، فأرغب أن ينعكس هذا الإنجاز في أعمالي القادمة ويطور من ذاتي أكثر مما سبق، ويمكنني في المساهمة من تطوير حياة ذوي الإعاقة، ومستواهم الفكري والثقافي بشكل أكبر».
رغبة جامحة في التعلم
انطلاقا من هذا المفهوم وإشباعا لتلك الرغبة الجامحة كاتبت شيخة عدة جامعات من أجل قبولها، فكان نصيبها الرفض، إلى أن نجحت عام 2017 في الالتحاق ببرنامج التعلم عن بُعد بجامعة بدفوردشير البريطانية التي منحتها درجة الماجستير في العام التالي، لتقول بذلك للدنيا كلها إنه «لا إعاقة بوجود الإرادة والطموح»، وإن «الإعاقة إنْ وجدتْ فهي إعاقة العقول والقلوب».
واليوم تعمل شيخة من خلال وظيفتها بهيئة تقنية المعلومات العمانية على تنفيذ خطة الهيئة حول نشرالتوعية بسياسة النفاذ الرقمي لذوي الإعاقة وكبار السن. وهذه الخطة واحدة من المبادرات التي وضعتها الهيئة بالشراكة مع مختلف الجهات الحكومية والخاصة في السلطنة لتسهيل وصول ذوي الإعاقة للمواقع الإلكترونية، والحصول على الخدمات الإلكترونية وتوفير الوسائل والوسائط التي تسهل من النفاذية الرقمية لجميع فئات المجتمع بمن فيهم ذوو الإعاقة. وتركز الخطة على عدد من القطاعات من تلك المعنية بتقديم خدماتها لهذه الفئات كقطاع التعليم والصحة والنقل والاتصالات والإعلام والحكومة الإلكترونية والعمال والخدمات الاجتماعية والمصارف، من خلال توفير أجهزة كجهاز الأسطر الإلكترونية المخصص للمكفوفين الذي يُستخدم فيه نظام برايل، بحيث يمكن للكفيف من دخول المواقع والتصفح واللمس لتحديد المواقع على الخرائط.
تؤمن شيخة إيمانا شديدا، من واقع تجربتها الشخصية، أنه مع وجود التكنولوجيا المساعدة، أصبح بإمكان فاقدي البصر والآخرين من فئة ذوي الاحتياجات الخاصة ممارسة وأداء أعمالهم بشكل مستقل وفعال، بل صار المستقبل أمامهم واعدا.
تحدث الكاتب الكويتي يوسف عبدالرحمن عنها في مقال له بجريدة الأنباء الكويتية (24/5/2017) فذكر ضمن أمور أخرى أن شيخة موهوبة في الخط العربي وفي حفظ القرآن، حيث حصلت على المركز الثاني في إحدى مسابقات القرآن الكريم، ولديها لوحات كثيرة بالخط العربي تطمح في الاتجار بها، كما أنها تشق طريقها بثبات نحو الترجمة الأدبية. وأضاف أن الإنجاز الإنساني لهذه الفتاة العمانية الطموحة يذكره بما قاله الشاعر اللبناني الكبير جبران خليل جبران:
في قلب كل شتاء ربيع يختلج
وراء نقاب كل ليل فجر يبتسم
واختتم الكاتب مقاله بالإشارة إلى مقابلة أجرتها هيئة الإذاعة البريطانية مع شيخة فقال معلقا: «ولكم أن تتخيلوا لو أن هذه الأسرة استكانت وركنت إلى الانهزام أمام الإعاقة.. هل رأينا واستمعنا لابنتنا شيخة الجساسي؟ إنني أوجه الأنظار، خاصة الأمهات والآباء، إنْ رزقكم الله بأطفال ذوي إعاقة تقبلوا الأمر بصدر رحب واعملوا كل ما في وسعكم وأعطوهم الرعاية والفرصة وادمجوهم في المجتمع، ولا تعزلوهم بل أعطوهم الثقة واعملوا معهم في النور».
وأخيرا سألوها في أحايين كثيرة عن كيفية رؤيتها للجمال، فكان جوابها أن الجمال بالنسبة لها تجربة وإحساس وليس رؤية، موضحة أنها ترى الجمال في سماعها لأصوات الموج، أو شعورها بنسمات الهواء البارد تلفح وجهها، أو إحساسها بفرح من حولها من خلال ضحكاتهم. وذات مرة سألتها إحداهن إنْ كانت تتمنى أن تبصر فأجابت دون تردد أنها تعودت الآن على حياة المكفوفين، وأنها باتت راضية وقانعة بوضعها. أما من قالت لها في أحد الأيام: «تبدين كما لو نسيت أنك كفيفة» فقد ردت عليها قائلة: «إنه لشيء جميل لو اعتقد من حولي أنني لست مختلفة عن بقية البشر، وأن الاختلاف الوحيد هو أنني فاقدة لإحدى حواسي ليس إلا».