الباحثون والمنقبون الغربيون الذين جذبتهم الصحارى العربية بأسرارها وكنوزها ومجاهلها كثر. ولئن استضافت البلاد العربية منذ القرنين الخامس والسادس الميلاديين العديد منهم وأفسحت لهم مجال البحث والتنقيب والتوثيق، فقدموا خدمة لا تقدر بثمن للباحثين والدارسين والمؤرخين العرب، فإن العملية ذاتها لم تتوقف في العصر الحديث، وإن رافقتها متغيرات كثيرة بفعل التقدم العلمي في وسائل الاتصال والتنقل والاكتشاف والبحث والتحليل والتصوير. ولعل قصة الباحث والمؤرخ والإعلامي وعالم الطبيعة الإماراتي المسلم من أصل بريطاني بيتر هيلير (Peter Hellyer)، تؤكد عدم انقطاع الغربيين والأجانب عن الاهتمام بتاريخ منطقتنا وشغفهم ببيئتها وحياتها الفطرية. فهذا البريطاني المولود في إنجلترا حل في أبوظبي في عام 1975 من أجل أن يعد فيلماً وثائقياً عن مؤسس الدولة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، لكن شغفه واهتمامه بالتاريخ والآثار والبيئة والحياة الفطرية دفعه إلى البقاء. وهكذا ظل مقيماً في الإمارات بين أهلها، مقدماً لها عصارة فكره وجهده، ومنشغلاً لأجلها على أكثر من صعيد بحثي وإعلامي واستكشافي وتوثيقي، إلى أن اكتسب جنسيتها وأصبح واحداً من حملة هويتها، بل شاءت الأقدار أن يلفظ أنفاسه الأخيرة على أرضها التي أحبها وأن يدفن في مقابرها الإسلامية (مقبرة بني ياس في أبوظبي).
باق في ذاكرة الإمارات
ففي يوم الأحد الموافق 4 يونيو 2023 انتقل الرجل إلى رحمة الله في أبوظبي بعد صراع مع المرض، فتبارى كبار المسؤولين في نعيه والترحم عليه والإشادة بمناقبه وإنجازاته. وكان في مقدمتهم رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد، حيث قال في تدوينة عبر حسابه الرسمي في «تويتر»: «خالص التعازي والمواساة إلى عائلة المؤرخ والباحث بيتر هيلير.. خدم الإمارات بتفانٍ وإخلاص على مدى عقود، وترك بصمات بارزة في مجالات الآثار والبيئة والإعلام.. فقدنا برحيله نموذجاً للالتزام والعطاء.. سنظل نتذكره، وسيبقى ما قدمه إلى الإمارات في ذاكرتها على الدوام».
كما نعاه وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد، فوصفه بـ«الإنجليزي الذي أحب الإمارات حتى أصبح أحد أبنائها». وتبعه في ذلك وزير الثقافة والشباب سالم بن خالد القاسمي، الذي قال في تغريدة: «رحل عنا اليوم المؤرخ والباحث والكاتب الكبير بيتر هيلير الذي كرّس حياته مؤلفاً في مواضيع البيئة والتراث الأثري الغني في الإمارات، أكثر من 50 سنة قضاها مستكشفاً أبرز المواقع الأثرية المهمة في الدولة، وأهمها صير بني ياس. سيظل شغف بيتر وإخلاصه لهذه الأرض وأهلها يلهمنا لنكمل إرثه في حماية بيئتنا وآثارنا وحفظ تاريخنا العريق». أما المستشار الدبلوماسي لرئيس الدولة الدكتور أنور قرقاش فقد كتب: «خالص مشاعر التعزية إلى أسرة الإعلامي بيتر هيلير، الذي أحبَّ الإمارات وأسهم بصدق وإخلاص في نقل سرديتها التاريخية والحضارية بكل مودة وإنصاف خلال مسيرة حافلة بالعطاء والعمل، شاركه فيها رفيقة المرحوم إبراهيم العابد.. الراحلان لهما بصمات لن تُنسى في المشهد الإعلامي الإماراتي».
وأما زميلته الكاتبة وعالمة الآثار المقيمة في الفجيرة الدكتورة ميشيل ، مؤلفة كتاب «الفتى الذي يعرف الجبال»، وهو كتاب حصل على جائزة من الإمارات كأفضل كتاب للأطفال، فقالت: «قابلت بيتر هيلير لأول مرة في عام 1993 عندما كنت طالبةً جامعية تعمل في التنقيب بالشارقة. كان لديه اهتمام عميق بتاريخ الإمارات وآثارها وثقافتها. في كل موسم ميداني شتوي كان يزور الفرق الأثرية العاملة في جميع أنحاء الإمارات، وكان حريصاً على التعرف على الاكتشافات التي توصلنا إليها ونظرياتنا، بل كان دائماً موجوداً لدعم علماء الآثار والترويج للاكتشافات الأثرية في الإمارات. لقد كنت محظوظةً بما يكفي للعمل معه في عدة مناسبات على مر السنين، حيث كان زميلاً ومعلماً وصديقاً وداعماً للكل. أكثر الذكريات التي أعتز بها هي الأوقات التي تحدثنا فيها عن طفولته وتربيته وعن منزله في جيرسي».
النشأة السياسية
ولد هيلير بإنجلترا في حدود عام 1948، وأمضى سنوات نشأته وترعرعه ودراسته الأولى في جزيرة جيرسي، إحدى جزر القنال الإنجليزي، التي خدم حكومتها كثيراً فيما بعد لجهة توثيق علاقاتها التجارية والاستثمارية مع الإمارات ودول الخليج العربي الأخرى. أما دراسته الجامعية فقد كانت في ساسكس في عقد الستينات، وهي المرحلة التي بدأت فيها اهتماماته بمنطقة الشرق الأوسط وقضاياها السياسية ولاسيما القضية الفلسطينية، التي كان متعاطفاً معها وداعماً قوياً لها منذ متابعته لمجريات وتداعيات حرب يونيو 1967. وفي هذه الفترة من حياته كان أيضاً من الناشطين البارزين في صفوف شباب «الحزب الليبرالي» البريطاني، بدليل أنه انتخب نائباً دولياً لرئيس الرابطة الوطنية لشباب الحزب. وبصفته تلك تمكن من نقل قضية فلسطين إلى داخل أروقة حزبه. ولم يمضِ وقت طويل إلا والرجل يصبح مساعداً للسياسي البريطاني ديفيد ستيل، الذي صار لاحقاً زعيماً للحزب. ومن اهتماماته السياسية الأخرى آنذاك تأييده القوي للحركة المناهضة للفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وهو ما جعله ذات مرة في عام 1969 يقتحم الملعب أثناء مباراة في كرة الرغبي بين منتخبي إنجلترا وجنوب أفريقيا كنوع من الاحتجاج، فكان أن اصطدم بأحد اللاعبين وسقط على العشب الموحل قبل أن تقتاده الشرطة إلى الخارج وتقول له إن وقوعه في الوحل وتلوث ملابسه والكدمات التي أصيب بها عقوبة كافية.
اشتغل هيلير بالكتابة الصحفية، مقتدياً بوالده آرثر هيلير، الذي واظب على الكتابة أسبوعياً في جريدة الفايننشال تايمز على مدى ثلاثين عاماً متناولاً في أعمدته قضايا الطبيعة والبستنة. اشتغال هيلير بالصحافة قاده إلى الشغف بالتصوير والأفلام الوثائقية ومن خلالهما برزت اهتماماته بالتاريخ والبحث التاريخي. وهكذا توسعت دائرة شغفه حتى شملت الاستكشافات الأثرية والحياة الفطرية وحمايتها، ولاسيما الشق المتعلق بالطيور والصقور. وفي عام 1975 قدم إلى دولة الإمارات لإعداد فيلم وثائقي تسجيلي عن الزيارات الخارجية للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وذلك بترتيب من المرحوم الأستاذ إبراهيم العابد الذي كان تعين في السنة ذاتها في وزارة الإعلام والثقافة الإماراتية مسؤولاً عن الإعلام الخارجي. ويعتقد أن العابد وهيلير اللذين تزاملا لاحقاً ولسنوات طويلة وعملا معاً في تأسيس وإدارة وكالة أنباء الإمارات وإنشاء خدمة اللغة الإنجليزية بها، انجذب كل منهما إلى الآخر بسبب مواقفهما السياسية المتطابقة من قضية الصراع العربي الإسرائيلي، لاسيما أن العابد رحمه الله من أصول فلسطينية.
لقاء الشيخ زايد
في الإمارات، تعرف هيلير وزوجته على الشيخ زايد لأول مرة في سوق للخضار والفواكه، حيث وصل الشيخ زايد إلى هناك لتفقد السوق ومعرفة أحوال الناس وتفقد أوضاعهم عن كثب كعادته رحمه الله، فانبهر الرجل بشخصية القائد المؤسس. لاحقاً توثقت علاقتهما وزادت معرفة كل منهما بالآخر، خصوصاً بعد مرافقة هيلير للشيخ زايد في زياراته الرسمية إلى اليمن ومصر وفرنسا واليابان وإندونيسيا لتصوير وإعداد أفلام وثائقية عن تلك الزيارات.
وجملة القول، إن ملازمة هيلير للشيخ زايد وتعرفه على اهتماماته وأسلوبه البعيد عن التكلف في إدارة دولته الفتية، جعله يقرر البقاء في البلاد وصرف النظر عن العودة إلى بريطانيا كما كان مقرراً، والعمل بدلاً من ذلك على تطوير جهاز الإعلام وتقديم خدمات استشارية مع ممارسة شغفه في البحث والتنقيب عن الآثار.
وهكذا، نجده يساعد في عام 1977 في إنشاء وكالة الأنباء الإماراتية الرسمية (وام) باللغة الإنجليزية، ويترأس البث التلفزيوني والإذاعي باللغات الأجنبية في أبوظبي، ويشغل من عام 1985 وحتى عام 1999 منصب مدير تحرير صحيفة «أخبار الإمارات»، الصحيفة الرسمية الناطقة باسم حكومة أبوظبي. وبعد إغلاق الصحيفة واصل عمله في مجال الأخبار والاتصالات وصار مستشاراً إعلامياً للمجلس الوطني للإعلام، حيث كان له بالمجلس مكتب خاص مزدحم على الدوام بأكوام من الصحف الأجنبية وبالصحفيين والمراسلين الأجانب من مختلف أنحاء العالم. كما تمت الاستعانة به كمستشار في مجال النفط.
مؤلفات غنية
وما بين هذه المسؤولية وتلك، كان هيلير يقتنص بعض الوقت لتأليف أو تحرير الكتب والمؤلفات المتعلقة بشؤون الإمارات التراثية والبيئية والفطرية والسياحية، ساكباً فيها معارفه الغزيرة وشغفه اللامحدود بهذه المجالات، وسارداً مشاهداته وملاحظاته واكتشافاته الميدانية. فعلى سبيل المثال تمكن الرجل خلال فترة وجوده على أرض الإمارات من إثراء المكتبة الإماراتية والعربية بنحو عشرين مؤلفاً، راوحت مواضيعها ما بين تاريخ الاكتشافات النفطية في أبوظبي، وتاريخ مدينة العين، وتراث الإمارات، وشخصية الشيخ زايد ومسيرته، ومظاهر الطبيعة والحياة الفطرية في الإمارات، وإمارة الفجيرة (جوهرة الإمارات العربية على ساحل بحر العرب)، وإمارة أبوظبي (واحة الخليج)، وجبل حفيت (ثاني أعلى قمة في الإمارات)، والتنوعات الأركيولوجية والإنثروبولوجية، وغيرها.
والحقيقة، أن مؤلفاته المكتنزة بالمعلومات الدقيقة كانت ثمرة من ثمار ترؤسه لسنوات عديدة «مجموعة الإمارات للتاريخ الطبيعي»، وتوليه لعدة عقود مسؤوليات تحريره مجلة المجموعة تحت اسم «تريبولوس»، ناهيك عن مشاركته في عام 1992 في تأسيس وقيادة هيئة المسح الأثري لجزر أبوظبي التي أسفرت عن اكتشاف دير مسيحي قديم يبلغ عمره 1,400 سنة في جزيرة صير بني ياس وقرى تعود إلى العصر الحجري في جزيرتي دلما ومروة، وغيرها من الاكتشافات التي أكدت التاريخ الأثري الغني للبلاد. إلى ذلك دعم وساهم في الأعمال الاستكشافية للآثار في أم القيوين فكان وراء المزيد من الاكتشافات المذهلة هناك، مثل اكتشاف دير قديم في العام الماضي واكتشاف أقدم قرية لصيادي اللؤلؤ في الخليج العربي قبل وفاته بأشهر، كما شارك في إنجاز نصب تذكاري في إمارة الفجيرة لطيار من سلاح الجو الملكي البريطاني كان توفي هناك إبان الحرب العالمية الثانية، وأسس «مجلس سجل الطيور» في الإمارات، الذي صدر عنه كتابا «طيور الشرق الأوسط» و«طيور الإمارات العربية المتحدة»، من تأليف هيلير نفسه بالاشتراك مع زميله رتشارد بورتير.
الجنسية الإماراتية في 2010
وتقديراً لمجمل جهوده وإنجازاته في خدمة الإمارات تمّ منحه الجنسية الإماراتية في عام 2010، وفي العام 2013 حصل على جائزة أبوظبي مع وسامها. وهذه الجائزة، التي تعد أعلى تكريم مدني في إمارة أبوظبي، صدر مرسوم أميري بإنشائها في عام 2005، وتمنح للأفراد الذين أسهموا بتفانيهم والتزامهم في خدمة مجتمع دولة الإمارات. وكان هيلير قد حصل في عام 2005 على جائزة الشيخ مبارك بن محمد لتاريخ الطبيعة.
لم يكتفِ الفقيد بما سبق، وإنما قام أيضاً بإيصال معلوماته ومعارفه التاريخية والثقافية إلى الجمهور العريض من خلال محاضرات وعروض في المدارس والجامعات والمنتديات العامة، رغبة منه في توعية المجتمع والشباب بتراث الإمارات وتاريخها القديم والحديث، ومنها محاضرة قيّمة ألقاها سنة 2008 في جامعة نيويورك بأبوظبي تحت عنوان «زايد والتراث البيئي والثقافي لدولة الإمارات»، تحدث فيها عن مدى شغف الشيخ زايد وحبه لمعرفة كل ما هو موجود في وطنه من حجر وطير وبشر وأثر، ومدى إسهامات سموه في إطلاق وتشجيع ومتابعة مشاريع الحفاظ على المحميات الطبيعية في أبوظبي وعمليات الحفاظ على البيئة الزراعية، وكيف أن سموه كان يفضل أن يجوب مناطق بلاده البعيدة بالسيارات وليس بالمروحيات لأن السيارة يمكن إيقافها فوراً والترجل منها لمعاينة أي شيء ملفت للنظر، على العكس من الهليوكوبتر.
أما مساهمات هيلير في الكتابة الصحفية المنتظمة في صحف الإمارات، فقد بدأت في عام 2008 من خلال عمود نصف شهري بجريدة The National اليومية التي كان قد قدم المشورة لها في الأشهر التي سبقت صدورها بدءاً من أبريل 2008، علما بأنه توقف في عام 2022 بعد أن كتب آخر أعمدته وكان بعنوان «عام ذهبي» لعلم الآثار في الإمارات، قال فيه: «لا يزال هناك الكثير لنتعلمه عن تاريخ هذه الأرض». ويتذكر الكثيرون إلى اليوم عموداً كتبته أنتقد فيه كتاباً مدرسياً مقرراً في مادة التاريخ، الأمر الذي دفع المسؤولين إلى استبداله بكتاب آخر مطور باللغتين العربية والإنجليزية من تأليف هيلير مع محمد المبارك وبيتر ماغي.
سيفتقد الإماراتيون بعد اليوم ذلك الرجل الذي كان يخرج إلى الأماكن النائية مرتدياً سترة متعددة الجيوب وقبعة عريضة مرنة الحواف، من أجل البحث عن تاريخهم وآثارهم المدفونة وإثراء مكتبتهم بالأبحاث الميدانية الموثقة.
باق في ذاكرة الإمارات
ففي يوم الأحد الموافق 4 يونيو 2023 انتقل الرجل إلى رحمة الله في أبوظبي بعد صراع مع المرض، فتبارى كبار المسؤولين في نعيه والترحم عليه والإشادة بمناقبه وإنجازاته. وكان في مقدمتهم رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد، حيث قال في تدوينة عبر حسابه الرسمي في «تويتر»: «خالص التعازي والمواساة إلى عائلة المؤرخ والباحث بيتر هيلير.. خدم الإمارات بتفانٍ وإخلاص على مدى عقود، وترك بصمات بارزة في مجالات الآثار والبيئة والإعلام.. فقدنا برحيله نموذجاً للالتزام والعطاء.. سنظل نتذكره، وسيبقى ما قدمه إلى الإمارات في ذاكرتها على الدوام».
كما نعاه وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد، فوصفه بـ«الإنجليزي الذي أحب الإمارات حتى أصبح أحد أبنائها». وتبعه في ذلك وزير الثقافة والشباب سالم بن خالد القاسمي، الذي قال في تغريدة: «رحل عنا اليوم المؤرخ والباحث والكاتب الكبير بيتر هيلير الذي كرّس حياته مؤلفاً في مواضيع البيئة والتراث الأثري الغني في الإمارات، أكثر من 50 سنة قضاها مستكشفاً أبرز المواقع الأثرية المهمة في الدولة، وأهمها صير بني ياس. سيظل شغف بيتر وإخلاصه لهذه الأرض وأهلها يلهمنا لنكمل إرثه في حماية بيئتنا وآثارنا وحفظ تاريخنا العريق». أما المستشار الدبلوماسي لرئيس الدولة الدكتور أنور قرقاش فقد كتب: «خالص مشاعر التعزية إلى أسرة الإعلامي بيتر هيلير، الذي أحبَّ الإمارات وأسهم بصدق وإخلاص في نقل سرديتها التاريخية والحضارية بكل مودة وإنصاف خلال مسيرة حافلة بالعطاء والعمل، شاركه فيها رفيقة المرحوم إبراهيم العابد.. الراحلان لهما بصمات لن تُنسى في المشهد الإعلامي الإماراتي».
وأما زميلته الكاتبة وعالمة الآثار المقيمة في الفجيرة الدكتورة ميشيل ، مؤلفة كتاب «الفتى الذي يعرف الجبال»، وهو كتاب حصل على جائزة من الإمارات كأفضل كتاب للأطفال، فقالت: «قابلت بيتر هيلير لأول مرة في عام 1993 عندما كنت طالبةً جامعية تعمل في التنقيب بالشارقة. كان لديه اهتمام عميق بتاريخ الإمارات وآثارها وثقافتها. في كل موسم ميداني شتوي كان يزور الفرق الأثرية العاملة في جميع أنحاء الإمارات، وكان حريصاً على التعرف على الاكتشافات التي توصلنا إليها ونظرياتنا، بل كان دائماً موجوداً لدعم علماء الآثار والترويج للاكتشافات الأثرية في الإمارات. لقد كنت محظوظةً بما يكفي للعمل معه في عدة مناسبات على مر السنين، حيث كان زميلاً ومعلماً وصديقاً وداعماً للكل. أكثر الذكريات التي أعتز بها هي الأوقات التي تحدثنا فيها عن طفولته وتربيته وعن منزله في جيرسي».
النشأة السياسية
ولد هيلير بإنجلترا في حدود عام 1948، وأمضى سنوات نشأته وترعرعه ودراسته الأولى في جزيرة جيرسي، إحدى جزر القنال الإنجليزي، التي خدم حكومتها كثيراً فيما بعد لجهة توثيق علاقاتها التجارية والاستثمارية مع الإمارات ودول الخليج العربي الأخرى. أما دراسته الجامعية فقد كانت في ساسكس في عقد الستينات، وهي المرحلة التي بدأت فيها اهتماماته بمنطقة الشرق الأوسط وقضاياها السياسية ولاسيما القضية الفلسطينية، التي كان متعاطفاً معها وداعماً قوياً لها منذ متابعته لمجريات وتداعيات حرب يونيو 1967. وفي هذه الفترة من حياته كان أيضاً من الناشطين البارزين في صفوف شباب «الحزب الليبرالي» البريطاني، بدليل أنه انتخب نائباً دولياً لرئيس الرابطة الوطنية لشباب الحزب. وبصفته تلك تمكن من نقل قضية فلسطين إلى داخل أروقة حزبه. ولم يمضِ وقت طويل إلا والرجل يصبح مساعداً للسياسي البريطاني ديفيد ستيل، الذي صار لاحقاً زعيماً للحزب. ومن اهتماماته السياسية الأخرى آنذاك تأييده القوي للحركة المناهضة للفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وهو ما جعله ذات مرة في عام 1969 يقتحم الملعب أثناء مباراة في كرة الرغبي بين منتخبي إنجلترا وجنوب أفريقيا كنوع من الاحتجاج، فكان أن اصطدم بأحد اللاعبين وسقط على العشب الموحل قبل أن تقتاده الشرطة إلى الخارج وتقول له إن وقوعه في الوحل وتلوث ملابسه والكدمات التي أصيب بها عقوبة كافية.
اشتغل هيلير بالكتابة الصحفية، مقتدياً بوالده آرثر هيلير، الذي واظب على الكتابة أسبوعياً في جريدة الفايننشال تايمز على مدى ثلاثين عاماً متناولاً في أعمدته قضايا الطبيعة والبستنة. اشتغال هيلير بالصحافة قاده إلى الشغف بالتصوير والأفلام الوثائقية ومن خلالهما برزت اهتماماته بالتاريخ والبحث التاريخي. وهكذا توسعت دائرة شغفه حتى شملت الاستكشافات الأثرية والحياة الفطرية وحمايتها، ولاسيما الشق المتعلق بالطيور والصقور. وفي عام 1975 قدم إلى دولة الإمارات لإعداد فيلم وثائقي تسجيلي عن الزيارات الخارجية للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وذلك بترتيب من المرحوم الأستاذ إبراهيم العابد الذي كان تعين في السنة ذاتها في وزارة الإعلام والثقافة الإماراتية مسؤولاً عن الإعلام الخارجي. ويعتقد أن العابد وهيلير اللذين تزاملا لاحقاً ولسنوات طويلة وعملا معاً في تأسيس وإدارة وكالة أنباء الإمارات وإنشاء خدمة اللغة الإنجليزية بها، انجذب كل منهما إلى الآخر بسبب مواقفهما السياسية المتطابقة من قضية الصراع العربي الإسرائيلي، لاسيما أن العابد رحمه الله من أصول فلسطينية.
لقاء الشيخ زايد
في الإمارات، تعرف هيلير وزوجته على الشيخ زايد لأول مرة في سوق للخضار والفواكه، حيث وصل الشيخ زايد إلى هناك لتفقد السوق ومعرفة أحوال الناس وتفقد أوضاعهم عن كثب كعادته رحمه الله، فانبهر الرجل بشخصية القائد المؤسس. لاحقاً توثقت علاقتهما وزادت معرفة كل منهما بالآخر، خصوصاً بعد مرافقة هيلير للشيخ زايد في زياراته الرسمية إلى اليمن ومصر وفرنسا واليابان وإندونيسيا لتصوير وإعداد أفلام وثائقية عن تلك الزيارات.
وجملة القول، إن ملازمة هيلير للشيخ زايد وتعرفه على اهتماماته وأسلوبه البعيد عن التكلف في إدارة دولته الفتية، جعله يقرر البقاء في البلاد وصرف النظر عن العودة إلى بريطانيا كما كان مقرراً، والعمل بدلاً من ذلك على تطوير جهاز الإعلام وتقديم خدمات استشارية مع ممارسة شغفه في البحث والتنقيب عن الآثار.
وهكذا، نجده يساعد في عام 1977 في إنشاء وكالة الأنباء الإماراتية الرسمية (وام) باللغة الإنجليزية، ويترأس البث التلفزيوني والإذاعي باللغات الأجنبية في أبوظبي، ويشغل من عام 1985 وحتى عام 1999 منصب مدير تحرير صحيفة «أخبار الإمارات»، الصحيفة الرسمية الناطقة باسم حكومة أبوظبي. وبعد إغلاق الصحيفة واصل عمله في مجال الأخبار والاتصالات وصار مستشاراً إعلامياً للمجلس الوطني للإعلام، حيث كان له بالمجلس مكتب خاص مزدحم على الدوام بأكوام من الصحف الأجنبية وبالصحفيين والمراسلين الأجانب من مختلف أنحاء العالم. كما تمت الاستعانة به كمستشار في مجال النفط.
مؤلفات غنية
وما بين هذه المسؤولية وتلك، كان هيلير يقتنص بعض الوقت لتأليف أو تحرير الكتب والمؤلفات المتعلقة بشؤون الإمارات التراثية والبيئية والفطرية والسياحية، ساكباً فيها معارفه الغزيرة وشغفه اللامحدود بهذه المجالات، وسارداً مشاهداته وملاحظاته واكتشافاته الميدانية. فعلى سبيل المثال تمكن الرجل خلال فترة وجوده على أرض الإمارات من إثراء المكتبة الإماراتية والعربية بنحو عشرين مؤلفاً، راوحت مواضيعها ما بين تاريخ الاكتشافات النفطية في أبوظبي، وتاريخ مدينة العين، وتراث الإمارات، وشخصية الشيخ زايد ومسيرته، ومظاهر الطبيعة والحياة الفطرية في الإمارات، وإمارة الفجيرة (جوهرة الإمارات العربية على ساحل بحر العرب)، وإمارة أبوظبي (واحة الخليج)، وجبل حفيت (ثاني أعلى قمة في الإمارات)، والتنوعات الأركيولوجية والإنثروبولوجية، وغيرها.
والحقيقة، أن مؤلفاته المكتنزة بالمعلومات الدقيقة كانت ثمرة من ثمار ترؤسه لسنوات عديدة «مجموعة الإمارات للتاريخ الطبيعي»، وتوليه لعدة عقود مسؤوليات تحريره مجلة المجموعة تحت اسم «تريبولوس»، ناهيك عن مشاركته في عام 1992 في تأسيس وقيادة هيئة المسح الأثري لجزر أبوظبي التي أسفرت عن اكتشاف دير مسيحي قديم يبلغ عمره 1,400 سنة في جزيرة صير بني ياس وقرى تعود إلى العصر الحجري في جزيرتي دلما ومروة، وغيرها من الاكتشافات التي أكدت التاريخ الأثري الغني للبلاد. إلى ذلك دعم وساهم في الأعمال الاستكشافية للآثار في أم القيوين فكان وراء المزيد من الاكتشافات المذهلة هناك، مثل اكتشاف دير قديم في العام الماضي واكتشاف أقدم قرية لصيادي اللؤلؤ في الخليج العربي قبل وفاته بأشهر، كما شارك في إنجاز نصب تذكاري في إمارة الفجيرة لطيار من سلاح الجو الملكي البريطاني كان توفي هناك إبان الحرب العالمية الثانية، وأسس «مجلس سجل الطيور» في الإمارات، الذي صدر عنه كتابا «طيور الشرق الأوسط» و«طيور الإمارات العربية المتحدة»، من تأليف هيلير نفسه بالاشتراك مع زميله رتشارد بورتير.
الجنسية الإماراتية في 2010
وتقديراً لمجمل جهوده وإنجازاته في خدمة الإمارات تمّ منحه الجنسية الإماراتية في عام 2010، وفي العام 2013 حصل على جائزة أبوظبي مع وسامها. وهذه الجائزة، التي تعد أعلى تكريم مدني في إمارة أبوظبي، صدر مرسوم أميري بإنشائها في عام 2005، وتمنح للأفراد الذين أسهموا بتفانيهم والتزامهم في خدمة مجتمع دولة الإمارات. وكان هيلير قد حصل في عام 2005 على جائزة الشيخ مبارك بن محمد لتاريخ الطبيعة.
لم يكتفِ الفقيد بما سبق، وإنما قام أيضاً بإيصال معلوماته ومعارفه التاريخية والثقافية إلى الجمهور العريض من خلال محاضرات وعروض في المدارس والجامعات والمنتديات العامة، رغبة منه في توعية المجتمع والشباب بتراث الإمارات وتاريخها القديم والحديث، ومنها محاضرة قيّمة ألقاها سنة 2008 في جامعة نيويورك بأبوظبي تحت عنوان «زايد والتراث البيئي والثقافي لدولة الإمارات»، تحدث فيها عن مدى شغف الشيخ زايد وحبه لمعرفة كل ما هو موجود في وطنه من حجر وطير وبشر وأثر، ومدى إسهامات سموه في إطلاق وتشجيع ومتابعة مشاريع الحفاظ على المحميات الطبيعية في أبوظبي وعمليات الحفاظ على البيئة الزراعية، وكيف أن سموه كان يفضل أن يجوب مناطق بلاده البعيدة بالسيارات وليس بالمروحيات لأن السيارة يمكن إيقافها فوراً والترجل منها لمعاينة أي شيء ملفت للنظر، على العكس من الهليوكوبتر.
أما مساهمات هيلير في الكتابة الصحفية المنتظمة في صحف الإمارات، فقد بدأت في عام 2008 من خلال عمود نصف شهري بجريدة The National اليومية التي كان قد قدم المشورة لها في الأشهر التي سبقت صدورها بدءاً من أبريل 2008، علما بأنه توقف في عام 2022 بعد أن كتب آخر أعمدته وكان بعنوان «عام ذهبي» لعلم الآثار في الإمارات، قال فيه: «لا يزال هناك الكثير لنتعلمه عن تاريخ هذه الأرض». ويتذكر الكثيرون إلى اليوم عموداً كتبته أنتقد فيه كتاباً مدرسياً مقرراً في مادة التاريخ، الأمر الذي دفع المسؤولين إلى استبداله بكتاب آخر مطور باللغتين العربية والإنجليزية من تأليف هيلير مع محمد المبارك وبيتر ماغي.
سيفتقد الإماراتيون بعد اليوم ذلك الرجل الذي كان يخرج إلى الأماكن النائية مرتدياً سترة متعددة الجيوب وقبعة عريضة مرنة الحواف، من أجل البحث عن تاريخهم وآثارهم المدفونة وإثراء مكتبتهم بالأبحاث الميدانية الموثقة.