قرأت ذات مرة في صحيفة الحياة المحتجبة عمودا لأحد كتابها العواجير تطرق فيه إلى عائلة خوري التجارية المعروفة في الإمارات العربية المتحدة، قائلا باستغراب إن عائلة بنفس الاسم توجد أيضا في لبنان وسورية، رغم أن آل خوري في بلاد الشام من الأسر المسيحية، بينما آل خوري في الإمارات والخليج من أهل السنة على المذهب الشافعي، ناهيك عن أن كلمة «خوري» تطلق في بلاد الشام على كاهن الكنيسة. وحاول الكاتب استعراض علمه وثقافته في الأصول والأنساب، دون تمحيص أو بحث، فقال إن آل خوري في الإمارات نسبة إلى «خور دبي»، في إشارة إلى اللسان البحري الذي يبلغ طوله نحو 15 كم ويقسم مدينة دبي إلى نصفين (ديرة ودبي).
تقول المصادر التاريخية التي عثرت عليها، إن آل خوري قبيلة كانت تسكن الإمارات، وبسبب تعرض الأخيرة للغزو البرتغالي في القرن السادس عشر الميلادي، نزح أفرادها إلى جنوب بلاد فارس ليعيشوا في حماية القواسم ثم عاد معظمهم مع العائدين على دفعات بُعيد سقوط دولة القواسم في لنجة في أواخر القرن التاسع عشر لينتشروا في إمارتي دبي وأبوظبي وغيرهما، علماً أن بعضهم قرر النزوح في عقد الخمسينات ومطلع الستينات إلى البحرين وقطر والكويت والدمام بحثاً عن الرزق وفرص العمل المجدية. أما في الإمارات فقد تسلق آل خوري سلالم العلم والأعمال الناجحة فبرز بينهم أعلام، من البنين والبنات، في مجالات التجارة والمقاولات والتربية والمحاماة والصيرفة والفندقة والوظائف الحكومية وغيرها، وعُرفوا جميعهم بالسمعة الحسنة والولاء للوطن والإخلاص للقيادة والمساهمة في المشاريع الخيرية والمجتمعية المتنوعة، ما أكسبهم الاحترام والتقدير والإشادة.
السفير خوري
ولعل الجزئية الأخيرة تنطبق أكثر ما تنطبق على سعادة عبدالرضا عبدالله خوري، سفير دولة الإمارات السابق في البحرين الذي كان لي شرف معرفته عن كثب والتعرف على أسرته الجميلة إبان فترة عمله في المنامة في الفترة ما بين الثالث من يناير 2015 و31 مارس 2018. وهي فترة رغم قصرها الزمني، إلا أنها كانت حافلة بنشاط سعادته على المستويين الرسمي والشعبي بهدف تعزيز علاقات التعاون الأخوية بين البلدين والقيادتين والشعبين. ومن آيات ذلك حرصه على التواجد في جميع المناسبات الأهلية، وانفتاحه على كل جيرانه ومعارفه دون رسميات، وعلاقاته الواسعة مع مختلف أطياف المجتمع البحريني، وكرمه الفياض مع كل من كان يقصده لخدمة ما.
عاشق لمهنته
والحقيقة أن هذا كان ديدن السفير خوري في كل المواقع الدبلوماسية التي شغلها طوال مسيرته المهنية التي اقتربت من نصف قرن على نحو ما سيأتي: عشق لمهنته، وعمل متواصل من أجل وطنه، وتواضع جم مع معارفه، وكرم بلا حدود مع الجميع. ولهذا لم يكن غريبا أن يحظى بتكريم استثنائي من لدن القيادة البحرينية حينما أزفت فترة عمله على الانتهاء. وقد تمثل ذلك في منحه وسام البحرين من الدرجة الأولى من قبل جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، وقيام رئيس الوزراء الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رحمه الله بزيارته في منزله، ناهيك عن احتفاء سمو الشيخة ثاجبة بنت سلمان بن حمد آل خليفة (عمة جلالة الملك) بعقيلة السفير وإهدائها دانة من دانات البحرين الطبيعية الثمينة، فكانت الأخيرة أول حرم سفير تحظى بهذا النوع من التكريم الوداعي.
وقد ثمن السفير خوري كل هذا، فقال في تصريح له عقب تسلمه وسام البحرين: «لقد غمرني حضرة صاحب الجلالة الملك المفدى منذ قدومي إلى مملكة البحرين وتولي مهام تمثيل بلادي في بلادي بفيض من الود والمحبة، وكان جلالته يعبر كلما قابلته عن صادق مشاعره النبيلة تجاه دولة الإمارات العربية المتحدة، وكان جلالة الملك المفدى يثني على الدوام على الحكمة والمبادرات الخيرة لمؤسس الدولة وباني نهضة الإمارات المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وقد لمست ذلك عن كثب وفي العديد من المناسبات، وخاصة عند حضوري احتفالات مملكة البحرين الشقيقة بأعيادها الوطنية، ولكم تملكتني مشاعر الغبطة والسرور عندما كان يمنحني عاهل البلاد المفدى أنا وأبنائي الصغار شرف السلام على جلالته في مضمار سباقات الخيل عند حضوري لمنافسات كأس جلالته للخيل العربية الأصيلة».
وحينما انتقل الأمير خليفة بن سلمان إلى جوار ربه في الحادي عشر من نوفمبر 2020 كان وقع الخبر صادما على السفير خوري فنعاه قائلا: «إن صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان أفنى عمره في خدمة الدين إخلاصاً وحبًّا لبلاده، وله بصمات واضحة يخلدها التاريخ، كما كان رمزاً للتنمية والتطوير، إذ دفع البحرين نحو آفاقه الطموحة وجعلها مركزاً للحق والعدل والسلام، ومن موقعه في حكومة البحرين أسهم سموه في إرساء علاقة بلاده مع مختلف دول العالم ولعب دورا أساسيا في نهضة المملكة وازدهارها»، واصفا الراحل بـ «بروح الوطن وروح البيت البحريني الأصيل وفرحة الوطن الذي يشهد له كل شبر على أرض البحرين الطيبة، وأحد القادة الحكماء الذين سجل التاريخ وقفاتهم وحسن تدبيرهم وحمايتهم للكيان الخليجي الواحد والمنجزات الحضارية والتنموية».
ولد عبدالرضا عبدالله محمود خوري في مدينة العين في السابع والعشرين من ديسمبر عام 1950 وتلقى تعليمه النظامي في مدارس الإمارات قبل أن ينتقل إلى مدينة باث البريطانية لمواصلة دراسته الجامعية هناك. وفي أعقاب تخرجه التحق بوزارة الخارجية فكان ضمن الرعيل الأول من دبلوماسيي دولة الإمارات بعد قيامها في عام 1971، حيث بدأ العمل في الوزارة عام 1972 وراح يترقى سريعا إلى أن تم تعيينه قائما بالأعمال في سفارة بلاده بإسلام آباد بدءا من 15 أكتوبر 1972 ولغاية الأول من أغسطس 1975، فعاصر فترة حكم الرئيس الباكستاني الأسبق ذوالفقار علي بوتو المليئة بالتحديات، وشارك بصفته الوظيفية ضمن وفد الإمارات إلى مؤتمر القمة الإسلامي الثاني الذي انعقد بمدينة لاهور الباكستاني عام 1974. غير أن الأهم من كل هذا هو أن عمله في باكستان أتاح له لقاء ومرافقة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، والتعرف على سموه رحمه الله عن كثب والنهل من حكمته وبصيرته، حيث كان الراحل كثير التردد على باكستان، وتحديدا منطقة «رحيم بار خان» على بعد 1200 كلم من إسلام آباد لمارسة رياضة الصيد والقتص المفضلة عند سموه.
تلميذ في مدرسة زايد
أخبرنا السفير خوري في حديثه لصحيفة الاتحاد الظبيانية (2/12/2004) أنه يعتبر نفسه «أحد الذين تتلمذوا في مدرسة زايد، ونهلوا من تعليمات معلم حكيم حرص على أن يجعل من التفرقة وحدة، ومن الجهل علما وقبسا من نور نهتدي به في ظلمات الحياة»، واصفا الشيخ زايد بـ «قائد لم يكن من ذلك النوع من القادة المنزوين عن شعوبهم وأبناء أمتهم، بل آثر النزول إليهم والاختلاط بهم ومشاركتهم في حلهم وترحالهم»، ومضيفا: «كان أهم ما يتميز به بشاشته وحسن تعامله ومرحه وحبه لجلسات الأصدقاء ومجالس البدو.. وكان كثيرا ما يعطي أوقات المرح حقها، فيكثر من المزاح مع من حوله ويحاول إضفاء طابع المودة والأخوة مع كل من حوله دون أن يُشعر أي فرد من الموجودين بأي حرج من أنه يتعامل مع رئيس دولة، بل كان حريصا كل الحرص على أن يشعر الآخرين بأنه واحد منهم وأنهم جزء منه».
ومن ذكرياته إبان عمله الدبلوماسي في باكستان قصة سردها بقوله: «أثناء انعقاد مؤتمر القمة الإسلامي بمدينة لاهور، كان الشيخ زايد خارجا من جلسة مغلقة من جلسات المؤتمر، وخرجت بصحبته من قاعة الاجتماعات وأثناء جلوسنا في زاوية منفصلة توجه صحفي بريطاني صوب الشيخ لإجراء لقاء معه فبادر سموه بسؤال استفزازي قائلا (يا سمو الشيخ أنك تقوم بتدليل شعبك فتغدق عليهم المال والممتلكات وتوفر لهم التعليم والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية مجانا دون أي مقابل.. فلماذا؟). كنا نتوقع من الشيخ زايد أن يغضب، لكننا تفاجأنا بسموه يسأل الصحفي (هل أنت متزوج؟ فأجابه نعم، ثم سأله هل لديك أطفال؟ فقال نعم، ثم سأله وهل تصرف على تعليم أبنائك وتوفر لهم الخدمات الصحية الضرورية، فرد الصحفي بالإيجاب. وهنا قال الشيخ أنا اعتبر شعب الإمارات هم جميعا أبنائي وأنا الأب المسؤول عن توفير الاحتياجات الضرورية لأبنائي مثلما أنت توفرها لأبنائك) وهو ما جعل الصحفي ينسحب محرجا ومذهولا».
حكمة ورأي سديد
في الفترة ما بين عامي 1978 و1985 عمل خوري في ديوان عام وزارة الخارجية نائبا لمدير إدارة الشؤون الاقتصادية والتعاون الدولي، وفي إطار وظيفته هذه وما عُرف عنه من حكمة ورأي سديد وعشق للعمل شارك في العديد من المؤتمرات والاجتماعات الخليجية والعربية والدولية التي أكسبته خبرة كبيرة. كما شهدت هذه الفترة حصوله على ترقيات دبلوماسية متتالية. فمن درجة مستشار إلى درجة وزير مفوض فدرجة سفير فوق العادة. وكان أول عهده بوظيفة سفير هو في جمهورية الصومال في الفترة من 1985 الى 1989 أي زمن حكم الرئيس محمد زياد بري الذي انتهى بحرب أهلية مريرة. وقد روى خوري في حديثه إلى جريدة الاتحاد (مصدر سابق) كيف أن الشيخ زايد كان مهتما بأوضاع وأحوال الصومال والصوماليين، وكيف أن سموه بادره حينما التقاه في جنيف بسؤال «كيف حال أهل الصومال؟». يقول خوري: «كنت أظن أنه سوف يسألني عن علاقاتنا السياسية بهذه الدولة، ولكنني فوجئت بأنه يسأل عن قدرة أهل الصومال على الشراء وعن المجاعة ومستوى الفقر وحاجات الفرد الضرورية.. كان سموه في قمة الحنان والتعاطف والإنسانية وهو يسأل عن أوضاع الشعب الصومالي ويبحث عن أدق التفاصيل عنه».
من بعد عمله في باكستان والصومال، انتقل خوري عام 1989 للعمل كسفير مفوض فوق العادة لدى الاتحاد السويسري ومندوب لبلاده لدى المقر الأوروبي لمنظمة الأمم المتحدة بجنيف، وظل يشغل هذا المنصب لغاية عام 1994 الذي شهد نقله للعمل كسفير مفوض فوق العادة لدى النمسا التي شغل فيها أيضا منصب المندوب الدائم لبلاده لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية بفيينا وكذلك منصب المندوب الدائم للإمارات لدى منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية.
فترة ذهبية في سويسرا
وصف خوري فترة عمله في سويسرا بالفترة الذهبية في حياته الدبلوماسية، رغم أنها تخللتها أحداث جسام مثل الغزو العراقي للكويت والتهديدات العراقية لدول الخليج العربية وحرب عاصفة الصحراء. لقد أعادته هذه الفترة إلى مجالس الشيخ زايد التي كان يعقدها في جنيف خلال تمضية سموه لإجازاته الصيفية هناك، والتي قال عنها: «حظيت بالمشاركة في مجلس زايد الإنسان، وهو مجلس يشكل مدرسة قائمة بذاتها كنا نستمع فيها إلى حكمه وتجاربه ونصائحه الداعية للتسامح والإخاء والسلام، فكان لنا نعم الوالد والمعلم والقائد»، مضيفا: «ومن الأمور التي أتذكرها أن سموه كان خلال تلك الإجازات في المنتجعات الريفية السويسرية يتابع مشاريع بلدية أبوظبي التطويرية ويستفسر عنها ويوجه العاملين عليها، كما كان يستقبل المواطنين والطلبة الدارسين في أوروبا ولا يرد لهم أي طلب». كما أخبرنا أن الشيخ زايد، بحكم اهتمامه بالزراعة والتشجير، كان ينتقي بعض الأشجار السويسرية ويسأل عن مدى صلاحيتها للزراعة في الإمارات كي يوصي بنقلها.
أما عمله في النمسا، والذي انتهي في عام 1997 بنقله مجددا إلى ديوان عام وزارة الخارجية في أبوظبي، فقد شهد تعيينه كسفير غير مقيم لبلاده لدى كل من جمهورية سلوفاكيا وجمهورية التشيك، فكان أن تعرف على ثقافات بلاد أجنبية جديدة، وراكم خبرات دبلوماسية مضاعفة، كما اكتسب بتواضعه وفكره النيّر وشهامته ونبله وأخلاقه الرفيعة وسجاياه الطيبة، محبة واحترام كل من عرفه أو تعامل معه في تلك البلاد.
سفيراً مفوضا فوق العادة في الخليج
وفي عام 2000 بدأ خوري مرحلة دبلوماسية مختلفة في حياته بتنقله سفيرا مفوضا فوق العادة في الأقطار الخليجية. ففي تلك السنة أرسل إلى الدوحة كسفير لبلاده لدى قطر التي أمضى فيها قرابة عشر سنوات، تولى خلالها عمادة السلك الدبلوماسي وتمّ إبانها تكريمه بوسام الاستحقاق. وحينما انتهت فترة عمله في الدوحة في عام 2010 صدر أمر بنقله مجددا للعمل في ديوان عام وزارة الخارجية الإماراتية، قبل أن يتم تعيينه في عام 2012 سفيرا مفوضا فوق العادة لدى سلطنة عمان. وفي الأخيرة التي عمل فيها لمدة سنتين انتهت بنقله إلى مملكة البحرين عام 2015، أبلى، بدبلوماسيته وخبرته وكياسته ولباقته وحسن تدبيره، بلاء حسنا لجهة تعزيز وتنمية العلاقات السياسية والاقتصادية والشعبية بين دولة الإمارات وسلطنة عمان.
في أعقاب انتهاء مهمته في البحرين تقاعد خوري عن العمل الدبلوماسي، لكنه ظل حاضرا في المشهدين الاجتماعي والثقافي، فهو من المؤمنين أن عامل السن يجب ألا يكون عبئا على المرء أو معيقا للقيام بخدمة وطنه كلما استطاع إلى ذلك سبيلا. وللسفير خوري عدد من الأبناء أكبرهم عبدالله عبدالرضا عبدالله خوري الذي أسماه على اسم جده، وهو يشغل منذ العام 2017 منصب عضو مجلس إدارة مجلس أبوظبي الرياضي برئاسة الشيخ نهيان بن زايد آل نهيان، كما أنه، إضافة إلى ذلك، عضو بمجلس إدارة هيئة المنطقة الإعلامية في أبوظبي الذي تترأسه نورة حمد هلال الكعبي منذ عام 2016.
يقولون إن السفير الناجح يستمد بعضا من نجاحاته من السيدة قرينته، وهذا ينطبق على السفير خوري الذي كانت عقيلته السيدة الفاضلة نعيمة خوري خير رفيقة وسند له في كل مهامه الخارجية. والأخيرة من مواليد أبوظبي في ديسمبر 1976 وحاصلة على بكالوريوس العلوم/ تخصص جيولوجيا وأحياء من جامعة الإمارات العربية المتحدة، علاوة على شهادتي الماجستير والدكتوراه في جيولوجيا البترول من جامعة القاهرة، علما بأنها رزقت من زوجها السفير بسبعة أبناء هم: فاطمة وأحمد وراشد وناصر وصالح ومبارك وزايد.
تقول المصادر التاريخية التي عثرت عليها، إن آل خوري قبيلة كانت تسكن الإمارات، وبسبب تعرض الأخيرة للغزو البرتغالي في القرن السادس عشر الميلادي، نزح أفرادها إلى جنوب بلاد فارس ليعيشوا في حماية القواسم ثم عاد معظمهم مع العائدين على دفعات بُعيد سقوط دولة القواسم في لنجة في أواخر القرن التاسع عشر لينتشروا في إمارتي دبي وأبوظبي وغيرهما، علماً أن بعضهم قرر النزوح في عقد الخمسينات ومطلع الستينات إلى البحرين وقطر والكويت والدمام بحثاً عن الرزق وفرص العمل المجدية. أما في الإمارات فقد تسلق آل خوري سلالم العلم والأعمال الناجحة فبرز بينهم أعلام، من البنين والبنات، في مجالات التجارة والمقاولات والتربية والمحاماة والصيرفة والفندقة والوظائف الحكومية وغيرها، وعُرفوا جميعهم بالسمعة الحسنة والولاء للوطن والإخلاص للقيادة والمساهمة في المشاريع الخيرية والمجتمعية المتنوعة، ما أكسبهم الاحترام والتقدير والإشادة.
السفير خوري
ولعل الجزئية الأخيرة تنطبق أكثر ما تنطبق على سعادة عبدالرضا عبدالله خوري، سفير دولة الإمارات السابق في البحرين الذي كان لي شرف معرفته عن كثب والتعرف على أسرته الجميلة إبان فترة عمله في المنامة في الفترة ما بين الثالث من يناير 2015 و31 مارس 2018. وهي فترة رغم قصرها الزمني، إلا أنها كانت حافلة بنشاط سعادته على المستويين الرسمي والشعبي بهدف تعزيز علاقات التعاون الأخوية بين البلدين والقيادتين والشعبين. ومن آيات ذلك حرصه على التواجد في جميع المناسبات الأهلية، وانفتاحه على كل جيرانه ومعارفه دون رسميات، وعلاقاته الواسعة مع مختلف أطياف المجتمع البحريني، وكرمه الفياض مع كل من كان يقصده لخدمة ما.
عاشق لمهنته
والحقيقة أن هذا كان ديدن السفير خوري في كل المواقع الدبلوماسية التي شغلها طوال مسيرته المهنية التي اقتربت من نصف قرن على نحو ما سيأتي: عشق لمهنته، وعمل متواصل من أجل وطنه، وتواضع جم مع معارفه، وكرم بلا حدود مع الجميع. ولهذا لم يكن غريبا أن يحظى بتكريم استثنائي من لدن القيادة البحرينية حينما أزفت فترة عمله على الانتهاء. وقد تمثل ذلك في منحه وسام البحرين من الدرجة الأولى من قبل جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، وقيام رئيس الوزراء الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رحمه الله بزيارته في منزله، ناهيك عن احتفاء سمو الشيخة ثاجبة بنت سلمان بن حمد آل خليفة (عمة جلالة الملك) بعقيلة السفير وإهدائها دانة من دانات البحرين الطبيعية الثمينة، فكانت الأخيرة أول حرم سفير تحظى بهذا النوع من التكريم الوداعي.
وقد ثمن السفير خوري كل هذا، فقال في تصريح له عقب تسلمه وسام البحرين: «لقد غمرني حضرة صاحب الجلالة الملك المفدى منذ قدومي إلى مملكة البحرين وتولي مهام تمثيل بلادي في بلادي بفيض من الود والمحبة، وكان جلالته يعبر كلما قابلته عن صادق مشاعره النبيلة تجاه دولة الإمارات العربية المتحدة، وكان جلالة الملك المفدى يثني على الدوام على الحكمة والمبادرات الخيرة لمؤسس الدولة وباني نهضة الإمارات المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وقد لمست ذلك عن كثب وفي العديد من المناسبات، وخاصة عند حضوري احتفالات مملكة البحرين الشقيقة بأعيادها الوطنية، ولكم تملكتني مشاعر الغبطة والسرور عندما كان يمنحني عاهل البلاد المفدى أنا وأبنائي الصغار شرف السلام على جلالته في مضمار سباقات الخيل عند حضوري لمنافسات كأس جلالته للخيل العربية الأصيلة».
وحينما انتقل الأمير خليفة بن سلمان إلى جوار ربه في الحادي عشر من نوفمبر 2020 كان وقع الخبر صادما على السفير خوري فنعاه قائلا: «إن صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان أفنى عمره في خدمة الدين إخلاصاً وحبًّا لبلاده، وله بصمات واضحة يخلدها التاريخ، كما كان رمزاً للتنمية والتطوير، إذ دفع البحرين نحو آفاقه الطموحة وجعلها مركزاً للحق والعدل والسلام، ومن موقعه في حكومة البحرين أسهم سموه في إرساء علاقة بلاده مع مختلف دول العالم ولعب دورا أساسيا في نهضة المملكة وازدهارها»، واصفا الراحل بـ «بروح الوطن وروح البيت البحريني الأصيل وفرحة الوطن الذي يشهد له كل شبر على أرض البحرين الطيبة، وأحد القادة الحكماء الذين سجل التاريخ وقفاتهم وحسن تدبيرهم وحمايتهم للكيان الخليجي الواحد والمنجزات الحضارية والتنموية».
ولد عبدالرضا عبدالله محمود خوري في مدينة العين في السابع والعشرين من ديسمبر عام 1950 وتلقى تعليمه النظامي في مدارس الإمارات قبل أن ينتقل إلى مدينة باث البريطانية لمواصلة دراسته الجامعية هناك. وفي أعقاب تخرجه التحق بوزارة الخارجية فكان ضمن الرعيل الأول من دبلوماسيي دولة الإمارات بعد قيامها في عام 1971، حيث بدأ العمل في الوزارة عام 1972 وراح يترقى سريعا إلى أن تم تعيينه قائما بالأعمال في سفارة بلاده بإسلام آباد بدءا من 15 أكتوبر 1972 ولغاية الأول من أغسطس 1975، فعاصر فترة حكم الرئيس الباكستاني الأسبق ذوالفقار علي بوتو المليئة بالتحديات، وشارك بصفته الوظيفية ضمن وفد الإمارات إلى مؤتمر القمة الإسلامي الثاني الذي انعقد بمدينة لاهور الباكستاني عام 1974. غير أن الأهم من كل هذا هو أن عمله في باكستان أتاح له لقاء ومرافقة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، والتعرف على سموه رحمه الله عن كثب والنهل من حكمته وبصيرته، حيث كان الراحل كثير التردد على باكستان، وتحديدا منطقة «رحيم بار خان» على بعد 1200 كلم من إسلام آباد لمارسة رياضة الصيد والقتص المفضلة عند سموه.
تلميذ في مدرسة زايد
أخبرنا السفير خوري في حديثه لصحيفة الاتحاد الظبيانية (2/12/2004) أنه يعتبر نفسه «أحد الذين تتلمذوا في مدرسة زايد، ونهلوا من تعليمات معلم حكيم حرص على أن يجعل من التفرقة وحدة، ومن الجهل علما وقبسا من نور نهتدي به في ظلمات الحياة»، واصفا الشيخ زايد بـ «قائد لم يكن من ذلك النوع من القادة المنزوين عن شعوبهم وأبناء أمتهم، بل آثر النزول إليهم والاختلاط بهم ومشاركتهم في حلهم وترحالهم»، ومضيفا: «كان أهم ما يتميز به بشاشته وحسن تعامله ومرحه وحبه لجلسات الأصدقاء ومجالس البدو.. وكان كثيرا ما يعطي أوقات المرح حقها، فيكثر من المزاح مع من حوله ويحاول إضفاء طابع المودة والأخوة مع كل من حوله دون أن يُشعر أي فرد من الموجودين بأي حرج من أنه يتعامل مع رئيس دولة، بل كان حريصا كل الحرص على أن يشعر الآخرين بأنه واحد منهم وأنهم جزء منه».
ومن ذكرياته إبان عمله الدبلوماسي في باكستان قصة سردها بقوله: «أثناء انعقاد مؤتمر القمة الإسلامي بمدينة لاهور، كان الشيخ زايد خارجا من جلسة مغلقة من جلسات المؤتمر، وخرجت بصحبته من قاعة الاجتماعات وأثناء جلوسنا في زاوية منفصلة توجه صحفي بريطاني صوب الشيخ لإجراء لقاء معه فبادر سموه بسؤال استفزازي قائلا (يا سمو الشيخ أنك تقوم بتدليل شعبك فتغدق عليهم المال والممتلكات وتوفر لهم التعليم والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية مجانا دون أي مقابل.. فلماذا؟). كنا نتوقع من الشيخ زايد أن يغضب، لكننا تفاجأنا بسموه يسأل الصحفي (هل أنت متزوج؟ فأجابه نعم، ثم سأله هل لديك أطفال؟ فقال نعم، ثم سأله وهل تصرف على تعليم أبنائك وتوفر لهم الخدمات الصحية الضرورية، فرد الصحفي بالإيجاب. وهنا قال الشيخ أنا اعتبر شعب الإمارات هم جميعا أبنائي وأنا الأب المسؤول عن توفير الاحتياجات الضرورية لأبنائي مثلما أنت توفرها لأبنائك) وهو ما جعل الصحفي ينسحب محرجا ومذهولا».
حكمة ورأي سديد
في الفترة ما بين عامي 1978 و1985 عمل خوري في ديوان عام وزارة الخارجية نائبا لمدير إدارة الشؤون الاقتصادية والتعاون الدولي، وفي إطار وظيفته هذه وما عُرف عنه من حكمة ورأي سديد وعشق للعمل شارك في العديد من المؤتمرات والاجتماعات الخليجية والعربية والدولية التي أكسبته خبرة كبيرة. كما شهدت هذه الفترة حصوله على ترقيات دبلوماسية متتالية. فمن درجة مستشار إلى درجة وزير مفوض فدرجة سفير فوق العادة. وكان أول عهده بوظيفة سفير هو في جمهورية الصومال في الفترة من 1985 الى 1989 أي زمن حكم الرئيس محمد زياد بري الذي انتهى بحرب أهلية مريرة. وقد روى خوري في حديثه إلى جريدة الاتحاد (مصدر سابق) كيف أن الشيخ زايد كان مهتما بأوضاع وأحوال الصومال والصوماليين، وكيف أن سموه بادره حينما التقاه في جنيف بسؤال «كيف حال أهل الصومال؟». يقول خوري: «كنت أظن أنه سوف يسألني عن علاقاتنا السياسية بهذه الدولة، ولكنني فوجئت بأنه يسأل عن قدرة أهل الصومال على الشراء وعن المجاعة ومستوى الفقر وحاجات الفرد الضرورية.. كان سموه في قمة الحنان والتعاطف والإنسانية وهو يسأل عن أوضاع الشعب الصومالي ويبحث عن أدق التفاصيل عنه».
من بعد عمله في باكستان والصومال، انتقل خوري عام 1989 للعمل كسفير مفوض فوق العادة لدى الاتحاد السويسري ومندوب لبلاده لدى المقر الأوروبي لمنظمة الأمم المتحدة بجنيف، وظل يشغل هذا المنصب لغاية عام 1994 الذي شهد نقله للعمل كسفير مفوض فوق العادة لدى النمسا التي شغل فيها أيضا منصب المندوب الدائم لبلاده لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية بفيينا وكذلك منصب المندوب الدائم للإمارات لدى منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية.
فترة ذهبية في سويسرا
وصف خوري فترة عمله في سويسرا بالفترة الذهبية في حياته الدبلوماسية، رغم أنها تخللتها أحداث جسام مثل الغزو العراقي للكويت والتهديدات العراقية لدول الخليج العربية وحرب عاصفة الصحراء. لقد أعادته هذه الفترة إلى مجالس الشيخ زايد التي كان يعقدها في جنيف خلال تمضية سموه لإجازاته الصيفية هناك، والتي قال عنها: «حظيت بالمشاركة في مجلس زايد الإنسان، وهو مجلس يشكل مدرسة قائمة بذاتها كنا نستمع فيها إلى حكمه وتجاربه ونصائحه الداعية للتسامح والإخاء والسلام، فكان لنا نعم الوالد والمعلم والقائد»، مضيفا: «ومن الأمور التي أتذكرها أن سموه كان خلال تلك الإجازات في المنتجعات الريفية السويسرية يتابع مشاريع بلدية أبوظبي التطويرية ويستفسر عنها ويوجه العاملين عليها، كما كان يستقبل المواطنين والطلبة الدارسين في أوروبا ولا يرد لهم أي طلب». كما أخبرنا أن الشيخ زايد، بحكم اهتمامه بالزراعة والتشجير، كان ينتقي بعض الأشجار السويسرية ويسأل عن مدى صلاحيتها للزراعة في الإمارات كي يوصي بنقلها.
أما عمله في النمسا، والذي انتهي في عام 1997 بنقله مجددا إلى ديوان عام وزارة الخارجية في أبوظبي، فقد شهد تعيينه كسفير غير مقيم لبلاده لدى كل من جمهورية سلوفاكيا وجمهورية التشيك، فكان أن تعرف على ثقافات بلاد أجنبية جديدة، وراكم خبرات دبلوماسية مضاعفة، كما اكتسب بتواضعه وفكره النيّر وشهامته ونبله وأخلاقه الرفيعة وسجاياه الطيبة، محبة واحترام كل من عرفه أو تعامل معه في تلك البلاد.
سفيراً مفوضا فوق العادة في الخليج
وفي عام 2000 بدأ خوري مرحلة دبلوماسية مختلفة في حياته بتنقله سفيرا مفوضا فوق العادة في الأقطار الخليجية. ففي تلك السنة أرسل إلى الدوحة كسفير لبلاده لدى قطر التي أمضى فيها قرابة عشر سنوات، تولى خلالها عمادة السلك الدبلوماسي وتمّ إبانها تكريمه بوسام الاستحقاق. وحينما انتهت فترة عمله في الدوحة في عام 2010 صدر أمر بنقله مجددا للعمل في ديوان عام وزارة الخارجية الإماراتية، قبل أن يتم تعيينه في عام 2012 سفيرا مفوضا فوق العادة لدى سلطنة عمان. وفي الأخيرة التي عمل فيها لمدة سنتين انتهت بنقله إلى مملكة البحرين عام 2015، أبلى، بدبلوماسيته وخبرته وكياسته ولباقته وحسن تدبيره، بلاء حسنا لجهة تعزيز وتنمية العلاقات السياسية والاقتصادية والشعبية بين دولة الإمارات وسلطنة عمان.
في أعقاب انتهاء مهمته في البحرين تقاعد خوري عن العمل الدبلوماسي، لكنه ظل حاضرا في المشهدين الاجتماعي والثقافي، فهو من المؤمنين أن عامل السن يجب ألا يكون عبئا على المرء أو معيقا للقيام بخدمة وطنه كلما استطاع إلى ذلك سبيلا. وللسفير خوري عدد من الأبناء أكبرهم عبدالله عبدالرضا عبدالله خوري الذي أسماه على اسم جده، وهو يشغل منذ العام 2017 منصب عضو مجلس إدارة مجلس أبوظبي الرياضي برئاسة الشيخ نهيان بن زايد آل نهيان، كما أنه، إضافة إلى ذلك، عضو بمجلس إدارة هيئة المنطقة الإعلامية في أبوظبي الذي تترأسه نورة حمد هلال الكعبي منذ عام 2016.
يقولون إن السفير الناجح يستمد بعضا من نجاحاته من السيدة قرينته، وهذا ينطبق على السفير خوري الذي كانت عقيلته السيدة الفاضلة نعيمة خوري خير رفيقة وسند له في كل مهامه الخارجية. والأخيرة من مواليد أبوظبي في ديسمبر 1976 وحاصلة على بكالوريوس العلوم/ تخصص جيولوجيا وأحياء من جامعة الإمارات العربية المتحدة، علاوة على شهادتي الماجستير والدكتوراه في جيولوجيا البترول من جامعة القاهرة، علما بأنها رزقت من زوجها السفير بسبعة أبناء هم: فاطمة وأحمد وراشد وناصر وصالح ومبارك وزايد.