لا يمكن اختزال «نجيب المانع» في عبارة «أديب وناقد ومترجم وكاتب صحافي». فهذا الزبيري المنشأ، البصري والبغدادي الهوى، السعودي الأصل، أكثر من ذلك بكثير ويستحق أن يوصف بالشخصية الموسوعية التي لن تتكرر ولن يجود الزمان علينا بمثله، كونه صاحب سيرة عبقة ومسيرة طويلة من الإبداع والتنقيب في الثقافات العالمية، ناهيك عن سجاياه وخصاله الحميدة، وشغفه منذ صغره بكل ما هو جميل ومثرٍ للفكر والوجدان.
ولحسن الحظ فإن للمانع كتاباً صدر بعد رحيله بعنوان «ذكريات عمر أكلته الحروف»، دوّن فيه سيرته الذاتية بطريقة مشوقة ودون ثرثرة أو تفخيم للذات، مسجلاً كل ما هو لافت ومشوق في حياته عبر خط مستقيم من الولادة والطفولة إلى الشباب والشيخوخة مع بعض القفزات الرشيقة، وراسماً صوراً جميلة ووقفات شاعرية لجوانب من مسيرته الفكرية وانشغالاته وآرائه في الشعر والأدب والموسيقى، وكاسراً حواجز الخوف والسكوت والحساسيات التي تعتري البعض عند نشر مذكراته.
ولحسن الحظ أيضاً، أن الكاتب السعودي محمد بن عبدالله السيف أصدر كتاباً بعنوان «نجيب المانع، حياته وآثاره»، حاول من خلاله سد النقص، ومنحنا صورة بانورامية عن الرجل فأثرى بعمله كل ما سبق نشره عنه وصحح بعض الأخطاء الشائعة حول أعماله وشخصيته وظروف حياته داخل العراق وخارجه. من هذين الكتابين وعشرات المقالات الصحفية التي تناولت المانع، نقدم هذه المادة المفصلة عنه.
ولد «نجيب عبدالرحمن محمد المانع» سنة 1926 ببلدة الزبير المجاورة للبصرة ابناً لأسرة تركت موطنها الأصلي في بلدة «روضة سدير» النجدية، وانتقلت للعيش في الزبير إلى جانب من سبقوهم إلى هناك من أهل نجد ممن نزحوا هرباً من القحط والأوبئة والحروب، أو طلباً للتجارة والعلم والمعيشة الهانئة. فمع بدايات النصف الثاني من القرن 19 هاجر جده محمد المانع إلى الزبير التي أنجب فيها ولديه عبدالعزيز وعبدالرحمن. فأما عبدالعزيز فقد عمل في تجارة الخيول وأنجب 3 أولاد هم محمد وعدنان وعبدالحميد، وأما عبدالرحمن فقد عمل موظفاً في جمارك البصرة وتزوج من ابنة كردي يدعى مراد آغا، كانت الدولة العثمانية قد أرسلته من السليمانية إلى البصرة لتسلم وظيفة إدارية فأحب المدينة واستقر بها، فأنجبت له نجيب، وهشام (درس الطب في ألمانيا واستقر فيها إلى أن توفي قبل عدة سنوات، وهو كاتب ومؤلف، نشر عدداً من الكُتب، باللغتين العربية والألمانية، في مجالات الطب والأمراض والرعاية الصحية). كما رزق عبدالرحمن بابنتين هما: فاطمة المتزوجة من عراقي مقيم في الولايات المتحدة. وسميرة، الأديبة والكاتبة المعروفة، التي تزوجها زميلها بكلية دار المعلمين العالية (كلية التربية حالياً) ببغداد الدكتور صلاح نيازي، وتقيم معه في لندن منذ عام 1965.
حكي المانع عن طفولته ودراسته في الزبير فأخبرنا أنه رأى في طفولته بالزبير عالمين: عالم يلتحق فيه الأطفال بمدرسة النجاة الأهلية الابتدائية، فيدرسون العلوم الشرعية ويحفظون القرآن ويفهمون أدق قضايا النحو وأوزان الشعر ويمارسون المحاسبة ومسك الدفاتر، وعالم مواز يذهب فيه الأطفال إلى مدرسة البصرة الابتدائية الحكومية فيدرسون مقررات وزارة المعارف التي وصفها بـ «دروس تلمس الماء دون العوم فيه». ولأن المانع كان من طلبة مدرسة النجاة، التي وصفها بأنها كانت ابتدائية بالاسم فقط، فيما موادها تتجاوز أعمار طلبتها ومستواها يقترب من المستوى الثانوي، فقد نمت عنده مبكراً ملكات لغوية وأدبية قوية، واطلع على التراث العربي، قبل أن يتوغل عميقاً في الثقافتين الإنجليزية والفرنسية.
غادر المانع الزبير إلى البصرة لإكمال دراسته في «ثانوية العشار» لعدم وجود ثانوية بالزبير آنذاك، وفيها تميز عن بقية أقرانه بتفوقه في دروس الأدب، لدرجة أنه كان يحرج معلمه «محمد الصانع» بأسئلته واستفساراته، طبقاً لزميله المؤرخ العراقي/الكندي الراحل «توما الشماني». ومذاك لم يعد إلى الزبير، التي وصفها بقوله: «الزبير بلدة صحراوية لكن قلوب أهلها منعمة بلطافة الشعور، والجريمة فيها معدومة تقريباً»، ذلك أنه بعد تخرجه من ثانوية العشار التي زامل فيها الشاعر بدر شاكر السياب، اتجه إلى بغداد لمواصلة دراسته الجامعية. وفي بغداد مال فكرياً وعاطفياً إلى سكانها القرويين البسطاء لأنه - بحسبه - لم يجد عند مترفيها ما وجده لدى بسطائها من أسرار الحياة وثراء اللغة وتاريخ الفنون.
الاهتمام بالقراءة منذ الصغرما يدعو إلى الاستغراب هنا أن المانع هام إبان مرحلته الثانوية بقراءة أمهات الكتب في الأدب العربي، خصوصاً مع امتلاكه ملكات أدبية ولغوية مبكرة، كما شغف مبكراً بالموسيقى الكلاسيكية والسيموفونيات الغربية، حيث كان لوجود قاعدة الشعيبة البريطانية قريباً من الزبير دور مهم في إطلالته على الموسيقى الغربية والتعلق بها، وتعلّم اللغة الإنجليزية وإجادتها، إذ كان العمّال المحليون العاملون في القاعدة يجلبون إلى سوق الزبير ما يلقيه الجنود الإنجليز من كتب وأسطوانات غنائية، وكان المانع ينتهز الفرصة لاقتنائها بسبب رخص ثمنها.
وهكذا تعرف في تلك الفترة المبكرة من حياته على مؤلفات هكسلي، وشكسبير، وتوماس هاري، وموسيقى شوبان، وبيتهوفن، وموزارت. ليس ذلك فحسب، وإنما حاول أيضاً ترويجها في صفوف أقرانه بدليل ما قالته شقيقته سميرة من أنه كان «يريد من أهله أن يستمعوا معه إلى الموسيقى الكلاسيكية، وأن يشاركوه حبه وهواياته الجديدة. اسمعهم بداية قطعتي «شهرزاد» و«الدانوب الأزرق»، في باحة بيت الزبير بالمساء، ثم تدرجت الأنغام حتى وصلت إلى سمفونيات بيتهوفن وغيره منسابة أو مرعدة في جو بيت الزبير الصافن الحائر. استمر، كعادته، يُلمّ بالموضوع الإلمام الكافي بصبر دؤوب، حتى تكدست الأسطوانات والتسجيلات عنده ففاقت أعدادها الآلاف. أصبح البيت كتباً وأسطوانات أينما سار المرء، في سنوات عمره الأخيرة». وعليه، فإن شخصية بهذه الخلفية الأدبية والفنية، كان المفترض بها أن تواصل دراستها الجامعية في كلية الآداب أو الفنون، لكنه فضل أن يلتحق بكلية الحقوق، دون حماس ملحوظ بدليل أن الوقت الذي كان يقضيه في قراءة التراث الإنساني يفوق ما يخصّصه لمتابعة دروسه الحقوقية. ربما كان مرد تفضيله دراسة القانون على دراسة الآداب أو الفنون ما أخبرنا به الروائي العراقي «علي عبدالأمير عجام»، من أن المانع «لم يكن ثمة ما ينوء به ظهره مثل إحساسه بالهيبة أمام الكتابة، والترهّب منها.
تخرج من جامعة بغداد عام 1948، لكن انتماءه وافتخاره كان دوماً إلى ما سماه «جامعة نفسي»، كناية عن أنه علم نفسه بنفسه. فمثلاً إبان دراسته القانون تعلم مبادئ اللغة الفرنسية على يد لاجئ تونسي مقيم في بغداد اسمه «علي الحمامي»، وما إن شق طريقه فيها حتى أكملها بجهوده الفردية.
عاد إلى البصرة مكللاً بشهادة الحقوق، لكنه أخفق في ممارسة المحاماة، على الرغم من علاقة ربطته بعبداللطيف الشواف، الذي كان قاضياً للصلح بالبصرة وصديقاً لعمه «عبدالعزيز محمد المانع» ووجهاء الزبير مثل حمد وسليمان الذكير ومحمد العقيل وغيرهم. وبعبارة أخرى، لم يكن لعلاقته بالشواف تأثير على مشواره المهني بقدر ما كان لها تأثير آخر تمثل في تعمقه في الثقافة الشعرية، بسبب هوس الشواف بالشعر العربي، بدليل قول المانع إنه بعد معرفته بالشواف «أصبح الشعر العربي لديه مأهولاً بعمق جديد لم يكن يعرفه سابقاً». والحقيقة أن المانع لم ينس فضل الشواف الأدبي عليه، فوصفه في كتاباته بالشخص الرائع وأثنى على كرمه وأخلاقه ومروءته التي تجلت في تدخله لدى الزعيم عبدالكريم قاسم لإرسال صديقه السياب إلى انجلترا للعلاج على نفقة الدولة.
من بعد مقاعد الثانوية والزمالة الجامعية التي جمعتهما، جمعت الوظيفة بين المانع والسياب مجدداً. ففي أعقاب نيلهما الشهادة الجامعية عملا معاً في شركة نفط البصرة في وظائف كتابية دنيا مملة داخل المخازن. وعن هذا قال الكاتب السوري محمد عبدالعزيز: «إن الإنجليز لم يأبهوا بشهادتيهما واعتبروهما مجرد ساعيين للحصول على دخل شهري. كانوا يطلبون منهما أن ينتظرا اللوريات التي تقلهما للشركة في الفجر والشمس لم تشرق بعد، وكانا في الطريق يريان لوريات أخرى تحمل خرافاً، فكان المانع يقول (إن الخراف على الأقل تذبح مرة واحدة، أما نحن فنذبح كل يوم)».
في الخمسينات برز المانع في مجال النقد السينمائي، حيث تحول إلى متابع نهم للسينما العالمية، ومشاهد شغوف بالأفلام الإنجليزية والإيطالية والفرنسية، الأمر الذي مكنه من تقديم قراءات نقدية للأفلام من خلال مقالات ودراسات كان ينشرها في جريدة «الشعب» و«مجلة الإذاعة والتلفزيون» ومجلة «الأفلام» العراقية ومجلة «الكواكب» المصرية. وبالتزامن راح ينشر مقالات ودراسات أدبية ونقدية في مجلات «الآداب»، و«الأقلام»، و«المواقف».
اهتماماته بالأدب العربي ورواده آنذاك قادته إلى أعمال العقاد وطه حسين، فانبرى يتفحصها بعين ناقدة ليجد فيها - من وجهة نظره - عيوباً وثغرات، خصوصاً مع اطلاعه الواسع على كتابات كبار الأدباء الإنجليز والفرنسيين. فقد أخذ على طه حسين مثلاً تجاهله للأدب الأنغلوسكسوني وتركيزه على أدباء فرنسا المعروفين بالوضوح مثل ديكارت وموليير وفولتير دون أدبائها المشهورين بلغة الغموض مثل رامبو وبروست. أما العقاد فقد أخذ عليه تعاليه وثقته الزائدة بنفسه وعدم أخذه من التيار الأنغلوسكسوني سوى كتابات نثرية من القرن 19.
كاره ومنتقد للثورات
في شتاء 1961 تم تعيينه بوزارة الخارجية كموظف في الدائرة القنصلية بتوصية من هاشم جواد، أول وزير للخارجية في العهد الجمهوري، لكنه فصل في صيف العام نفسه أثناء وجود هاشم جواد في نيويورك. ويرجح أن سبب فصله هو قيامه بكتابة ونشر مقال، وصف فيه قرار النظام بإعدام الضابطين القوميين ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري، بأنه «اغتيال وليس عقاباً عن جريمة لأنه لم تكن هناك محاكمات قانونية»، وهو ما أغاظ عبدالكريم قاسم، فأصدر أمراً بفصله من الخارجية، ليظل عاطلاً بلا عمل حتى الإطاحة بقاسم في 1963، كانت تلك حقاً مفارقة! فالنظام الملكي، الذي انتقده ووصفه بالعمالة للاستعمار، هو الذي احتضنه ووظفه وفتح الباب أمامه لتطوير خبراته الإدارية والعملية، بينما النظام الجمهوري الذي صفق لقدومه هو الذي فصله من عمله. لكن هذه المفارقة هي التي حولته بقية عمره إلى كاره ومنتقد للثورات والأنظمة التقدمية، بدليل موقفه المتشائم المحق مما حدث في إيران عام 1979، ونعته إياه بأنه «مدخل إلى موت أسود سيحصد بلادنا وأهلها».
الانتقال إلى لندن
شكل انتقاله إلى لندن منعطفاً هاماً في حياته، وإنْ لم تعطه كل ما يستحق. إذ طاب له المقام فيها، وأنس بوجود شريحة كبيرة من مثقفي العربية المهاجرين بها ولاسيما من العراق، فقرّر الاستقرار هناك. وفي عام 1987 انضم إلى صحيفة «الشرق الأوسط» بمقرها في لندن بدعوة من رئيس تحريرها آنذاك، الأستاذ عثمان العمير، فأثرى صفحاتها بكتابة زاوية ثقافية ونشر مذكراته الشخصية، علاوة على ترجمات لأهم الكتب الأجنبية الصادرة في تلك الفترة، والتي راحت الصحيفة تنشرها على حلقات، فعل ذلك على الرغم من إيمانه بأن النشر في الجرائد اليومية هدر للمحتوى الجيد لأن لا أحد يقرأها ولا تلبث أن تلقى في المزابل. واستمر كذلك إلى أن حانت منيته بتاريخ 2 نوفمبر 1991، جراء نوبة قلبية مفاجئة وهو جالس على كرسيه الهزاز. ويعتقد أن حساسيته المفرطة وروحه القلقة ورحيل معظم أصدقائه وأوضاع العراق المأساوية ساهمت في تدهور صحته.
ترك المانع خلفه عند رحيله رواية وحيدة هي «تماس المدن»، وكتاب «في الأدب والموسيقى»، وترجمات متقنة لثلاثين كتاباً في الموسيقى والأدب والسياسة، ومئات المقالات، وعدداً من القصص القصيرة، وبحثاً مفصلاً عن همنغواي وآخر عن فلسفة الصوت والغناء العربي بعنوان «أم كلثوم، الغياب المستحيل والمؤسسة الوجدانية».
ولحسن الحظ فإن للمانع كتاباً صدر بعد رحيله بعنوان «ذكريات عمر أكلته الحروف»، دوّن فيه سيرته الذاتية بطريقة مشوقة ودون ثرثرة أو تفخيم للذات، مسجلاً كل ما هو لافت ومشوق في حياته عبر خط مستقيم من الولادة والطفولة إلى الشباب والشيخوخة مع بعض القفزات الرشيقة، وراسماً صوراً جميلة ووقفات شاعرية لجوانب من مسيرته الفكرية وانشغالاته وآرائه في الشعر والأدب والموسيقى، وكاسراً حواجز الخوف والسكوت والحساسيات التي تعتري البعض عند نشر مذكراته.
ولحسن الحظ أيضاً، أن الكاتب السعودي محمد بن عبدالله السيف أصدر كتاباً بعنوان «نجيب المانع، حياته وآثاره»، حاول من خلاله سد النقص، ومنحنا صورة بانورامية عن الرجل فأثرى بعمله كل ما سبق نشره عنه وصحح بعض الأخطاء الشائعة حول أعماله وشخصيته وظروف حياته داخل العراق وخارجه. من هذين الكتابين وعشرات المقالات الصحفية التي تناولت المانع، نقدم هذه المادة المفصلة عنه.
ولد «نجيب عبدالرحمن محمد المانع» سنة 1926 ببلدة الزبير المجاورة للبصرة ابناً لأسرة تركت موطنها الأصلي في بلدة «روضة سدير» النجدية، وانتقلت للعيش في الزبير إلى جانب من سبقوهم إلى هناك من أهل نجد ممن نزحوا هرباً من القحط والأوبئة والحروب، أو طلباً للتجارة والعلم والمعيشة الهانئة. فمع بدايات النصف الثاني من القرن 19 هاجر جده محمد المانع إلى الزبير التي أنجب فيها ولديه عبدالعزيز وعبدالرحمن. فأما عبدالعزيز فقد عمل في تجارة الخيول وأنجب 3 أولاد هم محمد وعدنان وعبدالحميد، وأما عبدالرحمن فقد عمل موظفاً في جمارك البصرة وتزوج من ابنة كردي يدعى مراد آغا، كانت الدولة العثمانية قد أرسلته من السليمانية إلى البصرة لتسلم وظيفة إدارية فأحب المدينة واستقر بها، فأنجبت له نجيب، وهشام (درس الطب في ألمانيا واستقر فيها إلى أن توفي قبل عدة سنوات، وهو كاتب ومؤلف، نشر عدداً من الكُتب، باللغتين العربية والألمانية، في مجالات الطب والأمراض والرعاية الصحية). كما رزق عبدالرحمن بابنتين هما: فاطمة المتزوجة من عراقي مقيم في الولايات المتحدة. وسميرة، الأديبة والكاتبة المعروفة، التي تزوجها زميلها بكلية دار المعلمين العالية (كلية التربية حالياً) ببغداد الدكتور صلاح نيازي، وتقيم معه في لندن منذ عام 1965.
حكي المانع عن طفولته ودراسته في الزبير فأخبرنا أنه رأى في طفولته بالزبير عالمين: عالم يلتحق فيه الأطفال بمدرسة النجاة الأهلية الابتدائية، فيدرسون العلوم الشرعية ويحفظون القرآن ويفهمون أدق قضايا النحو وأوزان الشعر ويمارسون المحاسبة ومسك الدفاتر، وعالم مواز يذهب فيه الأطفال إلى مدرسة البصرة الابتدائية الحكومية فيدرسون مقررات وزارة المعارف التي وصفها بـ «دروس تلمس الماء دون العوم فيه». ولأن المانع كان من طلبة مدرسة النجاة، التي وصفها بأنها كانت ابتدائية بالاسم فقط، فيما موادها تتجاوز أعمار طلبتها ومستواها يقترب من المستوى الثانوي، فقد نمت عنده مبكراً ملكات لغوية وأدبية قوية، واطلع على التراث العربي، قبل أن يتوغل عميقاً في الثقافتين الإنجليزية والفرنسية.
غادر المانع الزبير إلى البصرة لإكمال دراسته في «ثانوية العشار» لعدم وجود ثانوية بالزبير آنذاك، وفيها تميز عن بقية أقرانه بتفوقه في دروس الأدب، لدرجة أنه كان يحرج معلمه «محمد الصانع» بأسئلته واستفساراته، طبقاً لزميله المؤرخ العراقي/الكندي الراحل «توما الشماني». ومذاك لم يعد إلى الزبير، التي وصفها بقوله: «الزبير بلدة صحراوية لكن قلوب أهلها منعمة بلطافة الشعور، والجريمة فيها معدومة تقريباً»، ذلك أنه بعد تخرجه من ثانوية العشار التي زامل فيها الشاعر بدر شاكر السياب، اتجه إلى بغداد لمواصلة دراسته الجامعية. وفي بغداد مال فكرياً وعاطفياً إلى سكانها القرويين البسطاء لأنه - بحسبه - لم يجد عند مترفيها ما وجده لدى بسطائها من أسرار الحياة وثراء اللغة وتاريخ الفنون.
الاهتمام بالقراءة منذ الصغرما يدعو إلى الاستغراب هنا أن المانع هام إبان مرحلته الثانوية بقراءة أمهات الكتب في الأدب العربي، خصوصاً مع امتلاكه ملكات أدبية ولغوية مبكرة، كما شغف مبكراً بالموسيقى الكلاسيكية والسيموفونيات الغربية، حيث كان لوجود قاعدة الشعيبة البريطانية قريباً من الزبير دور مهم في إطلالته على الموسيقى الغربية والتعلق بها، وتعلّم اللغة الإنجليزية وإجادتها، إذ كان العمّال المحليون العاملون في القاعدة يجلبون إلى سوق الزبير ما يلقيه الجنود الإنجليز من كتب وأسطوانات غنائية، وكان المانع ينتهز الفرصة لاقتنائها بسبب رخص ثمنها.
وهكذا تعرف في تلك الفترة المبكرة من حياته على مؤلفات هكسلي، وشكسبير، وتوماس هاري، وموسيقى شوبان، وبيتهوفن، وموزارت. ليس ذلك فحسب، وإنما حاول أيضاً ترويجها في صفوف أقرانه بدليل ما قالته شقيقته سميرة من أنه كان «يريد من أهله أن يستمعوا معه إلى الموسيقى الكلاسيكية، وأن يشاركوه حبه وهواياته الجديدة. اسمعهم بداية قطعتي «شهرزاد» و«الدانوب الأزرق»، في باحة بيت الزبير بالمساء، ثم تدرجت الأنغام حتى وصلت إلى سمفونيات بيتهوفن وغيره منسابة أو مرعدة في جو بيت الزبير الصافن الحائر. استمر، كعادته، يُلمّ بالموضوع الإلمام الكافي بصبر دؤوب، حتى تكدست الأسطوانات والتسجيلات عنده ففاقت أعدادها الآلاف. أصبح البيت كتباً وأسطوانات أينما سار المرء، في سنوات عمره الأخيرة». وعليه، فإن شخصية بهذه الخلفية الأدبية والفنية، كان المفترض بها أن تواصل دراستها الجامعية في كلية الآداب أو الفنون، لكنه فضل أن يلتحق بكلية الحقوق، دون حماس ملحوظ بدليل أن الوقت الذي كان يقضيه في قراءة التراث الإنساني يفوق ما يخصّصه لمتابعة دروسه الحقوقية. ربما كان مرد تفضيله دراسة القانون على دراسة الآداب أو الفنون ما أخبرنا به الروائي العراقي «علي عبدالأمير عجام»، من أن المانع «لم يكن ثمة ما ينوء به ظهره مثل إحساسه بالهيبة أمام الكتابة، والترهّب منها.
تخرج من جامعة بغداد عام 1948، لكن انتماءه وافتخاره كان دوماً إلى ما سماه «جامعة نفسي»، كناية عن أنه علم نفسه بنفسه. فمثلاً إبان دراسته القانون تعلم مبادئ اللغة الفرنسية على يد لاجئ تونسي مقيم في بغداد اسمه «علي الحمامي»، وما إن شق طريقه فيها حتى أكملها بجهوده الفردية.
عاد إلى البصرة مكللاً بشهادة الحقوق، لكنه أخفق في ممارسة المحاماة، على الرغم من علاقة ربطته بعبداللطيف الشواف، الذي كان قاضياً للصلح بالبصرة وصديقاً لعمه «عبدالعزيز محمد المانع» ووجهاء الزبير مثل حمد وسليمان الذكير ومحمد العقيل وغيرهم. وبعبارة أخرى، لم يكن لعلاقته بالشواف تأثير على مشواره المهني بقدر ما كان لها تأثير آخر تمثل في تعمقه في الثقافة الشعرية، بسبب هوس الشواف بالشعر العربي، بدليل قول المانع إنه بعد معرفته بالشواف «أصبح الشعر العربي لديه مأهولاً بعمق جديد لم يكن يعرفه سابقاً». والحقيقة أن المانع لم ينس فضل الشواف الأدبي عليه، فوصفه في كتاباته بالشخص الرائع وأثنى على كرمه وأخلاقه ومروءته التي تجلت في تدخله لدى الزعيم عبدالكريم قاسم لإرسال صديقه السياب إلى انجلترا للعلاج على نفقة الدولة.
من بعد مقاعد الثانوية والزمالة الجامعية التي جمعتهما، جمعت الوظيفة بين المانع والسياب مجدداً. ففي أعقاب نيلهما الشهادة الجامعية عملا معاً في شركة نفط البصرة في وظائف كتابية دنيا مملة داخل المخازن. وعن هذا قال الكاتب السوري محمد عبدالعزيز: «إن الإنجليز لم يأبهوا بشهادتيهما واعتبروهما مجرد ساعيين للحصول على دخل شهري. كانوا يطلبون منهما أن ينتظرا اللوريات التي تقلهما للشركة في الفجر والشمس لم تشرق بعد، وكانا في الطريق يريان لوريات أخرى تحمل خرافاً، فكان المانع يقول (إن الخراف على الأقل تذبح مرة واحدة، أما نحن فنذبح كل يوم)».
في الخمسينات برز المانع في مجال النقد السينمائي، حيث تحول إلى متابع نهم للسينما العالمية، ومشاهد شغوف بالأفلام الإنجليزية والإيطالية والفرنسية، الأمر الذي مكنه من تقديم قراءات نقدية للأفلام من خلال مقالات ودراسات كان ينشرها في جريدة «الشعب» و«مجلة الإذاعة والتلفزيون» ومجلة «الأفلام» العراقية ومجلة «الكواكب» المصرية. وبالتزامن راح ينشر مقالات ودراسات أدبية ونقدية في مجلات «الآداب»، و«الأقلام»، و«المواقف».
اهتماماته بالأدب العربي ورواده آنذاك قادته إلى أعمال العقاد وطه حسين، فانبرى يتفحصها بعين ناقدة ليجد فيها - من وجهة نظره - عيوباً وثغرات، خصوصاً مع اطلاعه الواسع على كتابات كبار الأدباء الإنجليز والفرنسيين. فقد أخذ على طه حسين مثلاً تجاهله للأدب الأنغلوسكسوني وتركيزه على أدباء فرنسا المعروفين بالوضوح مثل ديكارت وموليير وفولتير دون أدبائها المشهورين بلغة الغموض مثل رامبو وبروست. أما العقاد فقد أخذ عليه تعاليه وثقته الزائدة بنفسه وعدم أخذه من التيار الأنغلوسكسوني سوى كتابات نثرية من القرن 19.
كاره ومنتقد للثورات
في شتاء 1961 تم تعيينه بوزارة الخارجية كموظف في الدائرة القنصلية بتوصية من هاشم جواد، أول وزير للخارجية في العهد الجمهوري، لكنه فصل في صيف العام نفسه أثناء وجود هاشم جواد في نيويورك. ويرجح أن سبب فصله هو قيامه بكتابة ونشر مقال، وصف فيه قرار النظام بإعدام الضابطين القوميين ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري، بأنه «اغتيال وليس عقاباً عن جريمة لأنه لم تكن هناك محاكمات قانونية»، وهو ما أغاظ عبدالكريم قاسم، فأصدر أمراً بفصله من الخارجية، ليظل عاطلاً بلا عمل حتى الإطاحة بقاسم في 1963، كانت تلك حقاً مفارقة! فالنظام الملكي، الذي انتقده ووصفه بالعمالة للاستعمار، هو الذي احتضنه ووظفه وفتح الباب أمامه لتطوير خبراته الإدارية والعملية، بينما النظام الجمهوري الذي صفق لقدومه هو الذي فصله من عمله. لكن هذه المفارقة هي التي حولته بقية عمره إلى كاره ومنتقد للثورات والأنظمة التقدمية، بدليل موقفه المتشائم المحق مما حدث في إيران عام 1979، ونعته إياه بأنه «مدخل إلى موت أسود سيحصد بلادنا وأهلها».
الانتقال إلى لندن
شكل انتقاله إلى لندن منعطفاً هاماً في حياته، وإنْ لم تعطه كل ما يستحق. إذ طاب له المقام فيها، وأنس بوجود شريحة كبيرة من مثقفي العربية المهاجرين بها ولاسيما من العراق، فقرّر الاستقرار هناك. وفي عام 1987 انضم إلى صحيفة «الشرق الأوسط» بمقرها في لندن بدعوة من رئيس تحريرها آنذاك، الأستاذ عثمان العمير، فأثرى صفحاتها بكتابة زاوية ثقافية ونشر مذكراته الشخصية، علاوة على ترجمات لأهم الكتب الأجنبية الصادرة في تلك الفترة، والتي راحت الصحيفة تنشرها على حلقات، فعل ذلك على الرغم من إيمانه بأن النشر في الجرائد اليومية هدر للمحتوى الجيد لأن لا أحد يقرأها ولا تلبث أن تلقى في المزابل. واستمر كذلك إلى أن حانت منيته بتاريخ 2 نوفمبر 1991، جراء نوبة قلبية مفاجئة وهو جالس على كرسيه الهزاز. ويعتقد أن حساسيته المفرطة وروحه القلقة ورحيل معظم أصدقائه وأوضاع العراق المأساوية ساهمت في تدهور صحته.
ترك المانع خلفه عند رحيله رواية وحيدة هي «تماس المدن»، وكتاب «في الأدب والموسيقى»، وترجمات متقنة لثلاثين كتاباً في الموسيقى والأدب والسياسة، ومئات المقالات، وعدداً من القصص القصيرة، وبحثاً مفصلاً عن همنغواي وآخر عن فلسفة الصوت والغناء العربي بعنوان «أم كلثوم، الغياب المستحيل والمؤسسة الوجدانية».