يعود تاريخ تأسيس الشرطة في البحرين إلى منتصف القرن الـ19، حينما كانت البلاد تحت الحماية البريطانية. ففي عام 1860 تولدت قناعة لدى المغفور له الحاكم آنذاك الشيخ عيسى بن علي (حكم من 1869 إلى 1932) بضرورة إنشاء حرس يتولى حمايته ويوفر الأمن والاستقرار في ربوع البحرين، فكان أنْ أمر عظمته بتشكيل مجموعات عُرفت بـ«الفداوية» للتمركز في المنامة والمحرق وبقية أنحاء البلاد، على رأس كل منها شخص بمسمى «أمير الفداوية». وحينما شرعت البحرين الأخذ بالتنظيمات الإدارية الحديثة في أواخر العقد الثاني من القرن العشرين وتأسست بلدية المنامة سنة 1919 قامت الأخيرة بتشكيل فصيل مسلح بالبنادق لتطبيق النظام والقانون وحراسة الأسواق التجارية والمنشآت الحكومية ليلاً، أطلق عليه «النواطير». وهكذا مثّل «الفداوية» و«النواطير» النواة الأولى لشرطة البحرين النظامية التي صدر قانون في 20 يوليو 1920 بإنشائها على أن تتبع المجلس البلدي.
وقتذاك كان عدد قوات شرطة البحرين لا يتجاوز 200 فرد، وكان الجل الأعظم منهم من جنسيات غير بحرينية. أما سبب عدم إقبال البحرينيين على الانخراط في سلك الشرطة وقتذاك فمرده غياب الثقافة الأمنية وانعدام اللياقة البدنية لديهم من جهة، وانشغال السواد الأعظم منهم في مهنة الغوص وصيد اللؤلؤ من جهة أخرى، ناهيك عن عامل آخر هو انتشار المخاوف في أوساطهم من احتمال إرسالهم للمشاركة في معارك الحرب العالمية. غير أنّ الأمر بدأ يتغير تدريجياً بسبب كساد تجارة اللؤلؤ، خصوصاً أنّ ذلك تزامن مع قيام الحكومة بإغراء المواطنين بالانضمام إلى شرطتها عبر نشر إعلانات تفيد بحصول كل شرطي على 27 روبية كراتب شهري ثابت، إضافة إلى حصوله مجاناً على بعض المواد التموينية كالأرز والطحين والسمن والسكر.
كانت أزياء الشرطة في تلك الأيام مختلفة تماماً عن الأزياء المتعارف عليها اليوم. حيث كان الشرطي يرتدي قميصاً وسروالاً قصيراً من اللون الكاكي، ويلف ساقيه بشريط، ويضع على رأسه عمامة حمراء بطول 12 ياردة يتوسطها عند الجبهة شعار الشرطة النحاسي. وفي فترة لاحقة تم تغيير غطاء الرأس إلى العقال والغترة مع تثبيت الشعار في وسط العقال، كما تم تحويل السروال القصير إلى طويل مع ارتداء قميص أبيض فوقه.
أما لجهة الشخصيات التي تولت قيادة شرطة البحرين، فقد تناوب على المنصب الكابتن البريطاني «كامبل»، الذي خلفه مواطنه الكابتن «جيك» المعار من جيش الهند البريطانية. كما تولى القيادة الميجور «كلايف كيرباتريك ديلي»، الذي شغل منصب المعتمد البريطاني في البحرين من عام 1921 وحتى عام 1926، والكابتن «إل. إس. بارك»، الذي عمل مستشاراً للميجور ديلي ثم تولى قيادة الشرطة من نوفمبر 1929 وحتى أبريل 1932، وقد أُطلق اسمه في تلك الفترة على شارع قريب من مبنى وزارة الداخلية (القلعة) بالمنامة هو الشارع المعروف حالياً بشارع قاسم المهزع. وكان يحل محل الكابتن بارك أثناء سفره لقضاء إجازاته مستشار حكومة البحرين البريطاني «سير تشارلز بلغريف»، علماً بأنه بعدما ترك بارك منصبه وغادر البلاد نهائياً في عام 1932 أضاف بلغريف هذا المنصب إلى مناصبه العديدة الأخرى. وفي عام 1939 تولى قيادة شرطة البحرين المرحوم الشيخ خليفة بن محمد آل خليفة الذي قام ــ بمساعدة من المستشار بلغريف ذي المواهب المتعددة ــ بنقلة تنظيمية وتحديثية نوعية كان من ثمارها تأسيس فرقة الخيالة للحفاظ على الأمن على طول سواحل البلاد الشمالية والغربية، إضافة إلى تقديم العروض العسكرية، وإنشاء فرقة موسيقى الشرطة التي أمتعت الجمهور بأعذب الألحان في الأعياد والمناسبات الوطنية والرياضية. وقد تعززت وتطورت تلك الإصلاحات في حقبة تولي المغفور له الشيخ محمد بن سلمان آل خليفة رئاسة الشرطة والأمن العام من عام 1961 إلى 1965، حيث استثمر سموه ما تلقاه من علوم شرطية وأمنية حديثة في المملكة المتحدة في إحداث تقسيمات إدارية جديدة ووضع التشريعات اللازمة لمكافحة الجريمة والارتقاء بالأنظمة المرورية.
وفي التاريخ الشرطي والأمني للبحرين شخصيات وهبت حياتها ونذرت نفسها للحفاظ على أمن البلاد والعباد وإنفاذ القانون، منها على سبيل المثال: علي ميرزا حسين وعلوان أفندي البياتي وعبدالكريم سلمان، رحمهم الله.
كانت تلك مقدمة للحديث عن المرحوم الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة، الذي دخل تاريخ وطنه كأول بحريني يدرس العلوم العسكرية والأمنية أكاديمياً ويتخرج حاملاً بكالوريوس العلوم العسكرية من مصر، قبل أن ينخرط في سلك وزارة الداخلية البحرينية ويتنقل بين إداراتها المختلفة مترقياً من رتبة إلى أخرى منذ منتصف خمسينات القرن العشرين وحتى تاريخ تقاعده ثم وفاته سنة 2009. وعليه، كان الشيخ إبراهيم شاهداً ومعاصراً للكثير من التطورات والتحولات التي شهدتها منظومة الأمن والشرطة والمرور البحرينية، ومشاركاً في صناعتها بروح مقدامة وانضباط مشهود. ومما يذكر له، رحمه الله، دوره الكبير في تغيير نظام السير في البلاد من اليسار إلى اليمين بنجاح بدءاً من 17 نوفمبر 1967.
ولد الشيخ إبراهيم بن محمد بن عبدالله بن عيسى بن علي بن خليفة بن سلمان بن أحمد الفاتح بن محمد بن خليفة آل خليفة بمدينة المحرق سنة 1936، داخل بيت العائلة الكبير بفريج الشيوخ.
والده هو الشيخ محمد بن عبدالله بن عيسى بن علي آل خليفة، الذي تزوج أولاً من «لولوة بنت حمد بن عيسى»، التي فارقت الحياة مباشرة بعد أن أنجبت له ابنه البكر «خليفة»، ثم اقترن بامرأة أخرى من قبيلة «البنعلي»، أنجبت له ابنتين هما «حصة» و«لطيفة»، وذلك قبل زواجه للمرة الثالثة من الشيخة «نجلاء بنت خالد بن علي آل خليفة»، التي أنجبت له أولاً الشيخة لولوة سنة 1928 ثم ستة من الذكور هم الشيوخ خالد فعبدالرحمن، ثم التوأمان عبدالعزيز وسلمان، ثم إبراهيم، وأخيراً عيسى الذي كان في الثانية من عمره حينما تُوفي والده، علماً بأن الشيخ محمد تُوفي شاباً في 2 مارس 1939 عن عمر ناهز 38 سنة، تاركاً عبء تربية وتنشئة أطفاله الذكور على كاهل أمهم وشقيقتهم الكبرى لولوة.
وبالاطلاع على سيرة شقيقة الشيخ إبراهيم «الشيخة لولوة بنت محمد»، المنشورة في كتاب «لولوة.. سيرة الحلو والمر» من إعداد حسين المحروس، نجد أن الأب (الشيخ محمد) حاول في حياته أن يكون بيته فريداً لا يشبه بيوت الآخرين من أقرانه، فزوده بالكهرباء والمياه النقية وجلب له الأرائك والكراسي والمناضد من الهند، فجسّد بذلك وعياً مبكراً بالحياة العصرية على الرغم من قلة أسفاره إلى الخارج. ومن دلائل وعيه المبكر أيضاً أنه كان ذا حماس وطني متقد، ومغرماً بالأدب وهموم أمتيه العربية والإسلامية، بدليل ترؤسه نادياً أدبياً لمدة عشرة أعوام ما بين سنتي 1920 و1930. لكن رئاسته لهذا النادي جلبت له الصداع وأدخلته في مشاكل مع المعتمد البريطاني الميجور «كليف كيرباتريك ديلي»، وكان السبب استضافته بين الفينة والأخرى عدداً من النشطاء المحليين والعرب لإلقاء المحاضرات والقصائد الوطنية (من أمثال: جاسم الشيراوي، وعبدالله الزايد، وحافظ وهبة، وخالد الفرج، وأمين الريحاني، وعبدالعزيز الثعالبي، ومحمد أمين الشنقيطي). وكنتيجة لمضايقات الميجور ديلي له قام الشيخ محمد بن عبدالله بإرسال شكوى ضده إلى الحكومة البريطانية في لندن، فلما علم ديلي بالأمر نكّل بالشيخ ورفاقه في النادي الأدبي وخيّرهم ما بين مغادرة البحرين أو دفع غرامة مالية بقيمة 5,000 روبية. ومن حسن حظ الشيخ أنه كان يملك آنذاك عمارة (دكان) في وسط المنامة ذات مدخول جيد، فتمكن من دفع الغرامة المفروضة، لكنه كي يذل المعتمد دفعها له في صورة عملات معدنية صغيرة من فئة نصف وربع روبية.
أما والدة الشيخ إبراهيم «الشيخة نجلاء بنت خالد بن علي آل خليفة»، فقد وُلدت بالرفاع سنة 1912 كثمرة لزواج الشيخ خالد بن علي آل خليفة والشيخة لطيفة بنت عبدالرزاق آل خليفة. وقد ذكرت ابنتها الوحيدة الشيخة لولوة في الكتاب آنف الذكر، أن الأم (الشيخة نجلاء) تزوجت من الأب (الشيخ محمد) وهي لم تتجاوز التاسعة من العمر كعادة أهل الخليج قديماً، وتُوفي عنها زوجها وهي في سن السابعة والعشرين، وأنها لم تدخل المدارس ولم تسافر إلى خارج البحرين إلا مرة واحدة لأداء فريضة الحج رفقة زوجها. لكنها ثقفت نفسها بنفسها من خلال الاختلاط بالمدرسات العربيات الوافدات للتدريس في مدارس البحرين، أو التعرف على زوجات المدرسين العرب وبناتهن، فأخذتْ الكثير منهن، وتعلمتْ منهن ما كان يجري في مجتمعاتهن، واطلعتْ على عادات تلك المجتمعات العربية في الطبخ والأزياء والسلوكيات العصرية وثقافة الاستقبال والحديث والمجالسة. وأضافت، أن الشيخة نجلاء قررت بعد وفاة زوجها أن ترافق أولادها عبدالرحمن وسلمان وعبدالعزيز في رحلتهم الدراسية إلى مصر، حيث قامت بنفسها بإتمام إجراءات تسجيلهم، واستأجرت لهم بيتاً في ضاحية حلوان، بعيداً عن ضجيج القاهرة، وبقيتْ معهم ترعاهم وتشرف على شؤونهم، ثم فعلتْ الشيء ذاته مع ابنيها الآخرين، الشيخ إبراهيم والشيخ عيسى، بمجرد إتمامهما المرحلة الابتدائية في البحرين. وظلت هناك، في مصر، إلى أن أتاها الأجل المحتوم في 6 أكتوبر 1991. وفي مصر، قامت الشيخة نجلاء بتحويل منزلها في حلوان إلى صالون ثقافي تجري فيه الحوارات السياسية والأدبية، ويتردد عليه الناس بمختلف اتجاهاتهم ومناصبهم، وذلك في واحد من تجليات شغفها بالثقافة والعلم والمعرفة، وعلامات تحررها من التقاليد البالية.
وعليه فإن الشيخ إبراهيم هو حفيد الشيخ عبدالله بن عيسى آل خليفة، والأخير هو أحد أبناء حاكم البحرين التاسع الشيخ عيسى بن علي رحمه الله، وأخو حاكم البحرين العاشر الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة وعم حاكم البحرين الحادي عشر الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، وأحد رموز العائلة الحاكمة التاريخيين، والشخصية التي ساهمت في تأسيس نظام البلديات ونظام التعليم الحكومي في البحرين.
ومن جهة أخرى، فإن الشيخ إبراهيم هو شقيق الشيخة لولوة، التي تعد أحد رموز العمل النسائي والخيري في البحرين ومؤسِّسة «جمعية رعاية الطفولة والأمومة»، أول كيان نسائي معترف به في البحرين والخليج، وهو أيضاً شقيق كل من الشيخ عبدالعزيز بن محمد آل خليفة، الذي شغل حقيبة التربية والتعليم من عام 1972 وحتى تاريخ وفاته عام 1981، والشيخ عيسى بن محمد آل خليفة مؤسس جمعية الإصلاح الإسلامية بالمحرق ووزير العدل في الفترة من 1973 إلى 1974 ثم وزير العمل من 1975 إلى 1980.
الدراسة الحربية
بدأ الشيخ إبراهيم مسيرته التعليمية بالالتحاق بأحد كتاتيب المحرق التقليدية، فحفظ القرآن، ثم انتقل إلى مدرسة الهداية الخليفية (أولى مدارس البحرين النظامية منذ عام 1919)، حيث أنهى مرحلة الدراسة الابتدائية. بعد ذلك سافر إلى مصر لاستكمال المرحلة الثانوية التي أنهاها سنة 1950 بمدرسة حلوان الثانوية القديمة، بحصوله على شهادة التوجيهية العامة (شعبة العلوم). وبهذه الشهادة قرر أن يواصل تعليمه الجامعي، فالتحق بالكلية الحربية المصرية، مخالفاً أشقاءه سلمان وعبدالعزيز وعيسى، الذين اختاروا الالتحاق بكليات الهندسة والآداب والحقوق على التوالي.
في عام 1956، تخرج حاملاً بكالوريوس العلوم الحربية، ليلتحق فوراً بدورة تدريبية لمدة ستة أشهر في سلاح المدرعات التابع للقوات المسلحة المصرية، حيث زامل العديد من الضباط المصريين وارتبط معهم بصداقات متينة. وفي أعقاب انتهاء الدورة التدريبية هذه عاد إلى البحرين فابتعثته الحكومة إلى إنجلترا في العام نفسه (1956) لخوض دورة أسلحة وتكتيك بـ«كلية هايسنس ووريستر الحربية»، وهناك تحول إلى العمل الأمني من خلال الالتحاق بمدرسة البوليس في لندن، التي أمضى بها قرابة ثلاثة أشهر، نظراً لحاجة البحرين آنذاك لقادة شرطة مؤهلين. وهكذا، حينما عاد إلى البحرين سنة 1957 تم تعيينه في إدارة التدريب والعمليات بدائرة الشرطة والأمن العام برتبة «ملازم ثاني».
كان ذلك التعيين بمثابة خطوة أولى في مسيرته الوظيفية التي امتدت لسنوات طويلة، تنقل خلالها بين العديد من إدارات وزارة الداخلية. فمن إدارة التدريب والعمليات بالشرطة والأمن العام إلى الإدارة العامة للمرور والتراخيص سنة 1961، التي ترقى فيها عام 1963 وأصبح مديراً لها حتى عام 1977، ليعود في تلك السنة إلى إدارة الأمن العام ويصبح نائباً لمديرها ويرقى إلى رتبة لواء في العام 1987.
نعاه الديوان الملكي البحريني: رجل وطني مخلص
في عام 1993 كان الشيخ إبراهيم على موعد مع ترقية وظيفية جديدة، حيث صدر في تلك السنة مرسوم أميري بتعيينه وكيلاً لوزارة الداخلية، وفي عام 2001 تمت ترقيته إلى رتبة فريق مع بقائه ممسكاً بمنصبه، واستمر كذلك إلى أن صدر قرار في عام 2003 بتعيينه مستشاراً عاماً بوزارة الداخلية بدرجة وكيل وزارة. وطوال سنوات عمله هذه أتيحت للرجل المشاركة باسم البحرين في العديد من المؤتمرات والاجتماعات ذات الصلة بعمله الأمني والشرطي والمروري على المستويات العربية والخليجية والإقليمية، فأبلى بلاء حسناً وراكم المزيد من الخبرات والمعارف، ما جعله موضع تكريم وتقدير، بدليل حصوله على العديد من الأوسمة والأنواط، ومنها: وسام أحمد الفاتح سنة 2004، وسام الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة من الدرجة الأولى سنة 2000، نوط عهد عيسى من الدرجة الأولى لأعضاء قوات الأمن العام سنة 2000، نوط تقدير الخدمة من الدرجة الأولى سنة 1988، نوط الأمن للخدمة الممتازة من الدرجة الأولى سنة 1988، وسام البحرين من الدرجة الأولى سنة 1983، نوط الأمن العام للخدمة الطويلة سنة 1983، وسام تقدير الخدمة العسكرية من الدرجة الأولى سنة 1982.
في يوم الثلاثاء الموافق 28 ديسمبر سنة 2009 وافته المنية عن عمر ناهز 73 عاماً، فنعاه الديوان الملكي، مشيداً بدوره كأحد رجالات الوطن المخلصين وأحد رواد الشرطة الأوائل ممن ساهموا في نهضة الوطن وتطوير أنظمة المرور والتراخيص وكان مثالاً للانضباط والالتزام والمناقبية العسكرية طوال مسيرته الوظيفية. وتخليداً لذكرى الفقيد وإنجازاته تم إطلاق اسمه على أحد الشوارع في مسقط رأسه بمدينة المحرق.
ومما يجدر بنا ذكره، أن الفقيد تميز بشخصية كاريزمية محبوبة، وكانت له مساهمات ومشاركات في الأنشطة والفعاليات الرياضية والاجتماعية، ولاسيما أنشطة نادي المحرق الذي قام بتخليد ذكراه منذ عام 2017 من خلال تنظيم بطولة رياضية في لعبة كرة القدم في شهر رمضان من كل عام باسم «بطولة الشيخ إبراهيم بن محمد بن عبدالله آل خليفة»، كما أن الاتحاد البحريني لكرة اليد منحه الرئاسة الفخرية للاتحاد تكريماً لعطائه الرياضي. إلى ذلك، تولى الراحل رئاسة مجلس إدارة جمعية الحكمة للمتقاعدين منذ تأسيسها عام 1989 وحتى تاريخ وفاته.
وقتذاك كان عدد قوات شرطة البحرين لا يتجاوز 200 فرد، وكان الجل الأعظم منهم من جنسيات غير بحرينية. أما سبب عدم إقبال البحرينيين على الانخراط في سلك الشرطة وقتذاك فمرده غياب الثقافة الأمنية وانعدام اللياقة البدنية لديهم من جهة، وانشغال السواد الأعظم منهم في مهنة الغوص وصيد اللؤلؤ من جهة أخرى، ناهيك عن عامل آخر هو انتشار المخاوف في أوساطهم من احتمال إرسالهم للمشاركة في معارك الحرب العالمية. غير أنّ الأمر بدأ يتغير تدريجياً بسبب كساد تجارة اللؤلؤ، خصوصاً أنّ ذلك تزامن مع قيام الحكومة بإغراء المواطنين بالانضمام إلى شرطتها عبر نشر إعلانات تفيد بحصول كل شرطي على 27 روبية كراتب شهري ثابت، إضافة إلى حصوله مجاناً على بعض المواد التموينية كالأرز والطحين والسمن والسكر.
كانت أزياء الشرطة في تلك الأيام مختلفة تماماً عن الأزياء المتعارف عليها اليوم. حيث كان الشرطي يرتدي قميصاً وسروالاً قصيراً من اللون الكاكي، ويلف ساقيه بشريط، ويضع على رأسه عمامة حمراء بطول 12 ياردة يتوسطها عند الجبهة شعار الشرطة النحاسي. وفي فترة لاحقة تم تغيير غطاء الرأس إلى العقال والغترة مع تثبيت الشعار في وسط العقال، كما تم تحويل السروال القصير إلى طويل مع ارتداء قميص أبيض فوقه.
أما لجهة الشخصيات التي تولت قيادة شرطة البحرين، فقد تناوب على المنصب الكابتن البريطاني «كامبل»، الذي خلفه مواطنه الكابتن «جيك» المعار من جيش الهند البريطانية. كما تولى القيادة الميجور «كلايف كيرباتريك ديلي»، الذي شغل منصب المعتمد البريطاني في البحرين من عام 1921 وحتى عام 1926، والكابتن «إل. إس. بارك»، الذي عمل مستشاراً للميجور ديلي ثم تولى قيادة الشرطة من نوفمبر 1929 وحتى أبريل 1932، وقد أُطلق اسمه في تلك الفترة على شارع قريب من مبنى وزارة الداخلية (القلعة) بالمنامة هو الشارع المعروف حالياً بشارع قاسم المهزع. وكان يحل محل الكابتن بارك أثناء سفره لقضاء إجازاته مستشار حكومة البحرين البريطاني «سير تشارلز بلغريف»، علماً بأنه بعدما ترك بارك منصبه وغادر البلاد نهائياً في عام 1932 أضاف بلغريف هذا المنصب إلى مناصبه العديدة الأخرى. وفي عام 1939 تولى قيادة شرطة البحرين المرحوم الشيخ خليفة بن محمد آل خليفة الذي قام ــ بمساعدة من المستشار بلغريف ذي المواهب المتعددة ــ بنقلة تنظيمية وتحديثية نوعية كان من ثمارها تأسيس فرقة الخيالة للحفاظ على الأمن على طول سواحل البلاد الشمالية والغربية، إضافة إلى تقديم العروض العسكرية، وإنشاء فرقة موسيقى الشرطة التي أمتعت الجمهور بأعذب الألحان في الأعياد والمناسبات الوطنية والرياضية. وقد تعززت وتطورت تلك الإصلاحات في حقبة تولي المغفور له الشيخ محمد بن سلمان آل خليفة رئاسة الشرطة والأمن العام من عام 1961 إلى 1965، حيث استثمر سموه ما تلقاه من علوم شرطية وأمنية حديثة في المملكة المتحدة في إحداث تقسيمات إدارية جديدة ووضع التشريعات اللازمة لمكافحة الجريمة والارتقاء بالأنظمة المرورية.
وفي التاريخ الشرطي والأمني للبحرين شخصيات وهبت حياتها ونذرت نفسها للحفاظ على أمن البلاد والعباد وإنفاذ القانون، منها على سبيل المثال: علي ميرزا حسين وعلوان أفندي البياتي وعبدالكريم سلمان، رحمهم الله.
كانت تلك مقدمة للحديث عن المرحوم الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة، الذي دخل تاريخ وطنه كأول بحريني يدرس العلوم العسكرية والأمنية أكاديمياً ويتخرج حاملاً بكالوريوس العلوم العسكرية من مصر، قبل أن ينخرط في سلك وزارة الداخلية البحرينية ويتنقل بين إداراتها المختلفة مترقياً من رتبة إلى أخرى منذ منتصف خمسينات القرن العشرين وحتى تاريخ تقاعده ثم وفاته سنة 2009. وعليه، كان الشيخ إبراهيم شاهداً ومعاصراً للكثير من التطورات والتحولات التي شهدتها منظومة الأمن والشرطة والمرور البحرينية، ومشاركاً في صناعتها بروح مقدامة وانضباط مشهود. ومما يذكر له، رحمه الله، دوره الكبير في تغيير نظام السير في البلاد من اليسار إلى اليمين بنجاح بدءاً من 17 نوفمبر 1967.
ولد الشيخ إبراهيم بن محمد بن عبدالله بن عيسى بن علي بن خليفة بن سلمان بن أحمد الفاتح بن محمد بن خليفة آل خليفة بمدينة المحرق سنة 1936، داخل بيت العائلة الكبير بفريج الشيوخ.
والده هو الشيخ محمد بن عبدالله بن عيسى بن علي آل خليفة، الذي تزوج أولاً من «لولوة بنت حمد بن عيسى»، التي فارقت الحياة مباشرة بعد أن أنجبت له ابنه البكر «خليفة»، ثم اقترن بامرأة أخرى من قبيلة «البنعلي»، أنجبت له ابنتين هما «حصة» و«لطيفة»، وذلك قبل زواجه للمرة الثالثة من الشيخة «نجلاء بنت خالد بن علي آل خليفة»، التي أنجبت له أولاً الشيخة لولوة سنة 1928 ثم ستة من الذكور هم الشيوخ خالد فعبدالرحمن، ثم التوأمان عبدالعزيز وسلمان، ثم إبراهيم، وأخيراً عيسى الذي كان في الثانية من عمره حينما تُوفي والده، علماً بأن الشيخ محمد تُوفي شاباً في 2 مارس 1939 عن عمر ناهز 38 سنة، تاركاً عبء تربية وتنشئة أطفاله الذكور على كاهل أمهم وشقيقتهم الكبرى لولوة.
وبالاطلاع على سيرة شقيقة الشيخ إبراهيم «الشيخة لولوة بنت محمد»، المنشورة في كتاب «لولوة.. سيرة الحلو والمر» من إعداد حسين المحروس، نجد أن الأب (الشيخ محمد) حاول في حياته أن يكون بيته فريداً لا يشبه بيوت الآخرين من أقرانه، فزوده بالكهرباء والمياه النقية وجلب له الأرائك والكراسي والمناضد من الهند، فجسّد بذلك وعياً مبكراً بالحياة العصرية على الرغم من قلة أسفاره إلى الخارج. ومن دلائل وعيه المبكر أيضاً أنه كان ذا حماس وطني متقد، ومغرماً بالأدب وهموم أمتيه العربية والإسلامية، بدليل ترؤسه نادياً أدبياً لمدة عشرة أعوام ما بين سنتي 1920 و1930. لكن رئاسته لهذا النادي جلبت له الصداع وأدخلته في مشاكل مع المعتمد البريطاني الميجور «كليف كيرباتريك ديلي»، وكان السبب استضافته بين الفينة والأخرى عدداً من النشطاء المحليين والعرب لإلقاء المحاضرات والقصائد الوطنية (من أمثال: جاسم الشيراوي، وعبدالله الزايد، وحافظ وهبة، وخالد الفرج، وأمين الريحاني، وعبدالعزيز الثعالبي، ومحمد أمين الشنقيطي). وكنتيجة لمضايقات الميجور ديلي له قام الشيخ محمد بن عبدالله بإرسال شكوى ضده إلى الحكومة البريطانية في لندن، فلما علم ديلي بالأمر نكّل بالشيخ ورفاقه في النادي الأدبي وخيّرهم ما بين مغادرة البحرين أو دفع غرامة مالية بقيمة 5,000 روبية. ومن حسن حظ الشيخ أنه كان يملك آنذاك عمارة (دكان) في وسط المنامة ذات مدخول جيد، فتمكن من دفع الغرامة المفروضة، لكنه كي يذل المعتمد دفعها له في صورة عملات معدنية صغيرة من فئة نصف وربع روبية.
أما والدة الشيخ إبراهيم «الشيخة نجلاء بنت خالد بن علي آل خليفة»، فقد وُلدت بالرفاع سنة 1912 كثمرة لزواج الشيخ خالد بن علي آل خليفة والشيخة لطيفة بنت عبدالرزاق آل خليفة. وقد ذكرت ابنتها الوحيدة الشيخة لولوة في الكتاب آنف الذكر، أن الأم (الشيخة نجلاء) تزوجت من الأب (الشيخ محمد) وهي لم تتجاوز التاسعة من العمر كعادة أهل الخليج قديماً، وتُوفي عنها زوجها وهي في سن السابعة والعشرين، وأنها لم تدخل المدارس ولم تسافر إلى خارج البحرين إلا مرة واحدة لأداء فريضة الحج رفقة زوجها. لكنها ثقفت نفسها بنفسها من خلال الاختلاط بالمدرسات العربيات الوافدات للتدريس في مدارس البحرين، أو التعرف على زوجات المدرسين العرب وبناتهن، فأخذتْ الكثير منهن، وتعلمتْ منهن ما كان يجري في مجتمعاتهن، واطلعتْ على عادات تلك المجتمعات العربية في الطبخ والأزياء والسلوكيات العصرية وثقافة الاستقبال والحديث والمجالسة. وأضافت، أن الشيخة نجلاء قررت بعد وفاة زوجها أن ترافق أولادها عبدالرحمن وسلمان وعبدالعزيز في رحلتهم الدراسية إلى مصر، حيث قامت بنفسها بإتمام إجراءات تسجيلهم، واستأجرت لهم بيتاً في ضاحية حلوان، بعيداً عن ضجيج القاهرة، وبقيتْ معهم ترعاهم وتشرف على شؤونهم، ثم فعلتْ الشيء ذاته مع ابنيها الآخرين، الشيخ إبراهيم والشيخ عيسى، بمجرد إتمامهما المرحلة الابتدائية في البحرين. وظلت هناك، في مصر، إلى أن أتاها الأجل المحتوم في 6 أكتوبر 1991. وفي مصر، قامت الشيخة نجلاء بتحويل منزلها في حلوان إلى صالون ثقافي تجري فيه الحوارات السياسية والأدبية، ويتردد عليه الناس بمختلف اتجاهاتهم ومناصبهم، وذلك في واحد من تجليات شغفها بالثقافة والعلم والمعرفة، وعلامات تحررها من التقاليد البالية.
وعليه فإن الشيخ إبراهيم هو حفيد الشيخ عبدالله بن عيسى آل خليفة، والأخير هو أحد أبناء حاكم البحرين التاسع الشيخ عيسى بن علي رحمه الله، وأخو حاكم البحرين العاشر الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة وعم حاكم البحرين الحادي عشر الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، وأحد رموز العائلة الحاكمة التاريخيين، والشخصية التي ساهمت في تأسيس نظام البلديات ونظام التعليم الحكومي في البحرين.
ومن جهة أخرى، فإن الشيخ إبراهيم هو شقيق الشيخة لولوة، التي تعد أحد رموز العمل النسائي والخيري في البحرين ومؤسِّسة «جمعية رعاية الطفولة والأمومة»، أول كيان نسائي معترف به في البحرين والخليج، وهو أيضاً شقيق كل من الشيخ عبدالعزيز بن محمد آل خليفة، الذي شغل حقيبة التربية والتعليم من عام 1972 وحتى تاريخ وفاته عام 1981، والشيخ عيسى بن محمد آل خليفة مؤسس جمعية الإصلاح الإسلامية بالمحرق ووزير العدل في الفترة من 1973 إلى 1974 ثم وزير العمل من 1975 إلى 1980.
الدراسة الحربية
بدأ الشيخ إبراهيم مسيرته التعليمية بالالتحاق بأحد كتاتيب المحرق التقليدية، فحفظ القرآن، ثم انتقل إلى مدرسة الهداية الخليفية (أولى مدارس البحرين النظامية منذ عام 1919)، حيث أنهى مرحلة الدراسة الابتدائية. بعد ذلك سافر إلى مصر لاستكمال المرحلة الثانوية التي أنهاها سنة 1950 بمدرسة حلوان الثانوية القديمة، بحصوله على شهادة التوجيهية العامة (شعبة العلوم). وبهذه الشهادة قرر أن يواصل تعليمه الجامعي، فالتحق بالكلية الحربية المصرية، مخالفاً أشقاءه سلمان وعبدالعزيز وعيسى، الذين اختاروا الالتحاق بكليات الهندسة والآداب والحقوق على التوالي.
في عام 1956، تخرج حاملاً بكالوريوس العلوم الحربية، ليلتحق فوراً بدورة تدريبية لمدة ستة أشهر في سلاح المدرعات التابع للقوات المسلحة المصرية، حيث زامل العديد من الضباط المصريين وارتبط معهم بصداقات متينة. وفي أعقاب انتهاء الدورة التدريبية هذه عاد إلى البحرين فابتعثته الحكومة إلى إنجلترا في العام نفسه (1956) لخوض دورة أسلحة وتكتيك بـ«كلية هايسنس ووريستر الحربية»، وهناك تحول إلى العمل الأمني من خلال الالتحاق بمدرسة البوليس في لندن، التي أمضى بها قرابة ثلاثة أشهر، نظراً لحاجة البحرين آنذاك لقادة شرطة مؤهلين. وهكذا، حينما عاد إلى البحرين سنة 1957 تم تعيينه في إدارة التدريب والعمليات بدائرة الشرطة والأمن العام برتبة «ملازم ثاني».
كان ذلك التعيين بمثابة خطوة أولى في مسيرته الوظيفية التي امتدت لسنوات طويلة، تنقل خلالها بين العديد من إدارات وزارة الداخلية. فمن إدارة التدريب والعمليات بالشرطة والأمن العام إلى الإدارة العامة للمرور والتراخيص سنة 1961، التي ترقى فيها عام 1963 وأصبح مديراً لها حتى عام 1977، ليعود في تلك السنة إلى إدارة الأمن العام ويصبح نائباً لمديرها ويرقى إلى رتبة لواء في العام 1987.
نعاه الديوان الملكي البحريني: رجل وطني مخلص
في عام 1993 كان الشيخ إبراهيم على موعد مع ترقية وظيفية جديدة، حيث صدر في تلك السنة مرسوم أميري بتعيينه وكيلاً لوزارة الداخلية، وفي عام 2001 تمت ترقيته إلى رتبة فريق مع بقائه ممسكاً بمنصبه، واستمر كذلك إلى أن صدر قرار في عام 2003 بتعيينه مستشاراً عاماً بوزارة الداخلية بدرجة وكيل وزارة. وطوال سنوات عمله هذه أتيحت للرجل المشاركة باسم البحرين في العديد من المؤتمرات والاجتماعات ذات الصلة بعمله الأمني والشرطي والمروري على المستويات العربية والخليجية والإقليمية، فأبلى بلاء حسناً وراكم المزيد من الخبرات والمعارف، ما جعله موضع تكريم وتقدير، بدليل حصوله على العديد من الأوسمة والأنواط، ومنها: وسام أحمد الفاتح سنة 2004، وسام الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة من الدرجة الأولى سنة 2000، نوط عهد عيسى من الدرجة الأولى لأعضاء قوات الأمن العام سنة 2000، نوط تقدير الخدمة من الدرجة الأولى سنة 1988، نوط الأمن للخدمة الممتازة من الدرجة الأولى سنة 1988، وسام البحرين من الدرجة الأولى سنة 1983، نوط الأمن العام للخدمة الطويلة سنة 1983، وسام تقدير الخدمة العسكرية من الدرجة الأولى سنة 1982.
في يوم الثلاثاء الموافق 28 ديسمبر سنة 2009 وافته المنية عن عمر ناهز 73 عاماً، فنعاه الديوان الملكي، مشيداً بدوره كأحد رجالات الوطن المخلصين وأحد رواد الشرطة الأوائل ممن ساهموا في نهضة الوطن وتطوير أنظمة المرور والتراخيص وكان مثالاً للانضباط والالتزام والمناقبية العسكرية طوال مسيرته الوظيفية. وتخليداً لذكرى الفقيد وإنجازاته تم إطلاق اسمه على أحد الشوارع في مسقط رأسه بمدينة المحرق.
ومما يجدر بنا ذكره، أن الفقيد تميز بشخصية كاريزمية محبوبة، وكانت له مساهمات ومشاركات في الأنشطة والفعاليات الرياضية والاجتماعية، ولاسيما أنشطة نادي المحرق الذي قام بتخليد ذكراه منذ عام 2017 من خلال تنظيم بطولة رياضية في لعبة كرة القدم في شهر رمضان من كل عام باسم «بطولة الشيخ إبراهيم بن محمد بن عبدالله آل خليفة»، كما أن الاتحاد البحريني لكرة اليد منحه الرئاسة الفخرية للاتحاد تكريماً لعطائه الرياضي. إلى ذلك، تولى الراحل رئاسة مجلس إدارة جمعية الحكمة للمتقاعدين منذ تأسيسها عام 1989 وحتى تاريخ وفاته.