يقال الكثير عن تاريخ بدايات تأسيس فرق المطافئ في العالم، ومنها أنها عرفت أولاً في الصين بعدما أتى حريق هائل على قصر إمبراطورها بمدينة بكين سنة 900 قبل الميلاد، ومنها أن أول فرقة لمكافحة الحريق في التاريخ تأسست في روما سنة 60 قبل الميلاد، زمن الإمبراطور الروماني أغسطس، حينما أتى على عاصمته حريق كارثي هائل، فقام الجنرال والسياسي الروماني «ماركوس لينوس كراسوس» بإنشاء أول محطة إطفاء نظامية قوامها 500 رجل قوي مدرب محميين بالدروع الواقية يضخون المياه بواسطة مضخات يدوية بدائية إلى دلاء ثم ينقلونها من يد إلى يد لإطفاء النيران.
أما تشكيل فرق الإطفاء في العصر الحديث فيعود إلى ما بعد نشوب حريق لندن الكبير عام 1666، حيث تم تشكيل فرق إطفاء من قبل شركات التأمين، صارت تعرف بألوية فوج إطفاء مدينة لندن. وفي سنة 1830 تمّ لأول مرة في أدنبرة بأسكتلندا وضع معايير حديثة لعمل دائرة الإطفاء واشتراطات محددة لمن يريد الالتحاق بها. وتمّ تأسيس أول إدارة للإطفاء في أمريكا في عام 1648 بمدينة نيوأمستردام التي تعرف اليوم بمدينة نيويورك.
لاحقاً، ومع تعقد الحياة وتزايد الأنشطة الصناعية الحديثة وتضخم حجم المخاطر، تطورت تقنيات مكافحة الحرائق وتوسعت مهام واختصاصات رجال الإطفاء وعمال الإنقاذ، وصار انتشار رجال الإطفاء ووحداتهم أمراً شائعاً في جميع أنحاء العالم، سواء في البراري أو المناطق الحضرية، أو على ظهر السفن.
عربياً، وجدت في كتاب «تخطيط القاهرة وتنظيمها منذ نشأتها» لحسن عبدالوهاب ما يفيد بأن إطفاء الحرائق في مصر كان يتم بواسطة آلات تعمل بالبخار، تجرها جياد دربت أفضل تدريب كي تتحرك من أماكنها بمجرد سماعها جرس الإنذار وتقف في الخارج استعداداً للتحرك إلى أماكن الحريق، وأن هذه الطريقة ظلت مستخدمة إلى أن استبدلت الجياد بسيارات للإطفاء سنة 1920. ووجدت في الكتاب أيضاً فقرة تقول: إن الحكومة المصرية طلبت من الحكومة البريطانية في فبراير 1875، أن تنتدب إلى القاهرة اليوزباشي «شو» رئيس فرقة مطافئ لندن لاستشارته في الإجراءات التي تتخذ ضد الحريق وتنظيم فرقة مطافئ القاهرة، على أن يقيم لهذا الغرض عدة أيام للإدلاء برأيه في هذا الشأن. وشهدت عمليات مكافحة الحرائق في البلاد العربية تقدماً ملحوظاً بعد الحرب العالمية الأولى، فتأسست في بلاد الشام مثلاً أول مصلحة إطفاء عام 1923 بمساعدة مجموعة من المتطوعين، ثم زودت بعدد من السيارات المجهزة.
أما على المستوى الخليجي، فإن المملكة العربية السعودية تعد الأولى على هذا الصعيد، تليها البحرين التي تأسست فيها أول فرقة إطفاء في عام 1936، وكانت تتبع إدارة البلدية إلى أن تولت وزارة الداخلية مهام الإطفاء من خلال إنشاء قسم للإطفاء في عام 1977، وقد ألحق هذا القسم بإدارة الدفاع المدني سنة 1985. وبعد البحرين تأتي الكويت التي تعود فكرة إنشاء فرقة للإطفاء فيها إلى عام 1946 أو نحوه بواسطة بلدية الكويت، حيث كانت مياه الإطفاء تنقل في صهاريج تجرها الخيول والحمير، ثم تطورت الأمور إلى الأشكال والتقنيات والتدريبات الحديثة للإطفاء بعد عام 1948 على يد شركة نفط الكويت في الأحمدي.
يعود تاريخ الإطفاء والمطافئ في السعودية إلى عام 1927، حينما صدر الأمر السامي بتاريخ 1/1/1346 للهجرة بإنشاء أول فرقة إطفاء في مكة المكرمة، وكانت مجرد وحدة ضمن جهاز البلدية. وفي عام 1947 انضمت فرقة إطفاء مكة إلى جهاز الأمن العام، كما تأسست فرقة إطفاء المدينة المنورة. وفي عام 1948 أنشئت فرقة للإطفاء في كل من الرياض وجدة وتم إنشاء رئاسة عموم فرق الإطفاء وربط بها كل فرق الأطفاء العاملة بالمملكة. وفي العام نفسه ألحقت رئاسة عموم فرق الأطفاء بمديرية الأمن العام التي كان مقرها مكة المكرمة. وفي عام 1960 تم تعديل مسمى رئاسة عموم فرق الأطفاء إلى المديرية العامة للإطفاء، وجرى فصلها عن الأمن العام وربطت إدارياً بوزارة الداخلية. وفي عام 1962 صدر المرسوم الملكي رقم 17 بالموافقة على نظام المحلات المقلقة للراحة والمضرة بالصحة والمسببة للخطر، وكان من أحكام هذا النظام ضرورة حصول تلك المحلات على ترخيص مسبق من وزارة الداخلية قبل الشروع في العمل، وهو ما أوكل تنفيذه إلى المديرية العامة للإطفاء. وخلال نفس العام تأسست فرق جديدة للإطفاء في المناطق والمدن السعودية التالية: القصيم والطائف وحائل والجوف وجازان وعرعر ونجران وعسير والأحساء، كما شهد العام ذاته انضمام السعودية إلى المنظمة العالمية للدفاع المدني. وفي عام 1965 صدر أمر ملكي بتعديل مسمى المديرية العامة للإطفاء إلى المديرية العامة للدفاع المدني، كي تتولى أعمالاً أخرى غير إطفاء الحرائق على النحو المعروف عالمياً، شاملة حماية السكان والأموال العامة والخاصة من أخطار الحريق والسيول والكوارث والحروب والحوادث المختلفة وإغاثة المنكوبين والمتضررين وتأمين سلامتهم وحماية مصادر الثروة الوطنية في زمن السلم والحرب، وتنفيذ خطط الإخلاء والإيواء في زمن الطوارئ، وتوعية المواطنين والمقيمين بأصول الأمن والسلامة. وفي نهاية ديسمبر 2019 لم تعد مهام إطفاء الحرائق في السعودية مقتصرة على الرجال. ففي هذا التاريخ أعلنت شركة أرامكو السعودية عن انضمام أول سيدتين سعوديتين في البلاد (المهندستان جازية الدوسري وعبير الجبر) إلى قسم الوقاية من الحرائق التابع للشركة من بعد إتمامهما 8 أسابيع من التدريبات والاختبارات البدنية وأعمال الإنقاذ والهجوم والتدخل السريع. كما تأسست في جدة أول أكاديمية عربية للإطفاء والسلامة والأمن.
تلك كانت مقدمة للحديث عن رجل الإطفاء الأول سعودياً وخليجياً، الفريق أول «فايز محمد العوفي»، الذي يعد أول مبتعث لدراسة الإطفاء في الخارج.
ولد العوفي بالمدينة المنورة في العقد الثاني من القرن العشرين ابناً لعائلة تنحدر من قبيلة بني مسروح من قبيلة حرب المعروفة. وبحسب النسابين العرب يمتد نسب آل العوفي إلى حرب بن سعد، الذي تفرعت منه أربع عائلات من أولاده الأربعة وهم: الفياض، الفاحش، العامر، ومالك. وينتشر أبناء العوفي في المملكة العربية السعودية بمنطقة القصيم وخصوصاً في مدينتي الرس وعنيزة، وقد اشتهروا بتجارتهم الواسعة التي تمتد لنحو مئتي عام، وقد قدم آل العوفي لوطنهم السعودي مجموعة من الشخصيات البارزة، فمنهم الأطباء والمهندسون والضباط أصحاب المكانة الرفيعة وغيرهم.
بعد أن أنهى دراسته الابتدائية والمتوسطة التحق بمدرسة تحضير البعثات بمكة المكرمة، وهي مدرسة أنشأها المغفور له الملك عبدالعزيز بعد ضم الحجاز إلى ملكه، وفتحت أبوابها رسمياً في 19 مارس 1937، وكان الغرض منها تدريس طلبة المرحلة الثانوية وتأهيلهم للابتعاث إلى الخارج (مصر تحديداً) من أجل التخصص في الحقول العلمية والأدبية التي تحتاجها البلاد السعودية في بواكير نهضتها.
وفي عام 1946 ابتعث العوفي إلى مصر، من بعد تخرجه من مدرسة تحضير البعثات، للتخصص في حقل كان غريباً وقتها، بل كان نادراً. وهو ما يعكس حقيقة أن السعودية سبقت غيرها من دول الخليج لجهة عملية ابتعاث مواطنيها إلى الخارج في مختلف التخصصات المعروفة والنادرة منذ نحو قرن من الزمان، إذ إن أولى البعثات التعليمية السعودية غادرت إلى مصر سنة 1927، وكانت تضم 14 طالباً، لتتخرج أول دفعة في عام 1935.
الدراسة في القاهرة
في منتصف أربعينات القرن العشرين، وفي وقت كانت فيه القاهرة متألقة بآدابها وفنونها وجامعاتها وحياتها العصرية، حل في رحابها الشاب فايز محمد العوفي لدراسة فن إطفاء الحرائق والتدرب على تقنياته. وقتها نشرت صحيفة مصرية تدعى «الغرائب» في عدد من أعدادها الصادرة في عام 1946 خبراً تحت عنوان «البعثة السعودية الأولى لدراسة فن المطافئ» جاء فيه: «أوفدت الحكومة السعودية إلى مصر أول بعثة لدراسة فن الحرائق وتشغيل وهندسة الآلات الحديثة الخاصة بذلك، قوامها شاب مهذب يتصف بالذكاء ودماثة الخلق هو السيد فايز محمد العوفي، وقد قطع مرحلة كبيرة في دراسة وسائل مكافحة النيران ودراسة الآلات الخاصة بذلك. والمنتظر أن تنتهي دراسته في العام القادم فيعود إلى وطنه مزوداً بالخبرة التامة كي يتولى هناك الإشراف على المنشآت الخاصة بالمطافئ».
وبالفعل، عاد العوفي إلى وطنه ليتم تعيينه في 24 نوفمبر 1946 رئيساً لفرقة مطافئ العاصمة المقدسة برتبة ملازم، وحينما انضمت الفرقة إلى جهاز الأمن العام سنة 1947 خدم العوفي تحت قيادة مهدي بك صالح المصلح، الذي يعد المؤسس الحقيقي للأمن العام السعودي، فاستفاد كثيراً من خبراته الأمنية والشرطية وأسلوبه المنضبط في العمل والإدارة. وفي السابع من مايو 1951 صدر قرار بتعيين العوفي رئيساً عاماً للمطافئ بالمملكة، وقد شهد وعاصر خلال السنوات التالية لتعيينه في هذا المنصب كل التغييرات الإدارية والفنية التي حدثت في جهاز المطافئ، بل ساهم فيها بخبرته وعلمه. وظل كذلك إلى أن تمّ نقله في 29 يوليو 1967 إلى جهاز المباحث العامة، الذي كان قد أصبح وقتذاك جهازاً مستقلاً عن قطاع الأمن العام ليكون مديراً عاماً له، فبدأ مرحلة جديدة من مشواره الوظيفي أتمم فيه ما بدأه أسلافه، وترك لخلفائه كياناً صلباً ذا كفاءة.
.. مديراً عاماً لجهاز الأمن العام
عاد العوفي في 16 يونيو سنة 1969 للإمساك بشؤون المطافئ بعد أن تحول الأخير إلى المديرية العامة للدفاع المدني، حيث صدر قرار بتعيينه في هذا التاريخ مديراً عاماً للدفاع المدني، فظل في هذه الوظيفة نحو ستة أعوام حتى 12 أبريل 1975 حينما تمّ تعيينه مديراً عاماً لجهاز الأمن العام برتبة فريق خلفاً للفريق أول محمد الطيب التونسي الذي شغل المنصب منذ عام 1966.
هنا أيضاً أبلى العوفي بلاء حسناً، فحفر اسمه في سجل من توالوا على رئاسة هذا الجهاز وهم حسب الترتيب من الأقدم: حسن وفقي بك، عبدالعزيز صالح البغدادي، مراد الاختيار، مهدي بك صالح المصلح، علي جميل، طلعت وفا، غالب توفيق، سليمان محمد الجارد، أحمد مصطفى يغمور، ومحمد الطيب التونسي. كما ترك للذين أتوا من بعده وهم: عبدالله بن عبدالرحمن آل الشيخ، أحمد محمد بلال، أسعد عبدالكريم الفريح، سعيد عبدالله القحطاني، عثمان ناصر المحرج، سعود عبدالعزيز الهلال، خالد بن قرار الحربي، سعيد عبدالله القحطاني، ومحمد عبدالله البسامي، إرثاً طيباً.
أمضى الرجل خمسة أعوام وبضعة أشهر على رأس جهاز الأمن العام ثم أحيل إلى التقاعد سنة 1980 بأمر من المغفور له الملك خالد بن عبدالعزيز، لكن تقديراً لجهوده وكفاءته وولائه، ولأنه كان محبوباً لدى ولاة الأمر تمّ تعيينه مستشاراً بوزارة الداخلية في الثاني من يناير 1980، فظل كذلك إلى أن انتقل إلى جوار ربه بمدينة جدة في 31 مايو سنة 2000. وحينما زار وزير الداخلية الراحل الأمير نايف بن عبدالعزيز منزل العوفي في الأول من يونيو 2000 لتقديم واجب العزاء بوفاته إلى أولاده نبيل وأحمد وجمال وعصام وإلى إخوانه العقيد عبيد العوفي والعقيد سعد العوفي عبر أمامهم عن عميق حزنه لوفاة الفقيد، وأشار إلى أنه كان مثالاً للمواطن الصالح المحب لدينه ومليكه ووطنه.
والعوفي، الذي ترقى في السلك العسكري من رتبة ملازم فرائد فلواء ففريق ففريق أول، نال عدة أنواط وأوسمة ووشاح الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى، وكان أصغر ضابط من حيث الرتبة حينما نال الوشاح.
والجدير بالذكر، أن العوفي كان شاهداً ومشاركاً مع زملائه من وحدات الجيش وقوات الأمن الخاصة والحرس الوطني وجهازي الاستخبارات والمباحث العامة في إدارة وتخطيط عمليات تطهير الحرم المكي من زمرة جهيمان الضالة سنة 1980، قبل وقت قصير من إحالته إلى التقاعد.
أما تشكيل فرق الإطفاء في العصر الحديث فيعود إلى ما بعد نشوب حريق لندن الكبير عام 1666، حيث تم تشكيل فرق إطفاء من قبل شركات التأمين، صارت تعرف بألوية فوج إطفاء مدينة لندن. وفي سنة 1830 تمّ لأول مرة في أدنبرة بأسكتلندا وضع معايير حديثة لعمل دائرة الإطفاء واشتراطات محددة لمن يريد الالتحاق بها. وتمّ تأسيس أول إدارة للإطفاء في أمريكا في عام 1648 بمدينة نيوأمستردام التي تعرف اليوم بمدينة نيويورك.
لاحقاً، ومع تعقد الحياة وتزايد الأنشطة الصناعية الحديثة وتضخم حجم المخاطر، تطورت تقنيات مكافحة الحرائق وتوسعت مهام واختصاصات رجال الإطفاء وعمال الإنقاذ، وصار انتشار رجال الإطفاء ووحداتهم أمراً شائعاً في جميع أنحاء العالم، سواء في البراري أو المناطق الحضرية، أو على ظهر السفن.
عربياً، وجدت في كتاب «تخطيط القاهرة وتنظيمها منذ نشأتها» لحسن عبدالوهاب ما يفيد بأن إطفاء الحرائق في مصر كان يتم بواسطة آلات تعمل بالبخار، تجرها جياد دربت أفضل تدريب كي تتحرك من أماكنها بمجرد سماعها جرس الإنذار وتقف في الخارج استعداداً للتحرك إلى أماكن الحريق، وأن هذه الطريقة ظلت مستخدمة إلى أن استبدلت الجياد بسيارات للإطفاء سنة 1920. ووجدت في الكتاب أيضاً فقرة تقول: إن الحكومة المصرية طلبت من الحكومة البريطانية في فبراير 1875، أن تنتدب إلى القاهرة اليوزباشي «شو» رئيس فرقة مطافئ لندن لاستشارته في الإجراءات التي تتخذ ضد الحريق وتنظيم فرقة مطافئ القاهرة، على أن يقيم لهذا الغرض عدة أيام للإدلاء برأيه في هذا الشأن. وشهدت عمليات مكافحة الحرائق في البلاد العربية تقدماً ملحوظاً بعد الحرب العالمية الأولى، فتأسست في بلاد الشام مثلاً أول مصلحة إطفاء عام 1923 بمساعدة مجموعة من المتطوعين، ثم زودت بعدد من السيارات المجهزة.
أما على المستوى الخليجي، فإن المملكة العربية السعودية تعد الأولى على هذا الصعيد، تليها البحرين التي تأسست فيها أول فرقة إطفاء في عام 1936، وكانت تتبع إدارة البلدية إلى أن تولت وزارة الداخلية مهام الإطفاء من خلال إنشاء قسم للإطفاء في عام 1977، وقد ألحق هذا القسم بإدارة الدفاع المدني سنة 1985. وبعد البحرين تأتي الكويت التي تعود فكرة إنشاء فرقة للإطفاء فيها إلى عام 1946 أو نحوه بواسطة بلدية الكويت، حيث كانت مياه الإطفاء تنقل في صهاريج تجرها الخيول والحمير، ثم تطورت الأمور إلى الأشكال والتقنيات والتدريبات الحديثة للإطفاء بعد عام 1948 على يد شركة نفط الكويت في الأحمدي.
يعود تاريخ الإطفاء والمطافئ في السعودية إلى عام 1927، حينما صدر الأمر السامي بتاريخ 1/1/1346 للهجرة بإنشاء أول فرقة إطفاء في مكة المكرمة، وكانت مجرد وحدة ضمن جهاز البلدية. وفي عام 1947 انضمت فرقة إطفاء مكة إلى جهاز الأمن العام، كما تأسست فرقة إطفاء المدينة المنورة. وفي عام 1948 أنشئت فرقة للإطفاء في كل من الرياض وجدة وتم إنشاء رئاسة عموم فرق الإطفاء وربط بها كل فرق الأطفاء العاملة بالمملكة. وفي العام نفسه ألحقت رئاسة عموم فرق الأطفاء بمديرية الأمن العام التي كان مقرها مكة المكرمة. وفي عام 1960 تم تعديل مسمى رئاسة عموم فرق الأطفاء إلى المديرية العامة للإطفاء، وجرى فصلها عن الأمن العام وربطت إدارياً بوزارة الداخلية. وفي عام 1962 صدر المرسوم الملكي رقم 17 بالموافقة على نظام المحلات المقلقة للراحة والمضرة بالصحة والمسببة للخطر، وكان من أحكام هذا النظام ضرورة حصول تلك المحلات على ترخيص مسبق من وزارة الداخلية قبل الشروع في العمل، وهو ما أوكل تنفيذه إلى المديرية العامة للإطفاء. وخلال نفس العام تأسست فرق جديدة للإطفاء في المناطق والمدن السعودية التالية: القصيم والطائف وحائل والجوف وجازان وعرعر ونجران وعسير والأحساء، كما شهد العام ذاته انضمام السعودية إلى المنظمة العالمية للدفاع المدني. وفي عام 1965 صدر أمر ملكي بتعديل مسمى المديرية العامة للإطفاء إلى المديرية العامة للدفاع المدني، كي تتولى أعمالاً أخرى غير إطفاء الحرائق على النحو المعروف عالمياً، شاملة حماية السكان والأموال العامة والخاصة من أخطار الحريق والسيول والكوارث والحروب والحوادث المختلفة وإغاثة المنكوبين والمتضررين وتأمين سلامتهم وحماية مصادر الثروة الوطنية في زمن السلم والحرب، وتنفيذ خطط الإخلاء والإيواء في زمن الطوارئ، وتوعية المواطنين والمقيمين بأصول الأمن والسلامة. وفي نهاية ديسمبر 2019 لم تعد مهام إطفاء الحرائق في السعودية مقتصرة على الرجال. ففي هذا التاريخ أعلنت شركة أرامكو السعودية عن انضمام أول سيدتين سعوديتين في البلاد (المهندستان جازية الدوسري وعبير الجبر) إلى قسم الوقاية من الحرائق التابع للشركة من بعد إتمامهما 8 أسابيع من التدريبات والاختبارات البدنية وأعمال الإنقاذ والهجوم والتدخل السريع. كما تأسست في جدة أول أكاديمية عربية للإطفاء والسلامة والأمن.
تلك كانت مقدمة للحديث عن رجل الإطفاء الأول سعودياً وخليجياً، الفريق أول «فايز محمد العوفي»، الذي يعد أول مبتعث لدراسة الإطفاء في الخارج.
ولد العوفي بالمدينة المنورة في العقد الثاني من القرن العشرين ابناً لعائلة تنحدر من قبيلة بني مسروح من قبيلة حرب المعروفة. وبحسب النسابين العرب يمتد نسب آل العوفي إلى حرب بن سعد، الذي تفرعت منه أربع عائلات من أولاده الأربعة وهم: الفياض، الفاحش، العامر، ومالك. وينتشر أبناء العوفي في المملكة العربية السعودية بمنطقة القصيم وخصوصاً في مدينتي الرس وعنيزة، وقد اشتهروا بتجارتهم الواسعة التي تمتد لنحو مئتي عام، وقد قدم آل العوفي لوطنهم السعودي مجموعة من الشخصيات البارزة، فمنهم الأطباء والمهندسون والضباط أصحاب المكانة الرفيعة وغيرهم.
بعد أن أنهى دراسته الابتدائية والمتوسطة التحق بمدرسة تحضير البعثات بمكة المكرمة، وهي مدرسة أنشأها المغفور له الملك عبدالعزيز بعد ضم الحجاز إلى ملكه، وفتحت أبوابها رسمياً في 19 مارس 1937، وكان الغرض منها تدريس طلبة المرحلة الثانوية وتأهيلهم للابتعاث إلى الخارج (مصر تحديداً) من أجل التخصص في الحقول العلمية والأدبية التي تحتاجها البلاد السعودية في بواكير نهضتها.
وفي عام 1946 ابتعث العوفي إلى مصر، من بعد تخرجه من مدرسة تحضير البعثات، للتخصص في حقل كان غريباً وقتها، بل كان نادراً. وهو ما يعكس حقيقة أن السعودية سبقت غيرها من دول الخليج لجهة عملية ابتعاث مواطنيها إلى الخارج في مختلف التخصصات المعروفة والنادرة منذ نحو قرن من الزمان، إذ إن أولى البعثات التعليمية السعودية غادرت إلى مصر سنة 1927، وكانت تضم 14 طالباً، لتتخرج أول دفعة في عام 1935.
الدراسة في القاهرة
في منتصف أربعينات القرن العشرين، وفي وقت كانت فيه القاهرة متألقة بآدابها وفنونها وجامعاتها وحياتها العصرية، حل في رحابها الشاب فايز محمد العوفي لدراسة فن إطفاء الحرائق والتدرب على تقنياته. وقتها نشرت صحيفة مصرية تدعى «الغرائب» في عدد من أعدادها الصادرة في عام 1946 خبراً تحت عنوان «البعثة السعودية الأولى لدراسة فن المطافئ» جاء فيه: «أوفدت الحكومة السعودية إلى مصر أول بعثة لدراسة فن الحرائق وتشغيل وهندسة الآلات الحديثة الخاصة بذلك، قوامها شاب مهذب يتصف بالذكاء ودماثة الخلق هو السيد فايز محمد العوفي، وقد قطع مرحلة كبيرة في دراسة وسائل مكافحة النيران ودراسة الآلات الخاصة بذلك. والمنتظر أن تنتهي دراسته في العام القادم فيعود إلى وطنه مزوداً بالخبرة التامة كي يتولى هناك الإشراف على المنشآت الخاصة بالمطافئ».
وبالفعل، عاد العوفي إلى وطنه ليتم تعيينه في 24 نوفمبر 1946 رئيساً لفرقة مطافئ العاصمة المقدسة برتبة ملازم، وحينما انضمت الفرقة إلى جهاز الأمن العام سنة 1947 خدم العوفي تحت قيادة مهدي بك صالح المصلح، الذي يعد المؤسس الحقيقي للأمن العام السعودي، فاستفاد كثيراً من خبراته الأمنية والشرطية وأسلوبه المنضبط في العمل والإدارة. وفي السابع من مايو 1951 صدر قرار بتعيين العوفي رئيساً عاماً للمطافئ بالمملكة، وقد شهد وعاصر خلال السنوات التالية لتعيينه في هذا المنصب كل التغييرات الإدارية والفنية التي حدثت في جهاز المطافئ، بل ساهم فيها بخبرته وعلمه. وظل كذلك إلى أن تمّ نقله في 29 يوليو 1967 إلى جهاز المباحث العامة، الذي كان قد أصبح وقتذاك جهازاً مستقلاً عن قطاع الأمن العام ليكون مديراً عاماً له، فبدأ مرحلة جديدة من مشواره الوظيفي أتمم فيه ما بدأه أسلافه، وترك لخلفائه كياناً صلباً ذا كفاءة.
.. مديراً عاماً لجهاز الأمن العام
عاد العوفي في 16 يونيو سنة 1969 للإمساك بشؤون المطافئ بعد أن تحول الأخير إلى المديرية العامة للدفاع المدني، حيث صدر قرار بتعيينه في هذا التاريخ مديراً عاماً للدفاع المدني، فظل في هذه الوظيفة نحو ستة أعوام حتى 12 أبريل 1975 حينما تمّ تعيينه مديراً عاماً لجهاز الأمن العام برتبة فريق خلفاً للفريق أول محمد الطيب التونسي الذي شغل المنصب منذ عام 1966.
هنا أيضاً أبلى العوفي بلاء حسناً، فحفر اسمه في سجل من توالوا على رئاسة هذا الجهاز وهم حسب الترتيب من الأقدم: حسن وفقي بك، عبدالعزيز صالح البغدادي، مراد الاختيار، مهدي بك صالح المصلح، علي جميل، طلعت وفا، غالب توفيق، سليمان محمد الجارد، أحمد مصطفى يغمور، ومحمد الطيب التونسي. كما ترك للذين أتوا من بعده وهم: عبدالله بن عبدالرحمن آل الشيخ، أحمد محمد بلال، أسعد عبدالكريم الفريح، سعيد عبدالله القحطاني، عثمان ناصر المحرج، سعود عبدالعزيز الهلال، خالد بن قرار الحربي، سعيد عبدالله القحطاني، ومحمد عبدالله البسامي، إرثاً طيباً.
أمضى الرجل خمسة أعوام وبضعة أشهر على رأس جهاز الأمن العام ثم أحيل إلى التقاعد سنة 1980 بأمر من المغفور له الملك خالد بن عبدالعزيز، لكن تقديراً لجهوده وكفاءته وولائه، ولأنه كان محبوباً لدى ولاة الأمر تمّ تعيينه مستشاراً بوزارة الداخلية في الثاني من يناير 1980، فظل كذلك إلى أن انتقل إلى جوار ربه بمدينة جدة في 31 مايو سنة 2000. وحينما زار وزير الداخلية الراحل الأمير نايف بن عبدالعزيز منزل العوفي في الأول من يونيو 2000 لتقديم واجب العزاء بوفاته إلى أولاده نبيل وأحمد وجمال وعصام وإلى إخوانه العقيد عبيد العوفي والعقيد سعد العوفي عبر أمامهم عن عميق حزنه لوفاة الفقيد، وأشار إلى أنه كان مثالاً للمواطن الصالح المحب لدينه ومليكه ووطنه.
والعوفي، الذي ترقى في السلك العسكري من رتبة ملازم فرائد فلواء ففريق ففريق أول، نال عدة أنواط وأوسمة ووشاح الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى، وكان أصغر ضابط من حيث الرتبة حينما نال الوشاح.
والجدير بالذكر، أن العوفي كان شاهداً ومشاركاً مع زملائه من وحدات الجيش وقوات الأمن الخاصة والحرس الوطني وجهازي الاستخبارات والمباحث العامة في إدارة وتخطيط عمليات تطهير الحرم المكي من زمرة جهيمان الضالة سنة 1980، قبل وقت قصير من إحالته إلى التقاعد.