في صبيحة يوم (الإثنين) الثامن عشر من مايو 2020، الموافق للخامس والعشرين من شهر رمضان عام 1441 للهجرة، انتقل إلى جوار ربه بمستشفى سمير عباس بمدينة جدة، الشيخ صالح كامل، عن عمر ناهز التاسعة والسبعين، إثر نوبة قلبية دهمته فجأة وهو يؤدي الصلاة. وبذلك خسرت المملكة العربية السعودية قامة من قاماتها الإعلامية والاقتصادية والمصرفية، وشخصية آسرة رقيقة أنيقة في كلامها كما في صمتها، ورجلا من رجالاتها الألمعيين، ممن لم يدخر وسعا في سبيل نهضة وتنمية وطنه في حقول شتى، ناهيك عن المساهمة في كل مشروع يستهدف خير الناس داخل بلاده وخارجها.
يقول العرب إن «المعروف لا يُعرّف»، وهذا ينطبق على الفقيد لأن شهرته بلغت الآفاق، وأنشطته تجاوزت الحدود، ومعارفه لا حصر لهم، وبصماته حضرت في كل مرفق ومحمل، وسيرته فاضت بالمكارم. لم يكن مشواره في الحياة مزروعا بالورود، ولم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب، لكنه تمكن بعصامية فريدة وجهد دؤوب وروح مجبولة على الكفاح والمغامرة أن يؤسس في زمن قصير نسبيا إمبراطوريتين، إحداهما إعلامية والأخرى مصرفية، فأسدل بذلك الستار على سنوات بداياته الصعبة حينما كان يعمل في طوافة الحجاج بمسقط رأسه في العاصمة المقدسة، وما كابده في تلك الحقبة من عناء. وعلى الرغم من انتقاله من حال إلى حال، فإنه ظل ذلك الإنسان الذي لم تتغير ابتسامته الخارجة من القلب، وروحه الصافية الطافحة بالود، وشغفه اللامحدود بالعمل والإنتاج والتفوق. وهكذا استمر عبر سنوات عمره، قافزا من مشروع إلى آخر، ومن نجاح إلى نجاح، ومن بلد إلى آخر دون كلل أو ملل، ودون أن تضعف عزيمته أو يصاب بغرور الناجحين.
كتب عنه عثمان العمير في «إيلاف»، بعد وفاته تحت عنوان «صالح كامل ظاهرة لا تتكرر»، قائلا: «كان صالح كامل إنساناً بكل المقاييس، وناجحاً بكل المقاييس، وساعياً إلى الخير والمجد معاً»، ومضيفا: «حلق أبو عبدالله في المجال الإعلامي حتى لم ينافسه أحد، فأنشأ المحطات التلفزيونية وأدخل المشاهد عصراً جديداً من الإبداع وجمالية المحتوى، وتنوع الأداء وتعدد القنوات. لم يكل ولم يمل ولم يتوقف حتى أضحى ظاهرة لا تتكرر في جده واجتهاده وإشرافه على كل عمل بنفسه، وتحديه الصعاب، وإبرازه المواهب ورعايتها والوقوف بجانبها، وصار علماً من أعلام عصرنا بما قدمه من عطاءات لم تتوقف حتى آخر ساعة من حياته، لم يستطع قلبه تحمل قدرته المستمرة على العطاء وخياله الواسع في الاستثمار».
وُلد الشيخ صالح عبدالله كامل سندي بمكة المكرمة عام 1941 لأسرة متواضعة كانت تعمل في الطوافة، شأنها في ذلك شأن معظم العائلات المكية قديما، ولأب كان يعمل بديوان مجلس الوزراء. ودرس المرحلتين الابتدائية والمتوسطة في مدارس مكة المكرمة والطائف، بينما أنهى مرحلة الدراسة الثانوية في جدة لينتقل بعد ذلك إلى الرياض حيث التحق هناك بكلية التجارة في جامعة الملك سعود التي منحته بكالوريوس التجارة في عام 1963.
وأثناء دراسته الجامعية واصل ما كان قد بدأه خلال مرحلة تعليمه النظامي من الاهتمام والولع بالحركة الكشفية، حتى صار رائدا من روادها في المملكة العربية السعودية. وحول هذا ذكر الرائد الكشفي حسن العبادي في كتابه «أضواء على الحركة الكشفية»، أن جامعة الملك سعود بالرياض كان لها قصب السبق في تشكيل فرق كشفية في كلياتها الجامعية منذ عام 1961. أما الرائد الكشفي محمد سعد الوهيبي فقد أتى في كتابه «تاريخ الحركة الكشفية العالمية والعربية» على ذكر أسماء المنضمين إلى أول فرقة جوالة بجامعة الملك سعود وكان على رأسهم صالح كامل. كما أتى على ذكره الرائد الكشفي محمد نور فارسي في كتابه «الكشافة.. علم.. فن.. مهارة»، فأخبرنا أن نشاط صالح كامل الكشفي بدأ في الخمسينات حينما كان طالبا في مدرسة تحضير البعثات بمكة المكرمة، رغم معارضة أولياء الأمور وقتذاك انضمام أبنائهم إلى الفرق الكشفية، ثم واصل نشاطه الكشفي بعد التحاقه بجامعة الملك سعود.
أما لماذا اختار الفقيد الالتحاق بكلية التجارة تحديدا، فلأن التجارة تسربت إلى عقله ووجدانه منذ نعومة أظفاره، فظلت فكرة العمل التجاري والاستثمار تنمو وتكبر معه حتى تحولت إلى موهبة يجيد أسرارها. وهناك الكثير من الشواهد التي تدعم هذا الكلام. ففي مرحلة طفولته مثلا كان يصنع من عظم الخراف أدوات لعبة شعبية تسمى «الكبوش» ويبيعها لزملائه وأقرانه. وفي سنوات دراسته المتوسطة والثانوية اتجه إلى تحرير وإنتاج المجلات والصحف المدرسية وبيعها للطلاب. وفي الفترة ذاتها راح يستغل موقعه في الحركة الكشفية المدرسية تجاريا. دعونا نقرأ ما قاله بنفسه عن ذلك: «وأتتني فكرة استيراد ملابس رياضية، وقتها أخذت من والدي مبلغ 3000 ريال. سافرت إلى لبنان، واشتريت بدل كشافة وصافرات وسكاكين وكتبا كشفية جلبتها معي إلى السعودية. ثم كنت أضع بضاعتي في حقيبة وأدور بها على مدارس جدة». ويبدو أن الرجل أصيب لاحقا بالإرهاق من عملية بيع بضاعته بالطواف على المدارس فقرر أن يفتح محلا دائما لها. وفي هذا السياق، أخبرنا الرائد الكشفي محمد نور فارسي في كتابه المشار إليه آنفا أن صالح كامل افتتح محلا تحت اسم «بيت الكشافة» في جدة لبيع الكتب والملابس والشارات الكشفية وغيرها بأسعار رمزية، وعينه وكيلا له في مكة لتصريف بضاعته. يقول فارسي ما مفاده إنه مرت سنوات طويلة دون أن يسأله صالح كامل عن قيمة البضاعة الكشفية التي باعها لصالحه في مكة، لأن الأخير كان قد انتقل للدراسة في الرياض. وحينما التقيا صدفة بعد سبع سنوات رفض صاحبنا أن يتسلم منه أي مبالغ قائلا: «تلك هدية لك، فأنا الآن بخير كبير وتوسعت تجارتي والحمد لله».
وفي المرحلة الجامعية حصل صالح على إذن لتأمين مطبعة لنسخ مذكرات الطلبة، فأنشأ مطبعة صغيرة تحت اسم «دار ومكتب الكشاف السعودي» لنسخ المذكرات وبيعها على زملائه، واستمر يعمل في مطبعته الصغيرة ويدخر حتى تخرّج من الجامعة. ولأن الدخل المتأتى من مطبعته كان كبيرا نسبيا، قرر ألا يفرط في المطبعة بعد تخرجه، وأن يجعلها مستمرة في عملها من خلال موظفين أُجَرَاء. بعد تخرجه من كلية التجارة التحق للعمل بالقطاع الحكومي فتنقل كموظف على مدى أكثر من عشر سنوات في عدد من الوزارات مثل إدارة رعاية الشباب بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، التي انتقل منها إلى وزارة المالية والاقتصاد الوطني. غير أن فكره ظل مشدودا إلى العمل التجاري، بدليل أنه أثناء فترة عمله في سلك الدولة، لاحظ قلة عدد المطاعم والمطابخ في الرياض، فبادر إلى افتتاح مطعم تحت اسم «مطبخ الملز الشرقي» واستقدم له طباخا ماهرا كان يعمل لدى عائلته بجدة. وهكذا صار وقته موزعا بين عمله الحكومي صباحا، ومطبعته الجامعية ومطبخه مساء.
هناك نقطتا تحول رئيسيتان في حياة الرجل شكلتا بداية صعوده الأسطوري. كانت الأولى حينما استثمر عقليته التجارية والاستثمارية في دخول مناقصة طرحتها وزارة البرق والبريد والهاتف لنقل وتوزيع البريد الداخلي، أو ما عرف بـ«البريد الطواف». عن تجربته تلك قال: «قمت بعمل مشروع البريد الطوّاف، وكان رأسمالي هو 300 ألف ريال، هي كل ما جمعته من المطبعة والمطبخ. واشتريت سيارات تويوتا جيب. وكان وقتها سعر السيارة 12 ألف ريال. فاشتريت 30 سيارة وبدأت العمل. وقبلها قمت بعمل تجربة بنفسي، إذ طفت على جميع مدن وقرى السعودية. وقست المسافة بين كل منطقة وأخرى. وأصبحت قادرا حتى على تحديد كمية الوقود التي تحتاجها كل سيارة لتصل إلى هدفها. ونجح المشروع الذي استمر 15 عاما».
نجاحه في مشروع البريد الطواف أغراه للدخول في مناقصات حكومية أخرى، فجاءت نقطة التحول الثانية في حياته. وملخص القصة أنه دخل مناقصة وزارة الدفاع والطيران لبناء مدرسة الدفاع الجوي بجدة، مقدما عرضا بمبلغ 15 مليون دولار، في منافسة مع شركة «نستيول» الأمريكية التي طلبت 155 مليون دولار لتنفيذ المشروع. ولأنه أثبت كفاءته والتزامه بشروط العقد فقد تمت ترسية مناقصات مشاريع أخرى عليه مثل صيانة مواقع الدفاع الجوي في جميع أنحاء المملكة، إضافة إلى صيانة 22 مطارا مدنيا.
وسرعان ما فطن الرجل إلى ضرورة الاستعانة بالخبرات العالمية كي لا تقع تعهداته في مطبات فتتأثر سمعته سلبا أمام الجهات الحكومية. لذا نراه يدخل في شراكة مع «إفكو» الأمريكية المتخصصة في صيانة المطارات لتأسيس ما عرف بـ«إفكو دلة» التي صارت من أكبر مقاولي الصيانة العالميين منذ أواخر السبعينات إلى منتصف الثمانينات.
بعد ذلك أقدم صاحبنا في عام 1969 على تأسيس صرحه التجاري والاستثماري الأكبر ممثلا في «مجموعة دلة البركة»، وهي شركة توسعت كثيرا في السبعينات والثمانينات وتنوعت مجالات أنشطتها واستثماراتها ما بين الإعلام والعقارات والسياحة والنقل والمقاولات والخدمات والصناعات الغذائية والأعمال المصرفية والرعاية الصحية، واستطاعت أن تبرز كواحدة من أشهر شركات الاستثمار السعودية وأن تحقق ثروة هائلة من خلال تعاقداتها مع الدولة. ومن الطرائف أن البعض راح يسخر من اسم «دلة» لغرابته، قبل أن يصبح الاسم رديفا للنجاح والريادة. والحقيقة أن اختيار صالح كامل لهذا الاسم كان من باب اعتزازه ببيئته الحجازية، وتخليدا لذكرى جدته التي كانت تدلل والده عبدالله بهذا الاسم كعادة بعض أهل الحجاز.
بذكائه الوقاد وموهبته الاستثمارية دخل صالح كامل بعد ذلك مجال الإعلام، بل كان واحدا من أوائل المستثمرين السعوديين في هذا المجال. ففي مطلع التسعينات دخل في شراكة مع الشيخ وليد الإبراهيم لتأسيس قناة (MBC) في لندن، لكنه باع حصته فيها وأنشأ مؤسسة للإنتاج الإعلامي ممثلة في «الشركة العربية للإنتاج الإعلامي»، ثم أنشأ في عام 1993 شبكة قنوات تلفزيونية متخصصة تحت اسم (ART) التي راحت تبث من روما خمس قنوات مجانية على مدار الساعة (قبل أن يتم تحويلها إلى قنوات مشفرة عام 1996 وتتوزع مكاتبها ما بين الأردن ومصر ولبنان).
والحقيقة أن «ART» حققت نجاحا متميزا في بداياتها لتقديمها برامج متميزة وانفرادها ببث أفلام حصرية وأحداث رياضية، بدليل وصول مشاهديها إلى نحو مليون مشاهد وتحقيقها أرباحا سنوية هائلة، لكن بريقها راح يخفت تدريجيا، خصوصا بعد أن تخلت عن قناتها الرياضية الأهم لصالح إحدى المحطات التلفزيونية الشهيرة في صفقة مليارية عام 2009. وقد اعترف صالح كامل بنفسه بخطأ تلك الخطوة. إذ قال في برنامج «نقطة تحول» من قناة (MBC): «ترك مجال الإعلام الرياضي كان غلطة، وقد خسرت فيه الكثير».
ومن ضمن مشاريعه الإعلامية الأخرى، قيامه بتأسيس دار عكاظ للنشر والتوزيع، ومساهمته في إصدار جريدة الوطن السعودية، وإطلاقه قناة «إقرأ» الإسلامية. ومن الاستثمار في الإعلام انتقل صالح كامل إلى الاستثمار في المجال المصرفي. إذ وجد أن البنوك التجارية العادية لا تحقق التنوع والشمولية، وأن العالم العربي يفتقر إلى قنوات لتنمية الاستثمارات ومؤسسات مالية وسيطة بين البنك التجاري والمستثمر، ما يجعل أسواق الاستثمار في حالات غير طبيعية من الارتفاعات والخسائر، فأسس بنكاً في شكل سوق إسلامية لرأس المال مكتملة الأركان برأسمال بلغ ملياري دولار، وتبنى فكرة المصارف الإسلامية وكان من أوائل من اشتغل عليها وخاض أنشطتها ورأس العديد من هيئاتها (مثل لجنة المشاركين في محفظة البنوك الإسلامية، والمجلس العام للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية)، بل نال بسببها عددا من الجوائز والتكريمات. وحظيت مصر بنصيب الأسد من استثماراته الخارجية التي توزعت على دول عربية وإسلامية وأوروبية، وسبب ذلك حبه لمصر وإيمانه الشديد بأهميتها ودورها. فهو القائل في أحد اجتماعات مجلس الأعمال المصري السعودي في 2016: «إن مصر والسعودية مذكورتان معا في القرآن الكريم في سورة التين»، وإن «العلاقات بين البلدين أزلية وأقوى من أي شرذمة تريد التفرقة بينهما». وهو القائل أيضا في اجتماعه مع وزيرة الاستثمار المصرية السابقة إن «النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بأهل مصر خيرا لأن له نسبا وصهرا»، وإن «الشعبين المصري والسعودي هما أقرب شعبين عربيين لبعضهما». واشتملت استثماراته في مصر على: «بنك البركة مصر» الإسلامي، «شركة الملتقى العربي للاستثمارات» العاملة في الصناعة والزراعة والثروة السمكية والسياحة والعقارات، «شركة مصر الإسماعيلية للدواجن»، «شركة حلواني إخوان لصناعة وتوزيع المواد الغذائية».
عبدالله كامل.. الابن سر أبيه
وأخيرا، فإن للشيخ صالح كامل عددا من الأبناء أبرزهم ابنه الأكبر الشيخ عبدالله صالح كامل وشقيقه الشيخ محيي الدين صالح كامل. عبدالله الرئيس التنفيذي لشركة «دلة البركة» منذ عام 1999، وهو متخرج من كلية الاقتصاد بجامعة جنوب كاليفورنيا الأمريكية في عام 1986، وتقلد وظائف ومناصب قيادية عديدة، وورث من أبيه صفات الجد والمثابرة والشغف بالتجارة وحب التفوق والنجاح، ما أكسبه احترام ومحبة الجميع.
وأخلاق الشيخ صالح الكريمة وتعامله الإنساني كان مجذرا بكافة أبنائه، فابنه الأكبر الشيخ عبدالله وشقيقه الشيخ محيي الدين يسيران على نهج ومسيرة والدهما في الإنسانية، فضلاً عن أنهما من رجال الأعمال الناجحين على مستوى المنطقة.
وعبدالله كامل يتمتع بكل المزايا الشخصية التي تؤهله لرئاسة الغرفة الإسلامية، فهو اقتصادي ورجل أعمال مشبع بالخبرة وله تجربة واسعة ونهل من مدرسة والده الراحل وتتلمذ على يديه.
ويعرف مجتمع الاقتصاد والمال عبدالله صالح كامل أنه الرجل المناسب وفي التوقيت المناسب، لا لإنه ابن الشيخ عبدالله كامل، بل لكفاءته في شتى المجالات السعودية والعربية والدولية، سيما أن والده سلمه مع شقيقه محيي الدين قيادة المجموعة في حياته وانصرف هو إلى العمل العام والاجتماعي.
يقول العرب إن «المعروف لا يُعرّف»، وهذا ينطبق على الفقيد لأن شهرته بلغت الآفاق، وأنشطته تجاوزت الحدود، ومعارفه لا حصر لهم، وبصماته حضرت في كل مرفق ومحمل، وسيرته فاضت بالمكارم. لم يكن مشواره في الحياة مزروعا بالورود، ولم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب، لكنه تمكن بعصامية فريدة وجهد دؤوب وروح مجبولة على الكفاح والمغامرة أن يؤسس في زمن قصير نسبيا إمبراطوريتين، إحداهما إعلامية والأخرى مصرفية، فأسدل بذلك الستار على سنوات بداياته الصعبة حينما كان يعمل في طوافة الحجاج بمسقط رأسه في العاصمة المقدسة، وما كابده في تلك الحقبة من عناء. وعلى الرغم من انتقاله من حال إلى حال، فإنه ظل ذلك الإنسان الذي لم تتغير ابتسامته الخارجة من القلب، وروحه الصافية الطافحة بالود، وشغفه اللامحدود بالعمل والإنتاج والتفوق. وهكذا استمر عبر سنوات عمره، قافزا من مشروع إلى آخر، ومن نجاح إلى نجاح، ومن بلد إلى آخر دون كلل أو ملل، ودون أن تضعف عزيمته أو يصاب بغرور الناجحين.
كتب عنه عثمان العمير في «إيلاف»، بعد وفاته تحت عنوان «صالح كامل ظاهرة لا تتكرر»، قائلا: «كان صالح كامل إنساناً بكل المقاييس، وناجحاً بكل المقاييس، وساعياً إلى الخير والمجد معاً»، ومضيفا: «حلق أبو عبدالله في المجال الإعلامي حتى لم ينافسه أحد، فأنشأ المحطات التلفزيونية وأدخل المشاهد عصراً جديداً من الإبداع وجمالية المحتوى، وتنوع الأداء وتعدد القنوات. لم يكل ولم يمل ولم يتوقف حتى أضحى ظاهرة لا تتكرر في جده واجتهاده وإشرافه على كل عمل بنفسه، وتحديه الصعاب، وإبرازه المواهب ورعايتها والوقوف بجانبها، وصار علماً من أعلام عصرنا بما قدمه من عطاءات لم تتوقف حتى آخر ساعة من حياته، لم يستطع قلبه تحمل قدرته المستمرة على العطاء وخياله الواسع في الاستثمار».
وُلد الشيخ صالح عبدالله كامل سندي بمكة المكرمة عام 1941 لأسرة متواضعة كانت تعمل في الطوافة، شأنها في ذلك شأن معظم العائلات المكية قديما، ولأب كان يعمل بديوان مجلس الوزراء. ودرس المرحلتين الابتدائية والمتوسطة في مدارس مكة المكرمة والطائف، بينما أنهى مرحلة الدراسة الثانوية في جدة لينتقل بعد ذلك إلى الرياض حيث التحق هناك بكلية التجارة في جامعة الملك سعود التي منحته بكالوريوس التجارة في عام 1963.
وأثناء دراسته الجامعية واصل ما كان قد بدأه خلال مرحلة تعليمه النظامي من الاهتمام والولع بالحركة الكشفية، حتى صار رائدا من روادها في المملكة العربية السعودية. وحول هذا ذكر الرائد الكشفي حسن العبادي في كتابه «أضواء على الحركة الكشفية»، أن جامعة الملك سعود بالرياض كان لها قصب السبق في تشكيل فرق كشفية في كلياتها الجامعية منذ عام 1961. أما الرائد الكشفي محمد سعد الوهيبي فقد أتى في كتابه «تاريخ الحركة الكشفية العالمية والعربية» على ذكر أسماء المنضمين إلى أول فرقة جوالة بجامعة الملك سعود وكان على رأسهم صالح كامل. كما أتى على ذكره الرائد الكشفي محمد نور فارسي في كتابه «الكشافة.. علم.. فن.. مهارة»، فأخبرنا أن نشاط صالح كامل الكشفي بدأ في الخمسينات حينما كان طالبا في مدرسة تحضير البعثات بمكة المكرمة، رغم معارضة أولياء الأمور وقتذاك انضمام أبنائهم إلى الفرق الكشفية، ثم واصل نشاطه الكشفي بعد التحاقه بجامعة الملك سعود.
أما لماذا اختار الفقيد الالتحاق بكلية التجارة تحديدا، فلأن التجارة تسربت إلى عقله ووجدانه منذ نعومة أظفاره، فظلت فكرة العمل التجاري والاستثمار تنمو وتكبر معه حتى تحولت إلى موهبة يجيد أسرارها. وهناك الكثير من الشواهد التي تدعم هذا الكلام. ففي مرحلة طفولته مثلا كان يصنع من عظم الخراف أدوات لعبة شعبية تسمى «الكبوش» ويبيعها لزملائه وأقرانه. وفي سنوات دراسته المتوسطة والثانوية اتجه إلى تحرير وإنتاج المجلات والصحف المدرسية وبيعها للطلاب. وفي الفترة ذاتها راح يستغل موقعه في الحركة الكشفية المدرسية تجاريا. دعونا نقرأ ما قاله بنفسه عن ذلك: «وأتتني فكرة استيراد ملابس رياضية، وقتها أخذت من والدي مبلغ 3000 ريال. سافرت إلى لبنان، واشتريت بدل كشافة وصافرات وسكاكين وكتبا كشفية جلبتها معي إلى السعودية. ثم كنت أضع بضاعتي في حقيبة وأدور بها على مدارس جدة». ويبدو أن الرجل أصيب لاحقا بالإرهاق من عملية بيع بضاعته بالطواف على المدارس فقرر أن يفتح محلا دائما لها. وفي هذا السياق، أخبرنا الرائد الكشفي محمد نور فارسي في كتابه المشار إليه آنفا أن صالح كامل افتتح محلا تحت اسم «بيت الكشافة» في جدة لبيع الكتب والملابس والشارات الكشفية وغيرها بأسعار رمزية، وعينه وكيلا له في مكة لتصريف بضاعته. يقول فارسي ما مفاده إنه مرت سنوات طويلة دون أن يسأله صالح كامل عن قيمة البضاعة الكشفية التي باعها لصالحه في مكة، لأن الأخير كان قد انتقل للدراسة في الرياض. وحينما التقيا صدفة بعد سبع سنوات رفض صاحبنا أن يتسلم منه أي مبالغ قائلا: «تلك هدية لك، فأنا الآن بخير كبير وتوسعت تجارتي والحمد لله».
وفي المرحلة الجامعية حصل صالح على إذن لتأمين مطبعة لنسخ مذكرات الطلبة، فأنشأ مطبعة صغيرة تحت اسم «دار ومكتب الكشاف السعودي» لنسخ المذكرات وبيعها على زملائه، واستمر يعمل في مطبعته الصغيرة ويدخر حتى تخرّج من الجامعة. ولأن الدخل المتأتى من مطبعته كان كبيرا نسبيا، قرر ألا يفرط في المطبعة بعد تخرجه، وأن يجعلها مستمرة في عملها من خلال موظفين أُجَرَاء. بعد تخرجه من كلية التجارة التحق للعمل بالقطاع الحكومي فتنقل كموظف على مدى أكثر من عشر سنوات في عدد من الوزارات مثل إدارة رعاية الشباب بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، التي انتقل منها إلى وزارة المالية والاقتصاد الوطني. غير أن فكره ظل مشدودا إلى العمل التجاري، بدليل أنه أثناء فترة عمله في سلك الدولة، لاحظ قلة عدد المطاعم والمطابخ في الرياض، فبادر إلى افتتاح مطعم تحت اسم «مطبخ الملز الشرقي» واستقدم له طباخا ماهرا كان يعمل لدى عائلته بجدة. وهكذا صار وقته موزعا بين عمله الحكومي صباحا، ومطبعته الجامعية ومطبخه مساء.
هناك نقطتا تحول رئيسيتان في حياة الرجل شكلتا بداية صعوده الأسطوري. كانت الأولى حينما استثمر عقليته التجارية والاستثمارية في دخول مناقصة طرحتها وزارة البرق والبريد والهاتف لنقل وتوزيع البريد الداخلي، أو ما عرف بـ«البريد الطواف». عن تجربته تلك قال: «قمت بعمل مشروع البريد الطوّاف، وكان رأسمالي هو 300 ألف ريال، هي كل ما جمعته من المطبعة والمطبخ. واشتريت سيارات تويوتا جيب. وكان وقتها سعر السيارة 12 ألف ريال. فاشتريت 30 سيارة وبدأت العمل. وقبلها قمت بعمل تجربة بنفسي، إذ طفت على جميع مدن وقرى السعودية. وقست المسافة بين كل منطقة وأخرى. وأصبحت قادرا حتى على تحديد كمية الوقود التي تحتاجها كل سيارة لتصل إلى هدفها. ونجح المشروع الذي استمر 15 عاما».
نجاحه في مشروع البريد الطواف أغراه للدخول في مناقصات حكومية أخرى، فجاءت نقطة التحول الثانية في حياته. وملخص القصة أنه دخل مناقصة وزارة الدفاع والطيران لبناء مدرسة الدفاع الجوي بجدة، مقدما عرضا بمبلغ 15 مليون دولار، في منافسة مع شركة «نستيول» الأمريكية التي طلبت 155 مليون دولار لتنفيذ المشروع. ولأنه أثبت كفاءته والتزامه بشروط العقد فقد تمت ترسية مناقصات مشاريع أخرى عليه مثل صيانة مواقع الدفاع الجوي في جميع أنحاء المملكة، إضافة إلى صيانة 22 مطارا مدنيا.
وسرعان ما فطن الرجل إلى ضرورة الاستعانة بالخبرات العالمية كي لا تقع تعهداته في مطبات فتتأثر سمعته سلبا أمام الجهات الحكومية. لذا نراه يدخل في شراكة مع «إفكو» الأمريكية المتخصصة في صيانة المطارات لتأسيس ما عرف بـ«إفكو دلة» التي صارت من أكبر مقاولي الصيانة العالميين منذ أواخر السبعينات إلى منتصف الثمانينات.
بعد ذلك أقدم صاحبنا في عام 1969 على تأسيس صرحه التجاري والاستثماري الأكبر ممثلا في «مجموعة دلة البركة»، وهي شركة توسعت كثيرا في السبعينات والثمانينات وتنوعت مجالات أنشطتها واستثماراتها ما بين الإعلام والعقارات والسياحة والنقل والمقاولات والخدمات والصناعات الغذائية والأعمال المصرفية والرعاية الصحية، واستطاعت أن تبرز كواحدة من أشهر شركات الاستثمار السعودية وأن تحقق ثروة هائلة من خلال تعاقداتها مع الدولة. ومن الطرائف أن البعض راح يسخر من اسم «دلة» لغرابته، قبل أن يصبح الاسم رديفا للنجاح والريادة. والحقيقة أن اختيار صالح كامل لهذا الاسم كان من باب اعتزازه ببيئته الحجازية، وتخليدا لذكرى جدته التي كانت تدلل والده عبدالله بهذا الاسم كعادة بعض أهل الحجاز.
بذكائه الوقاد وموهبته الاستثمارية دخل صالح كامل بعد ذلك مجال الإعلام، بل كان واحدا من أوائل المستثمرين السعوديين في هذا المجال. ففي مطلع التسعينات دخل في شراكة مع الشيخ وليد الإبراهيم لتأسيس قناة (MBC) في لندن، لكنه باع حصته فيها وأنشأ مؤسسة للإنتاج الإعلامي ممثلة في «الشركة العربية للإنتاج الإعلامي»، ثم أنشأ في عام 1993 شبكة قنوات تلفزيونية متخصصة تحت اسم (ART) التي راحت تبث من روما خمس قنوات مجانية على مدار الساعة (قبل أن يتم تحويلها إلى قنوات مشفرة عام 1996 وتتوزع مكاتبها ما بين الأردن ومصر ولبنان).
والحقيقة أن «ART» حققت نجاحا متميزا في بداياتها لتقديمها برامج متميزة وانفرادها ببث أفلام حصرية وأحداث رياضية، بدليل وصول مشاهديها إلى نحو مليون مشاهد وتحقيقها أرباحا سنوية هائلة، لكن بريقها راح يخفت تدريجيا، خصوصا بعد أن تخلت عن قناتها الرياضية الأهم لصالح إحدى المحطات التلفزيونية الشهيرة في صفقة مليارية عام 2009. وقد اعترف صالح كامل بنفسه بخطأ تلك الخطوة. إذ قال في برنامج «نقطة تحول» من قناة (MBC): «ترك مجال الإعلام الرياضي كان غلطة، وقد خسرت فيه الكثير».
ومن ضمن مشاريعه الإعلامية الأخرى، قيامه بتأسيس دار عكاظ للنشر والتوزيع، ومساهمته في إصدار جريدة الوطن السعودية، وإطلاقه قناة «إقرأ» الإسلامية. ومن الاستثمار في الإعلام انتقل صالح كامل إلى الاستثمار في المجال المصرفي. إذ وجد أن البنوك التجارية العادية لا تحقق التنوع والشمولية، وأن العالم العربي يفتقر إلى قنوات لتنمية الاستثمارات ومؤسسات مالية وسيطة بين البنك التجاري والمستثمر، ما يجعل أسواق الاستثمار في حالات غير طبيعية من الارتفاعات والخسائر، فأسس بنكاً في شكل سوق إسلامية لرأس المال مكتملة الأركان برأسمال بلغ ملياري دولار، وتبنى فكرة المصارف الإسلامية وكان من أوائل من اشتغل عليها وخاض أنشطتها ورأس العديد من هيئاتها (مثل لجنة المشاركين في محفظة البنوك الإسلامية، والمجلس العام للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية)، بل نال بسببها عددا من الجوائز والتكريمات. وحظيت مصر بنصيب الأسد من استثماراته الخارجية التي توزعت على دول عربية وإسلامية وأوروبية، وسبب ذلك حبه لمصر وإيمانه الشديد بأهميتها ودورها. فهو القائل في أحد اجتماعات مجلس الأعمال المصري السعودي في 2016: «إن مصر والسعودية مذكورتان معا في القرآن الكريم في سورة التين»، وإن «العلاقات بين البلدين أزلية وأقوى من أي شرذمة تريد التفرقة بينهما». وهو القائل أيضا في اجتماعه مع وزيرة الاستثمار المصرية السابقة إن «النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بأهل مصر خيرا لأن له نسبا وصهرا»، وإن «الشعبين المصري والسعودي هما أقرب شعبين عربيين لبعضهما». واشتملت استثماراته في مصر على: «بنك البركة مصر» الإسلامي، «شركة الملتقى العربي للاستثمارات» العاملة في الصناعة والزراعة والثروة السمكية والسياحة والعقارات، «شركة مصر الإسماعيلية للدواجن»، «شركة حلواني إخوان لصناعة وتوزيع المواد الغذائية».
عبدالله كامل.. الابن سر أبيه
وأخيرا، فإن للشيخ صالح كامل عددا من الأبناء أبرزهم ابنه الأكبر الشيخ عبدالله صالح كامل وشقيقه الشيخ محيي الدين صالح كامل. عبدالله الرئيس التنفيذي لشركة «دلة البركة» منذ عام 1999، وهو متخرج من كلية الاقتصاد بجامعة جنوب كاليفورنيا الأمريكية في عام 1986، وتقلد وظائف ومناصب قيادية عديدة، وورث من أبيه صفات الجد والمثابرة والشغف بالتجارة وحب التفوق والنجاح، ما أكسبه احترام ومحبة الجميع.
وأخلاق الشيخ صالح الكريمة وتعامله الإنساني كان مجذرا بكافة أبنائه، فابنه الأكبر الشيخ عبدالله وشقيقه الشيخ محيي الدين يسيران على نهج ومسيرة والدهما في الإنسانية، فضلاً عن أنهما من رجال الأعمال الناجحين على مستوى المنطقة.
وعبدالله كامل يتمتع بكل المزايا الشخصية التي تؤهله لرئاسة الغرفة الإسلامية، فهو اقتصادي ورجل أعمال مشبع بالخبرة وله تجربة واسعة ونهل من مدرسة والده الراحل وتتلمذ على يديه.
ويعرف مجتمع الاقتصاد والمال عبدالله صالح كامل أنه الرجل المناسب وفي التوقيت المناسب، لا لإنه ابن الشيخ عبدالله كامل، بل لكفاءته في شتى المجالات السعودية والعربية والدولية، سيما أن والده سلمه مع شقيقه محيي الدين قيادة المجموعة في حياته وانصرف هو إلى العمل العام والاجتماعي.