سبقت المرأة البحرينية شقيقاتها الخليجيات لجهة تبوؤ أعلى المناصب القيادية، وخوض غمار كافة المجالات الاجتماعية والتعليمية والصحية والاقتصادية والسياسية والتشريعية على قدم المساواة مع شقيقها الرجل. وكان هذا نتيجة طبيعية لعاملين مؤثرين أولهما التعليم المبكر للمرأة البحرينية الذي بدأ في عام 1928 بافتتاح مدرسة خديجة الكبرى بالمحرق في تلك السنة، وثانيهما الدعم المستمر من لدن القيادة السياسية منذ ما قبل نيل البلاد لكامل سيادتها في عام 1971، وصولا إلى الثاني والعشرين من أغسطس عام 2001 حينما تأسس المجلس الأعلى للمرأة بقيادة الأميرة سبيكة بنت إبراهيم آل خليفة بموجب الأمر الأميري رقم 44 لسنة 2001. هذا الكيان الذي أخذ على عاتقه مذاك عملية بناء المجتمع التنافسي المستدام، وتطبيق منهجية تعتمد الشمولية والأداء المؤسسي بما يضمن للمرأة البحرينية الاستقرار الأسري والترابط العائلي، ويمكنها في الوقت نفسه من متطلبات القدرة التنافسية في مجالات التنمية، القائمة على مبدأ تكافؤ الفرص، وإدماج احتياجات المرأة في التنمية، مع العمل على تنويع وإثراء الخيارات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والتدريبية من تلك التي تحقق لها فرص التميز في الأداء والارتقاء بخياراتها نحو جودة حياتها والتعلم مدى العمر.
وهكذا باتت صفحات تاريخ البحرين حافلة بنساء حلقن في فضاءات السياسة والاقتصاد والتربية والثقافة والطب والهندسة والعلوم والإدارة والقضاء والدبلوماسية والشرطة والإعلام والآثار والفنون بمختلف أشكالها وغيرها من الميادين، بل إن الكثيرات منهن حققن للبلاد ما لم يحققه الرجل لجهة حصد الجوائز والمناصب العربية والإقليمية والدولية.
فإذا ما أخذنا الطب على سبيل المثال نجد طبيبات مثل الدكتورة ابتسام السيد كاظم العلوي استشارية أمراض طب وجراحة العيون التي فازت بجائزة الطبيب العربي المقدمة من مجلس وزراء الصحة العرب في يناير 2020، فكانت بذلك أول طبيبة بحرينية تفوز بتلك الجائزة. وحصدت الطبيبة البحرينية سها أحمد غريب في عام 2019 جائزة أفضل طبيبة بيطرية لدول مجلس التعاون الخليجي لتكون أول طبيبة بحرينية تفوز بهذه الجائزة التي تقدمها سنويا شركة المراعي السعودية بالتعاون مع جامعة الملك فيصل تحت إشراف الجمعية البيطرية السعودية بهدف تكريم المتميزين والمتميزات في مجال الطب البيطري بدول مجلس التعاون. وتمكنت الدكتورة إلهام عطا الله، وهي أول طبيبة بحرينية وخليجية مؤهلة أكاديميا في الطب الجنسي والعلاقات الزوجية من جامعتي الخليج العربي وجامعة كرتن بمدينة بيرث الأسترالية وحاصلة على شهادة المجلس العربي في اختصاص طب الأسرة وشهادة البورد الآيرلندي في طب العائلة من نيل الانتداب من قبل منظمة الصحة العالمية كعضو في مجموعة إرساء ومراجعة التصنيف العالمي للأمراض المتعلقة باضطراب النشاط الجنسي عند الزوجين ووضع إطار عام للعاملين في حقل الرعاية الصحية الأولية للذين يعانون من اضطرابات النشاط الجنسي. ونجحت الدكتورة زينب عبدالهادي المحسن استشارية طب العائلة والرضاعة الطبيعية في أن تصبح أول طبيبة بحرينية حاصدة للتخصص العالمي للرضاعة الطبيعية بحصولها على البورد العالمي في هذا المجال من الولايات المتحدة الأمريكية.
أول امرأة تتخص في الطب الشرعي
على أن حديثنا هنا يقتصر على طبيبة بحرينية دخلت تاريخ بلدها كأول امرأة تتخص في الطب الشرعي، وهو مجال يهابه الرجل الخليجي (لما فيه من حالات مرعبة مثل تشريح جثث القتلى والمتوفين ومعاينة لأجساد مقطعة أو متعفنة تحيط بها الديدان وتنبعث منها الروائح الكريهة) فما بالك بالمرأة الخليجية. هذه الطبيبة هي الدكتورة فاطمة عبدالرحمن محمد خليفة الفاضل التي ذكرت في حوار أجرته معها صحيفة الأيام البحرينية (28/2/2016) أنها عشقت هذا التخصص لما يحيط به من أسرار وغموض، ولما يتخلله من جهد وتفكير لفك الطلاسم المحيطة بالجرائم تحقيقا للعدالة.
إن دخول المرأة البحرين ممثلة بالدكتورة فاطمة الفاضل هذا المجال الوعر والحساس، لهو دليل إضافي على جسارتها وجدارتها وقوة أعصابها، ومثال على أن رقة المشاعر عند النساء لا تحول دون إثبات أنهن لسن أقل من الرجال قوة وثباتاً وقدرة على الاحتمال في مجال الكشف عن حالات الوفيات الجنائية والمشتبهة والتعامل مع حالات الاعتداءات الجسدية والجنسية.
وقبل أن نطلع على سيرة الدكتورة الفاضل ومشواريها الدراسي والمهني، لا بد من إلقاء بعض الضوء على تخصصها العلمي. إذ يرجع السبب في الاستعانة بعلم الطب الشرعي في المجال الجنائي إلى عجز المحققين عن معرفة أسباب الوفاة أو الإصابات لتوجيه التهم، لذا كان من الضروري الاستعانة بمتخصصين كي تسير عملية التحقيق وفق منطق الأخذ بحجة القانون ومبدأ الإثبات الذي دعت إليه كافة الشرائع المتحضرة. ومن هنا كان علم الطب الشرعي من أول العلوم التطبيقية الجنائية الفنية التي دخلت مجال مكافحة الجريمة.
الطب الشرعي
يعود تاريخ هذا العلم إلى حقبة طويلة ماضية، حيث استخدم لأول مرة عند وفاة يوليوس قيصر، حينما تشكلت لجنة من أعضاء برلمان روما ونبلاء البلاد للتحقيق في أسباب وفاته، فتم فحص جثته من قبل طبيب أكد أن وفاته لم تكن طبيعية وإنما بسبب تلقيه 23 طعنة خنجر. ومذاك حدثت تطورات متتالية كان من نتائجها إنشاء كليات للطب الشرعي، وتخرج أطباء متخصصين، ووضع العديد من المؤلفات ذات العلاقة بالسموم وموت الأجنة والنقص العقلي وأعمال الاغتصاب. ومما يجدر بنا الإشارة إليه أن إيطاليا هي الدولة الأوروبية الرائدة في هذا المجال كونها أول بلد تعين أطباء أمام المحاكم لتحديد طبيعة الإصابات، ناهيك عن أنها موطن الجراح المشهور «هوجر دي لوكا» الذي أسس قسما للطب الشرعي عام 1249 وأجرى أول عملية تشريح عام 1304 في مدينة بولونيا.
عربيا، تفتخر مصر بأنها من أوائل الدول العربية التي مارست العلوم الطبية الشرعية ضمن العلوم الجنائية بمفهومها الحديث، كيف لا والتاريخ يذكر لها أن قدماءها الفراعنة هم أول من قاموا بتحنيط الجثث، بل برز من بينهم الطبيب «أمعتب» الذي جمع بين رئاسة القضاء وعلاج الفرعون «زوسر». ففي عام 1928 قامت نظارة الحقانية (وزارة العدل) بتأسيس إدارة للطب الشرعي بمعرفة الطبيب الإنجليزي «سيدني سميث» كبير الأطباء الشرعيين في البلاد آنذاك، فظهرت معامل للفحص المجهري وعمل الأبحاث الكيميائية، ووحدة للأشعة، ومقر للكشف عن التزوير والتزييف، ومكتبة للأرشفة، علما بأن الأطباء الشرعيين في تلك الفترة كانوا على كادر القضاة ويتمتعون بنفس حصانتهم. ومنذ عام 1962 تحول الطب الشرعي إلى مصلحة رسمية تابعة لوزارة العدل برئاسة كبير الأطباء الشرعيين. وكانت هذه من أهم العوامل التي ساعدت الأطباء الشرعيين المصريين في تطوير أعمالهم تحقيقا للعدالة.
أسرار الجثث
ولدت فاطمة الفاضل بمدينة المنامة في الثالث عشر من يونيو سنة 1980 ونشأت بمدينة الرفاع في أسرة متدينة محافظة معروفة، ابنة لوالدها الشيخ الدكتور عبدالرحمن محمد خليفة الفاضل القاضي بمحكمة الاستئناف الشرعية العليا وخطيب صلاة الجمعة السابق بمسجد نوف النصار بمدينة عيسى ولوالدتها ابنة الشيخ عبدالرحمن علي الجودر (توفي 1989) من عائلة الجودر المحرقية المعروفة. أنهت دراستها الابتدائية بمدرسة الخنساء للبنات بمدينة عيسى، ودراستها الإعدادية بمدرسة الرفاع الغربي الإعدادية للبنات.
من بعد حصولها على شهادة الثانوية العامة من مدرسة مدينة عيسى الثانوية للبنات سافرت فاطمة في عام 1999 إلى مصر على نفقة أسرتها وسكنت هناك في بيت الطالبات البحرينيات والتحقت بكلية الطب في جامعة القاهرة التي تخرجت فيها عام 2008، وأثناء دراستها في الجامعة المصرية كان منهاج الدراسة يتطلب دروسا عملية في تشريح الجثث، فوجدت في الأمر ما يشبع نهمها في البحث عن الحقيقة، «فكل جثة تحمل الكثير من القصص الغريبة وراءها، وكل ندبة وجرح يكشف أسرارًا خافية تمثل مفاتيح لألغاز تلك الجثة التي غادرت الحياة، وتركت آثارًا تحكي واقعة حدثت لم تجد شاهدًا عليها، فكان البحث في الجثث يعتبر بحثًا في ما وراء الطبيعة»، بحسب قولها.
حبها لهذا التخصص دون بقية التخصصات، وعشقها لما يتضمنه من إثارة لم يمنع إصابتها بالدوار وقرب سقوطها مغشيا عليها حينما شاهدت أول جثة لرجل مقتول، لكن بمرور الوقت صارت عمليات تشريح الجثث مهمة روتينية بالنسبة لها، بل باتت مثل أي عملية جراحية عادية يقوم بها زملاؤها وزميلاتها، إلى درجة صارت معها تنفذ المطلوب منها بمفردها دون خوف أو وجل، بل أضحت تنظر إلى التشريح كمهمة أيسر بكثير من إجراء العمليات للأحياء. وقد سجل عنها قولها في هذا السياق «ربما يخشى الطبيب حدوث ألم أو خطأ طبي في الجراحات، يؤثر سلبا على مستقبل المريض في حياته، بينما عملي لا يمكن أن يكون به ألم للجثة أو خطأ يؤثر على مستقبلها في القبر».
العودة لمصر متدربة
حينما عادت فاطمة من رحلتها التعليمية في مصر، عملت خلال مرحلة الامتياز (فترة إلزامية مدتها سنة يقضيها الطبيب المتخرج في التدريب السريري كي يصبح بعدها مؤهلا لممارسة الطب) بمستشفى السلمانية بالمنامة (وضع حجر أساسه عام 1956 وافتتح عام 1959)، لكنها لم تجد ضمن التخصصات المتاحة تخصص الطب الشرعي الذي عشقته وتمنت العمل فيه، كما لم تكن هناك إعلانات لطلب متخصصين أو متدربين في هذا المجال. لذا فإنها عملت لفترة قصيرة في أحد المستشفيات الخاصة في أعقاب إكمالها مرحلة الامتياز وراحت تنتظر، فإذا بالصدفة وحدها تقودها إلى حلمها.
وملخص القصة كما روتها بنفسها «جاءني أحد المرضى وكان يعمل في الطب الشرعي، فسألته عما إذا كانوا يبحثون عن أطباء، فأجاب أن كل الأطباء الموجودين غير بحرينيين، فأعطيته رقم هاتفي وطلبتُ منه في حال وجود توظيف أن يتصل بي. وبعد سنة ونصف، وبعد أنْ كنتُ قد يئست، أتاني اتصال من هذا الرجل، وجدته يقول لي: لو ما زلت تريدين العمل في الطب الشرعي، فيجب أن تأتي بسرعة لتقديم أوراقك. فلم أنتظر وذهبت صباح اليوم التالي إلى الطب الشرعي وقدمت الأوراق وقبلوني كمتدربة لمدة سنة ابتداء من أول مايو عام 2013، ثم أرسلوني إلى مصلحة الطب الشرعي بمصر لبعض الوقت للتدريب هناك». وبهذا عادت فاطمة إلى البلد الذي أنهت فيه دراستها الجامعية لكن هذه المرة متدربة وليست طالبة.
أغرب الحالات
خلال مرحلة التدريب أولا في البحرين ثم في مصر، قامت بعدة عمليات تشريح للجثث. ففي البحرين، التي تعد فيها الجرائم قليلة مقارنة بغيرها من الدول، قامت بأربع أو خمس عمليات تشريح ومثلها التعامل مع حوادث الاعتداءات الجنسية والبدنية. أما في مصر فقد كانت أمام جرائم وحالات أكثر عددا. سألتها جريدة الأيام عن أغرب الحالات التي واجهتها أثناء فترة التدريب، فكان جوابها حالة في مصر لجثة قتيلة مقطوعة نصفين متماثلين بشكل لا يمكن تصوره، فتساءلت عن كيفية قدرة القاتل على فصل الجسد لنصفين متساويين بما في ذلك العمود الفقري، فقيل لها إن الجثة لامرأة ضربها زوجها بساطور فشطرها إلى نصفين. وفي البحرين كان أغرب الحالات التي تعاملت معها حالة جثة رجل توفي في شقته منذ فترة طويلة تجاوزت الأسبوع، الأمر الذي تسبب في عفونتها وتكوّن ديدان كثيرة متحركة فوقها، فقامت مع زملائها أولا بإزالة تلك الديدان بالماء من فوق الجثة ثم قاموا بعملية التشريح المعتادة. هذا إضافة لحالة فتاة آسيوية منتحرة، قامت بتصوير نفسها وهي تنتحر، حيث قامت فاطمة بمشاهدة الفيديو قبل الكشف عليها فوجدته مطابقًا للإصابات التي قد يحتمل معها القتل وليس الانتحار، «لقد كان غريبًا فعلا أن يقوم إنسان بتوثيق انتحاره ويسلمنا الدليل على عدم تورط آخرين في قتله»، بحسب كلامها.
وفي السياق نفسه، شرحت الدكتورة فاطمة جزءا من طبيعة عملها فقالت: «أولاً نبدأ بالكشف الظاهري وما على الجثة من آثار خارجية، ثم نبدأ من الرأس فنفتح الجمجمة ونخرج المخ للكشف عما إذا كانت هناك نزف داخلي، ثم يتم فتح القفص الصدري للبحث عن كسور أو ما شابه، ثم نخرج الرئتين والقلب والأمعاء للبحث عن أي إصابات». وحول حالات الإعتداءات الجنسية التي عـُرضت عليها أثناء عملها أخبرتنا أن المشكلة الرئيسية في مثل هذه الحالات هي أن المجني عليهن عادة ما يحاولن إخفاء أمور حرجة من منطلق أنها بسيطة ولا تستوجب التصريح بها، بينما هي ضرورية في سياق كشف الحقائق ومعرفة عمليات الكذب والتضليل. واستطردت قائلة: «يأتي التعامل مع الأطفال على رأس الصعوبات في الكشف الجنائي، حيث لا يمكن السيطرة عليهم بشكل كامل مثلما يحدث مع الراشدين».
الحياة خارج مشرحة الجثث
لكن كيف تعيش امراة مثلها حياتها خارج نطاق عملها الفريد المرعب، وهي التي تقضي ساعات دوامها في المشرحة بين جثث القتلى والأموات؟ تقول فاطمة إنها بمجرد انتهاء دوامها تمارس حياتها بصورة طبيعية كأي امرأة أخرى، ولا تفكر إلا بما ستفعله صبيحة اليوم التالي، وإنْ كانت بعض الصور، ولا سيما صور الجثث المتعفنة ذات الديدان، تقطع عليها أحلامها وتستولي على مشاعرها في أحايين كثيرة. غير أن ذلك لم يثبط عزيمتها قط ولم يدعها تعيد التفكير في ما عشقته واختارته كمهنة. لذا فهي مصممة على المواصلة من منطلق أن كل مهنة تتضمن شقين أحدهما حلو والآخر مر، خصوصا أنها تلقى الدعم والمساندة والترحيب من كل العاملين معها.
وهكذا نجد فاطمة تعمل اليوم بجد ومثابرة في عملها الحالي الشاق والمختلف عن بقية المهن في قسم الطب الشرعي في الإدارة العامة للأدلة المادية (تعتبر هذه الإدارة الجزء الفني والعلمي للنيابة العامة وتعمل تحت إدارة مدنية مستقلة تماما عن جهاز النيابة العامة في مساعدة الأخيرة على تحقيق العدالة بالطرق العلمية من خلال إبداء الرأي وفحص عينات الحالات والقضايا التي تــُحال إليها، علما أن التشغيل الفعلي لقسم الطب الشرعي بدأ في أوائل مارس 2008).
وهي في عملها هذا تبدو غير آبهة بما تقوله صديقاتها عن عملها «المقرف» بحسب وصفهن، كما أنها حريصة على المحافظة على سرية الحالات التي تـُعرض عليها. وفوق هذا كله تحلم ــ مثل كل نساء البحرين الطموحات ــ بإكمال دراستها العليا في تخصص الطب الشرعي سعيا للحصول على درجتي الماجستير ثم الدكتوراه.
وهكذا باتت صفحات تاريخ البحرين حافلة بنساء حلقن في فضاءات السياسة والاقتصاد والتربية والثقافة والطب والهندسة والعلوم والإدارة والقضاء والدبلوماسية والشرطة والإعلام والآثار والفنون بمختلف أشكالها وغيرها من الميادين، بل إن الكثيرات منهن حققن للبلاد ما لم يحققه الرجل لجهة حصد الجوائز والمناصب العربية والإقليمية والدولية.
فإذا ما أخذنا الطب على سبيل المثال نجد طبيبات مثل الدكتورة ابتسام السيد كاظم العلوي استشارية أمراض طب وجراحة العيون التي فازت بجائزة الطبيب العربي المقدمة من مجلس وزراء الصحة العرب في يناير 2020، فكانت بذلك أول طبيبة بحرينية تفوز بتلك الجائزة. وحصدت الطبيبة البحرينية سها أحمد غريب في عام 2019 جائزة أفضل طبيبة بيطرية لدول مجلس التعاون الخليجي لتكون أول طبيبة بحرينية تفوز بهذه الجائزة التي تقدمها سنويا شركة المراعي السعودية بالتعاون مع جامعة الملك فيصل تحت إشراف الجمعية البيطرية السعودية بهدف تكريم المتميزين والمتميزات في مجال الطب البيطري بدول مجلس التعاون. وتمكنت الدكتورة إلهام عطا الله، وهي أول طبيبة بحرينية وخليجية مؤهلة أكاديميا في الطب الجنسي والعلاقات الزوجية من جامعتي الخليج العربي وجامعة كرتن بمدينة بيرث الأسترالية وحاصلة على شهادة المجلس العربي في اختصاص طب الأسرة وشهادة البورد الآيرلندي في طب العائلة من نيل الانتداب من قبل منظمة الصحة العالمية كعضو في مجموعة إرساء ومراجعة التصنيف العالمي للأمراض المتعلقة باضطراب النشاط الجنسي عند الزوجين ووضع إطار عام للعاملين في حقل الرعاية الصحية الأولية للذين يعانون من اضطرابات النشاط الجنسي. ونجحت الدكتورة زينب عبدالهادي المحسن استشارية طب العائلة والرضاعة الطبيعية في أن تصبح أول طبيبة بحرينية حاصدة للتخصص العالمي للرضاعة الطبيعية بحصولها على البورد العالمي في هذا المجال من الولايات المتحدة الأمريكية.
أول امرأة تتخص في الطب الشرعي
على أن حديثنا هنا يقتصر على طبيبة بحرينية دخلت تاريخ بلدها كأول امرأة تتخص في الطب الشرعي، وهو مجال يهابه الرجل الخليجي (لما فيه من حالات مرعبة مثل تشريح جثث القتلى والمتوفين ومعاينة لأجساد مقطعة أو متعفنة تحيط بها الديدان وتنبعث منها الروائح الكريهة) فما بالك بالمرأة الخليجية. هذه الطبيبة هي الدكتورة فاطمة عبدالرحمن محمد خليفة الفاضل التي ذكرت في حوار أجرته معها صحيفة الأيام البحرينية (28/2/2016) أنها عشقت هذا التخصص لما يحيط به من أسرار وغموض، ولما يتخلله من جهد وتفكير لفك الطلاسم المحيطة بالجرائم تحقيقا للعدالة.
إن دخول المرأة البحرين ممثلة بالدكتورة فاطمة الفاضل هذا المجال الوعر والحساس، لهو دليل إضافي على جسارتها وجدارتها وقوة أعصابها، ومثال على أن رقة المشاعر عند النساء لا تحول دون إثبات أنهن لسن أقل من الرجال قوة وثباتاً وقدرة على الاحتمال في مجال الكشف عن حالات الوفيات الجنائية والمشتبهة والتعامل مع حالات الاعتداءات الجسدية والجنسية.
وقبل أن نطلع على سيرة الدكتورة الفاضل ومشواريها الدراسي والمهني، لا بد من إلقاء بعض الضوء على تخصصها العلمي. إذ يرجع السبب في الاستعانة بعلم الطب الشرعي في المجال الجنائي إلى عجز المحققين عن معرفة أسباب الوفاة أو الإصابات لتوجيه التهم، لذا كان من الضروري الاستعانة بمتخصصين كي تسير عملية التحقيق وفق منطق الأخذ بحجة القانون ومبدأ الإثبات الذي دعت إليه كافة الشرائع المتحضرة. ومن هنا كان علم الطب الشرعي من أول العلوم التطبيقية الجنائية الفنية التي دخلت مجال مكافحة الجريمة.
الطب الشرعي
يعود تاريخ هذا العلم إلى حقبة طويلة ماضية، حيث استخدم لأول مرة عند وفاة يوليوس قيصر، حينما تشكلت لجنة من أعضاء برلمان روما ونبلاء البلاد للتحقيق في أسباب وفاته، فتم فحص جثته من قبل طبيب أكد أن وفاته لم تكن طبيعية وإنما بسبب تلقيه 23 طعنة خنجر. ومذاك حدثت تطورات متتالية كان من نتائجها إنشاء كليات للطب الشرعي، وتخرج أطباء متخصصين، ووضع العديد من المؤلفات ذات العلاقة بالسموم وموت الأجنة والنقص العقلي وأعمال الاغتصاب. ومما يجدر بنا الإشارة إليه أن إيطاليا هي الدولة الأوروبية الرائدة في هذا المجال كونها أول بلد تعين أطباء أمام المحاكم لتحديد طبيعة الإصابات، ناهيك عن أنها موطن الجراح المشهور «هوجر دي لوكا» الذي أسس قسما للطب الشرعي عام 1249 وأجرى أول عملية تشريح عام 1304 في مدينة بولونيا.
عربيا، تفتخر مصر بأنها من أوائل الدول العربية التي مارست العلوم الطبية الشرعية ضمن العلوم الجنائية بمفهومها الحديث، كيف لا والتاريخ يذكر لها أن قدماءها الفراعنة هم أول من قاموا بتحنيط الجثث، بل برز من بينهم الطبيب «أمعتب» الذي جمع بين رئاسة القضاء وعلاج الفرعون «زوسر». ففي عام 1928 قامت نظارة الحقانية (وزارة العدل) بتأسيس إدارة للطب الشرعي بمعرفة الطبيب الإنجليزي «سيدني سميث» كبير الأطباء الشرعيين في البلاد آنذاك، فظهرت معامل للفحص المجهري وعمل الأبحاث الكيميائية، ووحدة للأشعة، ومقر للكشف عن التزوير والتزييف، ومكتبة للأرشفة، علما بأن الأطباء الشرعيين في تلك الفترة كانوا على كادر القضاة ويتمتعون بنفس حصانتهم. ومنذ عام 1962 تحول الطب الشرعي إلى مصلحة رسمية تابعة لوزارة العدل برئاسة كبير الأطباء الشرعيين. وكانت هذه من أهم العوامل التي ساعدت الأطباء الشرعيين المصريين في تطوير أعمالهم تحقيقا للعدالة.
أسرار الجثث
ولدت فاطمة الفاضل بمدينة المنامة في الثالث عشر من يونيو سنة 1980 ونشأت بمدينة الرفاع في أسرة متدينة محافظة معروفة، ابنة لوالدها الشيخ الدكتور عبدالرحمن محمد خليفة الفاضل القاضي بمحكمة الاستئناف الشرعية العليا وخطيب صلاة الجمعة السابق بمسجد نوف النصار بمدينة عيسى ولوالدتها ابنة الشيخ عبدالرحمن علي الجودر (توفي 1989) من عائلة الجودر المحرقية المعروفة. أنهت دراستها الابتدائية بمدرسة الخنساء للبنات بمدينة عيسى، ودراستها الإعدادية بمدرسة الرفاع الغربي الإعدادية للبنات.
من بعد حصولها على شهادة الثانوية العامة من مدرسة مدينة عيسى الثانوية للبنات سافرت فاطمة في عام 1999 إلى مصر على نفقة أسرتها وسكنت هناك في بيت الطالبات البحرينيات والتحقت بكلية الطب في جامعة القاهرة التي تخرجت فيها عام 2008، وأثناء دراستها في الجامعة المصرية كان منهاج الدراسة يتطلب دروسا عملية في تشريح الجثث، فوجدت في الأمر ما يشبع نهمها في البحث عن الحقيقة، «فكل جثة تحمل الكثير من القصص الغريبة وراءها، وكل ندبة وجرح يكشف أسرارًا خافية تمثل مفاتيح لألغاز تلك الجثة التي غادرت الحياة، وتركت آثارًا تحكي واقعة حدثت لم تجد شاهدًا عليها، فكان البحث في الجثث يعتبر بحثًا في ما وراء الطبيعة»، بحسب قولها.
حبها لهذا التخصص دون بقية التخصصات، وعشقها لما يتضمنه من إثارة لم يمنع إصابتها بالدوار وقرب سقوطها مغشيا عليها حينما شاهدت أول جثة لرجل مقتول، لكن بمرور الوقت صارت عمليات تشريح الجثث مهمة روتينية بالنسبة لها، بل باتت مثل أي عملية جراحية عادية يقوم بها زملاؤها وزميلاتها، إلى درجة صارت معها تنفذ المطلوب منها بمفردها دون خوف أو وجل، بل أضحت تنظر إلى التشريح كمهمة أيسر بكثير من إجراء العمليات للأحياء. وقد سجل عنها قولها في هذا السياق «ربما يخشى الطبيب حدوث ألم أو خطأ طبي في الجراحات، يؤثر سلبا على مستقبل المريض في حياته، بينما عملي لا يمكن أن يكون به ألم للجثة أو خطأ يؤثر على مستقبلها في القبر».
العودة لمصر متدربة
حينما عادت فاطمة من رحلتها التعليمية في مصر، عملت خلال مرحلة الامتياز (فترة إلزامية مدتها سنة يقضيها الطبيب المتخرج في التدريب السريري كي يصبح بعدها مؤهلا لممارسة الطب) بمستشفى السلمانية بالمنامة (وضع حجر أساسه عام 1956 وافتتح عام 1959)، لكنها لم تجد ضمن التخصصات المتاحة تخصص الطب الشرعي الذي عشقته وتمنت العمل فيه، كما لم تكن هناك إعلانات لطلب متخصصين أو متدربين في هذا المجال. لذا فإنها عملت لفترة قصيرة في أحد المستشفيات الخاصة في أعقاب إكمالها مرحلة الامتياز وراحت تنتظر، فإذا بالصدفة وحدها تقودها إلى حلمها.
وملخص القصة كما روتها بنفسها «جاءني أحد المرضى وكان يعمل في الطب الشرعي، فسألته عما إذا كانوا يبحثون عن أطباء، فأجاب أن كل الأطباء الموجودين غير بحرينيين، فأعطيته رقم هاتفي وطلبتُ منه في حال وجود توظيف أن يتصل بي. وبعد سنة ونصف، وبعد أنْ كنتُ قد يئست، أتاني اتصال من هذا الرجل، وجدته يقول لي: لو ما زلت تريدين العمل في الطب الشرعي، فيجب أن تأتي بسرعة لتقديم أوراقك. فلم أنتظر وذهبت صباح اليوم التالي إلى الطب الشرعي وقدمت الأوراق وقبلوني كمتدربة لمدة سنة ابتداء من أول مايو عام 2013، ثم أرسلوني إلى مصلحة الطب الشرعي بمصر لبعض الوقت للتدريب هناك». وبهذا عادت فاطمة إلى البلد الذي أنهت فيه دراستها الجامعية لكن هذه المرة متدربة وليست طالبة.
أغرب الحالات
خلال مرحلة التدريب أولا في البحرين ثم في مصر، قامت بعدة عمليات تشريح للجثث. ففي البحرين، التي تعد فيها الجرائم قليلة مقارنة بغيرها من الدول، قامت بأربع أو خمس عمليات تشريح ومثلها التعامل مع حوادث الاعتداءات الجنسية والبدنية. أما في مصر فقد كانت أمام جرائم وحالات أكثر عددا. سألتها جريدة الأيام عن أغرب الحالات التي واجهتها أثناء فترة التدريب، فكان جوابها حالة في مصر لجثة قتيلة مقطوعة نصفين متماثلين بشكل لا يمكن تصوره، فتساءلت عن كيفية قدرة القاتل على فصل الجسد لنصفين متساويين بما في ذلك العمود الفقري، فقيل لها إن الجثة لامرأة ضربها زوجها بساطور فشطرها إلى نصفين. وفي البحرين كان أغرب الحالات التي تعاملت معها حالة جثة رجل توفي في شقته منذ فترة طويلة تجاوزت الأسبوع، الأمر الذي تسبب في عفونتها وتكوّن ديدان كثيرة متحركة فوقها، فقامت مع زملائها أولا بإزالة تلك الديدان بالماء من فوق الجثة ثم قاموا بعملية التشريح المعتادة. هذا إضافة لحالة فتاة آسيوية منتحرة، قامت بتصوير نفسها وهي تنتحر، حيث قامت فاطمة بمشاهدة الفيديو قبل الكشف عليها فوجدته مطابقًا للإصابات التي قد يحتمل معها القتل وليس الانتحار، «لقد كان غريبًا فعلا أن يقوم إنسان بتوثيق انتحاره ويسلمنا الدليل على عدم تورط آخرين في قتله»، بحسب كلامها.
وفي السياق نفسه، شرحت الدكتورة فاطمة جزءا من طبيعة عملها فقالت: «أولاً نبدأ بالكشف الظاهري وما على الجثة من آثار خارجية، ثم نبدأ من الرأس فنفتح الجمجمة ونخرج المخ للكشف عما إذا كانت هناك نزف داخلي، ثم يتم فتح القفص الصدري للبحث عن كسور أو ما شابه، ثم نخرج الرئتين والقلب والأمعاء للبحث عن أي إصابات». وحول حالات الإعتداءات الجنسية التي عـُرضت عليها أثناء عملها أخبرتنا أن المشكلة الرئيسية في مثل هذه الحالات هي أن المجني عليهن عادة ما يحاولن إخفاء أمور حرجة من منطلق أنها بسيطة ولا تستوجب التصريح بها، بينما هي ضرورية في سياق كشف الحقائق ومعرفة عمليات الكذب والتضليل. واستطردت قائلة: «يأتي التعامل مع الأطفال على رأس الصعوبات في الكشف الجنائي، حيث لا يمكن السيطرة عليهم بشكل كامل مثلما يحدث مع الراشدين».
الحياة خارج مشرحة الجثث
لكن كيف تعيش امراة مثلها حياتها خارج نطاق عملها الفريد المرعب، وهي التي تقضي ساعات دوامها في المشرحة بين جثث القتلى والأموات؟ تقول فاطمة إنها بمجرد انتهاء دوامها تمارس حياتها بصورة طبيعية كأي امرأة أخرى، ولا تفكر إلا بما ستفعله صبيحة اليوم التالي، وإنْ كانت بعض الصور، ولا سيما صور الجثث المتعفنة ذات الديدان، تقطع عليها أحلامها وتستولي على مشاعرها في أحايين كثيرة. غير أن ذلك لم يثبط عزيمتها قط ولم يدعها تعيد التفكير في ما عشقته واختارته كمهنة. لذا فهي مصممة على المواصلة من منطلق أن كل مهنة تتضمن شقين أحدهما حلو والآخر مر، خصوصا أنها تلقى الدعم والمساندة والترحيب من كل العاملين معها.
وهكذا نجد فاطمة تعمل اليوم بجد ومثابرة في عملها الحالي الشاق والمختلف عن بقية المهن في قسم الطب الشرعي في الإدارة العامة للأدلة المادية (تعتبر هذه الإدارة الجزء الفني والعلمي للنيابة العامة وتعمل تحت إدارة مدنية مستقلة تماما عن جهاز النيابة العامة في مساعدة الأخيرة على تحقيق العدالة بالطرق العلمية من خلال إبداء الرأي وفحص عينات الحالات والقضايا التي تــُحال إليها، علما أن التشغيل الفعلي لقسم الطب الشرعي بدأ في أوائل مارس 2008).
وهي في عملها هذا تبدو غير آبهة بما تقوله صديقاتها عن عملها «المقرف» بحسب وصفهن، كما أنها حريصة على المحافظة على سرية الحالات التي تـُعرض عليها. وفوق هذا كله تحلم ــ مثل كل نساء البحرين الطموحات ــ بإكمال دراستها العليا في تخصص الطب الشرعي سعيا للحصول على درجتي الماجستير ثم الدكتوراه.