رحل عن دنيانا في التاسع من نوفمبر 2021 الموسيقار غازي علي، أحد أعمدة الوسط الفني السعودي الكبار بعد نصف قرن من الإبداع، قدم فيها أشجى الألحان بصوته وبصوت غيره، وساهم خلالها بتخريج العديد من فناني السعودية ممن تدربوا على يديه أصول الغناء والعزف.
شخصياً، التصق اسمه بذاكرتي منذ سنوات المراهقة، وتحديداً بعد أن غنى في ستينات القرن العشرين أغنيته الخالدة عن البحرين التي تقول كلماتها: «على البحرين.. سافر للزين.. وقل للزين.. دموع العين.. على الخدين.. تصير بحرين». وهي أغنية رغم بساطة كلماتها، إلا أنها بزت كل ما غناه المطربون السعوديون قبله وبعده من أغانٍ وطنية أو عاطفية للبحرين. ومنهم طاهر الأحسائي ورابح صقر وراشد الماجد.
ولهذه الأغنية الأثيرة قصة عاطفية حقيقية رواها صاحبها في حديث لصحيفة «عكاظ» (4/4/2014) فقال: «كنت في زيارة للشاعر طاهر زمخشري، فشاهدتُ فتاة جميلة جدا وسألتُ عنها فقال لي إنها من البحرين وتقوم بنشاط أدبي. فسألت عنها في اليوم التالي فقيل لي إنها سافرتْ. فخرجتُ وركبتُ الحافلة وبدأتُ في كتابة وتلحين المقطع الأول».
مواقف عاطفية تكتب أغاني
ويبدو أن مثل هذه المواقف العاطفية تكررتْ مع فناننا أكثر من مرة. ففي المقابلة الصحفية ذاتها تطرق إلى قصة أغنية أخرى له بعنوان «سلام لله» وهي من إنتاج عام 1962، فقال إنه أثناء دراسته في المعهد الموسيقي المصري سكن لبعض الوقت في شارع ابن الأزد بالجيزة أمام مسكن أمير الشعراء أحمد شوقي المعروف بـ«كرمة ابن هانئ»، وكان كلما فتح الشباك اصطدمت عيناه بآنسة مصرية رائعة الجمال، فغازلها واعتقد أن شقاوة المراهقة قد تحولتْ إلى حب حقيقي. وأضاف قائلا: «حصل أنْ انتقلنا للسكن في العجوزة، وتحديدا شارع شاهين، وبعد استقرارنا لعامين تقريبا، وأنا أفتح الشباك إلا وهذه المخلوقة نفسها التي لم يبرح خيالها ذهني ووجداني هي التي تطل من الشباك المقابل مع تغيير كبير كونها كانت حاملة رضيعها، أي أنها تزوجتْ، الأمر الذي جعلني أضرب أخماسا في أسداس، ولكني اعتبرتُ أنه من الممكن أنْ يكون الرضيع شقيقها مثلا أو ابن أخيها أو أختها لأجد لي مبررا للمواصلة. في اليوم التالي صباحا وأنا نازل من البيت متجها إلى المعهد إلا وأقابلها تدفع طفلها «بعربية الأطفال»، وبشقاوتنا نحن الشبان ومراهقي المدينة المنورة قلت لها سلام لله ياهوه، فأعجبتني الكلمة التي رميتها تلقائيا وأخذتُ أعمل عليها نصا غنائيا يصور الحالة التي أعيشها وظللتُ أكتب وأكمل الصورة فخرج معي النص التالي الذي لحنته في يومين:
ســـلام لله يا هاجرنا في بحر الشوق وما له قـــــرار
خسارة البيت جوار بيتنا ولا ترعى حقوق الجــــار
حياة هادئة دون بهرجة إعلامية
عاش غازي علي حياة هادئة دون ضجيج وخصومات ودعاءات وبهرجة إعلامية، ورحل عن دنيانا أيضا بهدوء، على الرغم من أنه أحد أوائل الفنانين السعوديين الذين درسوا الموسيقى على أصولها في معهد الكونسرفتوار في القاهرة، في زمن كان فيه أخذ الفن بالعلم والدراسة في الخارج وعلى أسس علمية غائبا عن الوسط الفني السعودي والخليجي، ويعتمد حصريا على تعلم الموسيقى والغناء بالسماع والنقل من جيل إلى جيل، طبقا لسعد الحميدين في جريدة الرياض (15/2/2012).
ولد «غازي علي محمد علي باجراد» عام 1937 في منزل بسوق القفاصة في المدينة المنورة، حيث تربى وتكونت ملكته الشعرية والموسيقية. توفي والده وهو لم يبلغ الخامسة فتولتْ أمه «عزيزة الدسوقي» تربيته. وعلى يد هذه السيدة المثقفة بالسليقة تعلم القراءة من خلال كتاب «السندباد البحري» لمؤلف كتب الأطفال الأشهر كامل الكيلاني، الذي كان والده قد أهداه لوالدته قبل وفاته. وهكذا تولع بالقراءة منذ الصف الرابع الابتدائي وراح يقرأ الروايات المترجمة لديستوفسكي وتشيكوف ومكسيم غوركي وغيرهم من عمالقة الأدب. وحينما كان في الصف السادس الابتدائي ــ طبقا لما قاله في حوار له مع صحيفة «عكاظ» السعودية (24/7/2013) «حدث الانفجار عندما سمعتُ أغنية لعبدالوهاب من كلمات إيليا أبوماضي يقول فيها: جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت...إلخ. وظل اسم إيليا أبوماضي في ذاكرتي إلى أن أتى أحد الأيام وكنتُ خارجا من باب الرحمة في المسجد النبوي، فرأيتُ في دكان محمد النمنكاني كتابا معلقا بعنوان الخمائل لإيليا أبوماضي وقيمته ريال واحد، وكان مصروفي لا يتجاوز أربعة قروش في تلك الفترة، فطلبتُ منه ألا يبيع الكتاب وأنْ يمهلني أياما عدة لجمع المبلغ، وفعلا عدتُ له واشتريتُ الكتاب وعشقتُ من وقتها شعر إيليا أبوماضي، ثم اتجهتُ بعد ذلك للقصة فقرأتُ للمنفلوطي ثم قرأتُ كل مجموعة يوسف السباعي ومن أجملها وأروعها رواية (السقا مات) التي أبكتني».
«حوش الشام» وسماع الموسيقى لأول مرة
أما عن قصته مع الغناء والطرب فقد نشرتها جريدة «عكاظ» (7/6/2008) في حوار أجراه محمد سلامة، حيث ذكر أنه سمع الموسيقى لأول مرة من خلال المذياع في «حوش الشام» وهو طفل صغير في سن الخامسة. وأضاف أن ما سمعه كان عبارة عن لحن تبثه محطة إذاعية تركية من أداء مجموعة من الشباب والشابات. هذا اللحن، الذي لم يكن سوى موشح تركي، هزه وسبب له قشعريرة وجعله يبكي ويستحي ويختفي وراء الدرج طبقا لما رواه. وهكذا لم يبلغ سن السادسة أو السابعة إلا وهو يحفظ الأغاني ويرددها مقتفيا بذلك أثر خالته ووالدته اللتين كانتا من صاحبات الصوت الجميل، فضلا عن جده لأمه الشيخ «أحمد الدسوقي» الذي كان موسيقيا ويعزف على العود.
مفاتيح التراث
استطاع فناننا في سن مبكرة أنْ يضع يده على مفاتيح التراث وينتج بالتالي مجموعة من الأعمال التراثية الخالدة مثل أغنيات «روابي قبا» و«في ربوع المدينة» و«شربة من زمزم» و«يالعشرة»، لكنه آثر أن يدعم موهبته العفوية بالدراسة الأكاديمية في أرقى معاهد الموسيقى العربية في القاهرة، إلى أنْ حصل على بكالوريوس التأليف الموسيقي. وفي هذا السياق، قال إنه تخرج في سنة النكسة، الأمر الذي أثر فيه وفي زملائه كثيرا، خصوصا أنهم كانوا يمتحنون في مادة التحليل الموسيقي لأعمال كلاسيكية كآخر مادة بينما كانت القنابل تضرب القاهرة الساعة التاسعة صباحا، مما جعل المعهد يلغي ذلك الامتحان الأخير ويُصرف الطلبة إلى بيوتهم. وأضاف قائلا بعاميته الحجازية مع التصرف: «عشنا أيام سودة، وأعدتُ سنة بسبب مادة واحدة، وبعدما اتخرجت فكرتُ إني لازم أقدم شيء للموسيقى في خيالي اللي هو «أسلوب تعليم الموسيقى الشرقية بالذات»، فالموسيقى الغربية كانت تدرّس بمنهجية وماشين فيها كويس، لكن بالنسبة للشرقي كل شيخ وله طريقته، فلقيت إنه لازم ده يتوحد ويتضبط، فبحثتُ إلى أنْ لقيت أنّ في «اليوجا» خيط ممكن يربط ده بده».
اليوجا وسيلة للتواصل
فما هي قصة غازي علي مع اليوجا؟ إنها قصة طويلة اختصرها في قوله -ننقل هنا بتصرف نقلا عن حواره مع محمد سلامة (مصدر سابق): «وجدتُ كتابا اسمه أبا بانديت للسفير الهندي في القاهرة من ترجمة الدكتور ثروت عكاشة، الذي كان يشغل وقتذاك منصب وزير الثقافة في مصر، فقرأته وأكملته في ليلة واحدة، ووجدتُ فيه أشياء موجودة في نفسي. وهذا ما حوّل مسيرتي من طريق الاهتمام بالتلحين إلى طريق اليوجا كوسيلة لتوصيل المعلومة للناس وفق قواعد وأسس». وأضاف: «قرأتُ عن وجود معهد خاص في مدينة برايتون البريطانية يُدرّس اليوجا، فسافرتُ إلى بريطانيا للالتحاق بالمعهد المذكور، وعشتُ هناك خمس سنوات في محاولة لدخول الموسيقى عن طريق اليوجا، خصوصا أنّ الأخيرة تطبيق عملي لكيف تعرف نفسك بنفسك. كانت الدراسة صعبة وكانت هناك تطبيقات عملية ويومية وجسدية وتمارين طويلة مرهقة. وفي النهاية أخبرني معلم اليوجا، لما عرف هدفي، أن اليوجا نظرية شرقية، وأن تطبيقها يجب أن يكون في مجتمع شرقي وتطبيقها في مجتمع غربي ما ينفع، فعدتُ إلى بلدي وتوليتُ قيادة جمعية الموسيقى، لكني وجدتُ أنه لا يمكن تطبيق ما أتطلع إليه عن طريق تلك الجمعية وأنّ الطريقة الوحيدة -بمنطوق ما حك جلدك مثل ظفرك- هي افتتاح معهد. ففتحتُ مدرسة صغيرة في بيتي جذبت الكثير من طلاب وهواة الفن، والحمد لله».
دراسة أعمال بتهوفن وموزارت وشوفان
ومن ضمن ما ذكره أيضا في الحوار ذاته أن معهد الكونسرفتوار حينما فتح أبوابه في القاهرة في عام 1960 كان منهجه الدراسي خاضعا بالكامل للمنهج الأوروبي، بمعنى أنه كان يُدرّس أعمال بتهوفن وموزارت وشوفان وغيره من عمالقة الموسيقى الكلاسيكية الغربية، ولم يكن به قسم خاص مختص بدراسة الموسيقى الشرقية وألحان سلامة حجازي وعبده الحامولي وسيد درويش. وهكذا اضطر غازي علي أن يتعلم لمدة ثلاث سنوات الموسيقى الأوبرالية على يد الموسيقار العالمي جيلان روكيل إلى أن تم افتتاح قسم للموسيقى الشرقية يُدرّس فيه عمالقة الفن الشرقي من أمثال رياض السنباطي، جورج ميشيل، إبراهيم شقي، حورية عزمي، كامل عبدالله، وعبدالفتاح منسي. هنا أقنع صاحبنا عميد المعهد الموسيقار أبوبكر خيرت بأن يتحول من دراسة وغناء أوبرا فيردي إلى دراسة الموشحات والمقامات والموسيقى الشرقية. وفي هذا السياق أخبرنا: «قلت لهم أنا جاي من الصحراء.. من الأراضي المقدسة، ولم ألتحق بالمعهد لأغني في ميلانو وإنما لأغني في مصر، فاقتنع رياض السنباطي خصوصا وأنه كان قد استمع لبعض ألحاني مذاعة من محطة صوت العرب المصرية. فكانت تلك بداية علاقة صداقة بينه وبين السنباطي إلى الحد الذي كان فيه الأخير ينتظره بعد الدوام ليقوم بتوصيله إلى مقر سكنه في شارع الهرم بدلا من (شحططة) حافلات النقل العام. وأثناء تلك المشاوير كانت الأحاديث تدور بينهما، ومنها اكتشف السنباطي مواهب غازي علي المبكرة وكيف أنه مغرم بروائع الشعر العربي الخالدة مثل «نهج البردى» و«ولد الهدى» وغيرهما من عيون الشعر العربي الملحنة».
فنان يسبق ذائقتنا الفنية
صديقه محمد صادق دياب، الذي كتب عنه أكثر من مرة في صحيفة الشرق الأوسط اللندنية قال عنه إنّ أفضل ما يمكن أن يُوصف به غازي علي هو أنه فنان يسبق ذائقتنا الفنية، وقد نحتاج إلى زمن من الثقافة الموسيقية لنتعامل مع أعماله ورؤاه بما يستحقه من احتفاء وتقدير. وتعليقا على هذا كتب أحد القراء: «يدهشني أن لا تستفيد جمعية الثقافة والفنون السعودية من هذا الخبير والمرجع والعلم في فن الموسيقى، وكان أجدر بها أن تغرسه في دروب شباب الفن راية وفنارا ومعلما وملهما، فغازي علي يُفترض أن يلعب اليوم دورا أكثر اتساعا في حياتنا الفنية من تلك الدروس الخصوصية المحدودة التي ينشغل بها بعد الدخول في مرحلة الصمت».
وقتها كان غازي علي يمر بظروف صعبة، بدليل أنه صرح في لقاء مؤثر مع مجلة اليمامة السعودية عام 2012 بأنه مهدد بترك منزله من قبل المالك للشقة التي يسكنها لعدم تمكنه من تسديد الإيجار، وأن ما يتقاضاه من أجر الدروس الخصوصية في الموسيقى لا يكاد يسد حاجته، الأمر الذي جعل الكثيرين يتعاطفون معه ويناشدون الجهات المسؤولة بالتدخل.
80 عملاً فنياً سجلها في مسيرته
في مسيرته الفنية سجل غازي ثمانين عملا فنيا من أهمها: «روابي قبا»، و«سلمى»، و«شربة زمزم»، و«يالعشرة»، و«محلا اسمك يا رياض» و«في ربوع المدينة»، و«كحل العيون»، و«من جبل النور»، و«يا شمس لا تغيبي تمهلي»، و«يا طير يا طاير»، و«سواح أنا سواح» إضافة إلى دويتو «يا زهرة الوادي عطرتي إنشادي» مع فيصل غزاوي. كما غنى له طلاح المداح أغاني «سلام الله يا هاجرنا» و«أسمر حليوه» و«اسمحوا لي»، ولحن لوديع الصافي أغنية «يا ليالينا الجميلة»، وللفنانة فايزة أحمد أغنية «شكوى»، ولمحمد قنديل أغنية «يا ريت طبعك جميل زيك»، وللفنانة سعاد هاشم أغنيتي «بمفرق الوادي» و«مرحبا». ولسميرة توفيق أغنيتي «يا شجرة الزنجبيلة»، و«عنابك طاب واستوى»، وتعاون مع الفنان السوري فهد بلان، فكتب ولحن له أغنية «يا قمري لا تبكي»، ثم لحن له أغنية أخرى هي «يا قمرنا يا مليح» من كلمات المنولوجست السعودي لطفي زيني، ولحن للمطربة سعاد محمد أغنية «هاهنا»، ولماهر العطار أغنية «يا موجة». إلى ما سبق تخرج من تحت يديه ثلة من الفنانين أبرزهم عبادي الجوهر، وصاحب الصوت العذب طلال سلامة، والمطربة حنان بكر يونس الشهيرة بـ «وعد»، والصوت المغرد عباس إبراهيم، والفنان ثامر صاحب أغنية «وطنك ويش تقدر تعطيه».
عاشق للفن فقط.. لا يبحث عن الشهرة
في رده على سؤال حول أسباب عدم ظهوره إعلاميا قال: إنه لا ينظر إلى الشهرة وإنما هو عاشق للفن فقط ولا يريد أكثر من ذلك. وفي رده على منْ يقول إن أعماله القديمة ماتت وليس له جديد يقدمه قال كلاما ننقله هنا بتصرف: لا يوجد ما يجذبني للساحة الفنية، ليس تعاليا مني وإنما لأن العالم العربي في مفترق طرق منذ نكسة 67 التي أثرتْ فيّ كثيرا وجرحتني من داخلي، ودفعت مبدعين كثرا إلى الانزواء إعلاميا. وحينما سألته اليمامة (11/7/2019): ماذا أعطيت للفن؟ وماذا أعطاك؟ أجاب قائلا: «أعطيت الفن بعض الطلاب، ولم يعطني الفن شيئا».
من الفنانين السعوديين الذين زاملهم غازي طويلا طلال المداح، الذي تعرف عليه في الطائف من خلال المطرب السعودي الكبير عبدالله محمد، ثم سافرا سويا إلى بيروت لتسجيل أغانيهما. قال غازي عن طلال إنه كان صاحب كاريزما غريبة ويدخل قلب المرء من أول لقاء. لكن أهم ما كان يميزه هو العفوية والبساطة وعدم التصنع والكرم البالغ حتى في أشد فترات الإفلاس، متبنيا مقولة «إن الفلوس بتروح وبتجي».
في حوار له مع جريدة الحياة (21 يناير 2009) تحدث غازي بنبرة حزينة عن وضع الأغنية السعودية فقال إنها «تعيش فراغاً كبيراً منذ بداية السبعينات من القرن الماضي، وباتت حالياً تعيش مستوى فنياً حرجاً، سببه امتزاجها ببعض الثقافات الغنائية الغربية، وتأثير تلك الثقافات المباشر عن طريق أشرطة الكاسيت التي دخلتْ سوق الغناء السعودي، لتتغلغل في جسد المتلقي الشاب، فظهر ما يسمى الأغنية الخفيفة المعتمدة على الإيقاعات السريعة والصخب الموسيقي». وأضاف قائلاً: «إن معظم الجيل الحالي نشر هذه الثقافة المستوردة التي لا تمتْ إلى الأرض ولا إلى الأصالة الغنائية العربية بصلة قربى، وأصبحنا نسمع الأغاني الخفيفة، وبات معظم الفنانين لا يستخدمون في الأغنية سوى مقامين أو ثلاثة، وابتعدوا تماماً عن خصوصيات المقام العربي الأصيل، ولم نعد نسمع عن المقامات الغنائية العربية الجميلة كمقام الرست أو الحجاز أو السيكا... وغيرها من المقامات الفنية التي تعد من أساسيات الموسيقى الشرقية الأصيلة».
ورأى أنّ الأغنية السعودية هي «امتداد للعصور الأولى من تاريخ الجزيرة العربية بدءاً من الدولة الأموية، مروراً بالدولة العباسية ووصولاً الى العصر التركي القريب». وأسف لأنه لم يبقَ منها سوى ألوان غنائية تُعدّ على أصابع اليد الواحدة، من أشهرها ألوان «الدانة والمجرور والموال البرعي والحدري»، ما يؤكد بحسبه أنّ هناك ألواناً أخرى من الغناء داخل الجزيرة العربية اندثرتْ، إما بسبب موت أهلها، وإما لعدم تدوينها وحفظها.
شخصياً، التصق اسمه بذاكرتي منذ سنوات المراهقة، وتحديداً بعد أن غنى في ستينات القرن العشرين أغنيته الخالدة عن البحرين التي تقول كلماتها: «على البحرين.. سافر للزين.. وقل للزين.. دموع العين.. على الخدين.. تصير بحرين». وهي أغنية رغم بساطة كلماتها، إلا أنها بزت كل ما غناه المطربون السعوديون قبله وبعده من أغانٍ وطنية أو عاطفية للبحرين. ومنهم طاهر الأحسائي ورابح صقر وراشد الماجد.
ولهذه الأغنية الأثيرة قصة عاطفية حقيقية رواها صاحبها في حديث لصحيفة «عكاظ» (4/4/2014) فقال: «كنت في زيارة للشاعر طاهر زمخشري، فشاهدتُ فتاة جميلة جدا وسألتُ عنها فقال لي إنها من البحرين وتقوم بنشاط أدبي. فسألت عنها في اليوم التالي فقيل لي إنها سافرتْ. فخرجتُ وركبتُ الحافلة وبدأتُ في كتابة وتلحين المقطع الأول».
مواقف عاطفية تكتب أغاني
ويبدو أن مثل هذه المواقف العاطفية تكررتْ مع فناننا أكثر من مرة. ففي المقابلة الصحفية ذاتها تطرق إلى قصة أغنية أخرى له بعنوان «سلام لله» وهي من إنتاج عام 1962، فقال إنه أثناء دراسته في المعهد الموسيقي المصري سكن لبعض الوقت في شارع ابن الأزد بالجيزة أمام مسكن أمير الشعراء أحمد شوقي المعروف بـ«كرمة ابن هانئ»، وكان كلما فتح الشباك اصطدمت عيناه بآنسة مصرية رائعة الجمال، فغازلها واعتقد أن شقاوة المراهقة قد تحولتْ إلى حب حقيقي. وأضاف قائلا: «حصل أنْ انتقلنا للسكن في العجوزة، وتحديدا شارع شاهين، وبعد استقرارنا لعامين تقريبا، وأنا أفتح الشباك إلا وهذه المخلوقة نفسها التي لم يبرح خيالها ذهني ووجداني هي التي تطل من الشباك المقابل مع تغيير كبير كونها كانت حاملة رضيعها، أي أنها تزوجتْ، الأمر الذي جعلني أضرب أخماسا في أسداس، ولكني اعتبرتُ أنه من الممكن أنْ يكون الرضيع شقيقها مثلا أو ابن أخيها أو أختها لأجد لي مبررا للمواصلة. في اليوم التالي صباحا وأنا نازل من البيت متجها إلى المعهد إلا وأقابلها تدفع طفلها «بعربية الأطفال»، وبشقاوتنا نحن الشبان ومراهقي المدينة المنورة قلت لها سلام لله ياهوه، فأعجبتني الكلمة التي رميتها تلقائيا وأخذتُ أعمل عليها نصا غنائيا يصور الحالة التي أعيشها وظللتُ أكتب وأكمل الصورة فخرج معي النص التالي الذي لحنته في يومين:
ســـلام لله يا هاجرنا في بحر الشوق وما له قـــــرار
خسارة البيت جوار بيتنا ولا ترعى حقوق الجــــار
حياة هادئة دون بهرجة إعلامية
عاش غازي علي حياة هادئة دون ضجيج وخصومات ودعاءات وبهرجة إعلامية، ورحل عن دنيانا أيضا بهدوء، على الرغم من أنه أحد أوائل الفنانين السعوديين الذين درسوا الموسيقى على أصولها في معهد الكونسرفتوار في القاهرة، في زمن كان فيه أخذ الفن بالعلم والدراسة في الخارج وعلى أسس علمية غائبا عن الوسط الفني السعودي والخليجي، ويعتمد حصريا على تعلم الموسيقى والغناء بالسماع والنقل من جيل إلى جيل، طبقا لسعد الحميدين في جريدة الرياض (15/2/2012).
ولد «غازي علي محمد علي باجراد» عام 1937 في منزل بسوق القفاصة في المدينة المنورة، حيث تربى وتكونت ملكته الشعرية والموسيقية. توفي والده وهو لم يبلغ الخامسة فتولتْ أمه «عزيزة الدسوقي» تربيته. وعلى يد هذه السيدة المثقفة بالسليقة تعلم القراءة من خلال كتاب «السندباد البحري» لمؤلف كتب الأطفال الأشهر كامل الكيلاني، الذي كان والده قد أهداه لوالدته قبل وفاته. وهكذا تولع بالقراءة منذ الصف الرابع الابتدائي وراح يقرأ الروايات المترجمة لديستوفسكي وتشيكوف ومكسيم غوركي وغيرهم من عمالقة الأدب. وحينما كان في الصف السادس الابتدائي ــ طبقا لما قاله في حوار له مع صحيفة «عكاظ» السعودية (24/7/2013) «حدث الانفجار عندما سمعتُ أغنية لعبدالوهاب من كلمات إيليا أبوماضي يقول فيها: جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت...إلخ. وظل اسم إيليا أبوماضي في ذاكرتي إلى أن أتى أحد الأيام وكنتُ خارجا من باب الرحمة في المسجد النبوي، فرأيتُ في دكان محمد النمنكاني كتابا معلقا بعنوان الخمائل لإيليا أبوماضي وقيمته ريال واحد، وكان مصروفي لا يتجاوز أربعة قروش في تلك الفترة، فطلبتُ منه ألا يبيع الكتاب وأنْ يمهلني أياما عدة لجمع المبلغ، وفعلا عدتُ له واشتريتُ الكتاب وعشقتُ من وقتها شعر إيليا أبوماضي، ثم اتجهتُ بعد ذلك للقصة فقرأتُ للمنفلوطي ثم قرأتُ كل مجموعة يوسف السباعي ومن أجملها وأروعها رواية (السقا مات) التي أبكتني».
«حوش الشام» وسماع الموسيقى لأول مرة
أما عن قصته مع الغناء والطرب فقد نشرتها جريدة «عكاظ» (7/6/2008) في حوار أجراه محمد سلامة، حيث ذكر أنه سمع الموسيقى لأول مرة من خلال المذياع في «حوش الشام» وهو طفل صغير في سن الخامسة. وأضاف أن ما سمعه كان عبارة عن لحن تبثه محطة إذاعية تركية من أداء مجموعة من الشباب والشابات. هذا اللحن، الذي لم يكن سوى موشح تركي، هزه وسبب له قشعريرة وجعله يبكي ويستحي ويختفي وراء الدرج طبقا لما رواه. وهكذا لم يبلغ سن السادسة أو السابعة إلا وهو يحفظ الأغاني ويرددها مقتفيا بذلك أثر خالته ووالدته اللتين كانتا من صاحبات الصوت الجميل، فضلا عن جده لأمه الشيخ «أحمد الدسوقي» الذي كان موسيقيا ويعزف على العود.
مفاتيح التراث
استطاع فناننا في سن مبكرة أنْ يضع يده على مفاتيح التراث وينتج بالتالي مجموعة من الأعمال التراثية الخالدة مثل أغنيات «روابي قبا» و«في ربوع المدينة» و«شربة من زمزم» و«يالعشرة»، لكنه آثر أن يدعم موهبته العفوية بالدراسة الأكاديمية في أرقى معاهد الموسيقى العربية في القاهرة، إلى أنْ حصل على بكالوريوس التأليف الموسيقي. وفي هذا السياق، قال إنه تخرج في سنة النكسة، الأمر الذي أثر فيه وفي زملائه كثيرا، خصوصا أنهم كانوا يمتحنون في مادة التحليل الموسيقي لأعمال كلاسيكية كآخر مادة بينما كانت القنابل تضرب القاهرة الساعة التاسعة صباحا، مما جعل المعهد يلغي ذلك الامتحان الأخير ويُصرف الطلبة إلى بيوتهم. وأضاف قائلا بعاميته الحجازية مع التصرف: «عشنا أيام سودة، وأعدتُ سنة بسبب مادة واحدة، وبعدما اتخرجت فكرتُ إني لازم أقدم شيء للموسيقى في خيالي اللي هو «أسلوب تعليم الموسيقى الشرقية بالذات»، فالموسيقى الغربية كانت تدرّس بمنهجية وماشين فيها كويس، لكن بالنسبة للشرقي كل شيخ وله طريقته، فلقيت إنه لازم ده يتوحد ويتضبط، فبحثتُ إلى أنْ لقيت أنّ في «اليوجا» خيط ممكن يربط ده بده».
اليوجا وسيلة للتواصل
فما هي قصة غازي علي مع اليوجا؟ إنها قصة طويلة اختصرها في قوله -ننقل هنا بتصرف نقلا عن حواره مع محمد سلامة (مصدر سابق): «وجدتُ كتابا اسمه أبا بانديت للسفير الهندي في القاهرة من ترجمة الدكتور ثروت عكاشة، الذي كان يشغل وقتذاك منصب وزير الثقافة في مصر، فقرأته وأكملته في ليلة واحدة، ووجدتُ فيه أشياء موجودة في نفسي. وهذا ما حوّل مسيرتي من طريق الاهتمام بالتلحين إلى طريق اليوجا كوسيلة لتوصيل المعلومة للناس وفق قواعد وأسس». وأضاف: «قرأتُ عن وجود معهد خاص في مدينة برايتون البريطانية يُدرّس اليوجا، فسافرتُ إلى بريطانيا للالتحاق بالمعهد المذكور، وعشتُ هناك خمس سنوات في محاولة لدخول الموسيقى عن طريق اليوجا، خصوصا أنّ الأخيرة تطبيق عملي لكيف تعرف نفسك بنفسك. كانت الدراسة صعبة وكانت هناك تطبيقات عملية ويومية وجسدية وتمارين طويلة مرهقة. وفي النهاية أخبرني معلم اليوجا، لما عرف هدفي، أن اليوجا نظرية شرقية، وأن تطبيقها يجب أن يكون في مجتمع شرقي وتطبيقها في مجتمع غربي ما ينفع، فعدتُ إلى بلدي وتوليتُ قيادة جمعية الموسيقى، لكني وجدتُ أنه لا يمكن تطبيق ما أتطلع إليه عن طريق تلك الجمعية وأنّ الطريقة الوحيدة -بمنطوق ما حك جلدك مثل ظفرك- هي افتتاح معهد. ففتحتُ مدرسة صغيرة في بيتي جذبت الكثير من طلاب وهواة الفن، والحمد لله».
دراسة أعمال بتهوفن وموزارت وشوفان
ومن ضمن ما ذكره أيضا في الحوار ذاته أن معهد الكونسرفتوار حينما فتح أبوابه في القاهرة في عام 1960 كان منهجه الدراسي خاضعا بالكامل للمنهج الأوروبي، بمعنى أنه كان يُدرّس أعمال بتهوفن وموزارت وشوفان وغيره من عمالقة الموسيقى الكلاسيكية الغربية، ولم يكن به قسم خاص مختص بدراسة الموسيقى الشرقية وألحان سلامة حجازي وعبده الحامولي وسيد درويش. وهكذا اضطر غازي علي أن يتعلم لمدة ثلاث سنوات الموسيقى الأوبرالية على يد الموسيقار العالمي جيلان روكيل إلى أن تم افتتاح قسم للموسيقى الشرقية يُدرّس فيه عمالقة الفن الشرقي من أمثال رياض السنباطي، جورج ميشيل، إبراهيم شقي، حورية عزمي، كامل عبدالله، وعبدالفتاح منسي. هنا أقنع صاحبنا عميد المعهد الموسيقار أبوبكر خيرت بأن يتحول من دراسة وغناء أوبرا فيردي إلى دراسة الموشحات والمقامات والموسيقى الشرقية. وفي هذا السياق أخبرنا: «قلت لهم أنا جاي من الصحراء.. من الأراضي المقدسة، ولم ألتحق بالمعهد لأغني في ميلانو وإنما لأغني في مصر، فاقتنع رياض السنباطي خصوصا وأنه كان قد استمع لبعض ألحاني مذاعة من محطة صوت العرب المصرية. فكانت تلك بداية علاقة صداقة بينه وبين السنباطي إلى الحد الذي كان فيه الأخير ينتظره بعد الدوام ليقوم بتوصيله إلى مقر سكنه في شارع الهرم بدلا من (شحططة) حافلات النقل العام. وأثناء تلك المشاوير كانت الأحاديث تدور بينهما، ومنها اكتشف السنباطي مواهب غازي علي المبكرة وكيف أنه مغرم بروائع الشعر العربي الخالدة مثل «نهج البردى» و«ولد الهدى» وغيرهما من عيون الشعر العربي الملحنة».
فنان يسبق ذائقتنا الفنية
صديقه محمد صادق دياب، الذي كتب عنه أكثر من مرة في صحيفة الشرق الأوسط اللندنية قال عنه إنّ أفضل ما يمكن أن يُوصف به غازي علي هو أنه فنان يسبق ذائقتنا الفنية، وقد نحتاج إلى زمن من الثقافة الموسيقية لنتعامل مع أعماله ورؤاه بما يستحقه من احتفاء وتقدير. وتعليقا على هذا كتب أحد القراء: «يدهشني أن لا تستفيد جمعية الثقافة والفنون السعودية من هذا الخبير والمرجع والعلم في فن الموسيقى، وكان أجدر بها أن تغرسه في دروب شباب الفن راية وفنارا ومعلما وملهما، فغازي علي يُفترض أن يلعب اليوم دورا أكثر اتساعا في حياتنا الفنية من تلك الدروس الخصوصية المحدودة التي ينشغل بها بعد الدخول في مرحلة الصمت».
وقتها كان غازي علي يمر بظروف صعبة، بدليل أنه صرح في لقاء مؤثر مع مجلة اليمامة السعودية عام 2012 بأنه مهدد بترك منزله من قبل المالك للشقة التي يسكنها لعدم تمكنه من تسديد الإيجار، وأن ما يتقاضاه من أجر الدروس الخصوصية في الموسيقى لا يكاد يسد حاجته، الأمر الذي جعل الكثيرين يتعاطفون معه ويناشدون الجهات المسؤولة بالتدخل.
80 عملاً فنياً سجلها في مسيرته
في مسيرته الفنية سجل غازي ثمانين عملا فنيا من أهمها: «روابي قبا»، و«سلمى»، و«شربة زمزم»، و«يالعشرة»، و«محلا اسمك يا رياض» و«في ربوع المدينة»، و«كحل العيون»، و«من جبل النور»، و«يا شمس لا تغيبي تمهلي»، و«يا طير يا طاير»، و«سواح أنا سواح» إضافة إلى دويتو «يا زهرة الوادي عطرتي إنشادي» مع فيصل غزاوي. كما غنى له طلاح المداح أغاني «سلام الله يا هاجرنا» و«أسمر حليوه» و«اسمحوا لي»، ولحن لوديع الصافي أغنية «يا ليالينا الجميلة»، وللفنانة فايزة أحمد أغنية «شكوى»، ولمحمد قنديل أغنية «يا ريت طبعك جميل زيك»، وللفنانة سعاد هاشم أغنيتي «بمفرق الوادي» و«مرحبا». ولسميرة توفيق أغنيتي «يا شجرة الزنجبيلة»، و«عنابك طاب واستوى»، وتعاون مع الفنان السوري فهد بلان، فكتب ولحن له أغنية «يا قمري لا تبكي»، ثم لحن له أغنية أخرى هي «يا قمرنا يا مليح» من كلمات المنولوجست السعودي لطفي زيني، ولحن للمطربة سعاد محمد أغنية «هاهنا»، ولماهر العطار أغنية «يا موجة». إلى ما سبق تخرج من تحت يديه ثلة من الفنانين أبرزهم عبادي الجوهر، وصاحب الصوت العذب طلال سلامة، والمطربة حنان بكر يونس الشهيرة بـ «وعد»، والصوت المغرد عباس إبراهيم، والفنان ثامر صاحب أغنية «وطنك ويش تقدر تعطيه».
عاشق للفن فقط.. لا يبحث عن الشهرة
في رده على سؤال حول أسباب عدم ظهوره إعلاميا قال: إنه لا ينظر إلى الشهرة وإنما هو عاشق للفن فقط ولا يريد أكثر من ذلك. وفي رده على منْ يقول إن أعماله القديمة ماتت وليس له جديد يقدمه قال كلاما ننقله هنا بتصرف: لا يوجد ما يجذبني للساحة الفنية، ليس تعاليا مني وإنما لأن العالم العربي في مفترق طرق منذ نكسة 67 التي أثرتْ فيّ كثيرا وجرحتني من داخلي، ودفعت مبدعين كثرا إلى الانزواء إعلاميا. وحينما سألته اليمامة (11/7/2019): ماذا أعطيت للفن؟ وماذا أعطاك؟ أجاب قائلا: «أعطيت الفن بعض الطلاب، ولم يعطني الفن شيئا».
من الفنانين السعوديين الذين زاملهم غازي طويلا طلال المداح، الذي تعرف عليه في الطائف من خلال المطرب السعودي الكبير عبدالله محمد، ثم سافرا سويا إلى بيروت لتسجيل أغانيهما. قال غازي عن طلال إنه كان صاحب كاريزما غريبة ويدخل قلب المرء من أول لقاء. لكن أهم ما كان يميزه هو العفوية والبساطة وعدم التصنع والكرم البالغ حتى في أشد فترات الإفلاس، متبنيا مقولة «إن الفلوس بتروح وبتجي».
في حوار له مع جريدة الحياة (21 يناير 2009) تحدث غازي بنبرة حزينة عن وضع الأغنية السعودية فقال إنها «تعيش فراغاً كبيراً منذ بداية السبعينات من القرن الماضي، وباتت حالياً تعيش مستوى فنياً حرجاً، سببه امتزاجها ببعض الثقافات الغنائية الغربية، وتأثير تلك الثقافات المباشر عن طريق أشرطة الكاسيت التي دخلتْ سوق الغناء السعودي، لتتغلغل في جسد المتلقي الشاب، فظهر ما يسمى الأغنية الخفيفة المعتمدة على الإيقاعات السريعة والصخب الموسيقي». وأضاف قائلاً: «إن معظم الجيل الحالي نشر هذه الثقافة المستوردة التي لا تمتْ إلى الأرض ولا إلى الأصالة الغنائية العربية بصلة قربى، وأصبحنا نسمع الأغاني الخفيفة، وبات معظم الفنانين لا يستخدمون في الأغنية سوى مقامين أو ثلاثة، وابتعدوا تماماً عن خصوصيات المقام العربي الأصيل، ولم نعد نسمع عن المقامات الغنائية العربية الجميلة كمقام الرست أو الحجاز أو السيكا... وغيرها من المقامات الفنية التي تعد من أساسيات الموسيقى الشرقية الأصيلة».
ورأى أنّ الأغنية السعودية هي «امتداد للعصور الأولى من تاريخ الجزيرة العربية بدءاً من الدولة الأموية، مروراً بالدولة العباسية ووصولاً الى العصر التركي القريب». وأسف لأنه لم يبقَ منها سوى ألوان غنائية تُعدّ على أصابع اليد الواحدة، من أشهرها ألوان «الدانة والمجرور والموال البرعي والحدري»، ما يؤكد بحسبه أنّ هناك ألواناً أخرى من الغناء داخل الجزيرة العربية اندثرتْ، إما بسبب موت أهلها، وإما لعدم تدوينها وحفظها.