كان يوم 20 أغسطس 2022 يوماً حزيناً، دمعت فيه أعين المشتغلين في الفكر والثقافة والمعرفة داخل المملكة العربية السعودية وخارجها، واكتأبت فيه نفوسهم وارتفعت أكفهم بالدعاء والترحم والتضرع. ففيه انتقل إلى جوار ربه في مشفاه بالولايات المتحدة رجل الأعمال والمثقف والدبلوماسي والأديب الشيخ عبدالمقصود خوجة، الشخصية الآسرة الفريدة التي سخرت كل ما تملك من وقت وجهد ومال في سبيل المعرفة والاحتفاء برموز الفكر والإبداع محلياً وخليجياً وعربياً وعالمياً، وتكريمهم بما يليق بإنجازاتهم من خلال صالونه الأدبي بجدة المعروف باسم «منتدى الإثنينية الثقافي الأدبي»، والذي أسسه في العام 1982، وكرم من خلاله 530 عالماً ومفكراً وأديباً من الجنسين من دول عربية وأجنبية عدة في شتى المجالات والتخصصات، وأصدر عن طريقه أكثر من 185 مجلداً، علاوة على العديد من الإصدارات المجانية الجامعة والموثقة لأعمال الأدباء السعوديين القدامى، وألحق بها مكتبة بصرية وأرشيفاً توثيقياً لتاريخ الأدب والفنون والعلوم في السعودية لا تملكها مؤسسات متخصصة. أضف إلى ذلك قيام الفقيد بالإنفاق من ماله الخاص على عملية ترجمة وطباعة عمل موسوعي عملاق تحت إشراف «سلمى الخضراء الجيوسي»، وهو كتاب «الحضارة العربية والإسلامية في الأندلس»، الذي نشر بالإنجليزية من تأليف نخبة من الأساتذة العرب والأجانب.
والحقيقة أن الإنسان ليعجز في إعطاء هذا الرجل الاستثنائي حقه من التقدير والثناء، لأنه جمع في شخصه الكثير من الصفات التي باتت نادرة في زمننا الراهن، فقد كان رحمه الله كريماً في أخلاقه، مخلصاً لوطنه، شفافاً في تعاملاته، دؤوباً في نشاطه الثقافي، وفياً لمعارفه، باراً بأهله، صريحاً في مواقفه. هذا ناهيك عن أنه ضرب مثالاً ناصعاً لما يمكن أن يفعله رأسمال الوطني ورجل الأعمال المثقف والمتحضر في تحريك المشهد الثقافي والمعرفي.
الذين عرفوه عن كثب أو تعاملوا معه أجمعوا على امتلاكه كاريزما واضحة واتصافه بأناقة فريدة في أسلوب معيشته وطريقة سيره وحديثه واختيار مفرداته واستقبال ضيوفه. فهذا الكاتب أحمد الغر يكتب عنه في مجلة اليمامة السعودية (25/8/2022) قائلاً: «كان يقف بنفسه لاستقبال ضيوفه في أمسيات الإثنينية، وكان ملماً بأدق التفاصيل حول الأمسية، وكانت لديه طريقة مميزة ومبدعة في تقديمها. لم يكن خوجة مادحاً ولا ناقداً للمسؤولين، وإنما مؤدباً يعرف بذكاء كيف يخاطب المسؤولين ويطالبهم بما يأمل أن يُصنَع للمثقفين والمشتغلين في مجال الفكر. أبعد الإثنينية عن الدخول في بحور السياسة والتمذهب، وحصّنها ضد العنصرية وتصفية الحسابات والنقد الهدّام».
جينات والده
ولد الشيخ عبدالمقصود محمد سعيد عبدالمقصود خوجة بمكة المكرمة سنة 1936 ابناً أكبر لوالده الأديب المكي الشيخ محمد سعيد خوجة، الذي كان له باع طويل في الكتابة والنشر وطباعة كتب التراث والتاريخ، ناهيك عن ترؤسه تحرير جريدة أم القرى في الفترة من سنة 1350 إلى سنة 1355 للهجرة، وحرصه إبان ذلك على ابتعاث مرؤوسيه إلى مصر للاستفادة من خبراتها الطباعية المتقدمة، وإطلاقه لفكرة طباعة المصحف الشريف في مكة المكرمة، وتنظيمه لحفل تعارف سنوي أشبه بالمنتدى الأدبي خلال موسم الحج بمنى في منزل الشيخ ماجد الكردي، حيث كان يجمع فيه كبار الشخصيات الوافدة للحج من علماء وأدباء وساسة ورجال فكر. وقد وُصف بأنه أديب من مخضرمي العهود التركية والهاشمية والسعودية، وهو ما جعله مؤهلاً لإيقاظ الأدب الحجازي من غفوته الطويلة، بدليل أنه شارك صديقه الشيخ عبدالله بلخير (مترجم الملك عبدالعزيز ورئيس ديوان الملك سعود ومستشاره وأول مدير للإذاعة والصحافة والنشر في السعودية)، في إعداد وإصدار كتاب «من وحي الصحراء»، الذي تضمن سرداً لحياة وأعمال عدد من شعراء وأدباء الحجاز.
ومن كان هذا والده، فمن الطبيعي أن تنتقل جيناته بالوراثة إلى الابن فيصبح صنواً لأبيه في اهتماماته وأنشطته الفكرية والأدبية، بل يمكن القول إن والده ورث الجينات نفسها من أبيه (جد الشيخ عبدالمقصود)، الذي كان عالماً أزهرياً جاء إلى الحجاز من بلدة الفيوم المصرية في عهد الدولة العثمانية، وشخصية مهتمة بالعلم والتعليم بدليل مشاركته بعض الفضلاء في إطلاق مدرسة النجاح الأهلية بجدة عام 1317 للهجرة، كأول مدرسة عربية في الحجاز مقاومة لعملية فرض الثقافة التركية آنذاك.
العمل الحكومي
وبالعودة إلى سيرة الشيخ عبدالمقصود، نجد أنه أنهى دراسته الابتدائية وجزءاً من دراسته الثانوية في مدارس الفلاح بمكة التي أسسها تاجر اللؤلؤ الحجازي ورجل البر والإحسان الحاج محمد علي زينل عام 1911، وهي المدرسة التي علمت وخرّجت مع نظيرتها بجدة (تأسست عام 1905) معظم الكوادر الحكومية التي اضطلعت بمهام إدارة شؤون الدولة السعودية الحديثة في بواكير نشأتها. ولأجل إكمال تعليمه أرسله والده إلى دمشق في خمسينات القرن العشرين، حيث التحق هناك بالمعهد العربي الإسلامي ونال شهادته منه. بعد ذلك قفل عائداً إلى بلاده لخدمتها، فبدأ مسيرته المهنية بالعمل الحكومي، حيث شغل العديد من المناصب الحكومية التي تدرج فيها واكتسب منها الحنكة والخبرة الإدارية، ولاسيما زمن توليه منصب مدير مكتب الشيخ عبدالله بن عمر بلخير، الذي شغل منصب مدير عام الإذاعة والصحافة والنشر من منتصف الخمسينات وحتى منتصف الستينات تقريباً قبل تأسيس وزارة الإعلام. ومما لا شك فيه أن تلك الخبرة، معطوفة على شخصيته الكاريزمية وتفانيه في العمل ساهمت في إرساله إلى المفوضية السعودية ببيروت ليعمل بها كمندوب للديوان الملكي السعودي، ولاحقاً كدبلوماسي بالمكتب الصحفي للسفارة السعودية في لبنان، في زمن بدأت فيه ملامح الدبلوماسية السعودية في البروز على الصعيد الإقليمي. وهكذا استفاد خوجة من إقامته وعمله في بيروت في اكتساب خبرات إضافية والتعرف على المناشط الثقافية المتنوعة وتكوين علاقات واتصالات واسعة مع صناع القرار ورواد الفكر.
العمل الحر
المنصب التالي الذي شغله كان «مدير الإدارة العامة للصحافة والإذاعة والنشر» بجدة، وهو المنصب الذي اختتم به مشوار عمله الحكومي. إذ قرر في عام 1964 الاستقالة - بالتزامن تقريباً مع ترك صديق والده الشيخ عبدالله بالخير لوظائفه ومغادرته السعودية للإقامة في بيروت - وذلك من أجل الاتجاه إلى العمل الحر، حيث أسس عدة شركات في مجالات البناء والمقاولات والصناعة منها «مجموعة خوجة» المختصة بتطوير المشاريع السكنية. ظل خوجة منشغلاً بأعماله ومسؤولياته التجارية لفترة طويلة، متنقلاً وراحلاً من مكان إلى آخر، إلى أن شعر بضرورة أن يوجه قدراً من وقته وجهده وثروته نحو النشاط الفكري والثقافي المتأصل في شخصيته. فكانت تلك هي اللحظة الفارقة التي قادته بعد سنوات إلى فكرة «الإثنينية»، مثلما قادته إلى نيل العضويات الشرفية والفاعلة والتأسيسية للعديد من الأندية والمراكز والجمعيات والمنتديات الاجتماعية والثقافية والعلمية داخل السعودية وخارجها، ناهيك عن اختياره لعضوية مجالس بعض المؤسسات الصحفية المحلية (جريدة الندوة ومؤسسة عسير للصحافة مثلاً) وعضوية مجالس الأمناء في عدد من المؤسسات الفكرية المرموقة (مؤسسة الفكر العربي، ورابطة الأدب الإسلامي، والمجمع العلمي العالي للعلوم الإسلامية بدمشق مثلاً).
منتدى الإثنينية
وبالرغم من مساهماته المتنوعة في الحياة الفكرية والأدبية داخل وطنه السعودي، إلا أن اسم عبدالمقصود خوجة ارتبط تحديداً بمنتدى الإثنينية، الذي كان يعقده مساء كل يوم إثنين في داره العامرة بحي الروضة في جدة، بحضور كثيف من قبل الأمراء والمسؤولين والدبلوماسيين والأكاديميين ورجالات الفكر والثقافة والصحافة والأدب والعلوم، بالإضافة إلى العوام. لم يكن خوجة فقط مجرد مثقف يستضيف الإعلام في منتداه ويكرمهم ويوقرهم، من منطلق إيمانه الراسخ بضرورة إنصاف الرواد والمبدعين في مجالاتهم قبل رحيلهم، وإنما كان حريصاً على أن يتولى بنفسه دقائق مهمة منتداه، وأن يضع له قوانين ونظماً خاصة كي يبدو متميزاً عن المنتديات والصالونات الأخرى. ومن هنا قيل إن ما جعل لإثنينية خوجة نكهة خاصة وتميزاً وثراء هو صاحبها الأديب الأريب الذي توخى أن تكون أقرب للمؤسسة الثقافية المرنة المتسمة بالحيوية والنقاش والتفاعل ومواكبة المتغيرات منها إلى الصالون الثقافي الخاص، أو الأندية الأدبية الرسمية ذات الطابع الصارم.
ولهذا فإن المتمعن في أنشطتها على مدى أربعة عقود يجدها استضافت وكرمت أسماء من أطياف ومشارب فكرية متنوعة، وجنسيات مختلفة، منهم على سبيل المثال: أبو الحسن الندوي من الهند، زكي قنصل من الأرجنتين، أحمد ديدات من جنوب أفريقيا، ألكسي فاسيليف وبنيامين بوبوف وأوليق بريسيلين من روسيا، محمد مهدي الجواهري من العراق، عمر أبو ريشة وعبدالله الطنطاوي من سوريا، محمود السعدني وفاروق جويدة من مصر، محمد صالح الشنطي من الأردن، محمد جابر الأنصاري وعلي الشرقاوي من البحرين، ومحمد الحبيب بن الخوجة من تونس. هذا، علاوة على ثلة من الشخصيات المحلية المبدعة في مجالها مثل: عبدالعزيز المسند، إبراهيم العواجي، عبدالقدوس الأنصاري، سليمان الذييب، عبدالله الفيفي، طاهر زمخشري، عبدالمجيد شبكشي، عبدالله بلخير، محمد حسين زيدان، حسين عرب، حسين سرحان، أحمد الغزاوي، حمزة شحاتة، عزيز ضياء، حسين باشا سراج، السيد أحمد عبيد، محمود عارف، أحمد العربي، عبدالعزيز الرفاعي، عثمان الصالح، حسن عبدالله قرشي، عدنان العوامي، حسن الصفار، أحمد أبودهمان، طارق عبدالحكيم، عبدالكريم الجهيمان، فهد العريفي، عبدالرحمن الشبيلي، محمد القشعمي، راشد المبارك، حمد القاضي، عبدالله الجفري، أبوتراب الظاهري، صفية بن زقر، حياة سندي، خولة الكريع، ثريا العريض، وغيرهم كثير.
رحل دون ضجيج
قبل خمس سنوات من وفاته، رحمه الله، انتكست صحته وراح يصارع المرض ويخضع للعلاج، وهو ما اضطره مجبراً لاتخاذ قرار بإيقاف أنشطة «الإثنينية» مؤقتاً. لم يكن القرار مؤلماً لصاحبه فقط، وإنما أوجع أيضاً غيره من أولئك الذين وجدوا ضالتهم في حضور أنشطة الإثنينية على مدى سنوات طويلة، وأعجبوا بنهجها وتفردها وألق صاحبها. لقد فقدت «الإثنينية» الكثير من بريقها خلال السنوات التي غاب فيها صاحبها عن المشهد بسبب المرض، ومما لا شك فيه أن غيابه الأبدي الآن، بعدما رحل عن دنيانا بهدوء ودون ضجيج، سيترك فراغاً هائلاً لن يستطيع أحد ملأه، وإن ظلت روحه تخفق في أرجاء المكان وبقي عطره فواحاً يجوب الزوايا.
في عام 2014 أجرت صحيفة الشرق الأوسط الدولية (24/5/2014) حواراً مع خوجة، تطرق فيه إلى أمور كثيرة ذات علاقة بالإثنينية وفعالياتها وطموحاته المستقبلية. اشتكى خوجة في حواره من إحجام بعض الأوساط الثقافية عن حضور فعاليات الإثنينية، وبالتالي «نجد أنفسنا مهزومين خاصة عندما يأتينا ضيف من خارج الحدود ويرى أمامه حضوراً باهتاً، بالإضافة إلى أن الإعلام لم يقم بدوره تجاهنا كما هو مأمول منه، باستثناء بعض الصحف، رغم تواصلنا المكثف مع جميع ألوان الطيف الثقافي والأدبي عبر مختلف وسائط الاتصال الحديثة المتنوعة». وحينما سئل عن أسباب ذلك الإحجام الإعلامي والثقافي، كان رده: «ماذا تفعل (الإثنينية) والمنتديات والأندية الثقافية عموماً إزاء مجتمع يعشق معظمه الفن والرياضة! وتفرد الصحافة المحلية صفحات مقدرة، وتحجب فعاليات ثقافية مميزة، أو تنشرها على استحياء لرفع العتب أحياناً». أما عن طموحاته فاختصرها في أنه يود غرس الإثنينية «في مختلف الدول العربية تحت مظلة الجامعة العربية بدعم ومؤازرة وزيارات متبادلة في البدء، ثم توأمة الإثنينية مع نظيراتها أو إنشاء وحدات مستقلة في كل بلد تعمل على ذات النهج في إطار التكريم والاحتفاء والتوثيق الأدبي والثقافي والفكري، بعيداً عن السياسة والخلافات الدينية والمذهبية أو العنصرية أو تصفية الحسابات».
تكريم مستحق
وأخيراً، فإن الرجل الذي كرم المئات دون أن يفاخر بجهوده قط، مؤمناً بأن ما يفعله ليس سوى رد للجميل وعرفان مستحق تجاه من عطروا حياتنا بإنجازاتهم وإبداعاتهم، كان رافضاً لفكرة تكريمه وحاول أن يتملص منها، لكن جهوده ومآثره كانت أكبر من أن تمر دون احتفاء وتكريم، حيث تمّ تكريمه من قبل مجموعة من المجالس والمنتديات السعودية، وتوج من قبل سمو أمير منطقة مكة المكرمة سنة 2009 بجائزة مكة للتميز في المجال الثقافي، وحصل على الزمالة الفخرية من رابطة الأدب الحديث بالقاهرة تقديراً لعطاءاته وجهوده المشهودة في إثراء الحركة الأدبية والفكرية في السعودية والوطن العربي، ومنح وسام الثقافة من قبل وزير الثقافة والإعلام د. عبدالعزيز خوجة سنة 2010، ضمن فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب.
غير أن أكبر وأفضل تكريم للرجل اليوم، كما قال الكاتب أحمد عدنان، هو أن تستعيد «الإثنينية»، التي أسسها وأفنى حياته في سبيلها، نشاطها المؤسساتي، وأن تتفاعل مع المتغيرات وتواكبها وتبقى صرحاً متفرداً كما كانت دوماً.
ونختتم بأبيات نظمها الأديب د. يوسف حسن العارف في رثاء الفقيد:
نبأ سرى فتزلزلت أركاني
وانهد حيلي واستراب كياني
وتساقط الدمع الهتون فليتني
لم أسمع الأخبار في الإعلان
قالوا توفى قلت للفردوس من
كانت شواهده على الأعيان
نور من التقوى على شرفاته
وعلى يديه شواهد التبيان.
والحقيقة أن الإنسان ليعجز في إعطاء هذا الرجل الاستثنائي حقه من التقدير والثناء، لأنه جمع في شخصه الكثير من الصفات التي باتت نادرة في زمننا الراهن، فقد كان رحمه الله كريماً في أخلاقه، مخلصاً لوطنه، شفافاً في تعاملاته، دؤوباً في نشاطه الثقافي، وفياً لمعارفه، باراً بأهله، صريحاً في مواقفه. هذا ناهيك عن أنه ضرب مثالاً ناصعاً لما يمكن أن يفعله رأسمال الوطني ورجل الأعمال المثقف والمتحضر في تحريك المشهد الثقافي والمعرفي.
الذين عرفوه عن كثب أو تعاملوا معه أجمعوا على امتلاكه كاريزما واضحة واتصافه بأناقة فريدة في أسلوب معيشته وطريقة سيره وحديثه واختيار مفرداته واستقبال ضيوفه. فهذا الكاتب أحمد الغر يكتب عنه في مجلة اليمامة السعودية (25/8/2022) قائلاً: «كان يقف بنفسه لاستقبال ضيوفه في أمسيات الإثنينية، وكان ملماً بأدق التفاصيل حول الأمسية، وكانت لديه طريقة مميزة ومبدعة في تقديمها. لم يكن خوجة مادحاً ولا ناقداً للمسؤولين، وإنما مؤدباً يعرف بذكاء كيف يخاطب المسؤولين ويطالبهم بما يأمل أن يُصنَع للمثقفين والمشتغلين في مجال الفكر. أبعد الإثنينية عن الدخول في بحور السياسة والتمذهب، وحصّنها ضد العنصرية وتصفية الحسابات والنقد الهدّام».
جينات والده
ولد الشيخ عبدالمقصود محمد سعيد عبدالمقصود خوجة بمكة المكرمة سنة 1936 ابناً أكبر لوالده الأديب المكي الشيخ محمد سعيد خوجة، الذي كان له باع طويل في الكتابة والنشر وطباعة كتب التراث والتاريخ، ناهيك عن ترؤسه تحرير جريدة أم القرى في الفترة من سنة 1350 إلى سنة 1355 للهجرة، وحرصه إبان ذلك على ابتعاث مرؤوسيه إلى مصر للاستفادة من خبراتها الطباعية المتقدمة، وإطلاقه لفكرة طباعة المصحف الشريف في مكة المكرمة، وتنظيمه لحفل تعارف سنوي أشبه بالمنتدى الأدبي خلال موسم الحج بمنى في منزل الشيخ ماجد الكردي، حيث كان يجمع فيه كبار الشخصيات الوافدة للحج من علماء وأدباء وساسة ورجال فكر. وقد وُصف بأنه أديب من مخضرمي العهود التركية والهاشمية والسعودية، وهو ما جعله مؤهلاً لإيقاظ الأدب الحجازي من غفوته الطويلة، بدليل أنه شارك صديقه الشيخ عبدالله بلخير (مترجم الملك عبدالعزيز ورئيس ديوان الملك سعود ومستشاره وأول مدير للإذاعة والصحافة والنشر في السعودية)، في إعداد وإصدار كتاب «من وحي الصحراء»، الذي تضمن سرداً لحياة وأعمال عدد من شعراء وأدباء الحجاز.
ومن كان هذا والده، فمن الطبيعي أن تنتقل جيناته بالوراثة إلى الابن فيصبح صنواً لأبيه في اهتماماته وأنشطته الفكرية والأدبية، بل يمكن القول إن والده ورث الجينات نفسها من أبيه (جد الشيخ عبدالمقصود)، الذي كان عالماً أزهرياً جاء إلى الحجاز من بلدة الفيوم المصرية في عهد الدولة العثمانية، وشخصية مهتمة بالعلم والتعليم بدليل مشاركته بعض الفضلاء في إطلاق مدرسة النجاح الأهلية بجدة عام 1317 للهجرة، كأول مدرسة عربية في الحجاز مقاومة لعملية فرض الثقافة التركية آنذاك.
العمل الحكومي
وبالعودة إلى سيرة الشيخ عبدالمقصود، نجد أنه أنهى دراسته الابتدائية وجزءاً من دراسته الثانوية في مدارس الفلاح بمكة التي أسسها تاجر اللؤلؤ الحجازي ورجل البر والإحسان الحاج محمد علي زينل عام 1911، وهي المدرسة التي علمت وخرّجت مع نظيرتها بجدة (تأسست عام 1905) معظم الكوادر الحكومية التي اضطلعت بمهام إدارة شؤون الدولة السعودية الحديثة في بواكير نشأتها. ولأجل إكمال تعليمه أرسله والده إلى دمشق في خمسينات القرن العشرين، حيث التحق هناك بالمعهد العربي الإسلامي ونال شهادته منه. بعد ذلك قفل عائداً إلى بلاده لخدمتها، فبدأ مسيرته المهنية بالعمل الحكومي، حيث شغل العديد من المناصب الحكومية التي تدرج فيها واكتسب منها الحنكة والخبرة الإدارية، ولاسيما زمن توليه منصب مدير مكتب الشيخ عبدالله بن عمر بلخير، الذي شغل منصب مدير عام الإذاعة والصحافة والنشر من منتصف الخمسينات وحتى منتصف الستينات تقريباً قبل تأسيس وزارة الإعلام. ومما لا شك فيه أن تلك الخبرة، معطوفة على شخصيته الكاريزمية وتفانيه في العمل ساهمت في إرساله إلى المفوضية السعودية ببيروت ليعمل بها كمندوب للديوان الملكي السعودي، ولاحقاً كدبلوماسي بالمكتب الصحفي للسفارة السعودية في لبنان، في زمن بدأت فيه ملامح الدبلوماسية السعودية في البروز على الصعيد الإقليمي. وهكذا استفاد خوجة من إقامته وعمله في بيروت في اكتساب خبرات إضافية والتعرف على المناشط الثقافية المتنوعة وتكوين علاقات واتصالات واسعة مع صناع القرار ورواد الفكر.
العمل الحر
المنصب التالي الذي شغله كان «مدير الإدارة العامة للصحافة والإذاعة والنشر» بجدة، وهو المنصب الذي اختتم به مشوار عمله الحكومي. إذ قرر في عام 1964 الاستقالة - بالتزامن تقريباً مع ترك صديق والده الشيخ عبدالله بالخير لوظائفه ومغادرته السعودية للإقامة في بيروت - وذلك من أجل الاتجاه إلى العمل الحر، حيث أسس عدة شركات في مجالات البناء والمقاولات والصناعة منها «مجموعة خوجة» المختصة بتطوير المشاريع السكنية. ظل خوجة منشغلاً بأعماله ومسؤولياته التجارية لفترة طويلة، متنقلاً وراحلاً من مكان إلى آخر، إلى أن شعر بضرورة أن يوجه قدراً من وقته وجهده وثروته نحو النشاط الفكري والثقافي المتأصل في شخصيته. فكانت تلك هي اللحظة الفارقة التي قادته بعد سنوات إلى فكرة «الإثنينية»، مثلما قادته إلى نيل العضويات الشرفية والفاعلة والتأسيسية للعديد من الأندية والمراكز والجمعيات والمنتديات الاجتماعية والثقافية والعلمية داخل السعودية وخارجها، ناهيك عن اختياره لعضوية مجالس بعض المؤسسات الصحفية المحلية (جريدة الندوة ومؤسسة عسير للصحافة مثلاً) وعضوية مجالس الأمناء في عدد من المؤسسات الفكرية المرموقة (مؤسسة الفكر العربي، ورابطة الأدب الإسلامي، والمجمع العلمي العالي للعلوم الإسلامية بدمشق مثلاً).
منتدى الإثنينية
وبالرغم من مساهماته المتنوعة في الحياة الفكرية والأدبية داخل وطنه السعودي، إلا أن اسم عبدالمقصود خوجة ارتبط تحديداً بمنتدى الإثنينية، الذي كان يعقده مساء كل يوم إثنين في داره العامرة بحي الروضة في جدة، بحضور كثيف من قبل الأمراء والمسؤولين والدبلوماسيين والأكاديميين ورجالات الفكر والثقافة والصحافة والأدب والعلوم، بالإضافة إلى العوام. لم يكن خوجة فقط مجرد مثقف يستضيف الإعلام في منتداه ويكرمهم ويوقرهم، من منطلق إيمانه الراسخ بضرورة إنصاف الرواد والمبدعين في مجالاتهم قبل رحيلهم، وإنما كان حريصاً على أن يتولى بنفسه دقائق مهمة منتداه، وأن يضع له قوانين ونظماً خاصة كي يبدو متميزاً عن المنتديات والصالونات الأخرى. ومن هنا قيل إن ما جعل لإثنينية خوجة نكهة خاصة وتميزاً وثراء هو صاحبها الأديب الأريب الذي توخى أن تكون أقرب للمؤسسة الثقافية المرنة المتسمة بالحيوية والنقاش والتفاعل ومواكبة المتغيرات منها إلى الصالون الثقافي الخاص، أو الأندية الأدبية الرسمية ذات الطابع الصارم.
ولهذا فإن المتمعن في أنشطتها على مدى أربعة عقود يجدها استضافت وكرمت أسماء من أطياف ومشارب فكرية متنوعة، وجنسيات مختلفة، منهم على سبيل المثال: أبو الحسن الندوي من الهند، زكي قنصل من الأرجنتين، أحمد ديدات من جنوب أفريقيا، ألكسي فاسيليف وبنيامين بوبوف وأوليق بريسيلين من روسيا، محمد مهدي الجواهري من العراق، عمر أبو ريشة وعبدالله الطنطاوي من سوريا، محمود السعدني وفاروق جويدة من مصر، محمد صالح الشنطي من الأردن، محمد جابر الأنصاري وعلي الشرقاوي من البحرين، ومحمد الحبيب بن الخوجة من تونس. هذا، علاوة على ثلة من الشخصيات المحلية المبدعة في مجالها مثل: عبدالعزيز المسند، إبراهيم العواجي، عبدالقدوس الأنصاري، سليمان الذييب، عبدالله الفيفي، طاهر زمخشري، عبدالمجيد شبكشي، عبدالله بلخير، محمد حسين زيدان، حسين عرب، حسين سرحان، أحمد الغزاوي، حمزة شحاتة، عزيز ضياء، حسين باشا سراج، السيد أحمد عبيد، محمود عارف، أحمد العربي، عبدالعزيز الرفاعي، عثمان الصالح، حسن عبدالله قرشي، عدنان العوامي، حسن الصفار، أحمد أبودهمان، طارق عبدالحكيم، عبدالكريم الجهيمان، فهد العريفي، عبدالرحمن الشبيلي، محمد القشعمي، راشد المبارك، حمد القاضي، عبدالله الجفري، أبوتراب الظاهري، صفية بن زقر، حياة سندي، خولة الكريع، ثريا العريض، وغيرهم كثير.
رحل دون ضجيج
قبل خمس سنوات من وفاته، رحمه الله، انتكست صحته وراح يصارع المرض ويخضع للعلاج، وهو ما اضطره مجبراً لاتخاذ قرار بإيقاف أنشطة «الإثنينية» مؤقتاً. لم يكن القرار مؤلماً لصاحبه فقط، وإنما أوجع أيضاً غيره من أولئك الذين وجدوا ضالتهم في حضور أنشطة الإثنينية على مدى سنوات طويلة، وأعجبوا بنهجها وتفردها وألق صاحبها. لقد فقدت «الإثنينية» الكثير من بريقها خلال السنوات التي غاب فيها صاحبها عن المشهد بسبب المرض، ومما لا شك فيه أن غيابه الأبدي الآن، بعدما رحل عن دنيانا بهدوء ودون ضجيج، سيترك فراغاً هائلاً لن يستطيع أحد ملأه، وإن ظلت روحه تخفق في أرجاء المكان وبقي عطره فواحاً يجوب الزوايا.
في عام 2014 أجرت صحيفة الشرق الأوسط الدولية (24/5/2014) حواراً مع خوجة، تطرق فيه إلى أمور كثيرة ذات علاقة بالإثنينية وفعالياتها وطموحاته المستقبلية. اشتكى خوجة في حواره من إحجام بعض الأوساط الثقافية عن حضور فعاليات الإثنينية، وبالتالي «نجد أنفسنا مهزومين خاصة عندما يأتينا ضيف من خارج الحدود ويرى أمامه حضوراً باهتاً، بالإضافة إلى أن الإعلام لم يقم بدوره تجاهنا كما هو مأمول منه، باستثناء بعض الصحف، رغم تواصلنا المكثف مع جميع ألوان الطيف الثقافي والأدبي عبر مختلف وسائط الاتصال الحديثة المتنوعة». وحينما سئل عن أسباب ذلك الإحجام الإعلامي والثقافي، كان رده: «ماذا تفعل (الإثنينية) والمنتديات والأندية الثقافية عموماً إزاء مجتمع يعشق معظمه الفن والرياضة! وتفرد الصحافة المحلية صفحات مقدرة، وتحجب فعاليات ثقافية مميزة، أو تنشرها على استحياء لرفع العتب أحياناً». أما عن طموحاته فاختصرها في أنه يود غرس الإثنينية «في مختلف الدول العربية تحت مظلة الجامعة العربية بدعم ومؤازرة وزيارات متبادلة في البدء، ثم توأمة الإثنينية مع نظيراتها أو إنشاء وحدات مستقلة في كل بلد تعمل على ذات النهج في إطار التكريم والاحتفاء والتوثيق الأدبي والثقافي والفكري، بعيداً عن السياسة والخلافات الدينية والمذهبية أو العنصرية أو تصفية الحسابات».
تكريم مستحق
وأخيراً، فإن الرجل الذي كرم المئات دون أن يفاخر بجهوده قط، مؤمناً بأن ما يفعله ليس سوى رد للجميل وعرفان مستحق تجاه من عطروا حياتنا بإنجازاتهم وإبداعاتهم، كان رافضاً لفكرة تكريمه وحاول أن يتملص منها، لكن جهوده ومآثره كانت أكبر من أن تمر دون احتفاء وتكريم، حيث تمّ تكريمه من قبل مجموعة من المجالس والمنتديات السعودية، وتوج من قبل سمو أمير منطقة مكة المكرمة سنة 2009 بجائزة مكة للتميز في المجال الثقافي، وحصل على الزمالة الفخرية من رابطة الأدب الحديث بالقاهرة تقديراً لعطاءاته وجهوده المشهودة في إثراء الحركة الأدبية والفكرية في السعودية والوطن العربي، ومنح وسام الثقافة من قبل وزير الثقافة والإعلام د. عبدالعزيز خوجة سنة 2010، ضمن فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب.
غير أن أكبر وأفضل تكريم للرجل اليوم، كما قال الكاتب أحمد عدنان، هو أن تستعيد «الإثنينية»، التي أسسها وأفنى حياته في سبيلها، نشاطها المؤسساتي، وأن تتفاعل مع المتغيرات وتواكبها وتبقى صرحاً متفرداً كما كانت دوماً.
ونختتم بأبيات نظمها الأديب د. يوسف حسن العارف في رثاء الفقيد:
نبأ سرى فتزلزلت أركاني
وانهد حيلي واستراب كياني
وتساقط الدمع الهتون فليتني
لم أسمع الأخبار في الإعلان
قالوا توفى قلت للفردوس من
كانت شواهده على الأعيان
نور من التقوى على شرفاته
وعلى يديه شواهد التبيان.