في 21 يناير 2012، فقدت دول الخليج ابناً باراً من أبناء الكويت الذين لعبوا أدواراً دبلوماسية وإعلامية مشهودة خلال فترة الغزو العراقي لبلادهم، وصولاً إلى تحريرها في فبراير 1991. ففي ذلك اليوم الحزين أغمض صاحب الكلمة الصادقة والرأي السديد والقرار الشجاع والرؤية الثاقبة والصوت الصداح عينيه عن 68 عاماً، بعد صراع مرير مع مرض السرطان، ونحو عام في المشافي اللندنية، فتم تشييعه إلى مثواه وسط حشد كبير من المشيعين، يتقدمهم ولي العهد آنذاك الشيخ نواف الأحمد وكبار أبناء الأسرة الحاكمة ورجالات الكويت.
حديثنا هنا عن الشيخ سعود الناصر الصباح، السياسي والدبلوماسي والوزير الذي وصفته جريدة النهار الكويتية (25/2/2021)، بأنه كان «رسول الحرية الكويتية إلى القيادة ممثلة آنذاك في الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد، وولي عهده الشيخ سعد العبدالله، إذ إنه أول من أخبرهما بأن حرب التحرير ستنطلق في غضون ساعتين اثنتين، صبيحة يوم 16 يناير 1991، بعد أن أبلغه بذلك وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جيمس بيكر. كان الشيخ سعود وقتها سفيراً لدى الولايات المتحدة، وصوت الكويت في المحافل الدولية، فأطلع العالم على قضيتها العادلة، وجنّد أحرار الدنيا لنصرتها والوقوف معها في وجه نظام صدام». وكتب عنه الكاتب وليد الرجيب في عموده بصحيفة «الرأي» الكويتية قائلاً «إن كثرة المقالات التي أبّنت الشيخ سعود الناصر الصباح تدل على شعبيته وحب الكويتيين له، فحبه الكبير للكويت والكويتيين واضح للجميع، كما أن سماته الشخصية سمات القائد الحازم والمتواضع في الوقت نفسه وإحساسه بالمسؤولية تجاه وطنه عال جداً».
أما الكاتب الصديق الأستاذ خليل علي حيدر، فقد خصه بمقال مطول في جريدة الأيام البحرينية (4/2/2012)، جاء فيه «من عاش أيام الغزو وذل التشرد وصعود الآمال والتوقعات وهبوطها، سيتذكر دائماً الدور الإعلامي والدبلوماسي والسياسي البطولي للشيخ سعود الناصر الصباح، صاحب الدور الخالد في إبراز الحق الكويتي في المحافل الدولية بعد وقوع العدوان وجريمة الغزو التي ارتكبها نظام صدام حسين في صيف عام 1990. من وجد نفسه فجأة بلا وطن وبلا مستقبل وبلا نصير وبلا صوت جهير، لا يعرف الخنوع واليأس والمساومة والتعابير الدبلوماسية الغامضة، يتذكر اليوم جيداً ذلك الجهد الجبار الذي قام به الشيخ سعود، صاحب الخبرة الطويلة والدراية العميقة بالأوساط الدولية وتوازنات القوى الكبرى وصراعات المندوبين في الأمم المتحدة، التي وضعها كلها في خدمة استقطاب الجهد الدولي، برئاسة الولايات المتحدة وبقية دول التحالف، لتوحيد كلمة المجتمع الدولي، ورفض أي تنازل أو تساهل مع المعتدي. ما بذله الراحل الكبير في ذلك اليوم العصيب والمحنة الوطنية المصيرية، فاق ما هو مطلوب من أي سفير أو دبلوماسي أو ممثل سياسي. فقد تحول الشيخ سعود في شخصه إلى قوة ضغط، وإلى (لوبي) متحرك في كل اتجاه، وإلى عنصر استقطاب على صعيد الوسط الدبلوماسي وغيره في الولايات المتحدة، لإقناع كل من رفض دعاية العدوان وغوغائية إعلام نظامه وغدر مناصريه في الأوساط العربية والدولية.. بالتجمع حول راية تحرير الكويت».
وكتب عنه المرحوم صالح القلاب وزير الإعلام الأردني الأسبق بصحيفة «الجريدة» الكويتية (23/2/2012)، واصفاً إياه بأنه «كان قيمة كبيرة وقامة عالية وصاحب مكانة رفيعة. لقد رحل الشيخ سعود الناصر وزير الإعلام والنفط الأسبق عن دنيا الفناء، مخلفاً وراءه تاريخاً سياسياً حافلاً بالعطاء لبلاده الكويت».
ولد الشيخ سعود بن ناصر بن سعود بن محمد بن صباح بن جابر بن عبدالله بن صباح الأول بمدينة الكويت في الثالث من أكتوبر 1944، نجلاً أكبر لوالده الشيخ ناصر سعود محمد الصباح، الذي ولد سنة 1922 ودرس بمدارس الأحمدية والمباركية.
في عام 1950 انتقلت أسرته للإقامة بمنطقة الدمنة (السالمية)، حيث كان والده أول من سكن فيها وأول من أسس بها مجلساً للحي وأول من أسس ورعى بها أنشطة اجتماعية وخيرية وتكافلية غير مسبوقة في فكرتها وأهميتها.
أراد له والده أن ينشأ صلباً معتمداً على نفسه في إدارة أموره، فلم يجد أفضل من فكرة ابتعاثه إلى مدارس معروفة خارج الكويت كي يتغرب ويكتسب التجارب ودروس الحياة المتنوعة، وهو ما جعل الشيخ سعود يتغرب مبكراً. ففي عامه الحادي عشر، وتحديداً في سنة 1955، تم إلحاقه بـ«كلية فيكتوريا» بالإسكندرية، أحد أرقى المدارس النخبوية في مصر آنذاك، ومنها انتقل إلى لبنان للدراسة بمدرسة الشويفات التي كانت واحدة من أهم قلاع التعليم العربية. ومن لبنان انتقل إلى لندن، حيث ألحقه والده بمدرسة داخلية شديدة الصرامة والانضباط كي يتعود على المعاناة والصبر والتحمل بعيداً عن الترف. وتشاء الأقدار أن تندلع حرب السويس سنة 1956 وهو في بريطانيا، لتزيد غربته ووحشته ومعاناته، ويتعلم فنون الصبر والتكيف مع مختلف الظروف والأوضاع.
دراسة القانون
في منتصف الستينات، وكان قد غدا شاباً متطلعاً إلى إكمال دراسته الجامعية، اختار أن يدرس القانون بجامعة لندن، وأثناء وجوده على مقاعد الدراسة الجامعية اقترن بالشيخة عواطف صباح السالم الصباح كريمة أمير دولة الكويت آنذاك، التي رافقته في مشواره الدراسي وهيأت له الأجواء المناسبة للتحصيل حتى تخرجه في عام 1968، وأنجبت له أبناءه الخمسة (فواز ومراحب ونواف ونيرة وصباح وسعد على التوالي).
سفير في بريطانيا
بقي الشيخ سعود بعد ذلك في بريطانيا، حيث عمل محامياً في المحاكم البريطانية كجزء من برنامج التدريب الميداني الذي لم يطل كثيراً. إذ استدعاه الأمير الشيخ صباح السالم إلى الكويت في عام 1969 ليشغل وظيفة في الإدارة القانونية بديوان وزارة الخارجية. وبحكم مسؤوليات وظيفته تلك، مثّل بلاده في مؤتمر قانون المعاهدات من عام 1969 إلى 1973، وفي لجنة قاع البحار التابعة للأمم المتحدة حيث انتُخب نائباً لرئيس اللجنة من عام 1974 إلى 1975، وفي غيرهما من المؤتمرات التابعة للأمم المتحدة، إلى أن جاء عام 1975، الذي صدر فيه مرسوم أميري بنقله إلى لندن سفيراً للكويت لدى بلاط السانت جيمس.
كان انتقاله إلى لندن سفيراً بداية لرحلة دبلوماسية طويلة، سبح في بحارها برشاقة واقتدار وقطع أثناءها مسافات طويلة دون كلل. فأثناء قيادته سفارة الكويت في بريطانيا أُوكل إليه، إضافة إلى عمله تمثيل بلاده سفيراً غير مقيم لدى السويد والنرويج والدانمارك. وفي عام 1981، تم تعيينه سفيراً للكويت لدى الولايات المتحدة وسفيراً محالاً إلى كل من كندا وفنزويلا. وتشاء الأقدار، وهو على رأس عمله في واشنطن، أن يستبيح الجيش العراقي أراضي الكويت الآمنة المسالمة وينهش جسدها ومقدراتها، محولاً شعبها إلى لاجئين، وحكومتها الشرعية إلى حكومة منفى في الطائف.
الحشد الدبلوماسي في واشنطن
وقتها شمر الرجل عن ساعديه وراح يسابق الزمن في طرق كل الأبواب في عاصمة القرار الدولي الأول، بدءاً بأبواب البيت الأبيض وأبواب مجلسي النواب والشيوخ الأمريكيين وأبواب البنتاغون وأبواب الصحف والفضائيات، معرفاً الساسة والإعلاميين والمعلقين والمفكرين ودهاقنة الجامعات ومراكز الدراسات الاستراتيجية بالحق الكويتي، مستثمراً في ذلك تخصصه في القانون والمرافعات وكل خبراته الدبلوماسية وصداقاته وعلاقاته المتشعبة، ورافعاً صوته المعبر عن نبض حكومته وشعبه من على مختلف المنابر، ومنها منبر الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، ومكرراً في الوقت نفسه اجتماعات تنسيقية وتشاورية مطولة مع السفير السعودي في واشنطن آنذاك سمو الأمير بندر بن سلطان، إلى درجة أنه صار وجهاً معروفاً وصوره دائمة الحضور على شاشات التلفزة في مختلف بقاع الأرض. وبهذا لعب الفقيد دوراً محورياً في حشد الرأي العام الأمريكي والعالمي وراء قضية بلاده، في وقت ارتفعت أصوات نشاز تطالب بعدم التدخل العسكري، وأخرى تطالب بأن يكون التدخل من خلال قوات إسلامية، وثالثة تتبنى وجهة نظر رمادية.
وفي هذه الأثناء، كان شقيق الفقيد وهو الشيخ صباح الناصر السعود الصباح، يمارس دوراً وطنياً آخر في الداخل من خلال الإشراف على اللجنة الرئيسية للمقاومة الشعبية، بتكليف من الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح رحمه الله. حيث كان يشرف، بالتعاون مع الشيخين علي سالم العلي الصباح وعذبي الفهد الأحمد الصباح، على إيصال المساعدات المالية والعينية لكل الكويتيين الصامدين في وطنهم، وتنظيم العصيان المدني وإدارة الجمعيات التعاونية ومحطات البنزين والكهرباء ودور الرعاية وجميع المستشفيات وإعادة تشغيل خطوط الهاتف، ناهيك عن إيصال المعونات إلى الأسرى العسكريين في المعتقلات العراقية ومساعدة عائلاتهم. ومما لا شك فيه أن هذه الأعمال المنظمة كانت عاملاً أساسياً ومهماً في نيل ثقة قوات التحالف، التي قامت بالتنسيق مع المقاومة الكويتية وتلقت المعلومات وأعطتها التعليمات حتى تحررت الكويت.
الدخول إلى الحكومة
والمعروف أن الشيخ صباح الناصر السعود الصباح (شقيق المترجَم له)، ولد في 23 ديسمبر 1953 بالكويت، وأكمل دراسته بمدارس السالمية ثم سافر إلى الولايات المتحدة لدراسة الهندسة بجامعة واشنطن، وبعد تخرجه أمضى 33 عاماً في العمل الحكومي، ومنه توليه منصب وكيل وزارة الدفاع من منتصف السبعينات إلى عام 2008، الذي طلب فيه التقاعد للراحة. وفي 15 أبريل 2014 وافته المنية بالكويت، مخلفاً وراءه زوجته الشيخة شيخة صباح السالم الصباح وأبناءه الخمسة: الزين وإيمان وناصر ومريم ومبارك، وبراءة سبعة اختراعات هندسية والعديد من الجوائز الدولية.
وبالعودة إلى محور حديثنا (سيرة الراحل الشيخ سعود الناصر الصباح)، نجد أنه لم يكن غريباً أن يُكلف بحقيبة الإعلام في عام 1992 في أول حكومة تم تشكيلها بعد التحرير. وشكل قرار دخوله الحكومة لأول مرة من بعد سنوات قضاها في العمل الدبلوماسي، منعطفاً جديداً في حياته، ومجالاً أبدع فيه كعادته. إذ بادر إلى إعادة هيكلة أجهزة وزارة الإعلام وحول الإذاعات المسموعة والقنوات المرئية التابعة للدولة إلى جزر تتمتع بحرية الحركة، واهتم كثيراً بالإعلام السياسي، مسخراً له كافة الإمكانيات الكفيلة لتقديم نشرات أخبار وبرامج سياسية نوعية. وهكذا شهد الإعلام في عهده قفزات على مختلف المستويات، سواء لجهة افتتاح قنوات تلفزيونية جديدة ومحطات إذاعية متنوعة، أو لجهة إصدار مطبوعات جديدة متخصصة أكثر انفتاحاً، ناهيك عن وقوفه شخصياً خلف تدفق الدماء الشابة الجديدة في عروق الإعلام الرسمي، علاوة على قيامه بإيلاء اهتمام خاص بأعمال وأنشطة «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب» لجهة وضع تصورات جديدة لجوائزه ومنحها لرجالات البلاد المثقفين الأوائل. لقد تعلم الفقيد من دراسته وعمله في الغرب لسنوات طويلة أهمية الإعلام كسلاح ناعم وأهمية فهمه وتوظيفه توظيفاً حديثاً وصحيحاً لصالح الوطن وقضاياه وتطلعاته، واستشارة المتخصصين والاستماع إليهم بأدب واحترام.
الحقائب الوزارية
في 3 سبتمبر 1996، وبسبب خلو عدة حقائب وزارية بعد استقالة أصحابها لرغبتهم في خوض انتخابات مجلس الأمة لعام 1996، تم تكليف الشيخ سعود، إضافة إلى عمله وزيراً للإعلام بأعباء حقيبة التربية والتعليم وحقيبة النفط. وبعد انتهاء تلك الانتخابات وتشكيل حكومة جديدة في 15 أكتوبر 1996، أعيد تعيينه وزيراً للإعلام مع تعيينه وزيراً للصحة بالوكالة لمدة أسبوعين. وفي 22 مارس 1998 تسلم لأول مرة حقيبة النفط التي أعيد تكليفه بها في يوليو 1999. وفي 14 نوفمبر 2000 تم تعيينه وزيراً للإعلام بالوكالة، فاستمر يدير شؤون وزارتي الإعلام والنفط حتى استقالة الحكومة في 29 يناير 2001. ليخرج بعدها من التشكيلات الوزارية مع بقائه جندياً في خدمة وطنه متى وأينما دعت الحاجة.
والشيخ سعود، الذي أطلق اسمه على «المعهد الدبلوماسي الكويتي»، ليصبح «معهد سعود الناصر الدبلوماسي» من باب التكريم والوفاء لجهوده، نفى في حواره مع الأستاذ تركي الدخيل في برنامج «إضاءات»، الذي عرضته قناة «العربية» في يناير 2005، أن تكون الاستجوابات البرلمانية المتكررة سبباً في خروجه من الحكومة قائلاً، إنه خرج من الحكومة بإرادته كما دخلها بإرادته، ومؤكداً أن تلك المزاعم من ادعاءات جماعات الإسلام السياسي في الكويت، وأن استجواباتهم هي نوع من الابتزاز للحكومة، وعمل من الأعمال المتنافية مع القانون والدستور، واستغلال فاضح لآليات الرقابة البرلمانية في جني المكاسب السياسية الشخصية. وقد عبر الرجل وقتها عن استيائه من الواقع الكويتي، وطالب الدولة بالحزم في إدارة البلاد والقيام بإصلاحات سياسية واقتصادية شاملة، وحذّر من مستقبل مقلق في ظل ما يحدق بالمنطقة من مخاطر وصراعات ومتغيرات.
هذا هو الشيخ سعود الناصر الصباح، أحد الأفذاذ الذين أنجبتهم الكويت، فأدى واجبه تجاهها بروح الإخلاص والوفاء ورجاحة العقل وطيبة القلب وأخلاق الفرسان والنبلاء، ونال الكثير من محبة مواطنيه وتقديرهم، فصدق فيه ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أن الله إذا أحب عبداً حبب عباده فيه.
حديثنا هنا عن الشيخ سعود الناصر الصباح، السياسي والدبلوماسي والوزير الذي وصفته جريدة النهار الكويتية (25/2/2021)، بأنه كان «رسول الحرية الكويتية إلى القيادة ممثلة آنذاك في الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد، وولي عهده الشيخ سعد العبدالله، إذ إنه أول من أخبرهما بأن حرب التحرير ستنطلق في غضون ساعتين اثنتين، صبيحة يوم 16 يناير 1991، بعد أن أبلغه بذلك وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جيمس بيكر. كان الشيخ سعود وقتها سفيراً لدى الولايات المتحدة، وصوت الكويت في المحافل الدولية، فأطلع العالم على قضيتها العادلة، وجنّد أحرار الدنيا لنصرتها والوقوف معها في وجه نظام صدام». وكتب عنه الكاتب وليد الرجيب في عموده بصحيفة «الرأي» الكويتية قائلاً «إن كثرة المقالات التي أبّنت الشيخ سعود الناصر الصباح تدل على شعبيته وحب الكويتيين له، فحبه الكبير للكويت والكويتيين واضح للجميع، كما أن سماته الشخصية سمات القائد الحازم والمتواضع في الوقت نفسه وإحساسه بالمسؤولية تجاه وطنه عال جداً».
أما الكاتب الصديق الأستاذ خليل علي حيدر، فقد خصه بمقال مطول في جريدة الأيام البحرينية (4/2/2012)، جاء فيه «من عاش أيام الغزو وذل التشرد وصعود الآمال والتوقعات وهبوطها، سيتذكر دائماً الدور الإعلامي والدبلوماسي والسياسي البطولي للشيخ سعود الناصر الصباح، صاحب الدور الخالد في إبراز الحق الكويتي في المحافل الدولية بعد وقوع العدوان وجريمة الغزو التي ارتكبها نظام صدام حسين في صيف عام 1990. من وجد نفسه فجأة بلا وطن وبلا مستقبل وبلا نصير وبلا صوت جهير، لا يعرف الخنوع واليأس والمساومة والتعابير الدبلوماسية الغامضة، يتذكر اليوم جيداً ذلك الجهد الجبار الذي قام به الشيخ سعود، صاحب الخبرة الطويلة والدراية العميقة بالأوساط الدولية وتوازنات القوى الكبرى وصراعات المندوبين في الأمم المتحدة، التي وضعها كلها في خدمة استقطاب الجهد الدولي، برئاسة الولايات المتحدة وبقية دول التحالف، لتوحيد كلمة المجتمع الدولي، ورفض أي تنازل أو تساهل مع المعتدي. ما بذله الراحل الكبير في ذلك اليوم العصيب والمحنة الوطنية المصيرية، فاق ما هو مطلوب من أي سفير أو دبلوماسي أو ممثل سياسي. فقد تحول الشيخ سعود في شخصه إلى قوة ضغط، وإلى (لوبي) متحرك في كل اتجاه، وإلى عنصر استقطاب على صعيد الوسط الدبلوماسي وغيره في الولايات المتحدة، لإقناع كل من رفض دعاية العدوان وغوغائية إعلام نظامه وغدر مناصريه في الأوساط العربية والدولية.. بالتجمع حول راية تحرير الكويت».
وكتب عنه المرحوم صالح القلاب وزير الإعلام الأردني الأسبق بصحيفة «الجريدة» الكويتية (23/2/2012)، واصفاً إياه بأنه «كان قيمة كبيرة وقامة عالية وصاحب مكانة رفيعة. لقد رحل الشيخ سعود الناصر وزير الإعلام والنفط الأسبق عن دنيا الفناء، مخلفاً وراءه تاريخاً سياسياً حافلاً بالعطاء لبلاده الكويت».
ولد الشيخ سعود بن ناصر بن سعود بن محمد بن صباح بن جابر بن عبدالله بن صباح الأول بمدينة الكويت في الثالث من أكتوبر 1944، نجلاً أكبر لوالده الشيخ ناصر سعود محمد الصباح، الذي ولد سنة 1922 ودرس بمدارس الأحمدية والمباركية.
في عام 1950 انتقلت أسرته للإقامة بمنطقة الدمنة (السالمية)، حيث كان والده أول من سكن فيها وأول من أسس بها مجلساً للحي وأول من أسس ورعى بها أنشطة اجتماعية وخيرية وتكافلية غير مسبوقة في فكرتها وأهميتها.
أراد له والده أن ينشأ صلباً معتمداً على نفسه في إدارة أموره، فلم يجد أفضل من فكرة ابتعاثه إلى مدارس معروفة خارج الكويت كي يتغرب ويكتسب التجارب ودروس الحياة المتنوعة، وهو ما جعل الشيخ سعود يتغرب مبكراً. ففي عامه الحادي عشر، وتحديداً في سنة 1955، تم إلحاقه بـ«كلية فيكتوريا» بالإسكندرية، أحد أرقى المدارس النخبوية في مصر آنذاك، ومنها انتقل إلى لبنان للدراسة بمدرسة الشويفات التي كانت واحدة من أهم قلاع التعليم العربية. ومن لبنان انتقل إلى لندن، حيث ألحقه والده بمدرسة داخلية شديدة الصرامة والانضباط كي يتعود على المعاناة والصبر والتحمل بعيداً عن الترف. وتشاء الأقدار أن تندلع حرب السويس سنة 1956 وهو في بريطانيا، لتزيد غربته ووحشته ومعاناته، ويتعلم فنون الصبر والتكيف مع مختلف الظروف والأوضاع.
دراسة القانون
في منتصف الستينات، وكان قد غدا شاباً متطلعاً إلى إكمال دراسته الجامعية، اختار أن يدرس القانون بجامعة لندن، وأثناء وجوده على مقاعد الدراسة الجامعية اقترن بالشيخة عواطف صباح السالم الصباح كريمة أمير دولة الكويت آنذاك، التي رافقته في مشواره الدراسي وهيأت له الأجواء المناسبة للتحصيل حتى تخرجه في عام 1968، وأنجبت له أبناءه الخمسة (فواز ومراحب ونواف ونيرة وصباح وسعد على التوالي).
سفير في بريطانيا
بقي الشيخ سعود بعد ذلك في بريطانيا، حيث عمل محامياً في المحاكم البريطانية كجزء من برنامج التدريب الميداني الذي لم يطل كثيراً. إذ استدعاه الأمير الشيخ صباح السالم إلى الكويت في عام 1969 ليشغل وظيفة في الإدارة القانونية بديوان وزارة الخارجية. وبحكم مسؤوليات وظيفته تلك، مثّل بلاده في مؤتمر قانون المعاهدات من عام 1969 إلى 1973، وفي لجنة قاع البحار التابعة للأمم المتحدة حيث انتُخب نائباً لرئيس اللجنة من عام 1974 إلى 1975، وفي غيرهما من المؤتمرات التابعة للأمم المتحدة، إلى أن جاء عام 1975، الذي صدر فيه مرسوم أميري بنقله إلى لندن سفيراً للكويت لدى بلاط السانت جيمس.
كان انتقاله إلى لندن سفيراً بداية لرحلة دبلوماسية طويلة، سبح في بحارها برشاقة واقتدار وقطع أثناءها مسافات طويلة دون كلل. فأثناء قيادته سفارة الكويت في بريطانيا أُوكل إليه، إضافة إلى عمله تمثيل بلاده سفيراً غير مقيم لدى السويد والنرويج والدانمارك. وفي عام 1981، تم تعيينه سفيراً للكويت لدى الولايات المتحدة وسفيراً محالاً إلى كل من كندا وفنزويلا. وتشاء الأقدار، وهو على رأس عمله في واشنطن، أن يستبيح الجيش العراقي أراضي الكويت الآمنة المسالمة وينهش جسدها ومقدراتها، محولاً شعبها إلى لاجئين، وحكومتها الشرعية إلى حكومة منفى في الطائف.
الحشد الدبلوماسي في واشنطن
وقتها شمر الرجل عن ساعديه وراح يسابق الزمن في طرق كل الأبواب في عاصمة القرار الدولي الأول، بدءاً بأبواب البيت الأبيض وأبواب مجلسي النواب والشيوخ الأمريكيين وأبواب البنتاغون وأبواب الصحف والفضائيات، معرفاً الساسة والإعلاميين والمعلقين والمفكرين ودهاقنة الجامعات ومراكز الدراسات الاستراتيجية بالحق الكويتي، مستثمراً في ذلك تخصصه في القانون والمرافعات وكل خبراته الدبلوماسية وصداقاته وعلاقاته المتشعبة، ورافعاً صوته المعبر عن نبض حكومته وشعبه من على مختلف المنابر، ومنها منبر الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، ومكرراً في الوقت نفسه اجتماعات تنسيقية وتشاورية مطولة مع السفير السعودي في واشنطن آنذاك سمو الأمير بندر بن سلطان، إلى درجة أنه صار وجهاً معروفاً وصوره دائمة الحضور على شاشات التلفزة في مختلف بقاع الأرض. وبهذا لعب الفقيد دوراً محورياً في حشد الرأي العام الأمريكي والعالمي وراء قضية بلاده، في وقت ارتفعت أصوات نشاز تطالب بعدم التدخل العسكري، وأخرى تطالب بأن يكون التدخل من خلال قوات إسلامية، وثالثة تتبنى وجهة نظر رمادية.
وفي هذه الأثناء، كان شقيق الفقيد وهو الشيخ صباح الناصر السعود الصباح، يمارس دوراً وطنياً آخر في الداخل من خلال الإشراف على اللجنة الرئيسية للمقاومة الشعبية، بتكليف من الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح رحمه الله. حيث كان يشرف، بالتعاون مع الشيخين علي سالم العلي الصباح وعذبي الفهد الأحمد الصباح، على إيصال المساعدات المالية والعينية لكل الكويتيين الصامدين في وطنهم، وتنظيم العصيان المدني وإدارة الجمعيات التعاونية ومحطات البنزين والكهرباء ودور الرعاية وجميع المستشفيات وإعادة تشغيل خطوط الهاتف، ناهيك عن إيصال المعونات إلى الأسرى العسكريين في المعتقلات العراقية ومساعدة عائلاتهم. ومما لا شك فيه أن هذه الأعمال المنظمة كانت عاملاً أساسياً ومهماً في نيل ثقة قوات التحالف، التي قامت بالتنسيق مع المقاومة الكويتية وتلقت المعلومات وأعطتها التعليمات حتى تحررت الكويت.
الدخول إلى الحكومة
والمعروف أن الشيخ صباح الناصر السعود الصباح (شقيق المترجَم له)، ولد في 23 ديسمبر 1953 بالكويت، وأكمل دراسته بمدارس السالمية ثم سافر إلى الولايات المتحدة لدراسة الهندسة بجامعة واشنطن، وبعد تخرجه أمضى 33 عاماً في العمل الحكومي، ومنه توليه منصب وكيل وزارة الدفاع من منتصف السبعينات إلى عام 2008، الذي طلب فيه التقاعد للراحة. وفي 15 أبريل 2014 وافته المنية بالكويت، مخلفاً وراءه زوجته الشيخة شيخة صباح السالم الصباح وأبناءه الخمسة: الزين وإيمان وناصر ومريم ومبارك، وبراءة سبعة اختراعات هندسية والعديد من الجوائز الدولية.
وبالعودة إلى محور حديثنا (سيرة الراحل الشيخ سعود الناصر الصباح)، نجد أنه لم يكن غريباً أن يُكلف بحقيبة الإعلام في عام 1992 في أول حكومة تم تشكيلها بعد التحرير. وشكل قرار دخوله الحكومة لأول مرة من بعد سنوات قضاها في العمل الدبلوماسي، منعطفاً جديداً في حياته، ومجالاً أبدع فيه كعادته. إذ بادر إلى إعادة هيكلة أجهزة وزارة الإعلام وحول الإذاعات المسموعة والقنوات المرئية التابعة للدولة إلى جزر تتمتع بحرية الحركة، واهتم كثيراً بالإعلام السياسي، مسخراً له كافة الإمكانيات الكفيلة لتقديم نشرات أخبار وبرامج سياسية نوعية. وهكذا شهد الإعلام في عهده قفزات على مختلف المستويات، سواء لجهة افتتاح قنوات تلفزيونية جديدة ومحطات إذاعية متنوعة، أو لجهة إصدار مطبوعات جديدة متخصصة أكثر انفتاحاً، ناهيك عن وقوفه شخصياً خلف تدفق الدماء الشابة الجديدة في عروق الإعلام الرسمي، علاوة على قيامه بإيلاء اهتمام خاص بأعمال وأنشطة «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب» لجهة وضع تصورات جديدة لجوائزه ومنحها لرجالات البلاد المثقفين الأوائل. لقد تعلم الفقيد من دراسته وعمله في الغرب لسنوات طويلة أهمية الإعلام كسلاح ناعم وأهمية فهمه وتوظيفه توظيفاً حديثاً وصحيحاً لصالح الوطن وقضاياه وتطلعاته، واستشارة المتخصصين والاستماع إليهم بأدب واحترام.
الحقائب الوزارية
في 3 سبتمبر 1996، وبسبب خلو عدة حقائب وزارية بعد استقالة أصحابها لرغبتهم في خوض انتخابات مجلس الأمة لعام 1996، تم تكليف الشيخ سعود، إضافة إلى عمله وزيراً للإعلام بأعباء حقيبة التربية والتعليم وحقيبة النفط. وبعد انتهاء تلك الانتخابات وتشكيل حكومة جديدة في 15 أكتوبر 1996، أعيد تعيينه وزيراً للإعلام مع تعيينه وزيراً للصحة بالوكالة لمدة أسبوعين. وفي 22 مارس 1998 تسلم لأول مرة حقيبة النفط التي أعيد تكليفه بها في يوليو 1999. وفي 14 نوفمبر 2000 تم تعيينه وزيراً للإعلام بالوكالة، فاستمر يدير شؤون وزارتي الإعلام والنفط حتى استقالة الحكومة في 29 يناير 2001. ليخرج بعدها من التشكيلات الوزارية مع بقائه جندياً في خدمة وطنه متى وأينما دعت الحاجة.
والشيخ سعود، الذي أطلق اسمه على «المعهد الدبلوماسي الكويتي»، ليصبح «معهد سعود الناصر الدبلوماسي» من باب التكريم والوفاء لجهوده، نفى في حواره مع الأستاذ تركي الدخيل في برنامج «إضاءات»، الذي عرضته قناة «العربية» في يناير 2005، أن تكون الاستجوابات البرلمانية المتكررة سبباً في خروجه من الحكومة قائلاً، إنه خرج من الحكومة بإرادته كما دخلها بإرادته، ومؤكداً أن تلك المزاعم من ادعاءات جماعات الإسلام السياسي في الكويت، وأن استجواباتهم هي نوع من الابتزاز للحكومة، وعمل من الأعمال المتنافية مع القانون والدستور، واستغلال فاضح لآليات الرقابة البرلمانية في جني المكاسب السياسية الشخصية. وقد عبر الرجل وقتها عن استيائه من الواقع الكويتي، وطالب الدولة بالحزم في إدارة البلاد والقيام بإصلاحات سياسية واقتصادية شاملة، وحذّر من مستقبل مقلق في ظل ما يحدق بالمنطقة من مخاطر وصراعات ومتغيرات.
هذا هو الشيخ سعود الناصر الصباح، أحد الأفذاذ الذين أنجبتهم الكويت، فأدى واجبه تجاهها بروح الإخلاص والوفاء ورجاحة العقل وطيبة القلب وأخلاق الفرسان والنبلاء، ونال الكثير من محبة مواطنيه وتقديرهم، فصدق فيه ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أن الله إذا أحب عبداً حبب عباده فيه.