قالوا، إن المرآة هي أعظم اختراع بشري كونها أتاحت للإنسان لأول مرة أن يرى ملامح نفسه ويتعرف على هيئته وشكله دون الاعتماد على وصف الآخرين له. وقياساً على ذلك، يمكن القول إن اختراع آلة التصوير الفوتوغرافي لا يقل أهمية وعظمة. ألم يقولوا إن الصورة تغني عن ألف مقال؟ ألم يعكس الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه مقولة إن «في البدء الكلمة» لتصبح «في البدء الصورة»؟ ثم أليست كاميرا التصوير هي الأداة التي تجسد الأحداث وتجمدها في لحظة زمنية معينة بكل أبطالها وظروفها وتفاصيلها من خلال لقطة سيفنى أصحابها وستنمحي مواقعها وستتبدل ظروفها، لكنها ستبقى وسيتم تداولها وتوارثها كشاهدة على الزمان والمكان والشخوص؟
بسبب أهمية الصورة من حيث إنها تحكي وتسجل وتوثق إرهاصات حركة التاريخ وتحولاتها الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية، اهتم الغرب مبكراً بالتصوير الفوتوغرافي، وعمل على تطوير تقنياته ووسائطه بين فترة وأخرى.
عربياً، انتشر التصوير كهواية وحرفة، فظهرت استوديوهاته ومعامله ومعاهده المتخصصة جنباً إلى جنب مع أدواته ووسائطه في مصر ولبنان والعراق وبلاد الشام، لكنها لم تظهر في دول الخليج العربية إلا في فترة لاحقة لأسباب اجتماعية ودينية. فعلى حين تبنت دار الفتوى المصرية مثلاً مقولة إن «التصوير والرسم من الفنون الجميلة التي لها أثرٌ طيبٌ في راحة النفوس والترويح عنها» كانت دول أخرى تتبنى فكرة التحريم المطلق للصورة والتصوير إلى حد مقاومة الصور في الصحافة ووثائق السفر ورخص القيادة وبطاقات الهوية.
كتب أسامة يماني في صحيفة «عكاظ» (8/1/2021) نقلاً عن الدكتور عبدالله الخطيب قوله: «إننا بحاجة كبيرة في مجتمعاتنا العربية وفي مجتمعنا السعودي على وجه الخصوص إلى تفعيل نظرية تلقي الصورة لأن هناك أميّة في فهم وقراءة الصورة تشبه أميّة القراءة والكتابة. ومن الواجب علينا تشييد حصانة متينة عند الأجيال ضد مخاتلات وتضليل الصورة باعتبارها سلطة، وتفعيل التلقي الواعي الذي يأخذنا إلى القراءة الصحيحة والإيجابية».
وأنهى يماني كلامه بالترحم على عيسى عنقاوي «الذي عاش عمره مخلصاً لثقافة الصورة، ولنحت هوية فلسفية فوتوغرافية عربية خاصة بنا، ولاستحداث تيار فوتوغرافي أو تيارات فوتوغرافية تتكئ على أسس أصيلة تَحْمل مَلامحنا».
فمن هو عيسى عنقاوي هذا؟ وما سر الإشادة به؟ للإجابة عن السؤالين ارتأينا أن نخصص للعنقاوي هذه الصفحات كونه أحد عمالقة وشيوخ المصورين في المملكة العربية السعودية بصفة عامة وفي إقليمها الغربي (الحجاز) بصفة خاصة، بل الرجل الذي أخذ على عاتقه قيادة الحركة الفوتوغرافية في بلاده وتنظيمها وتأطيرها بإطار مؤسساتي وتمثيلها في المحافل الدولية والتنافس على جوائزها العالمية.
وقبل أن نخوض في سيرة ومسيرة عنقاوي لا بد أن نشير إلى شيء من تاريخ التصوير الفوتوغرافي في بلاده. فلئن كانت شركات النفط في السعودية وغيرها من أقطار الخليج المجاورة هي أول من استوردت الكاميرات وموادها وأقامت غرف التحميض والتقطت الصور النادرة لحقبة ما قبل النهضة والتنمية، فإن المصادر التاريخية تؤكد أن أول مصور عربي قام بالتصوير في الحجاز هو العقيد المصري محمد صادق بك، الذي التقط أولى الصور الفوتوغرافية للمسجد النبوي بالمدينة المنورة عام 1880، بواسطة آلة تصوير أتى بها بعد حوالى 20 عاماً من اختراع التصوير الفوتوغرافي في أوروبا، وكانت آلة تصوير تعمل بطريقة الألواح المبتلة، وأن أول مصور أوروبي قام بالعمل ذاته في الحجاز هو عالم الدراسات الإسلامية، الهولندي د. كريستيان هورغرونيه، وذلك عام 1884، وأن أولى المناطق السعودية التي جذبت انتباه المصورين كانت مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة ثم الجوف وساحل الخليج العربي ثم الرياض وما جاورها، ثم الأجزاء الجنوبية من المملكة مثل تهامة وهضاب عسير والربع الخالي.
ولد الشريف عيسى بن صالح عنقاوي بمكة المكرمة في حدود عام 1947 لأسرة من أشراف الحجاز العنقاويين. كتب «الشريف أحمد ضياء بن محمد قللي العنقاوي» في موقع أشراف الحجاز نبذة عن العنقاوية فقال إنهم ينتسبون إلى جدهم الشريف عنقا النموي الحسني بن وبير بن عاطف بن أبي دعيج ابن أمير مكة محمد أبو نمي الأول ابن أمير مكة وينبع أبي سعد بن علي بن قتادة الحسني. وأضاف أن الأشراف العنقاوية في العهد الحاضر يتفرعون إلى ثلاثة فروع ويتركزون في ثلاث مدن رئيسية من بينها مكة المكرمة، حيث يعرفون فيها بالسادة آل عنقاوي «وهم عقب الشريف محمد بن عثمان بن حسين بن منصور بن حسين بن منصور بن جارالله بن محمد بن عنقا». وعليه فإن شيخ مصوري السعودية وعميدهم عيسى عنقاوي ينحدر من هذا البيت الرفيع.
نشأ عيسى عنقاوي في حي «سوق الليل» بمكة المكرمة، وفيها التحق بالمدرسة الرحمانية، حيث أنهى مرحلتي الدراسة الابتدائية والإعدادية، وحيث زامل كبير الفنانين التشكيليين السعوديين المرحوم الدكتور عبدالحليم رضوي. وخلال دراسته في الرحمانية استهوته مادة الرسم كثيراً فراح يرسم رسومات من وحي خياله، وليس من وحي الواقع كالآخرين، مثل تخيل الفيلا التي يحلم بأن يسكنها وتخيل السيارة التي يرغب في امتلاكها يوماً ما، وهكذا. ومما لا شك فيه أن ذلك المنحنى كان بمثابة الإرهاصات المبكرة الأولى لولادة شغفه بعوالم الرسم والتصوير، وهما عالمان شقيقان من صلب واحد ولا يختلفان إلا من ناحية الوسائل والأدوات.
في مقابلة متلفزة أجريت عام 2016 معه ومع عقيلته السيدة وداد الصبان التي احترفت التصوير الفوتوغرافي مثله، بل امتد تأثير شغفهما بعالم الفوتوغرافيا إلى أبنائهما، حدثنا عنقاوي عن بدايات دخوله هذا الميدان في بيئة كانت تحرمه من منطلقات دينية فقال إن العائلات المكية ومنها عائلته كانت تشتري لأطفالها بمناسبة العيد أطقم ملابس عسكرية مزينة بالنياشين كانت منتشرة آنذاك في الأسواق وتشبه ما كان يرتديه الملك فاروق ملك مصر، وأضاف أنه سعد كثيراً وهو في سن السادسة بالحصول على واحد من تلك الأطقم، وألح على شقيقته الأكبر سناً أن تأخذه إلى من يصوره بملابسه العسكرية كي يتباهى بالصورة أمام أقرانه الصغار.
في تلك الأيام، كانت سيدة إندونيسية تسكن بجوار منزل عمه هي الوحيدة بمكة المتخـصصة في التقاط الصور لمن يريد بواسطة كاميرتها الخاصة. كانت تلك هي المرة الأولى في حياته التي يرى فيها آلة التصوير ويحصل على صورة شخصية له. لكن فرحة الصبي بالحدث سرعان ما تحولت إلى حزن وبكاء. ففي طريق عودته إلى المنزل مع شقيقته صادفهما والدهما الذي انزعج من فكرة خروجهما للتصوير وإتيانهما فعلاً مخالفاً للدين بالمفهوم السائد وقتذاك، فكان أن عوقب بالضرب والحبس.
ويبدو أن والده شعر لاحقاً بتأنيب الضمير لمعاقبته ابنه الصغير، فانتظر حتى كبر واكتمل وعيه، فأهداه بمناسبة تخرجه بنجاح من المرحلة الإعدادية سنة 1959 آلة تصوير من نوع «ياشيكا» الياباني. يقول عنقاوي إن فرحته بكاميرته الخاصة كانت غامرة، خصوصاً أنها جاءت هدية من والده الذي سبق أن عاقبه بسبب التصوير. ومن دلائل فرحه وسعادته بهدية والده أنه تأبط كاميرته وانطلق لتجربتها، فاقتحم بها حفلاً في مكة المكرمة بمناسبة زيارة العاهل المغربي الأسبق الملك محمد الخامس، واستطاع أن يبدأ أولى تجاربه بتصوير الملوك، ما أشعره بالفخروالزهو وولد لديه الحماس لتكرار التجربة كلما أتيحت له فرصة. ولأن مثل هذه الفرصة تأخر، راح يصور أصدقاءه في المدرسة ممن صاروا لاحقاً من علية القوم ورجالات الدولة، ويهديها لهم كسباً لصداقتهم واتقاء لتنمرهم، وهو لا يدري أنه سيتجاوزهم شهرة وسيكون يوماً ما سفيراً فوتوغرافياً لبلده في المحافل العالمية.
وهكذا سيطر عشق التصوير على كامل حواسه ومشاعره وتجذر بداخله، فلم يكن يفارق الكاميرا، ولم يكن يدع أي فرصة تمر دون أن يتعلم المزيد من تقنيات وفنون التصوير، لكن الهيام بالتصوير لم يُنسهِ واجباته وهواياته الكثيرة الأخرى. فبالتزامن واصل الانخراط في العمل الكشفي الذي بدأه صغيراً واستمر معه حتى أواخر عمره. كما استمر يعمل لسنوات طويلة في الطوافة من باب مساعدة الحجيج ــ ولاسيما كبار السن منهم ــ على أداء مناسك الحج بسهولة ويسر على نحو ما عرف عن الأشراف العنقاويين. وقد تحدث عن هذا الجانب الإنساني في سيرته زميله في الطوافة «عبدالله محمد أبكر» الذي كتب في موقع قبلة الدنيا الإلكتروني (بتصرف): «أتذكر أيام الطوافة بمكة المكرمة ﻷكثر من ثلاثين سنة يوم كنا نجول مشياً على الأقدام في سهلها وجبالها ومنحدراتها وأزقتها وأسواقها وبيوتها إلى أن نلتقى المطوف السيد عيسى عنقاوي ضمن مكاتب حجاج الدول العربية والمكاتب الفرعية الواقعة بين قصري الوزيرين محمد سرور الصبان وعبدالله السليمان الحمدان. كان عيسى عنقاوي حاضراً في هذه المنظومة المشرّفة بمكة المكرمة لخدمة حجيجها، وكان يبدو فيها كما عهدته، بنصاعة سيرته وحسن إدارته وطلعة مهنته، ونيّاتٍ سمتِها كما رسمها وطلبها الآباء الأولون بالعمل الطيب بجوار بيت الله العتيق. كما أتذكر إلى اليوم آثار نبله وشفقته ورحمته حينما رآني ذات ليلة بصحبة إنسان شبه مقعد لا يستطيع المشي.. فأسرّ في أذني: لنشتري له عربة طبية، وبعد لحظات إذا به يشير إليّ ويقول (العربة في السيارة.. خذها له هدية. قل له من فاعل خير)».
ومن ناحية أخرى لم يهمل عنقاوي الدراسة، بدليل أنه درس حتى حصل على دبلوم المركز العالمي للترجمة الذاتية بمدينة كامبردج البريطانية. هذا، بالإضافة إلى تلقيه نحو 40 دورة تدريبية في المجالات التخصصية المختلفة منها 15 دورة خارجية في مجال فن التصوير الفوتوغرافي، وفن التصوير التجاري للمحترفين، وفنون الإضاءة والتصوير الرقمي.
ومع توالي الأيام والسنين وتواصل شغفه بعالم التصوير الضوئي، صار خبيراً بآلاته وأدواته وقادراً على ملاحقة الأجود والأكثر تطوراً منها والتمييز بينها، وراح يشتري آلات التصوير المتنوعة ويحتفظ بها ويدرس أسرارها حتى تجمع لديه أكثر من 200 كاميرا، أغلاها اشتراها بمبلغ 36 ألف ريال. ثم راح يدور بعدسته في أرجاء السعودية، ملتقطاً آلاف اللقطات الجميلة لحياة الناس وجماليات التراث الحجازي الأصيل، ومطارداً الضوء وجماليات الألوان وأسرار البورتريه.
بيت الفوتوغرافيين
في حدود عام 1985 اتخذ قراراً بنشر مخزونه من الصور الفوتوغرافية التي التقطتها عدسته من خلال معرض في جدة، متحدياً بذلك فتاوى التحريم. ولم ينسَ أن يدعو زملاءه من الفوتوغرافيين السعوديين للمشاركة في معرضه فاستجاب 22 مصوراً وثلاث مصورات سعوديات للمشاركة. لقد كان الراحل شديد الحرص على مساعدة هواة التصوير من الشباب والناشئة من مواطنيه ومواطناته ودعمهم ونقل تجربته الشخصية إليهم أملاً في خلق جيل جديد يحمل على عاتقه مسؤولية توثيق الذاكرة الضوئية للوطن. ونجد تجليات جهوده الفردية واضحة في «بيت الفوتوغرافيين» الذي أسس نواته بجدة في عام 1985 بعد أن انتزع رخصته من جمعية الثقافة والفنون بمساعدة زميل دراسته ورئيس الجمعية آنذاك د. عبدالحليم رضوي، قبل أن يمنحه في عام 1990 أمين مدينة جدة الأسبق المهندس محمد سعيد فارسي داراً في حارة المظلوم بوسط جدة التاريخية لتكون مقراً أنيقاً يليق بالمصورين وفنونهم الإبداعية، حيث انضم فارسي شخصياً إلى قائمة شرف البيت إلى جانب شخصيات جداوية ذات وزن مثل عبدالمقصود خوجة وعبدالرؤف خليل وخالد عبدالغني وعبدالله مناع. بعد ذلك سعى عنقاوي إلى ضم البيت إلى عضوية الاتحاد الدولي للفن الفوتوغرافي، فتحقق ما أراد سنة 1995، ثم فتح أبواب «بيت الفوتوغرافيين» لإقامة المعارض الفوتوغرافية الشخصية والجماعية.
مثّل عنقاوي وطنه في أكثر من 50 معرضاً جماعياً ومؤتمراً وندوة ولقاء ذات صلة بفن التصوير في داخل السعودية وخارجها، ومنها فعاليات أقيمت في كل من الولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية وفرنسا وبريطانيا وفنلندا والسويد وسويسرا. إلى ذلك أقام أربعة معارض شخصية خاصة بفنه في مكة المكرمة وجدة والقاهرة ودمشق. كما حصل على العديد من الجوائز في عدد من المسابقات المحلية والدولية، ناهيك عن حصوله على وسام وميدالية الاستحقاق من الدرجة الأولى من الرئيس المؤسس لرابطة الأخوة والتعاون والصداقة المغربية التونسية.
«كورونا» يخطف عنقاوي في ديسمبر 2020
كما تم تكريمه من قبل الأمير فيصل بن فهد بن عبدالعزيز الرئيس العام الأسبق لرعاية الشباب والرياضة بمناسبة حصوله على مركز متقدم في «مسابقة شينزهين» للتصوير التي أقامها الاتحاد الدولي لفن التصوير في الصين، وتم تكريمه أيضاً ضمن عدد من رواد فن التصوير السعوديين من قبل «جمعية الثقافة والفنون» بجدة، ومن قبل المنتدى الثقافي للشيخ محمد صالح باشراحيل وذلك تقديراً لفنه الفوتوغرافي ولجهوده التطوعية في رسم البسمة على الشفاه ومسح دموع الأيتام وأحزانهم، ومن قبل فرع وزارة الخارجية بمكة المكرمة اعترافاً بإسهاماته على مدى نصف قرن في توثيق الحقب الزمنية المختلفة من تاريخ التنمية والتطور في السعودية فوتوغرافياً.
وفي عام 2012 قام الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث مع وزير الثقافة والفنون آنذاك الدكتور عبدالعزيز خوجة بمنح عنقاوي في احتفال أقيم بالرياض«مجسم الكاميرا الذهبية» ولقب رائد في التصوير على مستوى السعودية.
ومما يجدر بنا ذكره أيضاً أن الألقاب والعضويات ظلت تطارده طوال مسيرته، فقد حصل على عضوية الجمعية الأمريكية للتصوير الفوتوغرافي، وعضوية جمعية نيويورك للتصوير الفوتوغرافي، ولقب منسق الاتحاد الدولي لفن التصوير الفوتوغرافي في السعودية، ولقب صاحب العمل المميز «ESFIAP» من قبل الاتحاد الدولي لفن التصوير الفوتوغرافي «FIAP» عام 1998.
في يوم 26 ديسمبر 2020 ودع عنقاوي الدنيا بمدينة جدة متأثراً بمضاعفات فايروس كورونا المستجد، فغاب عن المشهد الفني السعودي والعربي إنسان كان رائعاً بتواضعه وحسن تعامله وطيب معشره، وحرصه على إشاعة الخير والمحبة والفرح من خلال أعماله الفوتوغرافية المتميزة ونشاطه الخيري التطوعي، وكفاحه من أجل أن يكون للفنون عامة ولفن التصوير خاصة كيانات مؤسسية، وأن يجعلها جزءاً من المجتمع المدني السعودي.
بسبب أهمية الصورة من حيث إنها تحكي وتسجل وتوثق إرهاصات حركة التاريخ وتحولاتها الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية، اهتم الغرب مبكراً بالتصوير الفوتوغرافي، وعمل على تطوير تقنياته ووسائطه بين فترة وأخرى.
عربياً، انتشر التصوير كهواية وحرفة، فظهرت استوديوهاته ومعامله ومعاهده المتخصصة جنباً إلى جنب مع أدواته ووسائطه في مصر ولبنان والعراق وبلاد الشام، لكنها لم تظهر في دول الخليج العربية إلا في فترة لاحقة لأسباب اجتماعية ودينية. فعلى حين تبنت دار الفتوى المصرية مثلاً مقولة إن «التصوير والرسم من الفنون الجميلة التي لها أثرٌ طيبٌ في راحة النفوس والترويح عنها» كانت دول أخرى تتبنى فكرة التحريم المطلق للصورة والتصوير إلى حد مقاومة الصور في الصحافة ووثائق السفر ورخص القيادة وبطاقات الهوية.
كتب أسامة يماني في صحيفة «عكاظ» (8/1/2021) نقلاً عن الدكتور عبدالله الخطيب قوله: «إننا بحاجة كبيرة في مجتمعاتنا العربية وفي مجتمعنا السعودي على وجه الخصوص إلى تفعيل نظرية تلقي الصورة لأن هناك أميّة في فهم وقراءة الصورة تشبه أميّة القراءة والكتابة. ومن الواجب علينا تشييد حصانة متينة عند الأجيال ضد مخاتلات وتضليل الصورة باعتبارها سلطة، وتفعيل التلقي الواعي الذي يأخذنا إلى القراءة الصحيحة والإيجابية».
وأنهى يماني كلامه بالترحم على عيسى عنقاوي «الذي عاش عمره مخلصاً لثقافة الصورة، ولنحت هوية فلسفية فوتوغرافية عربية خاصة بنا، ولاستحداث تيار فوتوغرافي أو تيارات فوتوغرافية تتكئ على أسس أصيلة تَحْمل مَلامحنا».
فمن هو عيسى عنقاوي هذا؟ وما سر الإشادة به؟ للإجابة عن السؤالين ارتأينا أن نخصص للعنقاوي هذه الصفحات كونه أحد عمالقة وشيوخ المصورين في المملكة العربية السعودية بصفة عامة وفي إقليمها الغربي (الحجاز) بصفة خاصة، بل الرجل الذي أخذ على عاتقه قيادة الحركة الفوتوغرافية في بلاده وتنظيمها وتأطيرها بإطار مؤسساتي وتمثيلها في المحافل الدولية والتنافس على جوائزها العالمية.
وقبل أن نخوض في سيرة ومسيرة عنقاوي لا بد أن نشير إلى شيء من تاريخ التصوير الفوتوغرافي في بلاده. فلئن كانت شركات النفط في السعودية وغيرها من أقطار الخليج المجاورة هي أول من استوردت الكاميرات وموادها وأقامت غرف التحميض والتقطت الصور النادرة لحقبة ما قبل النهضة والتنمية، فإن المصادر التاريخية تؤكد أن أول مصور عربي قام بالتصوير في الحجاز هو العقيد المصري محمد صادق بك، الذي التقط أولى الصور الفوتوغرافية للمسجد النبوي بالمدينة المنورة عام 1880، بواسطة آلة تصوير أتى بها بعد حوالى 20 عاماً من اختراع التصوير الفوتوغرافي في أوروبا، وكانت آلة تصوير تعمل بطريقة الألواح المبتلة، وأن أول مصور أوروبي قام بالعمل ذاته في الحجاز هو عالم الدراسات الإسلامية، الهولندي د. كريستيان هورغرونيه، وذلك عام 1884، وأن أولى المناطق السعودية التي جذبت انتباه المصورين كانت مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة ثم الجوف وساحل الخليج العربي ثم الرياض وما جاورها، ثم الأجزاء الجنوبية من المملكة مثل تهامة وهضاب عسير والربع الخالي.
ولد الشريف عيسى بن صالح عنقاوي بمكة المكرمة في حدود عام 1947 لأسرة من أشراف الحجاز العنقاويين. كتب «الشريف أحمد ضياء بن محمد قللي العنقاوي» في موقع أشراف الحجاز نبذة عن العنقاوية فقال إنهم ينتسبون إلى جدهم الشريف عنقا النموي الحسني بن وبير بن عاطف بن أبي دعيج ابن أمير مكة محمد أبو نمي الأول ابن أمير مكة وينبع أبي سعد بن علي بن قتادة الحسني. وأضاف أن الأشراف العنقاوية في العهد الحاضر يتفرعون إلى ثلاثة فروع ويتركزون في ثلاث مدن رئيسية من بينها مكة المكرمة، حيث يعرفون فيها بالسادة آل عنقاوي «وهم عقب الشريف محمد بن عثمان بن حسين بن منصور بن حسين بن منصور بن جارالله بن محمد بن عنقا». وعليه فإن شيخ مصوري السعودية وعميدهم عيسى عنقاوي ينحدر من هذا البيت الرفيع.
نشأ عيسى عنقاوي في حي «سوق الليل» بمكة المكرمة، وفيها التحق بالمدرسة الرحمانية، حيث أنهى مرحلتي الدراسة الابتدائية والإعدادية، وحيث زامل كبير الفنانين التشكيليين السعوديين المرحوم الدكتور عبدالحليم رضوي. وخلال دراسته في الرحمانية استهوته مادة الرسم كثيراً فراح يرسم رسومات من وحي خياله، وليس من وحي الواقع كالآخرين، مثل تخيل الفيلا التي يحلم بأن يسكنها وتخيل السيارة التي يرغب في امتلاكها يوماً ما، وهكذا. ومما لا شك فيه أن ذلك المنحنى كان بمثابة الإرهاصات المبكرة الأولى لولادة شغفه بعوالم الرسم والتصوير، وهما عالمان شقيقان من صلب واحد ولا يختلفان إلا من ناحية الوسائل والأدوات.
في مقابلة متلفزة أجريت عام 2016 معه ومع عقيلته السيدة وداد الصبان التي احترفت التصوير الفوتوغرافي مثله، بل امتد تأثير شغفهما بعالم الفوتوغرافيا إلى أبنائهما، حدثنا عنقاوي عن بدايات دخوله هذا الميدان في بيئة كانت تحرمه من منطلقات دينية فقال إن العائلات المكية ومنها عائلته كانت تشتري لأطفالها بمناسبة العيد أطقم ملابس عسكرية مزينة بالنياشين كانت منتشرة آنذاك في الأسواق وتشبه ما كان يرتديه الملك فاروق ملك مصر، وأضاف أنه سعد كثيراً وهو في سن السادسة بالحصول على واحد من تلك الأطقم، وألح على شقيقته الأكبر سناً أن تأخذه إلى من يصوره بملابسه العسكرية كي يتباهى بالصورة أمام أقرانه الصغار.
في تلك الأيام، كانت سيدة إندونيسية تسكن بجوار منزل عمه هي الوحيدة بمكة المتخـصصة في التقاط الصور لمن يريد بواسطة كاميرتها الخاصة. كانت تلك هي المرة الأولى في حياته التي يرى فيها آلة التصوير ويحصل على صورة شخصية له. لكن فرحة الصبي بالحدث سرعان ما تحولت إلى حزن وبكاء. ففي طريق عودته إلى المنزل مع شقيقته صادفهما والدهما الذي انزعج من فكرة خروجهما للتصوير وإتيانهما فعلاً مخالفاً للدين بالمفهوم السائد وقتذاك، فكان أن عوقب بالضرب والحبس.
ويبدو أن والده شعر لاحقاً بتأنيب الضمير لمعاقبته ابنه الصغير، فانتظر حتى كبر واكتمل وعيه، فأهداه بمناسبة تخرجه بنجاح من المرحلة الإعدادية سنة 1959 آلة تصوير من نوع «ياشيكا» الياباني. يقول عنقاوي إن فرحته بكاميرته الخاصة كانت غامرة، خصوصاً أنها جاءت هدية من والده الذي سبق أن عاقبه بسبب التصوير. ومن دلائل فرحه وسعادته بهدية والده أنه تأبط كاميرته وانطلق لتجربتها، فاقتحم بها حفلاً في مكة المكرمة بمناسبة زيارة العاهل المغربي الأسبق الملك محمد الخامس، واستطاع أن يبدأ أولى تجاربه بتصوير الملوك، ما أشعره بالفخروالزهو وولد لديه الحماس لتكرار التجربة كلما أتيحت له فرصة. ولأن مثل هذه الفرصة تأخر، راح يصور أصدقاءه في المدرسة ممن صاروا لاحقاً من علية القوم ورجالات الدولة، ويهديها لهم كسباً لصداقتهم واتقاء لتنمرهم، وهو لا يدري أنه سيتجاوزهم شهرة وسيكون يوماً ما سفيراً فوتوغرافياً لبلده في المحافل العالمية.
وهكذا سيطر عشق التصوير على كامل حواسه ومشاعره وتجذر بداخله، فلم يكن يفارق الكاميرا، ولم يكن يدع أي فرصة تمر دون أن يتعلم المزيد من تقنيات وفنون التصوير، لكن الهيام بالتصوير لم يُنسهِ واجباته وهواياته الكثيرة الأخرى. فبالتزامن واصل الانخراط في العمل الكشفي الذي بدأه صغيراً واستمر معه حتى أواخر عمره. كما استمر يعمل لسنوات طويلة في الطوافة من باب مساعدة الحجيج ــ ولاسيما كبار السن منهم ــ على أداء مناسك الحج بسهولة ويسر على نحو ما عرف عن الأشراف العنقاويين. وقد تحدث عن هذا الجانب الإنساني في سيرته زميله في الطوافة «عبدالله محمد أبكر» الذي كتب في موقع قبلة الدنيا الإلكتروني (بتصرف): «أتذكر أيام الطوافة بمكة المكرمة ﻷكثر من ثلاثين سنة يوم كنا نجول مشياً على الأقدام في سهلها وجبالها ومنحدراتها وأزقتها وأسواقها وبيوتها إلى أن نلتقى المطوف السيد عيسى عنقاوي ضمن مكاتب حجاج الدول العربية والمكاتب الفرعية الواقعة بين قصري الوزيرين محمد سرور الصبان وعبدالله السليمان الحمدان. كان عيسى عنقاوي حاضراً في هذه المنظومة المشرّفة بمكة المكرمة لخدمة حجيجها، وكان يبدو فيها كما عهدته، بنصاعة سيرته وحسن إدارته وطلعة مهنته، ونيّاتٍ سمتِها كما رسمها وطلبها الآباء الأولون بالعمل الطيب بجوار بيت الله العتيق. كما أتذكر إلى اليوم آثار نبله وشفقته ورحمته حينما رآني ذات ليلة بصحبة إنسان شبه مقعد لا يستطيع المشي.. فأسرّ في أذني: لنشتري له عربة طبية، وبعد لحظات إذا به يشير إليّ ويقول (العربة في السيارة.. خذها له هدية. قل له من فاعل خير)».
ومن ناحية أخرى لم يهمل عنقاوي الدراسة، بدليل أنه درس حتى حصل على دبلوم المركز العالمي للترجمة الذاتية بمدينة كامبردج البريطانية. هذا، بالإضافة إلى تلقيه نحو 40 دورة تدريبية في المجالات التخصصية المختلفة منها 15 دورة خارجية في مجال فن التصوير الفوتوغرافي، وفن التصوير التجاري للمحترفين، وفنون الإضاءة والتصوير الرقمي.
ومع توالي الأيام والسنين وتواصل شغفه بعالم التصوير الضوئي، صار خبيراً بآلاته وأدواته وقادراً على ملاحقة الأجود والأكثر تطوراً منها والتمييز بينها، وراح يشتري آلات التصوير المتنوعة ويحتفظ بها ويدرس أسرارها حتى تجمع لديه أكثر من 200 كاميرا، أغلاها اشتراها بمبلغ 36 ألف ريال. ثم راح يدور بعدسته في أرجاء السعودية، ملتقطاً آلاف اللقطات الجميلة لحياة الناس وجماليات التراث الحجازي الأصيل، ومطارداً الضوء وجماليات الألوان وأسرار البورتريه.
بيت الفوتوغرافيين
في حدود عام 1985 اتخذ قراراً بنشر مخزونه من الصور الفوتوغرافية التي التقطتها عدسته من خلال معرض في جدة، متحدياً بذلك فتاوى التحريم. ولم ينسَ أن يدعو زملاءه من الفوتوغرافيين السعوديين للمشاركة في معرضه فاستجاب 22 مصوراً وثلاث مصورات سعوديات للمشاركة. لقد كان الراحل شديد الحرص على مساعدة هواة التصوير من الشباب والناشئة من مواطنيه ومواطناته ودعمهم ونقل تجربته الشخصية إليهم أملاً في خلق جيل جديد يحمل على عاتقه مسؤولية توثيق الذاكرة الضوئية للوطن. ونجد تجليات جهوده الفردية واضحة في «بيت الفوتوغرافيين» الذي أسس نواته بجدة في عام 1985 بعد أن انتزع رخصته من جمعية الثقافة والفنون بمساعدة زميل دراسته ورئيس الجمعية آنذاك د. عبدالحليم رضوي، قبل أن يمنحه في عام 1990 أمين مدينة جدة الأسبق المهندس محمد سعيد فارسي داراً في حارة المظلوم بوسط جدة التاريخية لتكون مقراً أنيقاً يليق بالمصورين وفنونهم الإبداعية، حيث انضم فارسي شخصياً إلى قائمة شرف البيت إلى جانب شخصيات جداوية ذات وزن مثل عبدالمقصود خوجة وعبدالرؤف خليل وخالد عبدالغني وعبدالله مناع. بعد ذلك سعى عنقاوي إلى ضم البيت إلى عضوية الاتحاد الدولي للفن الفوتوغرافي، فتحقق ما أراد سنة 1995، ثم فتح أبواب «بيت الفوتوغرافيين» لإقامة المعارض الفوتوغرافية الشخصية والجماعية.
مثّل عنقاوي وطنه في أكثر من 50 معرضاً جماعياً ومؤتمراً وندوة ولقاء ذات صلة بفن التصوير في داخل السعودية وخارجها، ومنها فعاليات أقيمت في كل من الولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية وفرنسا وبريطانيا وفنلندا والسويد وسويسرا. إلى ذلك أقام أربعة معارض شخصية خاصة بفنه في مكة المكرمة وجدة والقاهرة ودمشق. كما حصل على العديد من الجوائز في عدد من المسابقات المحلية والدولية، ناهيك عن حصوله على وسام وميدالية الاستحقاق من الدرجة الأولى من الرئيس المؤسس لرابطة الأخوة والتعاون والصداقة المغربية التونسية.
«كورونا» يخطف عنقاوي في ديسمبر 2020
كما تم تكريمه من قبل الأمير فيصل بن فهد بن عبدالعزيز الرئيس العام الأسبق لرعاية الشباب والرياضة بمناسبة حصوله على مركز متقدم في «مسابقة شينزهين» للتصوير التي أقامها الاتحاد الدولي لفن التصوير في الصين، وتم تكريمه أيضاً ضمن عدد من رواد فن التصوير السعوديين من قبل «جمعية الثقافة والفنون» بجدة، ومن قبل المنتدى الثقافي للشيخ محمد صالح باشراحيل وذلك تقديراً لفنه الفوتوغرافي ولجهوده التطوعية في رسم البسمة على الشفاه ومسح دموع الأيتام وأحزانهم، ومن قبل فرع وزارة الخارجية بمكة المكرمة اعترافاً بإسهاماته على مدى نصف قرن في توثيق الحقب الزمنية المختلفة من تاريخ التنمية والتطور في السعودية فوتوغرافياً.
وفي عام 2012 قام الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث مع وزير الثقافة والفنون آنذاك الدكتور عبدالعزيز خوجة بمنح عنقاوي في احتفال أقيم بالرياض«مجسم الكاميرا الذهبية» ولقب رائد في التصوير على مستوى السعودية.
ومما يجدر بنا ذكره أيضاً أن الألقاب والعضويات ظلت تطارده طوال مسيرته، فقد حصل على عضوية الجمعية الأمريكية للتصوير الفوتوغرافي، وعضوية جمعية نيويورك للتصوير الفوتوغرافي، ولقب منسق الاتحاد الدولي لفن التصوير الفوتوغرافي في السعودية، ولقب صاحب العمل المميز «ESFIAP» من قبل الاتحاد الدولي لفن التصوير الفوتوغرافي «FIAP» عام 1998.
في يوم 26 ديسمبر 2020 ودع عنقاوي الدنيا بمدينة جدة متأثراً بمضاعفات فايروس كورونا المستجد، فغاب عن المشهد الفني السعودي والعربي إنسان كان رائعاً بتواضعه وحسن تعامله وطيب معشره، وحرصه على إشاعة الخير والمحبة والفرح من خلال أعماله الفوتوغرافية المتميزة ونشاطه الخيري التطوعي، وكفاحه من أجل أن يكون للفنون عامة ولفن التصوير خاصة كيانات مؤسسية، وأن يجعلها جزءاً من المجتمع المدني السعودي.