المعروف أن البحرين سجلت اسمها في صفحات التاريخ كأول بلد في منطقة الخليج العربي يكتشف فيها النفط، وذلك سنة 1932، بالتزامن مع انهيار أسواق اللؤلؤ الذي كان عماد الاقتصاد الخليجي ومصدر رزق الجل الأعظم من سكان المنطقة. ففي الثاني من يونيو 1932 تم بمنطقة «جبل دخان» اكتشاف أول بئر ينتج النفط بكميات تجارية في البحرين وعموم دول الخليج العربية، فكان ذلك إيذاناً بدخول الشركات النفطية الأوروبية والأمريكية في سباق محموم للتنقيب عن النفط في بقية دول المنطقة.
نتحدث عن هذا الحدث، الذي غير وجه المنطقة بأسرها ولاسيما بعد اكتشاف النفط في الكويت في فبراير 1938، وفي السعودية في مارس 1938، وفي قطر في ديسمبر 1939، لارتباط اسم من سنتناول سيرته بصناعة النفط في البحرين. فهو أحد رجالاتها ممن صعدوا سلالمها الوظيفية باقتدار، من متدرب فمبتعث فموظف فرئيس إلى أن حمل حقيبتها الوزارية بعد مسيرة عصامية فذة تخللتها الصعاب والتحديات والتقلبات التي لم تحبطه قط أو تهز عزيمته.
حديثنا هو عن الدكتور عبدالحسين علي ميرزا، الشخصية الطيبة البشوشة المتواضعة الخلوقة، والتكنوقراطي الذي يمتلك خبرة تمتد لأكثر من نصف قرن في قطاعات النفط والغاز والماء والكهرباء والطاقة المستدامة، راكمها من خلال توليه العديد من المناصب القيادية العليا. ونستند في حديثنا عنه إلى مؤلف ضخم من 750 صفحة، أصدره في أواخر عام 2022 تحت عنوان «مسيرتي في سبيل الوطن»، يحكي فيه بالتفصيل عن تجربته الغزيرة في الحياة والدراسة والعمل.
استنشق «عبدالحسين علي ميرزا حسين علي» أوكسجين الحياة في الثاني من أغسطس 1944 بفريج المشبر، أحد فرجان المنامة الكبيرة، الذي أنجب العديد من رجالات البحرين المتميزين في مختلف الحقول. وكان ميلاده على يد القابلة والممرضة البحرينية الأولى المؤهلة أكاديمياً «فاطمة علي الزياني» (1918 ــ 1982)، داخل بيت والده القريب من مقر الشرطة والأمن المعروف بـ«القلعة».
جده هو رجل الدين الورع «حسين علي»، الذي تزوج من سيدة تنتسب إلى آل البيت تدعى معصومة، والذي اكتسب لقب ميرزا جرياً على عادة متبعة عند معتنقي المذهب الجعفري، مضمونها أنه إذا تزوج شخص من عامة الناس بفتاة تنتمي إلى السلالة النبوية الشريفة، فإن لقب ميرزا يضاف إلى اسمه، بل يسبقه أحياناً وقد يغلب عليه. أما والده فهو الشرطي علي ميرزا (1905 ــ 1985)، الذي اقترن بالسيدة مريم علي شاكر، وأنجبا 12 من البنين والبنات، كان ترتيبه بينهم هو الثالث بعد أخويه عبدالعزيز وخليل، وقبل كل من فيصل ورباب ومحمد علي وليلى وعصمت وعادل ويوسف وسوسن ونجاة.
يقول الوزير ميرزا، إن والده، الذي ترقي وظيفياً في سلك الأمن حتى صار ضابطاً برتبة عميد، ومرافقاً أقدم لعظمة حاكم البحرين وتوابعها الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة رحمه الله، اختار له اسم خالد، ولكن صادفت ولادته ذكرى ميلاد الإمام الحسين رضي الله عنه، فاقترحت جدته لأمه اسم «عبدالحسين» بديلاً. كما أخبرنا أن والده كان حريصاً على إدخال البهجة على أبنائه فكان يأخذهم إلى «سينما القصيبي»، وإلى «فندق البحرين» لتناول العشاء، ويشاركهم مشاهدة برامج تلفزيون أرامكو من الظهران.
نشأ صاحبنا وترعرع وسط أسرته المتوسطة الحال، وفي بيت طغى عليه التسامح الديني والمذهبي والانضباط الشديد المستمد من عمل والده في الشرطة. وحينما جاء وقت التحاقه بالتعليم، أرسل إلى المدرسة الغربية الابتدائية (كانت تعرف سابقاً بالمدرسة الجعفرية وتسمى حالياً مدرسة أبي بكر الصديق). وفي هذه المدرسة، التي كان يذهب إليها مع إخوته الذكور مشياً لقربها من منزلهم، أمضى 6 سنوات من التعليم على يد مدرسين صارمين، كان خلالها متفوقاً في دروسه، مواظباً على الحضور، ومحبوباً من قبل زملائه، ولاسيما المتعثرين منهم، لأنه كان يساعدهم في تجاوز عثراتهم الدراسية.
في عام 1955 تخرج من مدرسته الابتدائية، فقرر - أسوة بمعظم رفاقه - أن يلتحق بثانوية المنامة التجارية بمنطقة القضيبية التي انتقلت إليها عائلته للسكن. وفي هذه المدرسة، التي زامل فيها بعضاً ممن تسنموا لاحقاً مناصب رفيعة في الدولة (مثل الشيخ خالد بن عبدالله آل خليفة نائب رئيس مجلس الوزراء وعلي صالح الصالح رئيس مجلس الشورى ووزير التجارة الأسبق المرحوم حبيب أحمد قاسم وعبدالله المدني وكيل وزارة العمل والشؤون الاجتماعية الأسبق)، بدأ الرجل رحلة دراسية مختلفة درس خلالها مواد متعلقة بالتخصص التجاري، كالمحاسبة ومسك الدفاتر والرياضيات المالية والآلة الكاتبة وغيرها من المواد التي تفوق فيها وأجادها، لكن شغفه الأكبر كان باللغة الإنجليزية التي فتحت أمامه آفاقاً جديدة، خصوصاً مع تشجيع مدرسه البريطاني «مستر هايدلي» له، وتردده على مكتبة المجلس الثقافي البريطاني لاستعارة الكتب والروايات الإنجليزية، ما جعله في ذلك السن المبكرة ملماً بأسرار هذه اللغة العالمية قراءة وكتابة ومخاطبة كما العربية. إلى جانب الإنجليزية استهوته مادة الرسم وما ينطوي عليه من دقة وتخيل وإبداع، وهو ما ساعده لاحقاً على أن يكون مبدعاً ودقيقاً في كل عمل يوكل إليه.
تخرج من الثانوية التجارية عام 1959، وكان ترتيبه الأول على 32 طالباً، بسبب اجتهاده وتركيزه على الدراسة والقراءة والاطلاع دون إضاعة وقته في اللعب وممارسة الهوايات المتنوعة كبقية أقرانه. ولعل من آيات شعوره بالمسؤولية وإصراره على التميز والتفوق أنه خلال سنوات التحاقه بالمسار التجاري في المرحلة الثانوية، كان بالتزامن ملتحقاً بالمسار الأدبي في الفترة المسائية، فتخرج وهو يحمل ما يسمى اليوم في الجامعات «التخصص المزدوج». غير أن ما لم يحسب الرجل حسابه، هو أن الحكومة لم تكن تخصص منحاً للدراسة الجامعية لخريجي الثانوية التجارية، فيما كان هو طامحاً لإكمال تعليمه الجامعي في الخارج، خصوصاً في ظل عدم وجود جامعات في البحرين آنذاك.
وهنا لجأ ميرزا إلى والده طالباً المساعدة، لكن الأخير طلب منه أن يدخل سوق العمل لفترة يتمكن خلالها من توفير المال واكتساب بعض خبرات الحياة قبل أن يرحل إلى الخارج للدراسة. وهكذا التحق في عام 1960 بوظيفة كاتب في المحكمة الصغرى الثالثة مسؤولاً عن إعداد محاضر الجلسات وجداولها، وهي وظيفة قال عنها في كتابه، إنها أشعرته بأهميته رغم صغر سنه، وعلمته فضيلة تقديم العون للمحتاج، وعرفته على مشاكل الناس وقضاياهم وحوادثهم.
لكن الرجل، طوال فترة عمله في المحكمة، لم ينسَ حلم الدراسة الجامعية فكان يراسل مختلف الجامعات التي تدرس باللغة الإنجليزية أملاً في الحصول على منحة ما، إلى أن أثمرت مراسلاته عن حصوله على منحة من جامعة البنجاب الباكستانية لدراسة الاقتصاد. كانت فرحته عظيمة، ودون أن يفكر قبل المنحة خصوصاً مع عدم وجود خيار آخر، ناهيك عن رخص تكاليف المعيشة في بلد كباكستان، وبالتالي عدم تحميل أسرته أعباء فوق طاقتها. وبالفعل سافر إلى باكستان في عام 1961، وعاش هناك دارساً لمدة عام، عانى خلالها من صعوبات التأقلم والغربة الموحشة وقلة النظافة. وفي صيف عام 1962 عاد إلى البحرين ليقضي إجازته الصيفية بين أهله، لكنه قرر أن يستغلها في أي عمل كي يوفر مالاً يساعده على تدبير أموره المعيشية في سنته الجامعية الثانية. وقتها كانت شركة بابكو هي ملجأ الباحثين عن العمل الصيفي المؤقت واكتساب المهارات والتدريب، خصوصاً أولئك المتمكنين من الإنجليزية.
وتشاء الأقدار أن يلفت ميرزا، خلال عمله الصيفي في بابكو، أنظار مدير مدرسة التدريب «فيفيان مكنايت»، الذي علم بحصوله على شهادة GCE المؤهلة للالتحاق بالجامعات البريطانية، وحصوله على المركز الأول في صفه بجامعة البنجاب، وفي الثانوية التجارية، فاقترح عليه الالتحاق ببابكو مع وعد بابتعاثه إلى بريطانيا للدراسة، وهو ما رد عليه ميرزا بالموافقة الفورية دون تفكير أو تردد قبل أن تدعم أسرته خياره هذا، كونه يحقق له حلماً لطالما راوده.
وهكذا بدأ الرجل عمله مع بابكو بوظيفة متدرب في قسم كان يعد وقتها بمثابة بنك الشركة هو «قسم الخزينة»، فبدا سعيداً وفخوراً لكونه صار مؤتمناً على خزينة شركة النفط، أكبر شركة في البحرين تضخ الأموال في مفاصل الدولة لانتعاش الحياة والأعمال. ومن الخزينة انتقل للعمل مشرفاً على قسم الحسابات في المرفأ البحري للشركة في سترة، ثم تم نقله إلى قسم التدقيق وجرد الأصول، الذي كان من مهامه فيه تسلق خزانات النفط الخام والوحدات العالية في المصفاة وغير ذلك من المهام الشاقة التي ساعدته في صقل مهاراته وعلمته الصبر والتعود على الأعمال الجادة المهيئة لتولي المناصب القيادية لاحقاً.
وأثناء هذه الفترة عمل جاهداً على إنهاء كل مقررات بابكو الدراسية والتدريبية الصعبة، فحالفه النجاح وتمكن من اجتياز كل المعوقات ليتم ابتعاثه إلى بريطانيا في عام 1965 مع نفر من زملائه، وقد صار أكثر نضجاً وأقوى مراساً وأوسع تجربة.
السفر إلى بريطانيا وأوروبا
ولأن السفر إلى بريطانيا وأوروبا آنذاك كان مقتصراً على شريحة معينة من المقتدرين، ولأن وسائل الاتصال والإعلام لم تكن كما اليوم، فقد بدأ ميرزا ورفاقه رحلتهم في بريطانيا بتلقي دروس رتبتها لهم بابكو في الإتيكيت وثقافة المعيشة والأكل والتبضع والتصرف والتنقل في قطارات الأنفاق حماية لهم مما يسمى بالصدمة الحضارية، وكي يكونوا خير سفراء للبحرين وللشركة المبتعثة.
وخلال السنوات الخمس، التي قضاها في لندن كطالب مبتعث، تنقل في السكن بين أكثر من فندق وشقة ومنطقة، وكان يتلقى مع زملائه دعماً ورعاية من المسؤولين في مكاتب شركة كالتكس النفطية بلندن، ما جعلهم يركزون جل اهتمامهم على الهدف الذي جاؤوا من أجله وهو الحصول على شهادة المحاسبة الإدارية، لكن ذلك لم يمنعهم من اكتساب خبرات ومعارف أخرى من خلال حضور جلسات مجلس العموم ودراسة مادة الدستور البريطاني والسياحة في الدول القريبة مثل ألمانيا وفرنسا والدانمارك، ناهيك عن الاستمتاع بمباهج لندن التراثية والموسيقية والمسرحية.
عاد إلى البحرين سنة 1971 ليلتحق مجدداً بشركة بابكو، ويتنقل في دوائرها ولاسيما تلك المتعلقة بالحسابات والمشتريات والرواتب والاستثمارات، فاكتسب من ذلك فائدة عملية عظيمة تكاملت مع ما تعلمه نظرياً في بريطانيا. وتصادفت عودته إلى بلاده مع حصول البحرين على سيادتها الكاملة، وهو ما أغرى بعض زملائه بترك العمل في بابكو من أجل العمل في الوزارات الحكومية الناشئة طمعاً في مناصب رسمية أقل جهداً.
يقول ميرزا، الذي كان يتقاضى وقتها راتباً شهرياً يصل إلى 150 ديناراً، إنه هو الآخر تلقى عروضاً سخية للعمل في المصارف والجمارك وغيرها، لكنه لم يُلقِ لها بالاً، وفضل أن يبقى في بابكو من باب الولاء لها كونها دربته وعلمته وابتعثته. والحقيقة أن بابكو ردت له الجميل من خلال إرساله في دورات تدريبية ودراسية متقدمة إلى نيويورك وجامعة هاواي الأمريكية، ومنحه ترقيات وظيفية متتالية إلى أن صار مع منتصف السبعينات مساعداً للمدير العام للشؤون المالية والقانونية وهو في الثانية والثلاثين.
عاصر منعطفات صناعة النفط في البحرين
عاصر ميرزا العديد من المنعطفات الحادة في تاريخ صناعة النفط في البحرين، ومنها حريق مصفاة الشركة عام 1972، وحظر تصدير النفط إلى الدول المساندة لإسرائيل في 1973، والمفاوضات بين حكومة البحرين وشركة كالتكس المالكة لبابكو من أجل استملاك الأولى لبابكو وبحرنتها، وهو ما تمّ إنجازه عام 1997 وكان صاحبنا شاهداً عليها ومشاركاً فيها.
تولى صاحبنا بعد ذلك العديد من المناصب القيادية، فمن مدير عام الشؤون المالية والإدارية لبابكو إلى نائب رئيسها التنفيذي وعضو هيئتها التنفيذية فإلى رئيسها التنفيذي، وصولاً إلى تعيينه عضواً بمجلس الشورى عام 2000 فرئيساً لمجلس المناقصات في 2003 فوزير دولة لشؤون مجلس الوزراء في 2005 فوزير دولة لشؤون النفط والغاز ورئيساً للهيئة الوطنية للنفط والغاز، فوزيراً لشؤون النفط والغاز في 2006 فوزيراً للطاقة مسؤولاً عن النفط والغاز والكهرباء والماء في 2011 فوزير دولة لشؤون الكهرباء والماء في 2012، فوزيراً للطاقة مجدداً في 2014، فوزيراً لشؤون الكهرباء والماء في 2016، فرئيساً لهيئة الطاقة المتجددة في 2019، فرئيساً للجنة تطوير التعليم المهني في 2020. وفي يناير 2022 تقاعد عن العمل، لكن في الشهر التالي صدر قرار من سمو الشيخ ناصر بن حمد آل خليفة بصفته رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للنفط والغاز الطبيعي بتعيين ميرزا مستشاراً لمجلس إدارة الشركة القابضة ولسموه.
مناصب كبيرة وأدوار مهمة
وقد تسنى للرجل بحكم المناصب المذكورة أن يقود وفد البحرين إلى العديد من المؤتمرات العربية والإقليمية والدولية ذات الصلة بالنفط والطاقة والطاقة المستدامة، وأن يرافق مليكه المفدى في معظم زيارات جلالته الرسمية إلى الدول الشقيقة والصديقة، وأن يشارك في بعض القمم الخليجية.
والجدير بالذكر أن ميرزا لعب، بحكم مناصبه، دوراً كبيراً في تأمين وصول الكهرباء والماء إلى السكان أثناء فترة القلاقل التي شهدتها البحرين عام 2011، كما لعب في عام 1971، بحكم تخصصه الأكاديمي، دوراً مؤثراً في تأسيس «جمعية المحاسبين البحرينية»، التي تعد من أقدم الجمعيات المهنية في منطقة الخليج. إلى ذلك يحسب له أنه هندس وأعد كافة أوراق وملفات وبيانات اتفاقية سبتمبر 2015، لتشييد خط أنبوب النفط الجديد الرابط بين السعودية والبحرين، الذي تمّ تدشينه عام 2018.
وأخيراً، لا بد من الإشارة إلى أنه قرر سنة 1998، وهو على رأس عمله الوزاري، أن ينجز أطروحته لنيل درجة الدكتوراه، فأنجزها ونال درجتها من جامعة ميدلسكس Middlesex البريطانية سنة 2003، في موضوع «إدارة التغيير»، بعد تردده لسنوات على لندن خلال إجازاته للاجتماع بالمشرف على رسالته ومناقشته فيها.
نتحدث عن هذا الحدث، الذي غير وجه المنطقة بأسرها ولاسيما بعد اكتشاف النفط في الكويت في فبراير 1938، وفي السعودية في مارس 1938، وفي قطر في ديسمبر 1939، لارتباط اسم من سنتناول سيرته بصناعة النفط في البحرين. فهو أحد رجالاتها ممن صعدوا سلالمها الوظيفية باقتدار، من متدرب فمبتعث فموظف فرئيس إلى أن حمل حقيبتها الوزارية بعد مسيرة عصامية فذة تخللتها الصعاب والتحديات والتقلبات التي لم تحبطه قط أو تهز عزيمته.
حديثنا هو عن الدكتور عبدالحسين علي ميرزا، الشخصية الطيبة البشوشة المتواضعة الخلوقة، والتكنوقراطي الذي يمتلك خبرة تمتد لأكثر من نصف قرن في قطاعات النفط والغاز والماء والكهرباء والطاقة المستدامة، راكمها من خلال توليه العديد من المناصب القيادية العليا. ونستند في حديثنا عنه إلى مؤلف ضخم من 750 صفحة، أصدره في أواخر عام 2022 تحت عنوان «مسيرتي في سبيل الوطن»، يحكي فيه بالتفصيل عن تجربته الغزيرة في الحياة والدراسة والعمل.
استنشق «عبدالحسين علي ميرزا حسين علي» أوكسجين الحياة في الثاني من أغسطس 1944 بفريج المشبر، أحد فرجان المنامة الكبيرة، الذي أنجب العديد من رجالات البحرين المتميزين في مختلف الحقول. وكان ميلاده على يد القابلة والممرضة البحرينية الأولى المؤهلة أكاديمياً «فاطمة علي الزياني» (1918 ــ 1982)، داخل بيت والده القريب من مقر الشرطة والأمن المعروف بـ«القلعة».
جده هو رجل الدين الورع «حسين علي»، الذي تزوج من سيدة تنتسب إلى آل البيت تدعى معصومة، والذي اكتسب لقب ميرزا جرياً على عادة متبعة عند معتنقي المذهب الجعفري، مضمونها أنه إذا تزوج شخص من عامة الناس بفتاة تنتمي إلى السلالة النبوية الشريفة، فإن لقب ميرزا يضاف إلى اسمه، بل يسبقه أحياناً وقد يغلب عليه. أما والده فهو الشرطي علي ميرزا (1905 ــ 1985)، الذي اقترن بالسيدة مريم علي شاكر، وأنجبا 12 من البنين والبنات، كان ترتيبه بينهم هو الثالث بعد أخويه عبدالعزيز وخليل، وقبل كل من فيصل ورباب ومحمد علي وليلى وعصمت وعادل ويوسف وسوسن ونجاة.
يقول الوزير ميرزا، إن والده، الذي ترقي وظيفياً في سلك الأمن حتى صار ضابطاً برتبة عميد، ومرافقاً أقدم لعظمة حاكم البحرين وتوابعها الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة رحمه الله، اختار له اسم خالد، ولكن صادفت ولادته ذكرى ميلاد الإمام الحسين رضي الله عنه، فاقترحت جدته لأمه اسم «عبدالحسين» بديلاً. كما أخبرنا أن والده كان حريصاً على إدخال البهجة على أبنائه فكان يأخذهم إلى «سينما القصيبي»، وإلى «فندق البحرين» لتناول العشاء، ويشاركهم مشاهدة برامج تلفزيون أرامكو من الظهران.
نشأ صاحبنا وترعرع وسط أسرته المتوسطة الحال، وفي بيت طغى عليه التسامح الديني والمذهبي والانضباط الشديد المستمد من عمل والده في الشرطة. وحينما جاء وقت التحاقه بالتعليم، أرسل إلى المدرسة الغربية الابتدائية (كانت تعرف سابقاً بالمدرسة الجعفرية وتسمى حالياً مدرسة أبي بكر الصديق). وفي هذه المدرسة، التي كان يذهب إليها مع إخوته الذكور مشياً لقربها من منزلهم، أمضى 6 سنوات من التعليم على يد مدرسين صارمين، كان خلالها متفوقاً في دروسه، مواظباً على الحضور، ومحبوباً من قبل زملائه، ولاسيما المتعثرين منهم، لأنه كان يساعدهم في تجاوز عثراتهم الدراسية.
في عام 1955 تخرج من مدرسته الابتدائية، فقرر - أسوة بمعظم رفاقه - أن يلتحق بثانوية المنامة التجارية بمنطقة القضيبية التي انتقلت إليها عائلته للسكن. وفي هذه المدرسة، التي زامل فيها بعضاً ممن تسنموا لاحقاً مناصب رفيعة في الدولة (مثل الشيخ خالد بن عبدالله آل خليفة نائب رئيس مجلس الوزراء وعلي صالح الصالح رئيس مجلس الشورى ووزير التجارة الأسبق المرحوم حبيب أحمد قاسم وعبدالله المدني وكيل وزارة العمل والشؤون الاجتماعية الأسبق)، بدأ الرجل رحلة دراسية مختلفة درس خلالها مواد متعلقة بالتخصص التجاري، كالمحاسبة ومسك الدفاتر والرياضيات المالية والآلة الكاتبة وغيرها من المواد التي تفوق فيها وأجادها، لكن شغفه الأكبر كان باللغة الإنجليزية التي فتحت أمامه آفاقاً جديدة، خصوصاً مع تشجيع مدرسه البريطاني «مستر هايدلي» له، وتردده على مكتبة المجلس الثقافي البريطاني لاستعارة الكتب والروايات الإنجليزية، ما جعله في ذلك السن المبكرة ملماً بأسرار هذه اللغة العالمية قراءة وكتابة ومخاطبة كما العربية. إلى جانب الإنجليزية استهوته مادة الرسم وما ينطوي عليه من دقة وتخيل وإبداع، وهو ما ساعده لاحقاً على أن يكون مبدعاً ودقيقاً في كل عمل يوكل إليه.
تخرج من الثانوية التجارية عام 1959، وكان ترتيبه الأول على 32 طالباً، بسبب اجتهاده وتركيزه على الدراسة والقراءة والاطلاع دون إضاعة وقته في اللعب وممارسة الهوايات المتنوعة كبقية أقرانه. ولعل من آيات شعوره بالمسؤولية وإصراره على التميز والتفوق أنه خلال سنوات التحاقه بالمسار التجاري في المرحلة الثانوية، كان بالتزامن ملتحقاً بالمسار الأدبي في الفترة المسائية، فتخرج وهو يحمل ما يسمى اليوم في الجامعات «التخصص المزدوج». غير أن ما لم يحسب الرجل حسابه، هو أن الحكومة لم تكن تخصص منحاً للدراسة الجامعية لخريجي الثانوية التجارية، فيما كان هو طامحاً لإكمال تعليمه الجامعي في الخارج، خصوصاً في ظل عدم وجود جامعات في البحرين آنذاك.
وهنا لجأ ميرزا إلى والده طالباً المساعدة، لكن الأخير طلب منه أن يدخل سوق العمل لفترة يتمكن خلالها من توفير المال واكتساب بعض خبرات الحياة قبل أن يرحل إلى الخارج للدراسة. وهكذا التحق في عام 1960 بوظيفة كاتب في المحكمة الصغرى الثالثة مسؤولاً عن إعداد محاضر الجلسات وجداولها، وهي وظيفة قال عنها في كتابه، إنها أشعرته بأهميته رغم صغر سنه، وعلمته فضيلة تقديم العون للمحتاج، وعرفته على مشاكل الناس وقضاياهم وحوادثهم.
لكن الرجل، طوال فترة عمله في المحكمة، لم ينسَ حلم الدراسة الجامعية فكان يراسل مختلف الجامعات التي تدرس باللغة الإنجليزية أملاً في الحصول على منحة ما، إلى أن أثمرت مراسلاته عن حصوله على منحة من جامعة البنجاب الباكستانية لدراسة الاقتصاد. كانت فرحته عظيمة، ودون أن يفكر قبل المنحة خصوصاً مع عدم وجود خيار آخر، ناهيك عن رخص تكاليف المعيشة في بلد كباكستان، وبالتالي عدم تحميل أسرته أعباء فوق طاقتها. وبالفعل سافر إلى باكستان في عام 1961، وعاش هناك دارساً لمدة عام، عانى خلالها من صعوبات التأقلم والغربة الموحشة وقلة النظافة. وفي صيف عام 1962 عاد إلى البحرين ليقضي إجازته الصيفية بين أهله، لكنه قرر أن يستغلها في أي عمل كي يوفر مالاً يساعده على تدبير أموره المعيشية في سنته الجامعية الثانية. وقتها كانت شركة بابكو هي ملجأ الباحثين عن العمل الصيفي المؤقت واكتساب المهارات والتدريب، خصوصاً أولئك المتمكنين من الإنجليزية.
وتشاء الأقدار أن يلفت ميرزا، خلال عمله الصيفي في بابكو، أنظار مدير مدرسة التدريب «فيفيان مكنايت»، الذي علم بحصوله على شهادة GCE المؤهلة للالتحاق بالجامعات البريطانية، وحصوله على المركز الأول في صفه بجامعة البنجاب، وفي الثانوية التجارية، فاقترح عليه الالتحاق ببابكو مع وعد بابتعاثه إلى بريطانيا للدراسة، وهو ما رد عليه ميرزا بالموافقة الفورية دون تفكير أو تردد قبل أن تدعم أسرته خياره هذا، كونه يحقق له حلماً لطالما راوده.
وهكذا بدأ الرجل عمله مع بابكو بوظيفة متدرب في قسم كان يعد وقتها بمثابة بنك الشركة هو «قسم الخزينة»، فبدا سعيداً وفخوراً لكونه صار مؤتمناً على خزينة شركة النفط، أكبر شركة في البحرين تضخ الأموال في مفاصل الدولة لانتعاش الحياة والأعمال. ومن الخزينة انتقل للعمل مشرفاً على قسم الحسابات في المرفأ البحري للشركة في سترة، ثم تم نقله إلى قسم التدقيق وجرد الأصول، الذي كان من مهامه فيه تسلق خزانات النفط الخام والوحدات العالية في المصفاة وغير ذلك من المهام الشاقة التي ساعدته في صقل مهاراته وعلمته الصبر والتعود على الأعمال الجادة المهيئة لتولي المناصب القيادية لاحقاً.
وأثناء هذه الفترة عمل جاهداً على إنهاء كل مقررات بابكو الدراسية والتدريبية الصعبة، فحالفه النجاح وتمكن من اجتياز كل المعوقات ليتم ابتعاثه إلى بريطانيا في عام 1965 مع نفر من زملائه، وقد صار أكثر نضجاً وأقوى مراساً وأوسع تجربة.
السفر إلى بريطانيا وأوروبا
ولأن السفر إلى بريطانيا وأوروبا آنذاك كان مقتصراً على شريحة معينة من المقتدرين، ولأن وسائل الاتصال والإعلام لم تكن كما اليوم، فقد بدأ ميرزا ورفاقه رحلتهم في بريطانيا بتلقي دروس رتبتها لهم بابكو في الإتيكيت وثقافة المعيشة والأكل والتبضع والتصرف والتنقل في قطارات الأنفاق حماية لهم مما يسمى بالصدمة الحضارية، وكي يكونوا خير سفراء للبحرين وللشركة المبتعثة.
وخلال السنوات الخمس، التي قضاها في لندن كطالب مبتعث، تنقل في السكن بين أكثر من فندق وشقة ومنطقة، وكان يتلقى مع زملائه دعماً ورعاية من المسؤولين في مكاتب شركة كالتكس النفطية بلندن، ما جعلهم يركزون جل اهتمامهم على الهدف الذي جاؤوا من أجله وهو الحصول على شهادة المحاسبة الإدارية، لكن ذلك لم يمنعهم من اكتساب خبرات ومعارف أخرى من خلال حضور جلسات مجلس العموم ودراسة مادة الدستور البريطاني والسياحة في الدول القريبة مثل ألمانيا وفرنسا والدانمارك، ناهيك عن الاستمتاع بمباهج لندن التراثية والموسيقية والمسرحية.
عاد إلى البحرين سنة 1971 ليلتحق مجدداً بشركة بابكو، ويتنقل في دوائرها ولاسيما تلك المتعلقة بالحسابات والمشتريات والرواتب والاستثمارات، فاكتسب من ذلك فائدة عملية عظيمة تكاملت مع ما تعلمه نظرياً في بريطانيا. وتصادفت عودته إلى بلاده مع حصول البحرين على سيادتها الكاملة، وهو ما أغرى بعض زملائه بترك العمل في بابكو من أجل العمل في الوزارات الحكومية الناشئة طمعاً في مناصب رسمية أقل جهداً.
يقول ميرزا، الذي كان يتقاضى وقتها راتباً شهرياً يصل إلى 150 ديناراً، إنه هو الآخر تلقى عروضاً سخية للعمل في المصارف والجمارك وغيرها، لكنه لم يُلقِ لها بالاً، وفضل أن يبقى في بابكو من باب الولاء لها كونها دربته وعلمته وابتعثته. والحقيقة أن بابكو ردت له الجميل من خلال إرساله في دورات تدريبية ودراسية متقدمة إلى نيويورك وجامعة هاواي الأمريكية، ومنحه ترقيات وظيفية متتالية إلى أن صار مع منتصف السبعينات مساعداً للمدير العام للشؤون المالية والقانونية وهو في الثانية والثلاثين.
عاصر منعطفات صناعة النفط في البحرين
عاصر ميرزا العديد من المنعطفات الحادة في تاريخ صناعة النفط في البحرين، ومنها حريق مصفاة الشركة عام 1972، وحظر تصدير النفط إلى الدول المساندة لإسرائيل في 1973، والمفاوضات بين حكومة البحرين وشركة كالتكس المالكة لبابكو من أجل استملاك الأولى لبابكو وبحرنتها، وهو ما تمّ إنجازه عام 1997 وكان صاحبنا شاهداً عليها ومشاركاً فيها.
تولى صاحبنا بعد ذلك العديد من المناصب القيادية، فمن مدير عام الشؤون المالية والإدارية لبابكو إلى نائب رئيسها التنفيذي وعضو هيئتها التنفيذية فإلى رئيسها التنفيذي، وصولاً إلى تعيينه عضواً بمجلس الشورى عام 2000 فرئيساً لمجلس المناقصات في 2003 فوزير دولة لشؤون مجلس الوزراء في 2005 فوزير دولة لشؤون النفط والغاز ورئيساً للهيئة الوطنية للنفط والغاز، فوزيراً لشؤون النفط والغاز في 2006 فوزيراً للطاقة مسؤولاً عن النفط والغاز والكهرباء والماء في 2011 فوزير دولة لشؤون الكهرباء والماء في 2012، فوزيراً للطاقة مجدداً في 2014، فوزيراً لشؤون الكهرباء والماء في 2016، فرئيساً لهيئة الطاقة المتجددة في 2019، فرئيساً للجنة تطوير التعليم المهني في 2020. وفي يناير 2022 تقاعد عن العمل، لكن في الشهر التالي صدر قرار من سمو الشيخ ناصر بن حمد آل خليفة بصفته رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للنفط والغاز الطبيعي بتعيين ميرزا مستشاراً لمجلس إدارة الشركة القابضة ولسموه.
مناصب كبيرة وأدوار مهمة
وقد تسنى للرجل بحكم المناصب المذكورة أن يقود وفد البحرين إلى العديد من المؤتمرات العربية والإقليمية والدولية ذات الصلة بالنفط والطاقة والطاقة المستدامة، وأن يرافق مليكه المفدى في معظم زيارات جلالته الرسمية إلى الدول الشقيقة والصديقة، وأن يشارك في بعض القمم الخليجية.
والجدير بالذكر أن ميرزا لعب، بحكم مناصبه، دوراً كبيراً في تأمين وصول الكهرباء والماء إلى السكان أثناء فترة القلاقل التي شهدتها البحرين عام 2011، كما لعب في عام 1971، بحكم تخصصه الأكاديمي، دوراً مؤثراً في تأسيس «جمعية المحاسبين البحرينية»، التي تعد من أقدم الجمعيات المهنية في منطقة الخليج. إلى ذلك يحسب له أنه هندس وأعد كافة أوراق وملفات وبيانات اتفاقية سبتمبر 2015، لتشييد خط أنبوب النفط الجديد الرابط بين السعودية والبحرين، الذي تمّ تدشينه عام 2018.
وأخيراً، لا بد من الإشارة إلى أنه قرر سنة 1998، وهو على رأس عمله الوزاري، أن ينجز أطروحته لنيل درجة الدكتوراه، فأنجزها ونال درجتها من جامعة ميدلسكس Middlesex البريطانية سنة 2003، في موضوع «إدارة التغيير»، بعد تردده لسنوات على لندن خلال إجازاته للاجتماع بالمشرف على رسالته ومناقشته فيها.