يبدو جلياً أن المكتبات التجارية في زمننا وحياتنا الراهنة، التي طغت عليها الثقافة الرقمية وأجهزة الإنترنت وشاشات الحاسوب، لم تعد تمارس الدور القوي والمؤثر الذي لعبته في حياة الأجيال السابقة كمصدر للثقافة والمعلومات أو حتى كمعين لهواة القراءة والمعرفة وعاشقي الارتقاء بالنفس والعقل. ومع هذا التراجع، باتت المقولة الخالدة «أعز مكان في الدنيا سرج سابح ... وخير جليس في الزمان كتاب» لشيخ شعراء العربية أبي الطيب المتنبي في طيء النسيان.
إن الحديث عن تاريخ ظهور المكتبات التجارية في منطقة الخليج العربي، والبحث في سير الشخصيات التي تسنمت عملية تأسيسها وغامرت بأموالها في سبيل رفدها بالأحدث والأجود والأنفع من المؤلفات والمطبوعات في شتى مجالات المعرفة، ثم قاومت بشجاعة متغيرات الزمن كي تحافظ على استمراريتها، لهو حديث ذو شجون، ويستمد أهميته من حقيقة أن للمكتبات (سواء كانت عامة أو خاصة أو تجارية) علاقة بالحضارة والتقدم، بمعنى أن اضمحلال المكتبات يعني تحلل الحضارات، وازدهار الأولى يعني ارتقاء الثانية.
لن نتحدث هنا عن المكتبات العامة في الخليج، لأن لها تاريخاً مستقلاً، ناهيك عن أن ظهورها كان بفضل جهات رسمية أو نتيجة جهود أهلية جماعية. لذا سيقتصر حديثنا على المكتبات التجارية أي التي تخصصت في بيع وشراء الكتب كبضاعة.
تقول المصادر المتوفرة، إن أول مكتبة تجارية في الخليج ظهرت بمدينة المحرق البحرينية في دكان بالقرب من سوقها التجاري، على يد صاحبها المربي الشيخ عبدالعزيز عيسى الجامع، وذلك في أوائل القرن العشرين، أو قبل عام 1907، طبقاً لما كتبه الباحث البحريني بشار الحادي، الذي أخبرنا أيضاً أن الجامع بدأ عمله ببيع المخطوطات وما تيسر من الكتب القليلة المتوفرة في البحرين، نظراً لصعوبة استيراد المؤلفات آنذاك من مطابعها في بومباي وبغداد والبصرة والقاهرة والحجاز. وبهذا خالف الحادي ما كتبه آخرون، من أن أول مكتبة تجارية في البحرين كانت تلك التي أسسها في المنامة محمد علي التاجر تحت اسم «مكتبة البحرين» سنة 1921، وأن ثانية المكتبات كانت «المكتبة الكمالية» بالمنامة نسبة إلى صاحبها سلمان أحمد كمال في سنة 1921، وأن المكتبة الثالثة ظهرت تحت اسم «المكتبة الوطنية» بالمحرق سنة 1929 على يد صاحبها إبراهيم محمد عبيد. توالى بعد ذلك ظهور المكتبات التجارية المماثلة في مدن الخليج الأخرى؛ فظهرت «مكتبة الرويح» بالكويت سنة 1920، و«مكتبة حسن محمود الشنقيطي» بالرياض سنة 1937، و«مكتبة الثقافة» في مكة وجدة في الأربعينات الميلادية، و«المكتبة الأدبية» في الخبر والدمام في عامي 1946 و1948 على التوالي، و«مكتبة صالح القرق» في دبي في النصف الأول من الأربعينات، و«مكتبة العروبة» في الدوحة سنة 1957.
تعد الكويت ثانية دول الخليج من حيث تأسيس المكتبات التجارية، إذ إن مكتبتها التجارية الأولى ممثلة في «المكتبة الوطنية» (كانت تعرف أيضاً عند العامة باسم «مكتبة الرويح») ظهرت في عام 1920 على يد الحاج محمد أحمد الرويّح، لكنها كانت وقتذاك عبارة عن دكان صغير لا يحتوي إلا على كتب قليلة، وظلت كذلك حتى عام 1928، حينما قام صاحبها بنقلها إلى مكان أرحب وتزويدها بكتب متنوعة في شتى المعارف، إضافة إلى الصحف والمجلات المطبوعة في الخارج، ولهذا يعتبر بعض مؤرخي الكويت العام 1928 هو التاريخ الحقيقي لتأسيس أول مكتبة تجارية بالكويت، بينما يرى البعض الآخر أن التاريخ الفعلي هو 1923، ويزعم البعض الثالث أن هناك مكتبات سبقت مكتبة الرويح مثل «مكتبة الدرع» لصاحبها عبدالمحسن الدرع، و«مكتبة الطلبة» لصاحبها عبدالرحمن الخرجي.
المكتبات التجارية الكويتية
والحقيقة أن هناك اجتهادات كثيرة في هذا الشأن مع تضارب في تواريخ ظهور أوائل المكتبات التجارية الكويتية وتباين في أحجامها ونوعية كتبها وفترة عملها، لكن الرأي الغالب والأكثر انتشاراً في المراجع المختلفة هو لصالح الرويح، الذي سنتناول سيرته هنا بالتفصيل كونه رائد تجارة الكتب والمطبوعات في الكويت دون منازع.
ولد محمد أحمد الرويح بالحي الشرقي بمنطقة الدبوس القريبة من فريج الزهاميل بدولة الكويت سنة 1898 (وقيل في 1900 أو 1901) ابناً لعائلة تنتمي إلى قبيلة البقوم، كانت قد هاجرت إلى الكويت قديماً من «تربة»، الواقعة بمنطقة حائل شمال المملكة العربية السعودية. والتحق في سن السادسة بمدرسة أحمد الفارسي، حيث تعلم القراءة والكتابة والحساب وحفظ القرآن، ثم أراد الاستزادة فالتحق لمدة سنتين بمدرسة عبدالوهاب الحنيان. وعلى الرغم من شغفه بالعلم وولعه بإكمال تعليمه، إلا أن والده أخرجه من المدارس ليعاونه في بقالته أمام مسجد السوق القديم. فكان الصبي محمد الرويح يعمل في بقالة أبيه من الصباح حتى المساء ثم ينتقل للعمل في مجلس أبيه كصباب للشاي والقهوة، وما إنْ ينتهي من العمل الأخير إلا ويهرب إلى ديوانية عمه القريبة، حيث كان الرجال يجتمعون لتداول الأخبار وسماع الشعر والقصص والحكايات المسلية.
وطبقاً لما ذكره الرويح شخصياً للمؤرخ سيف مرزوق الشملان، في حوار تلفزيوني بتاريخ 16/4/1988، فإن حكايته مع الكتب بدأت وهو في الثالثة عشرة من عمره، حينما سمع من أحد رواد ديوانية عمه قصة «عنترة بن شداد»، حيث استهوته القصة فأبدى للراوي رغبته في اقتناء الكتاب الذي يتضمن القصة، فوجهه الأخير إلى كتاب آخر يناسب عمره بعنوان «القاضي والحرامي». وهكذا ظل الصبي يبحث عن ذلك الكتاب دون جدوى، بسبب عدم انتشار محلات بيع الكتب في الكويت آنذاك، إلى أن مرّ ببقالة أبيه ذات يوم بائع جوال عدني يدعى قاسم اليماني المعروف أيضاً باسم الدرويش، وكان الرجل قادماً من العراق في طريقه إلى البحرين لبيع وشراء الكتب، فطلب منه الرويح قصة «القاضي والحرامي»، فوعده بإحضارها له من البحرين في طريق عودته إلى العراق.
حصل صاحبنا على القصة المطلوبة، بعد أن دفع مقابلها مبلغ ثماني آنات (نصف روبية)، وقرأها بنهم، ثم راح يقرأها على الجيران والمعارف، وكان من بينهم أحد أولاد المقتدرين مادياً، الذي عرض عليه شراء القصة منه. كتبت فتحية حسين الحداد في جريدة القبس (25/8/2021) عن هذه الواقعة، التي شكلت أولى المنعطفات الهامة في حياة الرويح، ما مفاده أن صاحبنا استثمر الخبرة التي اكتسبها من عمله في بقالة والده فباع الكتاب على صديقة بروبية، محققاً بذلك ربحاً مقداره نصف روبية، فكانت تلك خطوته الأولى التي راح يكررها، وبدايته نحو عالم تجارة الكتب التي قادته إلى الاستقلال عن والده وبدء مشروعه الخاص تدريجياً.
في حواره المتلفز آنف الذكر مع الشملان، أخبرنا الرويح عما حدث بعد ذلك، وملخصه أن نسيبه عبدالله الحنيان مؤذن مسجد العنجري والموظف في المعتمدية البريطانية، أخبره بوجود مكتبة في بومباي اسمها «مكتبة سرورتي»، تستطيع تزويده بكتب عربية بأسعار منخفضة، الأمر الذي شجعه على مخاطبة المكتبة الهندية عبر رسالة كتبها على عجل بلغة ركيكة، وقال فيها «أبغي أشتري كتب من عندكم»، فوصلته أول دفعة كتب بالبريد مقابل 40 روبية.
حاول أن يبيع الكتب من خلال بقالة والده، فانزعج الأخير من تردد الطلبة وهواة القراءة على ولده ونقاشاتهم وصخبهم، وهو ما جعل الأب يخير الابن بين أمرين: الاستمرار في العمل معه دون بيع الكتب أو بيع الكتب في محل مستقل، قائلاً له «يا وليدي رمانتين باليد ما تصير».
اختار الرويح الأمر الثاني، وقام بعرض كتبه بادئ الأمر على الأرض في مدخل السوق الداخلي جهة المسجد الكبير، وفي الوقت نفسه عرض الكتب على المربي الشيخ عبدالوهاب العصفور وطلبة مدرسته، فساعده العصفور في البيع، بل زوده أيضاً بقائمة للكتب الرائجة، التي طلبها الرويح فوراً من الهند بمبلغ 400 روبية لم يكن يملكها حينذاك، وهو ما جعله يقترض المبلغ من صديق والده التاجر محمد بن حيدر، الذي لم يكتفِ بمساعدته وإنما استأجر له أيضاً محلاً في مدخل السوق القديم بروبيتين (150 فلساً)، ليكون مقراً لمكتبته الأولى، ثم استأجر له محلاً آخر في قيصرية العوضي بأربع روبيات شهرياً.
بعد مدة اكتشف الأب أنه أخطأ في حق ابنه، وأنه في حاجة ماسة له، فبعث من يطيب خاطره ويطلب منه نقل مكتبته إلى مكان مجاور لبقالته في السوق الداخلي كي يستعين به عند الحاجة.
تأسيس «مكتبة المثنى»
في مقره الجديد تعرف على جاره محمد السريّع، الذي كان دائم السفر إلى بغداد، فعرف منه أن بغداد غنية بالكتب والمكتبات، وأن بإمكانه مرافقة السريع إلى هناك في سفراته القادمة. وبهذا قرر الرويح أن يتوقف عن طلب الكتب من الهند بدءاً من عام 1929، كما توقف عن طلب الكتب من المكتبة الكمالية في المنامة التي تعرف عليها من خلال قاسم اليماني وتعامل معها لبعض الوقت، وراح بدلاً من ذلك يطلب حاجته من «المكتبة العربية» في بغداد لصاحبها الحاج نعمان الأعظمي، الذي ارتبط بصداقة وثيقة معه، وكان يشجعه في كل مرة على مضاعفة طلباته من الكتب، مؤكداً له عدم مطالبته بقيمتها إلا بعد بيعها، بل اقترح عليه الأعظمي أن يزوده بكل ما يريد بريدياً كي يعفيه من عناء السفر.
ومن خلال مكتبة الحاج الأعظمي تعرف الرويح على موظف المكتبة الشاب العصامي «قاسم بن رجب»، الذي ترك العمل لاحقاً لدى الأعظمي، وأسس لنفسه «مكتبة المثنى»، وصار يسافر في رحلات مكثفة إلى أمريكا ليبيعها كتباً صادرة في أوروبا، ويعود بكتب صادرة في أمريكا ليبيعها في أوروبا. وقد جمعت الرجلين علاقة عمل وثيقة آيتها قيام الرويح بإقراض بن رجب مبالغ من المال على أن يسددها خلال سنة أو تكون مقابل كتب لمكتبته في الكويت.
لم يكتفِ الرويح بالسفر إلى بغداد، بل سافر أيضاً إلى البصرة مع عبدالله الغيث في سفن جلب المياه، حيث نزل الفاو، ومنها استقل السيارة إلى البصرة، وفي البصرة التقط لأول مرة في حياته صورة فوتوغرافية سنة 1931، كي يبعثها للنشر في مجلة «اللطائف المصرية» بناء على طلبها، وقد نشرتها المجلة في أحد أعدادها سنة 1933، مع تعريف به كصاحب مكتبة وموزع للمجلة في الكويت. وفي بغداد لم يكتفِ بالتعامل مع الأعظمي وبن رجب، وإنما تعامل أيضاً مع «مكتبة السيمر»، التي عرفها مصادفة من خلال «محمود الحافظ»، وهو من أبناء بندر لنجة النجباء وطلبة العلم الأذكياء، حيث تعرف عليه الرويح حينما كان ماراً بالكويت في طريقه إلى العراق والبحرين، وسأله عما معه من الكتب، فعرف أن بينها كتاب «جواهر الأدب» للهاشمي، وكتاب «الرحمة في الطب والحكمة» للسيوطي، وأن مصدرهما «مكتبة السيمر» العراقية، فقرر الذهاب إليها للتعامل معها. ومن الدول الأخرى التي زارها لاحقاً من أجل تجارة الكتب مصر والهند.
آثار مكتبة الرويح
وفي السجلات التي تركها الرويح خلفه، بعد وفاته رحمه الله في العاشر من مارس 1996، ما يؤكد على كل هذا. فمثلاً شخصية مثل عبدالوهاب الجسار (مدير جمارك الكويت من 1938 إلى 1953)، الذي تعلم الإنجليزية في كراتشي زمن الهند البريطانية وتولع بقراءة الروايات، كان يأخذ من مكتبة الرويح كل أسبوع نحو 15 رواية، بصفة الاستئجار، يقرأها ثم يعيدها ليستبدلها بأخرى. وبموجب تلك السجلات نجد أن مشاهير الأدباء والشعراء والمربين والقضاة ورجال الدولة في الكويت مثل (الشيخ أحمد عطية الأثري وعبدالله خلف الدحيان وعبدالعزيز حمادة وشيخان الفارسي وعبدالرحمن سالم العتيقي والفنان سعود الراشد وعبدالعزيز الراشد ويعقوب الغنيم ومحمد الغانم وأحمد البشر الرومي وفهد العسكر وصقر الشبيب وفهد بورسلي)، علاوة على شيوخها وحكامها مثل الشيوخ (عبدالله السالم وصباح السالم وفهد السالم وجابر الأحمد وصباح الأحمد وجابر العلي)، كانوا ضمن المترددين على المكتبة للتزود بالكتب والمجلات المصرية واللبنانية. بل إن الشيخ جابر الأحمد ــ طبقاً لما ذكره حفيد الرويح «عبدالحميد فهد محمد أحمد الرويح» في جريدة الرأي (28/6/2008) ــ أمر الديوان الأميري بدفع إيجار المكتبة بعد وفاة صاحبها، وحرص سموه أن تظل في مكانها مفتوحة باعتبارها ملكاً لكل الكويتيين وليس لعائلة الرويح فقط، وتبعه في ذلك الشيخ صباح الأحمد.
وأخيراً كتب الاعلامي الكويتي ممدوح محسن العنزي، في كتابه «منارات كويتية» (ط.1، 2011، ص 241) ما مفاده، أن الرويح تزوج بست نساء أنجب منهن 15 ذكراً و14 من الإناث، وأنه رغم عشقه المبكر للقراءة وارتباطه الطويل بالكتب إلا أنه لم يؤلف كتاباً واحداً لكنه كان يحفظ الآلاف من أبيات الشعر ولديه ملكة تذكر الأحداث والأماكن والتواريخ، ما سهل له إدارة محتويات مكتبته بيعاً وشراءً وإعارة وتنظيماً دون الاعتماد على الآخر.
أدار «المثنى» بنفسه
أخذت المكتبة تتطور وصارت من معالم الكويت، خصوصاً بعد دخولها مجال بيع القرطاسيات والأدوات المكتبية، التي جعلتها مركز جذب للطلبة والمدرسين وهواة الكتابة والخط والرسم، ودخولها مجال بيع المجلات والصحف المصرية المشهورة، بدءاً بـ«اللطائف المصرية» وانتهاء بـ«المصور» و«آخر ساعة» و«الكواكب» و«روز اليوسف» و«حواء» و«الهلال» و«الفن» و«الأهرام» و«الجمهورية» وغيرها من تلك التي راحت تصلها بانتظام بالبريد، قبل أن تتولى عملية التوصيل «شركة فرج الله للنقل البري» عبر لبنان والعراق. كما أنها تحولت إلى مقصد لكل القراء من الكويتيين والوافدين العرب، خصوصاً بعد أن أتاحت لهم استئجار الكتب لقراءتها وإعادتها خلال مدة معينة.
وطوال الفترة منذ تأسيس المكتبة وحتى خمسينات القرن العشرين أدارها صاحبها بنفسه، ثم استعان بخدمات ولده فهد حينما لمس منه حب المطالعة والاهتمام بالكتاب، ليستمرا معاً في العمل حتى العام 1985، الذي ترك فيه الأب المسؤولية للابن بسبب تقدمه في السن، فأكمل الابن فهد المسيرة، بل حرص الأخير مع أبنائه على المحافظة على كامل مقتنيات المكتبة أثناء الغزو العراقي عام 1990 بنقلها إلى سرداب منزله.
إن الحديث عن تاريخ ظهور المكتبات التجارية في منطقة الخليج العربي، والبحث في سير الشخصيات التي تسنمت عملية تأسيسها وغامرت بأموالها في سبيل رفدها بالأحدث والأجود والأنفع من المؤلفات والمطبوعات في شتى مجالات المعرفة، ثم قاومت بشجاعة متغيرات الزمن كي تحافظ على استمراريتها، لهو حديث ذو شجون، ويستمد أهميته من حقيقة أن للمكتبات (سواء كانت عامة أو خاصة أو تجارية) علاقة بالحضارة والتقدم، بمعنى أن اضمحلال المكتبات يعني تحلل الحضارات، وازدهار الأولى يعني ارتقاء الثانية.
لن نتحدث هنا عن المكتبات العامة في الخليج، لأن لها تاريخاً مستقلاً، ناهيك عن أن ظهورها كان بفضل جهات رسمية أو نتيجة جهود أهلية جماعية. لذا سيقتصر حديثنا على المكتبات التجارية أي التي تخصصت في بيع وشراء الكتب كبضاعة.
تقول المصادر المتوفرة، إن أول مكتبة تجارية في الخليج ظهرت بمدينة المحرق البحرينية في دكان بالقرب من سوقها التجاري، على يد صاحبها المربي الشيخ عبدالعزيز عيسى الجامع، وذلك في أوائل القرن العشرين، أو قبل عام 1907، طبقاً لما كتبه الباحث البحريني بشار الحادي، الذي أخبرنا أيضاً أن الجامع بدأ عمله ببيع المخطوطات وما تيسر من الكتب القليلة المتوفرة في البحرين، نظراً لصعوبة استيراد المؤلفات آنذاك من مطابعها في بومباي وبغداد والبصرة والقاهرة والحجاز. وبهذا خالف الحادي ما كتبه آخرون، من أن أول مكتبة تجارية في البحرين كانت تلك التي أسسها في المنامة محمد علي التاجر تحت اسم «مكتبة البحرين» سنة 1921، وأن ثانية المكتبات كانت «المكتبة الكمالية» بالمنامة نسبة إلى صاحبها سلمان أحمد كمال في سنة 1921، وأن المكتبة الثالثة ظهرت تحت اسم «المكتبة الوطنية» بالمحرق سنة 1929 على يد صاحبها إبراهيم محمد عبيد. توالى بعد ذلك ظهور المكتبات التجارية المماثلة في مدن الخليج الأخرى؛ فظهرت «مكتبة الرويح» بالكويت سنة 1920، و«مكتبة حسن محمود الشنقيطي» بالرياض سنة 1937، و«مكتبة الثقافة» في مكة وجدة في الأربعينات الميلادية، و«المكتبة الأدبية» في الخبر والدمام في عامي 1946 و1948 على التوالي، و«مكتبة صالح القرق» في دبي في النصف الأول من الأربعينات، و«مكتبة العروبة» في الدوحة سنة 1957.
تعد الكويت ثانية دول الخليج من حيث تأسيس المكتبات التجارية، إذ إن مكتبتها التجارية الأولى ممثلة في «المكتبة الوطنية» (كانت تعرف أيضاً عند العامة باسم «مكتبة الرويح») ظهرت في عام 1920 على يد الحاج محمد أحمد الرويّح، لكنها كانت وقتذاك عبارة عن دكان صغير لا يحتوي إلا على كتب قليلة، وظلت كذلك حتى عام 1928، حينما قام صاحبها بنقلها إلى مكان أرحب وتزويدها بكتب متنوعة في شتى المعارف، إضافة إلى الصحف والمجلات المطبوعة في الخارج، ولهذا يعتبر بعض مؤرخي الكويت العام 1928 هو التاريخ الحقيقي لتأسيس أول مكتبة تجارية بالكويت، بينما يرى البعض الآخر أن التاريخ الفعلي هو 1923، ويزعم البعض الثالث أن هناك مكتبات سبقت مكتبة الرويح مثل «مكتبة الدرع» لصاحبها عبدالمحسن الدرع، و«مكتبة الطلبة» لصاحبها عبدالرحمن الخرجي.
المكتبات التجارية الكويتية
والحقيقة أن هناك اجتهادات كثيرة في هذا الشأن مع تضارب في تواريخ ظهور أوائل المكتبات التجارية الكويتية وتباين في أحجامها ونوعية كتبها وفترة عملها، لكن الرأي الغالب والأكثر انتشاراً في المراجع المختلفة هو لصالح الرويح، الذي سنتناول سيرته هنا بالتفصيل كونه رائد تجارة الكتب والمطبوعات في الكويت دون منازع.
ولد محمد أحمد الرويح بالحي الشرقي بمنطقة الدبوس القريبة من فريج الزهاميل بدولة الكويت سنة 1898 (وقيل في 1900 أو 1901) ابناً لعائلة تنتمي إلى قبيلة البقوم، كانت قد هاجرت إلى الكويت قديماً من «تربة»، الواقعة بمنطقة حائل شمال المملكة العربية السعودية. والتحق في سن السادسة بمدرسة أحمد الفارسي، حيث تعلم القراءة والكتابة والحساب وحفظ القرآن، ثم أراد الاستزادة فالتحق لمدة سنتين بمدرسة عبدالوهاب الحنيان. وعلى الرغم من شغفه بالعلم وولعه بإكمال تعليمه، إلا أن والده أخرجه من المدارس ليعاونه في بقالته أمام مسجد السوق القديم. فكان الصبي محمد الرويح يعمل في بقالة أبيه من الصباح حتى المساء ثم ينتقل للعمل في مجلس أبيه كصباب للشاي والقهوة، وما إنْ ينتهي من العمل الأخير إلا ويهرب إلى ديوانية عمه القريبة، حيث كان الرجال يجتمعون لتداول الأخبار وسماع الشعر والقصص والحكايات المسلية.
وطبقاً لما ذكره الرويح شخصياً للمؤرخ سيف مرزوق الشملان، في حوار تلفزيوني بتاريخ 16/4/1988، فإن حكايته مع الكتب بدأت وهو في الثالثة عشرة من عمره، حينما سمع من أحد رواد ديوانية عمه قصة «عنترة بن شداد»، حيث استهوته القصة فأبدى للراوي رغبته في اقتناء الكتاب الذي يتضمن القصة، فوجهه الأخير إلى كتاب آخر يناسب عمره بعنوان «القاضي والحرامي». وهكذا ظل الصبي يبحث عن ذلك الكتاب دون جدوى، بسبب عدم انتشار محلات بيع الكتب في الكويت آنذاك، إلى أن مرّ ببقالة أبيه ذات يوم بائع جوال عدني يدعى قاسم اليماني المعروف أيضاً باسم الدرويش، وكان الرجل قادماً من العراق في طريقه إلى البحرين لبيع وشراء الكتب، فطلب منه الرويح قصة «القاضي والحرامي»، فوعده بإحضارها له من البحرين في طريق عودته إلى العراق.
حصل صاحبنا على القصة المطلوبة، بعد أن دفع مقابلها مبلغ ثماني آنات (نصف روبية)، وقرأها بنهم، ثم راح يقرأها على الجيران والمعارف، وكان من بينهم أحد أولاد المقتدرين مادياً، الذي عرض عليه شراء القصة منه. كتبت فتحية حسين الحداد في جريدة القبس (25/8/2021) عن هذه الواقعة، التي شكلت أولى المنعطفات الهامة في حياة الرويح، ما مفاده أن صاحبنا استثمر الخبرة التي اكتسبها من عمله في بقالة والده فباع الكتاب على صديقة بروبية، محققاً بذلك ربحاً مقداره نصف روبية، فكانت تلك خطوته الأولى التي راح يكررها، وبدايته نحو عالم تجارة الكتب التي قادته إلى الاستقلال عن والده وبدء مشروعه الخاص تدريجياً.
في حواره المتلفز آنف الذكر مع الشملان، أخبرنا الرويح عما حدث بعد ذلك، وملخصه أن نسيبه عبدالله الحنيان مؤذن مسجد العنجري والموظف في المعتمدية البريطانية، أخبره بوجود مكتبة في بومباي اسمها «مكتبة سرورتي»، تستطيع تزويده بكتب عربية بأسعار منخفضة، الأمر الذي شجعه على مخاطبة المكتبة الهندية عبر رسالة كتبها على عجل بلغة ركيكة، وقال فيها «أبغي أشتري كتب من عندكم»، فوصلته أول دفعة كتب بالبريد مقابل 40 روبية.
حاول أن يبيع الكتب من خلال بقالة والده، فانزعج الأخير من تردد الطلبة وهواة القراءة على ولده ونقاشاتهم وصخبهم، وهو ما جعل الأب يخير الابن بين أمرين: الاستمرار في العمل معه دون بيع الكتب أو بيع الكتب في محل مستقل، قائلاً له «يا وليدي رمانتين باليد ما تصير».
اختار الرويح الأمر الثاني، وقام بعرض كتبه بادئ الأمر على الأرض في مدخل السوق الداخلي جهة المسجد الكبير، وفي الوقت نفسه عرض الكتب على المربي الشيخ عبدالوهاب العصفور وطلبة مدرسته، فساعده العصفور في البيع، بل زوده أيضاً بقائمة للكتب الرائجة، التي طلبها الرويح فوراً من الهند بمبلغ 400 روبية لم يكن يملكها حينذاك، وهو ما جعله يقترض المبلغ من صديق والده التاجر محمد بن حيدر، الذي لم يكتفِ بمساعدته وإنما استأجر له أيضاً محلاً في مدخل السوق القديم بروبيتين (150 فلساً)، ليكون مقراً لمكتبته الأولى، ثم استأجر له محلاً آخر في قيصرية العوضي بأربع روبيات شهرياً.
بعد مدة اكتشف الأب أنه أخطأ في حق ابنه، وأنه في حاجة ماسة له، فبعث من يطيب خاطره ويطلب منه نقل مكتبته إلى مكان مجاور لبقالته في السوق الداخلي كي يستعين به عند الحاجة.
تأسيس «مكتبة المثنى»
في مقره الجديد تعرف على جاره محمد السريّع، الذي كان دائم السفر إلى بغداد، فعرف منه أن بغداد غنية بالكتب والمكتبات، وأن بإمكانه مرافقة السريع إلى هناك في سفراته القادمة. وبهذا قرر الرويح أن يتوقف عن طلب الكتب من الهند بدءاً من عام 1929، كما توقف عن طلب الكتب من المكتبة الكمالية في المنامة التي تعرف عليها من خلال قاسم اليماني وتعامل معها لبعض الوقت، وراح بدلاً من ذلك يطلب حاجته من «المكتبة العربية» في بغداد لصاحبها الحاج نعمان الأعظمي، الذي ارتبط بصداقة وثيقة معه، وكان يشجعه في كل مرة على مضاعفة طلباته من الكتب، مؤكداً له عدم مطالبته بقيمتها إلا بعد بيعها، بل اقترح عليه الأعظمي أن يزوده بكل ما يريد بريدياً كي يعفيه من عناء السفر.
ومن خلال مكتبة الحاج الأعظمي تعرف الرويح على موظف المكتبة الشاب العصامي «قاسم بن رجب»، الذي ترك العمل لاحقاً لدى الأعظمي، وأسس لنفسه «مكتبة المثنى»، وصار يسافر في رحلات مكثفة إلى أمريكا ليبيعها كتباً صادرة في أوروبا، ويعود بكتب صادرة في أمريكا ليبيعها في أوروبا. وقد جمعت الرجلين علاقة عمل وثيقة آيتها قيام الرويح بإقراض بن رجب مبالغ من المال على أن يسددها خلال سنة أو تكون مقابل كتب لمكتبته في الكويت.
لم يكتفِ الرويح بالسفر إلى بغداد، بل سافر أيضاً إلى البصرة مع عبدالله الغيث في سفن جلب المياه، حيث نزل الفاو، ومنها استقل السيارة إلى البصرة، وفي البصرة التقط لأول مرة في حياته صورة فوتوغرافية سنة 1931، كي يبعثها للنشر في مجلة «اللطائف المصرية» بناء على طلبها، وقد نشرتها المجلة في أحد أعدادها سنة 1933، مع تعريف به كصاحب مكتبة وموزع للمجلة في الكويت. وفي بغداد لم يكتفِ بالتعامل مع الأعظمي وبن رجب، وإنما تعامل أيضاً مع «مكتبة السيمر»، التي عرفها مصادفة من خلال «محمود الحافظ»، وهو من أبناء بندر لنجة النجباء وطلبة العلم الأذكياء، حيث تعرف عليه الرويح حينما كان ماراً بالكويت في طريقه إلى العراق والبحرين، وسأله عما معه من الكتب، فعرف أن بينها كتاب «جواهر الأدب» للهاشمي، وكتاب «الرحمة في الطب والحكمة» للسيوطي، وأن مصدرهما «مكتبة السيمر» العراقية، فقرر الذهاب إليها للتعامل معها. ومن الدول الأخرى التي زارها لاحقاً من أجل تجارة الكتب مصر والهند.
آثار مكتبة الرويح
وفي السجلات التي تركها الرويح خلفه، بعد وفاته رحمه الله في العاشر من مارس 1996، ما يؤكد على كل هذا. فمثلاً شخصية مثل عبدالوهاب الجسار (مدير جمارك الكويت من 1938 إلى 1953)، الذي تعلم الإنجليزية في كراتشي زمن الهند البريطانية وتولع بقراءة الروايات، كان يأخذ من مكتبة الرويح كل أسبوع نحو 15 رواية، بصفة الاستئجار، يقرأها ثم يعيدها ليستبدلها بأخرى. وبموجب تلك السجلات نجد أن مشاهير الأدباء والشعراء والمربين والقضاة ورجال الدولة في الكويت مثل (الشيخ أحمد عطية الأثري وعبدالله خلف الدحيان وعبدالعزيز حمادة وشيخان الفارسي وعبدالرحمن سالم العتيقي والفنان سعود الراشد وعبدالعزيز الراشد ويعقوب الغنيم ومحمد الغانم وأحمد البشر الرومي وفهد العسكر وصقر الشبيب وفهد بورسلي)، علاوة على شيوخها وحكامها مثل الشيوخ (عبدالله السالم وصباح السالم وفهد السالم وجابر الأحمد وصباح الأحمد وجابر العلي)، كانوا ضمن المترددين على المكتبة للتزود بالكتب والمجلات المصرية واللبنانية. بل إن الشيخ جابر الأحمد ــ طبقاً لما ذكره حفيد الرويح «عبدالحميد فهد محمد أحمد الرويح» في جريدة الرأي (28/6/2008) ــ أمر الديوان الأميري بدفع إيجار المكتبة بعد وفاة صاحبها، وحرص سموه أن تظل في مكانها مفتوحة باعتبارها ملكاً لكل الكويتيين وليس لعائلة الرويح فقط، وتبعه في ذلك الشيخ صباح الأحمد.
وأخيراً كتب الاعلامي الكويتي ممدوح محسن العنزي، في كتابه «منارات كويتية» (ط.1، 2011، ص 241) ما مفاده، أن الرويح تزوج بست نساء أنجب منهن 15 ذكراً و14 من الإناث، وأنه رغم عشقه المبكر للقراءة وارتباطه الطويل بالكتب إلا أنه لم يؤلف كتاباً واحداً لكنه كان يحفظ الآلاف من أبيات الشعر ولديه ملكة تذكر الأحداث والأماكن والتواريخ، ما سهل له إدارة محتويات مكتبته بيعاً وشراءً وإعارة وتنظيماً دون الاعتماد على الآخر.
أدار «المثنى» بنفسه
أخذت المكتبة تتطور وصارت من معالم الكويت، خصوصاً بعد دخولها مجال بيع القرطاسيات والأدوات المكتبية، التي جعلتها مركز جذب للطلبة والمدرسين وهواة الكتابة والخط والرسم، ودخولها مجال بيع المجلات والصحف المصرية المشهورة، بدءاً بـ«اللطائف المصرية» وانتهاء بـ«المصور» و«آخر ساعة» و«الكواكب» و«روز اليوسف» و«حواء» و«الهلال» و«الفن» و«الأهرام» و«الجمهورية» وغيرها من تلك التي راحت تصلها بانتظام بالبريد، قبل أن تتولى عملية التوصيل «شركة فرج الله للنقل البري» عبر لبنان والعراق. كما أنها تحولت إلى مقصد لكل القراء من الكويتيين والوافدين العرب، خصوصاً بعد أن أتاحت لهم استئجار الكتب لقراءتها وإعادتها خلال مدة معينة.
وطوال الفترة منذ تأسيس المكتبة وحتى خمسينات القرن العشرين أدارها صاحبها بنفسه، ثم استعان بخدمات ولده فهد حينما لمس منه حب المطالعة والاهتمام بالكتاب، ليستمرا معاً في العمل حتى العام 1985، الذي ترك فيه الأب المسؤولية للابن بسبب تقدمه في السن، فأكمل الابن فهد المسيرة، بل حرص الأخير مع أبنائه على المحافظة على كامل مقتنيات المكتبة أثناء الغزو العراقي عام 1990 بنقلها إلى سرداب منزله.