لن تجد كتاباً أو بحثاً حول تاريخ أو جغرافية منطقة الخليج بضفتيه ووسط الجزيرة العربية (نجد وما حولها) صدر في العقود الأخيرة، إلا وتجد ضمن قائمة المراجع كتاب «دليل الخليج» بقسميه التاريخي والجغرافي للوريمر. فمن هو هذا اللوريمر، الذي لا غنى للباحثين والدارسين الخليجيين والعرب والأجانب عن مؤلفاته كمرجع ومصدر للمعلومة؟ وما هو سر استنادهم الواسع عليها؟
لقد كتب الكثيرون من الرحالة والمستكشفين الأوروبيين عن الخليج وشبه الجزيرة العربية منذ القرن 16، بعد أن جالوا مدنها وصحاريها ورصدوا عادات شعوبها وتقاليدهم ومظاهر حياتهم، من خلال مؤلفات قيمة تباينت أهدافها المعلنة ما بين الكشف الجغرافي والتدوين التاريخي والسبق الصحفي والاستطلاع الثقافي/الاجتماعي. وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف، ارتضوا أن يتخلوا عن رفاهية معيشتهم وما تعودوا عليه في أوطانهم، فركبوا الصعاب وواجهوا أهوال ومتاعب السفر والانتقال وقبلوا خشونة العيش وغامروا بحياتهم.
وبغض النظر عن دوافعهم الحقيقية، ورأينا في بلدانهم وما طالهم من اتهامات، فإنهم أسدوا خدمة لا تقدر بثمن للباحثين والمؤرخين والدارسين من خلال ما تركوه لنا من كتب ودراسات ومدونات حول المكان والزمان والبشر والحجر والمجتمعات والعادات، تباينت هي الأخرى من حيث الحجم والتفاصيل والأسلوب والمضمون.
مؤلفات لوريمر
غير أن أياً من هذه الكتب والدراسات والأبحاث لم تحظ بما حظيت به مؤلفات لوريمر من اهتمام لأسباب كثيرة، منها أهداف الرجل ذات الصلة بطبيعة وظيفته وصفته الرسمية، واللتين أضفتا طابع المصداقية على عمله وجهوده، إذ لا يتوقع من شخص يعمل مثله كموظف رفيع لدى الحكومة البريطانية في الهند، ومكلف بتزويد مرجعه بمعلومات مفصلة لأغراض الاستخدام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والطبوغرافي الرسمي السري أن يكذب أو يمرر معلومات خاطئة قد تتسبب في محاسبته.
ومن جهة أخرى، راعى الرجل في كتاباته أن تكون مسهبة ومتطرقة إلى تفاصيل التفاصيل، بمعنى أنه لم يترك أي شاردة أو واردة إلا وتطرق لها وحفر وراءها مستنداً إلى معلومات استخباراتية وعملية تقص ميدانية عن الزمان والمكان والأخبار والشخوص والأعمال والمهن والحرف والأديان والمذاهب والعادات والأعراف والقبائل وعلاقات المجتمع ووسائل التنقل والاتصال والترفيه وأدوات الوزن والكيل وسبل اكتساب المعيشة. كما استند في أحايين كثيرة إلى كتابات ومؤلفات الرحالة السابقين مثل دوتي وبلغريف وبوركهاردت. ويكفي الباحث أن يلقي نظرة على فهرس كتابيه المذكورين ليكتشف صحة ما نقول. فمثلاً حينما كتب عن البحرين في دليله عدد ووصف قراها ومدنها وجزرها وقبائلها وقلاعها ومسافاتها وطبيعتها ومحاصيلها وحميرها بشكل لا نجده في أي كتاب آخر.
مندوب في البلاد العربية
ولد جون جوردون لوريمر John Gordon Lorimer، الشهير باسم ج . ج . لوريمر بمدينة غلاسغو في الرابع عشر من يونيو سنة 1870 لعائلة أسكتلندية محافظة مكونة من والديه و5 أبناء آخرين. وفي عام 1889 تخرج في جامعة أدنبرة وعمل لمدة عام خادماً في كنيسة المسيح بمدينة أكسفورد الإنجليزية، قبل أن يتولى في عام 1891 منصب المساعد الأول للمندوب السياسي البريطاني بولاية البنجاب الهندية. وبسبب كفاءته الدبلوماسية ونبوغه السياسي ونشاطه المتقد تم نقله للعمل بمقاطعة سيملا عند سفوح جبال الهملايا، حيث تولى الشؤون الخارجية لحكومة الهند البريطانية آنذاك، وكان وقتها متزوجاً من السيدة ماريان أغنيس، التي اقترن بها عام 1875. وفي عام 1909 بدأ عمله في البلاد العربية، وذلك حينما تولى منصب المندوب السامي للتاج البريطاني لدى الأقاليم العربية الخاضعة للحكم العثماني، ثم تولى منصب القنصل العام البريطاني في بغداد سنة 1911. أما وفاته فقد كانت بمدينة بوشهر الإيرانية على الضفة الشرقية للخليج العربي، حيث كان يعمل مقيماً سياسياً لبريطانيا في الخليج، على إثر حادث عارض. وقد نشرت جريدة «تايمز أوف إنديا»، الصادرة في بومباي، تفاصيل وفاته آنذاك، فقالت، إن لوريمر اختلى بنفسه في غرفة ملابسه صبيحة يوم الأحد 8 فبراير 1914 للتحقق من عيار بندقيته الآلية، فأصابته طلقة منها اخترقت جسده واستقرت في معدته بطريق الخطأ. وعثر عليه فيما بعد مسجى على الأرض جثة هامدة في عمر 43 سنة. أما جنازته فقد أقيمت في اليوم التالي بمقابر دائرة التلغراف الهندوأوروبية في بوشهر، وسط مظاهر عامة من التعاطف بين المقيمين البريطانيين والأجانب والسكان المحليين، حيث قامت الفرقة 102 من لواء الحرس الملكي وجنود البحرية البريطانية بحمل النعش إلى السفينة الحربية «فوكس» وسط الترانيم الجنائزية.
انتشرت أخبار رحيل لوريمر المؤسف، فوصل صداها إلى البحرين في 12 فبراير 1914 عن طريق السفينة البخارية «بارالا»، فسارع الوكيل السياسي البريطاني في المنامة الرائد آرثر بريسكوت تريفور إلى تنكيس الأعلام حداداً، وتدافع تجار البلاد ووجهاؤها وأفراد الجاليات الهندية والفارسية واليهودية إلى تقديم التعازي، كما شارك في التعزية حاكم البلاد الشيخ عيسى بن علي آل خليفة عن طريق إيفاد نجله الشيخ عبدالله.
موسوعة عن الخليج العربي
كلفت حكومة الهند البريطانية في سنة 1903 موظفها لوريمر بمشروع إعداد موسوعة شاملة ومفصلة عن منطقة الخليج العربي، وامتداداتها في شبه الجزيرة العربية والعراق، بهدف توفير دليل سهل يمكن لموظفي الدولة البريطانية ودبلوماسييها ورجالاتها في المنطقة الرجوع إليه للحصول على المعلومات التي تساعدهم في تعزيز نفوذهم ونفوذ دولتهم في مواجهة القوى الاستعمارية الأوروبية الأخرى، التي كانت آنذاك في تنافس مع بريطانيا على المنطقة. وقد شمل تكليفه الإشراف على فريق من موظفي الخدمة المدنية الهندية لإعداد الموسوعة المطلوبة، فقام لوريمر بتقسيم الفريق إلى قسمين: قسم مختص بجمع المعلومات التاريخية، وآخر مختص بجمع المعلومات الجغرافية والإحصائية. اكتمل العمل على القسم الجغرافي والإحصائي عام 1908، بينما لم يكتمل العمل على القسم التاريخي إلا عام 1915، أي بعد رحيل لوريمر بعام تقريباً، حينما قام زميله بيردود بإنجاز المتبقي (المقدمة والفهرسة فقط). بعد ذلك تمّ طبع القسمين كموسوعة من كتابين باسم «دليل الخليج الجغرافي»، و«دليل الخليج التاريخي» بمدينة كلكتا الهندية سنة 1915 وبشكل محدود جداً. ثم تم وضع الموسوعة تحت تصنيف «سري ــ للعمل الرسمي» لاستخدامات الحكومة البريطانية فقط، ولم يعلم أحد بأمرها إلا في عام 1955، واستمرت مصنفة كموسوعة سرية إلى عام 1970، حينما رفعت السرية عنها، فتمت إعادة طباعتها ونشرها مترجمة إلى العربية بعد ذلك مرتين: مرة في قطر وأخرى في سلطنة عمان. ولعل أكبر دليل على حرص بريطانيا على إخفاء أمر الموسوعة هو أنها في بيان نعيها للوريمر تطرقت إلى كل مؤلفات الرجل عدا مؤلفه الأهم هذا. فقد أشار البيان مثلاً إلى كتابين أصدرهما لوريمر من قبل وهما: «القانون العرفي للقبائل الرئيسية في بيشاور» الصادر في عام 1899، و«المفردات والقواعد اللغوية للغة الباشتو وزيري» الصادر في عام 1902.
قرأت للكاتب الإماراتي جمال بن حويرب، في موقع مركزه للدراسات، اعتراضه على عنوان الكتاب بعد ترجمته إلى العربية، وتساؤلات حول أهداف حاكم قطر من ترجمته وتوزيعه مجاناً، إذ قال، إن عمل لوريمر الضخم حمل عنوان Gazetteer of the Persian Gulf, Oman and Central Arabia، وترجمته الصحيحة هي «معجم الخليج وعمان ووسط الجزيرة»، ثم تساءل قائلاً: لا أعلم لماذا اعتنت قطر بهذا الكتاب السري جداً وقت فسحه، وليس عندي معلوماتٌ عن كيفية وصوله إلى يدها، إذ لم يكن أحدٌ حينذاك له علاقة بالأرشيف البريطاني سوى الأستاذ مرسي عبدالله، الذي تولى لأكثر من عقدين مركز الوثائق في أبوظبي؛ فقد يكون هو مَن أشار على حاكم قطر الأسبق الشيخ أحمد بن علي آل ثاني بترجمته وطبعه بقسميه؛ فنُشِرَ في 14 مجلداً باسم الشيخ أحمد، ثمَّ أُزِيلَ اسمُه لاحقاً بعد الانقلاب عليه، واستبدل باسم الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني.
كما صدرت ملخصات مترجمة لمختارات من الموسوعة خاصة بمواضيع معينة، مثل: كتاب «الكويت في دليل الخليج» لخالد سعود الزيد سنة 1982، و«كتاب تاريخ البلاد السعودية في دليل الخليج» لمحمد بن سليمان الخضيري سنة 2001 وكتاب «معجم قبائل الخليج في مذكرات لوريمر» لسعود الزيتون الخالدي سنة 2002، وكتاب «عربستان في الوثائق البريطانية 1600 ـ 1900 من دليل الخليج للويمر» لماجد شبر موسى الشريفي سنة 2012، وكتاب «دولة الإمارات العربية المتحدة في دليل الخليج» لمجموعة من الباحثين سنة 2014، وكتاب «نخيل الخليج العربي في دليل لوريمر» لعلي عفيفي علي غازي سنة 2015، وكتاب «دولة قطر في دليل الخليج» لمجموعة من المترجمين سنة 2019، وكتاب «بنوكعب في دليل الخليج التاريخي الجغرافي» لمحمد فهد الفرس سنة 2021، وكتاب «كربلاء في دليل الخليج العربي» لمرتضى علي الأوسي سنة 2016، وكتاب «البلوش وبلادهم في دليل الخليج» لأحمد يعقوب المازمي. إضافة إلى ذلك نشرت أبحاث ودراسات ومقالات مستمدة من عمل لوريمر الضخم، مثل مقال محمد بن ناصر الجمعان بجريدة الجزيرة السعودية (8/5/2017) عن بلدة الحريق النجدية في دليل الخليج، ونص توثيقي لقرية الظلوف (أحد الأماكن التي استوطنتها قبيلة المنانعة) في دليل الخليج الجغرافي، ومقال مطول كتبه شخص يرمز إلى اسمه بـ«بوشقرة» بعنوان «وصف الهولة في كتاب دليل الخليج»، حيث إن لوريمر يعتبر أشهر من وضع تعريفاً للهولة، ونصه: «الهولة مفردها هولي، وهم طبقة من العرب السنة الذين يقيمون في البحرين والحسا وقطر وساحل عمان وجزيرة صري، وكانوا يقيمون لسنوات وربما لأجيال عديدة على الساحل الإيراني من الخليج ثم عادوا أفراداً وجماعات إلى الساحل العربي، ولم يكتسبوا اسم (الهولة) لدى إقامتهم في إيران، بل هو لقب أطلقه عليهم العرب عندما عادوا للعيش بينهم مرة أخرى».
دليل الخليج
يتكون دليل الخليج من نحو 6000 صفحة موزعة على 6 مجلدات (مجلدان يحملان عنوان الدليل الجغرافي، و4 مجلدات تحمل عنوان الدليل التاريخي). وينقسم الدليل التاريخي بدوره إلى 3 أجزاء: الأول بعنوان «القسم العربي»، ويغطي التاريخ العام للخليج العربي منذ سنة 1507، قبل أن يتناول تاريخ كل منطقة أو بلد على حدة، كتاريخ كل من عمان والساحل المتصالح، والبحرين وقطر والأحساء والكويت ونجد والعراق. والجزء الثاني بعنوان «القسم الفارسي»، وهو يغطّي تاريخ السواحل الفارسية، بما في ذلك عربستان ومكران وجوادر في بلوشستان مع ملاحق حول مواضيع متخصصة مثل: تجارة اللؤلؤ وتجارة العبيد والأوضاع الصحية والوبائية وأشكال وطرق الزراعة والأسلحة المتوفرة في المجتمع ومصادرها، وعلاقات بلدان المنطقة مع القوى الأجنبية، ونصوص المعاهدات المبرمة بين حكام المنطقة وبريطانيا، إضافة إلى ملحق خاص حول زيارة نائب الملك في الهند اللورد كرزون إلى الخليج سنة 1903. والجزء الثالث يتكون من 21 جدولاً خاصاً بأنساب الأسر الحاكمة في الخليج العربي وعمان ووسط الجزيرة العربية.
يعيب البعض على دليل لوريمر الجغرافي، أن معلوماته قد تجاوزها الزمن نتيجة المتغيرات الكثيرة التي مرت على المنطقة، وهذا صحيح إذا نظرنا للموضوع من ناحية التطور المادي، لكن المكان كموقع جغرافي بحت يظل كما هو دون تغيير، ناهيك عن أن بياناته في الماضي تتيح لنا إجراء مقارنة بين حدوده السابقة والحالية. إلى ذلك يظل الدليل الجغرافي مفيداً لأنه يحتوي على معلومات هائلة عن الأسر الحاكمة والقبائل والمجموعات الدينية والعرقية وأنسابها ومصاهراتها ونفوذها وعلاقاتها، وتقديرات حول أفرادها وسلاحها وعاداتها وأعداد منازلها وقواربها وخيولها وجمالها. أضف إلى ذلك، وجود معلومات مفصلة عن الطرق والدروب الرابطة بين المدن والقرى وما يقع حولها من جبال وبرار ومراع وعيون وآبار وحقول وآثار وخلافه، وعن المناخ وكمية الأمطار والمحاصيل الزراعية والسمكية والأدوات المستخدمة فيها وأنواع الحيوانات والطيور والزواحف وأنواع النقد المتداول وسبل الاتصالات البرقية والبريدية ووسائل المواصلات البرية والبحرية وحركة الشحن وأسماء الإدارات الحكومية وطريقة عملها وموازناتها ولاسيما دوائر الشرطة والقضاء ومصلحة الضرائب. كما أن الدليل الجغرافي مهم لأنه مزود بـ56 صورة فوتوغرافية نادرة من الخليج التقطها ضبّاط الاستعمار البريطاني، والمستكشف الألماني «هيرمان بورخاردت» و«راجا دين دايال وأولاده» (المصورون الرسميون لنائب الملك في الهند)، علاوة على خريطة خاصة بمغاصات اللؤلؤ على الساحل العربي للخليج، وخريطة أخرى سياسية للمنطقة أعدها رسام الخرائط الملازم فريزر فريدريك هانتر، الذي ذكر أن عملية وضع الخارطة كانت صعبة ومليئة بالتحديات، وأنه أمضى مع لوريمر شتاء عامي 1905 و1906 في مكتب الخارجية الصيفي بسيملا يعملان يومياً 14 ساعة من أجل إنجاز الخريطة بدقة متناهية وهما يرتديان المعاطف والقفازات الصوفية.
ويعيب البعض على دليل لوريمر التاريخي، أنه يستند إلى معلومات وتفسيرات تتسق مع وجهة النظر البريطانية الرسمية البحتة دون مناقشتها أو تقديم وجهات نظر أخرى، متجاهلين حقيقة أن الرجل لم يكن مكلفاً باستعراض وجهات النظر التاريخية المتضاربة، بل إنه لم يؤلف كتابه من أجل المعرفة العامة، ولكن لخدمة أهداف بلاده، ولهذا لا يعدُّ العمل كتاباً تاريخياً، ولا يعد صاحبه مؤرخاً، وإنما مجرد موظف إداري ذي إلمام بالفهرسة وتحليل التقارير. وقد صدق أحد المؤرخين البريطانيين حينما قال عن مهمة لوريمر: ليس كتابة تاريخ الخليج أو تاريخ الدور البريطاني فيه، وإنما وضع إطار عام لكمّ الأحداث الهائلة بالمنطقة وبناء هيكل يمكن للمعنيين الغوص فيه بحثاً وتنقيباً.
في عام 1971 وصف الملحق الأدبي لجريدة التايمز اللندنية القسم التاريخي بأنه «هائل في محتواه»، ووصف القسم الجغرافي بأنه «بلا بديل معاصر»، بينما أشار المؤرخ الأمريكي «J.E. Peterson» في بحث له سنة 1991 إلى أن كتاب دليل الخليج «مصدر لمواضيع متنوعة كالتواريخ السياسية والاقتصاد والعبودية والبرقيات ومعاجم القبائل»، مضيفاً «إن ما جمعه لوريمر لا مثيل له».
لقد كتب الكثيرون من الرحالة والمستكشفين الأوروبيين عن الخليج وشبه الجزيرة العربية منذ القرن 16، بعد أن جالوا مدنها وصحاريها ورصدوا عادات شعوبها وتقاليدهم ومظاهر حياتهم، من خلال مؤلفات قيمة تباينت أهدافها المعلنة ما بين الكشف الجغرافي والتدوين التاريخي والسبق الصحفي والاستطلاع الثقافي/الاجتماعي. وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف، ارتضوا أن يتخلوا عن رفاهية معيشتهم وما تعودوا عليه في أوطانهم، فركبوا الصعاب وواجهوا أهوال ومتاعب السفر والانتقال وقبلوا خشونة العيش وغامروا بحياتهم.
وبغض النظر عن دوافعهم الحقيقية، ورأينا في بلدانهم وما طالهم من اتهامات، فإنهم أسدوا خدمة لا تقدر بثمن للباحثين والمؤرخين والدارسين من خلال ما تركوه لنا من كتب ودراسات ومدونات حول المكان والزمان والبشر والحجر والمجتمعات والعادات، تباينت هي الأخرى من حيث الحجم والتفاصيل والأسلوب والمضمون.
مؤلفات لوريمر
غير أن أياً من هذه الكتب والدراسات والأبحاث لم تحظ بما حظيت به مؤلفات لوريمر من اهتمام لأسباب كثيرة، منها أهداف الرجل ذات الصلة بطبيعة وظيفته وصفته الرسمية، واللتين أضفتا طابع المصداقية على عمله وجهوده، إذ لا يتوقع من شخص يعمل مثله كموظف رفيع لدى الحكومة البريطانية في الهند، ومكلف بتزويد مرجعه بمعلومات مفصلة لأغراض الاستخدام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والطبوغرافي الرسمي السري أن يكذب أو يمرر معلومات خاطئة قد تتسبب في محاسبته.
ومن جهة أخرى، راعى الرجل في كتاباته أن تكون مسهبة ومتطرقة إلى تفاصيل التفاصيل، بمعنى أنه لم يترك أي شاردة أو واردة إلا وتطرق لها وحفر وراءها مستنداً إلى معلومات استخباراتية وعملية تقص ميدانية عن الزمان والمكان والأخبار والشخوص والأعمال والمهن والحرف والأديان والمذاهب والعادات والأعراف والقبائل وعلاقات المجتمع ووسائل التنقل والاتصال والترفيه وأدوات الوزن والكيل وسبل اكتساب المعيشة. كما استند في أحايين كثيرة إلى كتابات ومؤلفات الرحالة السابقين مثل دوتي وبلغريف وبوركهاردت. ويكفي الباحث أن يلقي نظرة على فهرس كتابيه المذكورين ليكتشف صحة ما نقول. فمثلاً حينما كتب عن البحرين في دليله عدد ووصف قراها ومدنها وجزرها وقبائلها وقلاعها ومسافاتها وطبيعتها ومحاصيلها وحميرها بشكل لا نجده في أي كتاب آخر.
مندوب في البلاد العربية
ولد جون جوردون لوريمر John Gordon Lorimer، الشهير باسم ج . ج . لوريمر بمدينة غلاسغو في الرابع عشر من يونيو سنة 1870 لعائلة أسكتلندية محافظة مكونة من والديه و5 أبناء آخرين. وفي عام 1889 تخرج في جامعة أدنبرة وعمل لمدة عام خادماً في كنيسة المسيح بمدينة أكسفورد الإنجليزية، قبل أن يتولى في عام 1891 منصب المساعد الأول للمندوب السياسي البريطاني بولاية البنجاب الهندية. وبسبب كفاءته الدبلوماسية ونبوغه السياسي ونشاطه المتقد تم نقله للعمل بمقاطعة سيملا عند سفوح جبال الهملايا، حيث تولى الشؤون الخارجية لحكومة الهند البريطانية آنذاك، وكان وقتها متزوجاً من السيدة ماريان أغنيس، التي اقترن بها عام 1875. وفي عام 1909 بدأ عمله في البلاد العربية، وذلك حينما تولى منصب المندوب السامي للتاج البريطاني لدى الأقاليم العربية الخاضعة للحكم العثماني، ثم تولى منصب القنصل العام البريطاني في بغداد سنة 1911. أما وفاته فقد كانت بمدينة بوشهر الإيرانية على الضفة الشرقية للخليج العربي، حيث كان يعمل مقيماً سياسياً لبريطانيا في الخليج، على إثر حادث عارض. وقد نشرت جريدة «تايمز أوف إنديا»، الصادرة في بومباي، تفاصيل وفاته آنذاك، فقالت، إن لوريمر اختلى بنفسه في غرفة ملابسه صبيحة يوم الأحد 8 فبراير 1914 للتحقق من عيار بندقيته الآلية، فأصابته طلقة منها اخترقت جسده واستقرت في معدته بطريق الخطأ. وعثر عليه فيما بعد مسجى على الأرض جثة هامدة في عمر 43 سنة. أما جنازته فقد أقيمت في اليوم التالي بمقابر دائرة التلغراف الهندوأوروبية في بوشهر، وسط مظاهر عامة من التعاطف بين المقيمين البريطانيين والأجانب والسكان المحليين، حيث قامت الفرقة 102 من لواء الحرس الملكي وجنود البحرية البريطانية بحمل النعش إلى السفينة الحربية «فوكس» وسط الترانيم الجنائزية.
انتشرت أخبار رحيل لوريمر المؤسف، فوصل صداها إلى البحرين في 12 فبراير 1914 عن طريق السفينة البخارية «بارالا»، فسارع الوكيل السياسي البريطاني في المنامة الرائد آرثر بريسكوت تريفور إلى تنكيس الأعلام حداداً، وتدافع تجار البلاد ووجهاؤها وأفراد الجاليات الهندية والفارسية واليهودية إلى تقديم التعازي، كما شارك في التعزية حاكم البلاد الشيخ عيسى بن علي آل خليفة عن طريق إيفاد نجله الشيخ عبدالله.
موسوعة عن الخليج العربي
كلفت حكومة الهند البريطانية في سنة 1903 موظفها لوريمر بمشروع إعداد موسوعة شاملة ومفصلة عن منطقة الخليج العربي، وامتداداتها في شبه الجزيرة العربية والعراق، بهدف توفير دليل سهل يمكن لموظفي الدولة البريطانية ودبلوماسييها ورجالاتها في المنطقة الرجوع إليه للحصول على المعلومات التي تساعدهم في تعزيز نفوذهم ونفوذ دولتهم في مواجهة القوى الاستعمارية الأوروبية الأخرى، التي كانت آنذاك في تنافس مع بريطانيا على المنطقة. وقد شمل تكليفه الإشراف على فريق من موظفي الخدمة المدنية الهندية لإعداد الموسوعة المطلوبة، فقام لوريمر بتقسيم الفريق إلى قسمين: قسم مختص بجمع المعلومات التاريخية، وآخر مختص بجمع المعلومات الجغرافية والإحصائية. اكتمل العمل على القسم الجغرافي والإحصائي عام 1908، بينما لم يكتمل العمل على القسم التاريخي إلا عام 1915، أي بعد رحيل لوريمر بعام تقريباً، حينما قام زميله بيردود بإنجاز المتبقي (المقدمة والفهرسة فقط). بعد ذلك تمّ طبع القسمين كموسوعة من كتابين باسم «دليل الخليج الجغرافي»، و«دليل الخليج التاريخي» بمدينة كلكتا الهندية سنة 1915 وبشكل محدود جداً. ثم تم وضع الموسوعة تحت تصنيف «سري ــ للعمل الرسمي» لاستخدامات الحكومة البريطانية فقط، ولم يعلم أحد بأمرها إلا في عام 1955، واستمرت مصنفة كموسوعة سرية إلى عام 1970، حينما رفعت السرية عنها، فتمت إعادة طباعتها ونشرها مترجمة إلى العربية بعد ذلك مرتين: مرة في قطر وأخرى في سلطنة عمان. ولعل أكبر دليل على حرص بريطانيا على إخفاء أمر الموسوعة هو أنها في بيان نعيها للوريمر تطرقت إلى كل مؤلفات الرجل عدا مؤلفه الأهم هذا. فقد أشار البيان مثلاً إلى كتابين أصدرهما لوريمر من قبل وهما: «القانون العرفي للقبائل الرئيسية في بيشاور» الصادر في عام 1899، و«المفردات والقواعد اللغوية للغة الباشتو وزيري» الصادر في عام 1902.
قرأت للكاتب الإماراتي جمال بن حويرب، في موقع مركزه للدراسات، اعتراضه على عنوان الكتاب بعد ترجمته إلى العربية، وتساؤلات حول أهداف حاكم قطر من ترجمته وتوزيعه مجاناً، إذ قال، إن عمل لوريمر الضخم حمل عنوان Gazetteer of the Persian Gulf, Oman and Central Arabia، وترجمته الصحيحة هي «معجم الخليج وعمان ووسط الجزيرة»، ثم تساءل قائلاً: لا أعلم لماذا اعتنت قطر بهذا الكتاب السري جداً وقت فسحه، وليس عندي معلوماتٌ عن كيفية وصوله إلى يدها، إذ لم يكن أحدٌ حينذاك له علاقة بالأرشيف البريطاني سوى الأستاذ مرسي عبدالله، الذي تولى لأكثر من عقدين مركز الوثائق في أبوظبي؛ فقد يكون هو مَن أشار على حاكم قطر الأسبق الشيخ أحمد بن علي آل ثاني بترجمته وطبعه بقسميه؛ فنُشِرَ في 14 مجلداً باسم الشيخ أحمد، ثمَّ أُزِيلَ اسمُه لاحقاً بعد الانقلاب عليه، واستبدل باسم الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني.
كما صدرت ملخصات مترجمة لمختارات من الموسوعة خاصة بمواضيع معينة، مثل: كتاب «الكويت في دليل الخليج» لخالد سعود الزيد سنة 1982، و«كتاب تاريخ البلاد السعودية في دليل الخليج» لمحمد بن سليمان الخضيري سنة 2001 وكتاب «معجم قبائل الخليج في مذكرات لوريمر» لسعود الزيتون الخالدي سنة 2002، وكتاب «عربستان في الوثائق البريطانية 1600 ـ 1900 من دليل الخليج للويمر» لماجد شبر موسى الشريفي سنة 2012، وكتاب «دولة الإمارات العربية المتحدة في دليل الخليج» لمجموعة من الباحثين سنة 2014، وكتاب «نخيل الخليج العربي في دليل لوريمر» لعلي عفيفي علي غازي سنة 2015، وكتاب «دولة قطر في دليل الخليج» لمجموعة من المترجمين سنة 2019، وكتاب «بنوكعب في دليل الخليج التاريخي الجغرافي» لمحمد فهد الفرس سنة 2021، وكتاب «كربلاء في دليل الخليج العربي» لمرتضى علي الأوسي سنة 2016، وكتاب «البلوش وبلادهم في دليل الخليج» لأحمد يعقوب المازمي. إضافة إلى ذلك نشرت أبحاث ودراسات ومقالات مستمدة من عمل لوريمر الضخم، مثل مقال محمد بن ناصر الجمعان بجريدة الجزيرة السعودية (8/5/2017) عن بلدة الحريق النجدية في دليل الخليج، ونص توثيقي لقرية الظلوف (أحد الأماكن التي استوطنتها قبيلة المنانعة) في دليل الخليج الجغرافي، ومقال مطول كتبه شخص يرمز إلى اسمه بـ«بوشقرة» بعنوان «وصف الهولة في كتاب دليل الخليج»، حيث إن لوريمر يعتبر أشهر من وضع تعريفاً للهولة، ونصه: «الهولة مفردها هولي، وهم طبقة من العرب السنة الذين يقيمون في البحرين والحسا وقطر وساحل عمان وجزيرة صري، وكانوا يقيمون لسنوات وربما لأجيال عديدة على الساحل الإيراني من الخليج ثم عادوا أفراداً وجماعات إلى الساحل العربي، ولم يكتسبوا اسم (الهولة) لدى إقامتهم في إيران، بل هو لقب أطلقه عليهم العرب عندما عادوا للعيش بينهم مرة أخرى».
دليل الخليج
يتكون دليل الخليج من نحو 6000 صفحة موزعة على 6 مجلدات (مجلدان يحملان عنوان الدليل الجغرافي، و4 مجلدات تحمل عنوان الدليل التاريخي). وينقسم الدليل التاريخي بدوره إلى 3 أجزاء: الأول بعنوان «القسم العربي»، ويغطي التاريخ العام للخليج العربي منذ سنة 1507، قبل أن يتناول تاريخ كل منطقة أو بلد على حدة، كتاريخ كل من عمان والساحل المتصالح، والبحرين وقطر والأحساء والكويت ونجد والعراق. والجزء الثاني بعنوان «القسم الفارسي»، وهو يغطّي تاريخ السواحل الفارسية، بما في ذلك عربستان ومكران وجوادر في بلوشستان مع ملاحق حول مواضيع متخصصة مثل: تجارة اللؤلؤ وتجارة العبيد والأوضاع الصحية والوبائية وأشكال وطرق الزراعة والأسلحة المتوفرة في المجتمع ومصادرها، وعلاقات بلدان المنطقة مع القوى الأجنبية، ونصوص المعاهدات المبرمة بين حكام المنطقة وبريطانيا، إضافة إلى ملحق خاص حول زيارة نائب الملك في الهند اللورد كرزون إلى الخليج سنة 1903. والجزء الثالث يتكون من 21 جدولاً خاصاً بأنساب الأسر الحاكمة في الخليج العربي وعمان ووسط الجزيرة العربية.
يعيب البعض على دليل لوريمر الجغرافي، أن معلوماته قد تجاوزها الزمن نتيجة المتغيرات الكثيرة التي مرت على المنطقة، وهذا صحيح إذا نظرنا للموضوع من ناحية التطور المادي، لكن المكان كموقع جغرافي بحت يظل كما هو دون تغيير، ناهيك عن أن بياناته في الماضي تتيح لنا إجراء مقارنة بين حدوده السابقة والحالية. إلى ذلك يظل الدليل الجغرافي مفيداً لأنه يحتوي على معلومات هائلة عن الأسر الحاكمة والقبائل والمجموعات الدينية والعرقية وأنسابها ومصاهراتها ونفوذها وعلاقاتها، وتقديرات حول أفرادها وسلاحها وعاداتها وأعداد منازلها وقواربها وخيولها وجمالها. أضف إلى ذلك، وجود معلومات مفصلة عن الطرق والدروب الرابطة بين المدن والقرى وما يقع حولها من جبال وبرار ومراع وعيون وآبار وحقول وآثار وخلافه، وعن المناخ وكمية الأمطار والمحاصيل الزراعية والسمكية والأدوات المستخدمة فيها وأنواع الحيوانات والطيور والزواحف وأنواع النقد المتداول وسبل الاتصالات البرقية والبريدية ووسائل المواصلات البرية والبحرية وحركة الشحن وأسماء الإدارات الحكومية وطريقة عملها وموازناتها ولاسيما دوائر الشرطة والقضاء ومصلحة الضرائب. كما أن الدليل الجغرافي مهم لأنه مزود بـ56 صورة فوتوغرافية نادرة من الخليج التقطها ضبّاط الاستعمار البريطاني، والمستكشف الألماني «هيرمان بورخاردت» و«راجا دين دايال وأولاده» (المصورون الرسميون لنائب الملك في الهند)، علاوة على خريطة خاصة بمغاصات اللؤلؤ على الساحل العربي للخليج، وخريطة أخرى سياسية للمنطقة أعدها رسام الخرائط الملازم فريزر فريدريك هانتر، الذي ذكر أن عملية وضع الخارطة كانت صعبة ومليئة بالتحديات، وأنه أمضى مع لوريمر شتاء عامي 1905 و1906 في مكتب الخارجية الصيفي بسيملا يعملان يومياً 14 ساعة من أجل إنجاز الخريطة بدقة متناهية وهما يرتديان المعاطف والقفازات الصوفية.
ويعيب البعض على دليل لوريمر التاريخي، أنه يستند إلى معلومات وتفسيرات تتسق مع وجهة النظر البريطانية الرسمية البحتة دون مناقشتها أو تقديم وجهات نظر أخرى، متجاهلين حقيقة أن الرجل لم يكن مكلفاً باستعراض وجهات النظر التاريخية المتضاربة، بل إنه لم يؤلف كتابه من أجل المعرفة العامة، ولكن لخدمة أهداف بلاده، ولهذا لا يعدُّ العمل كتاباً تاريخياً، ولا يعد صاحبه مؤرخاً، وإنما مجرد موظف إداري ذي إلمام بالفهرسة وتحليل التقارير. وقد صدق أحد المؤرخين البريطانيين حينما قال عن مهمة لوريمر: ليس كتابة تاريخ الخليج أو تاريخ الدور البريطاني فيه، وإنما وضع إطار عام لكمّ الأحداث الهائلة بالمنطقة وبناء هيكل يمكن للمعنيين الغوص فيه بحثاً وتنقيباً.
في عام 1971 وصف الملحق الأدبي لجريدة التايمز اللندنية القسم التاريخي بأنه «هائل في محتواه»، ووصف القسم الجغرافي بأنه «بلا بديل معاصر»، بينما أشار المؤرخ الأمريكي «J.E. Peterson» في بحث له سنة 1991 إلى أن كتاب دليل الخليج «مصدر لمواضيع متنوعة كالتواريخ السياسية والاقتصاد والعبودية والبرقيات ومعاجم القبائل»، مضيفاً «إن ما جمعه لوريمر لا مثيل له».