في مقالة بجريدة الاقتصادية السعودية (1/5/2009) تحت عنوان «الحضارم أساتذتي الكبار»، كتب الأديب السعودي الراحل نجيب عبدالرحمن الزامل واصفاً أبناء حضرموت بأنهم «شعب لم يظلمهم تاريخنا العربي فقط، بل ظلمهم أيضاً علم الأنثروبولوجيا وتاريخ المجتمعات»، ومضيفاً أنهم «قاموا وحدهم بأكبر تغييرٍ حضاري على وجه الأرض منذ التاريخ في أقصر مدة، في منطقة تكاد تـُرسَم حدودُها بالمساطير البحرية.. أثّرَ هؤلاء القلة من الناس وبمَعـْلـَمـَةٍ أسطوريةٍ بمئات الملايين من البشر شملت ما لا يقل عن أربع أمم في الشرق البعيد.. ولم أجد في ما قرأتُ أحداً أعاد لهم هذا المجدَ الإنساني الجماعي حتى اليوم.. ولا هم أنفسُهم». ثم استطرد فوصفهم بأنهم «طيبون ومن أكثر الناس دهاء.. ولكن الدهاء َالحضرمي دهاءٌ قائمٌ غريبٌ شاذٌ من نوعه لا وجود له في غير هذا الشعب، ولو كانت الشعوبُ تقاس عليها اللغات والصفات لكانت هنا كلمة غير الدهاء تنطبق تمام الانطباق ولا نجد إلا هذه الكلمة في العربية، إنه دهاءٌ معتق بالوراثة في التحايل على الظروف من أجل النجاح».
نعم، لقد تحايل الحضارم على ظروفهم الاقتصادية والسياسية الصعبة في بلادهم بالهجرة إلى أقاصي الدنيا ليبدأوا من هناك قصصاً في صناعة النجاح وملاحم في البروز والارتقاء الاجتماعي والسياسي والثقافي، مشكلين ظاهرة حضارية تستحق الدراسة في الكد والكفاح والتضحية والأخلاق والأمانة والتجارة ونشر الإسلام ومقاومة الاستعمار الأجنبي، ولا سيما في دول الشرق الآسيوي مثل إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة. حيث عبروا البحار والجبال والصحاري في سبيل أن يكوّنوا حياة أفضل، وهم لئن استخدموا التجارة سبيلاً للارتقاء فإنهم لم يكونوا كغيرهم من التجار المهاجرين الشوام والأرمن والصينيين والهنود واليهود، فقد تميزوا عن كل هؤلاء بأنهم حافظوا على عاداتهم وتقاليدهم وأخلاقياتهم، فلم يخرقوا القانون ولم يشكلوا مجتمعات ضغط ولم يسيئوا إلى أبناء المهجر، ونجحوا في نشر عقيدتهم دون غلو ومن غير أن يزعموا يوماً أنهم دعاة.
إن الشخصيات الحضرمية العبقرية الناجحة التي يجدر بنا التوقف عندها كثيرة، لكننا اخترنا في هذه المادة أن نتوقف عند سيرة الشاعر والفقيه والمصلح الاجتماعي «أبوبكر بن عبدالرحمن بن شهاب الدين»، بسبب صولاته وجولاته وتنقلاته، ناهيك عن أنه واحد من أساتذة مدرسة شعرية وأدبية وعلمية في أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر الهجريين، وصاحب قصائد على مستوى عال من الرقة والبلاغة من تلك التي تغنى بها الكثيرون.
ولد أبوبكر بن عبدالرحمن بن محمد بن علي بن عبدالله بن عيدروس بن علي بن محمد بن أحمد شهاب الدين العلوي الحسيني الحضرمي سنة 1262 للهجرة الموافق لعام 1846م بقرية حصن آل فلوقة، أحد مصايف تريم من بلاد حضرموت، ونشأ في بيت علم وأدب وسط بيئة غلب عليها الطابع الصوفي، فأمضى سنوات يفاعته وصباه في الطلب والتحصيل، حيث تعلم القرآن والكتابة بكتاب المعلم باغريب، ثم تلقى فنون العلم متتلمذاً على أيدي علماء وفقهاء زمنه مثل والده وأخيه الأكبر الفقيه الورع الزاهد السيد عمر الملقب بالمحضار، والعلامة محمد بن إبراهيم بلفقيه، وحسن بن حسين الحداد، وعلي بن عبدالله بن شهاب، وحامد بن عمر بافرج، ومفتي حضرموت عبدالرحمن بن محمد المشهور، والعلامة محسن بن علوي السقاف، وأحمد بن محمد المحضار وآخرين، ومعتمداً على ذكائه أكثر من الاعتماد على الاجتهاد. وكدليل على ذلك يُروى أنه حينما كان يحضر ذات ليلة درساً لشيخه علي بن محمد الحبشي بسيؤون في علم الفرائض، غلبه النعاس، فلامه الشيخ، فما كان منه إلا أن حضر في الليلة التالية وهو يحمل أرجوزة أسماها «ذريعة الناهض في علم الفرائض»، جمع فيها ذلك العلم كله نظماً في أقل من 24 ساعة.
في عام 1286 للهجرة، وهو في سن الرابعة والعشرين هاجر إلى الحجاز للحج وطلب العلم على يد علمائها، فأدى فريضة الحج وأقام بمكة مدة من الزمن تتلمذ خلالها على يد شيخ مشايخ الشافعية في الحجاز العلامة أحمد بن زيني دحلان وغيره، ثم عاد إلى تريم، لكن إقامته بالأخيرة لم تطل. إذ سرعان ما رحل عنها سنة 1288 للهجرة، مبتدئاً رحلة قادته إلى عدن واليمن ولحج، ومنها إلى إندونيسيا والملايو اللتين كانتا تستضيفان آنذاك المئات من المهاجرين الحضارم. وهناك أقام بمدينة سورابايا الإندونيسية في جزيرة جاوه، وتعاطى التجارة واستزاد من المعارف الحديثة وتعرف على بعض مظاهر الحضارة والمدنية على مدى أربع سنوات. غير أن شوقه وحنينه إلى أهله ومرابع طفولته كان سبباً في عودته إلى حضرموت في عام 1292 للهجرة، حيث باشر الدعوة إلى الإصلاح، الأمر الذي قوبل بمضايقات ونفور من أقاربه ومن رجال الثروة والسلطة، وهو ما دعاه للتفكير بالهجرة مجدداً.
في هجرته الثانية التي بدأت في عام 1302 للهجرة سافر من حضرموت إلى عدن ولحج ومنهما إلى الحجاز فمصر فسورية ففلسطين فإلى الأستانة (إسطنبول)، حيث أهداه السلطان العثماني عبدالحميد سيفاً وقلده الوسام المجيدي المرصع. واختتم جولته بالحلول بين الجالية الحضرمية الكبيرة بمدينة حيدر آباد الهندية، حيث أقام سنوات طويلة تجاوزت الثلاثين عاماً، وكون فيها أسرة أخرى غير أسرته التي تركها وراءه في حضرموت. وعلى الرغم من أنه أحيط في حيدر آباد بالحفاوة والاحترام والود، وكان فيها بمثابة زعيم علمي وأدبي للحضارم يتطلع الناس إلى خطب وده وتبادل الأفكار والسجالات معه، وعلى الرغم من تردده آنذاك على إندونيسيا للتواصل مع حضارم المهجر، إلا أن حنينه إلى وطن آبائه وأجداده وقلق البعد عنه ظل مستولياً عليه ويؤرقه. وهكذا قرر في سنة 1334 أن يعود إلى حضرموت ليستقبل فيها استقبالاً شعبياً وحكومياً كبيراً وليتهافت الناس عليه للاستفادة من علمه وآرائه وفكره النير. وبعد أن أمضى في وطنه فترة قرر أن يعود إلى حيدر آباد لينقل منها أسرته، لكن ظروف الحرب العالمية الأولى حالت دون ذلك، فبقي في الهند إلى أن وافاه الأجل المحتوم في عام 1341 للهجرة (1923م)، فدفن بمقبرة المسلمين في حيدر آباد وسط تشييع شارك فيه الآلاف من الحضارم المهاجرين ومعارفه وأصدقائه الهنود.
وحينما نتفقد الأعمال التي امتهنها أو تلك التي ساهم فيها، نجد أنه اشتغل بالتدريس والإفتاء في حضرموت والهند. ففي مدينة حيدر آباد قام بالتدريس في مدرستها النظامية وصحح العديد من الكتب الإسلامية ونقحها من الشوائب، وفي حضرموت درّس الكثيرين في منزله وفي الجوامع صحيح الدين وقدم مواعظ ودروساً توعوية لهم. كما ساهم، من خلال مكانته الاجتماعية، بالتوسط في إخماد الفتن بين القبائل الحضرمية المسلحة، وكانت له مواقف مع زعماء القبائل وسلاطين حضرموت أثبت فيها شجاعة وذكاء ومهارة لجمع الشمل ونبذ التناحر، منها قيامه بإصلاح ذات البين بين أمير يافع سلطان الشحر وأمراء آل كثير سلاطين تريم وسيؤون سنة 1294 للهجرة من بعد حرب بينهما دامت سنتين وكبدت الحضارم الكثير من الخسائر في الأرواح والممتلكات. هذا ناهيك عن قيامه بأعمال اقتصادية نافعة في حضرموت في مجالي الزراعة والتعمير. ويقال إنه بسبب نفوذه ومهارته السياسية حاولت السلطات البريطانية أن تستعين به إبان الحرب العالمية الثانية لإقناع سلاطين حضرموت بتحويل بلادهم بالحسنى إلى قاعدة حربية تخدم أهداف الحلفاء، لكنه رفض الفكرة مع كل ما عرض عليه من مال وسلطة.
وهو من جهة أخرى، نظم قصائد في المرأة والنعرات الاجتماعية والأمراض الطائفية لكن بطريقة تقليدية ودون تكلف، كما نظم قصائد شعبية اتسمت بالبلاغة والحكمة، وهي القصائد التي تسمى بالحضرمية الدارجة «الأشعار الحمينية»، لكنه لم يستحسن نشرها لأن معظمها قيلت في عنفوان شبابه، فلم يصل إلى الناس سوى القليل منها. إلى ذلك ترك لنا الرجل وراءه نحو ثلاثين مصنفاً معظمها في المنطق والتوحيد والفقه والحساب والتاريخ والطبيعة والأنساب والأسانيد وغيرها من العلوم، ومنها: «حدائق ذريعة الناهض إلى تعلم أحكام الفرائض»، و«رشفة الصادي من بحر فضائل بني النبي الهادي»، و«الترياق النافع بإيضاح وتكملة مسائل جمع الجوامع»، و«فتوحات الباحث لشرح تقرير المباحث في أحكام إرث الوارث»، و«تحفة المحقق بشرح نظام المنطق»، و«الشاهد المقبول في فضل أبناء الرسول»، و«تذكير الإخوان بتوديع رمضان»، و«الورد القطيف في شرح الورد اللطيف»، و«نزهة الألباب في رياض الأنساب»، و«العقود اللؤلؤية في أنساب السادة العلوية بالديار الحضرمية»، وغيرها.
شاعر من شعراء المهجر الشرقي
قلنا إن أبوبكر شهاب كان شاعراً بليغاً من شعراء المهجر الشرقي العرب، لكننا لا نجد في شعره ما طرأ على شعر شعراء المهجر الغربي من تجديد وتطوير، إذ كان شعره امتداداً للشعر العربي القديم من ناحية الخصائص والألفاظ والمعاني والموضوعات كالغزل والمديح والرثاء وأحياناً الهجاء، وخالياً من الانفعالات العاطفية التي أثارتها الغربة في قصائد شعراء المهجر الأمريكي مثلاً من عبرات وزفرات وتأوهات، رغم كل ما عاناه من غربة وشوق إلى أهله ووطنه، علماً بأن بعض الانفعالات العاطفية وجدت في شعره لكنها كانت عابرة من خلال قصائده الطويلة، مثال ذلك قوله:
ألا لـيت شعري والتمني مُحبَّبٌ إلى النـفس تـبريداً لحَرِّ أوامها
متى تنقضي أيام سجني وغربتي وتنحلّ روحي من عقال اغتمامها.
ومن أمثلة ما كتبه في الهند حينما استبد به الشوق لحضرموت:
يا أيـها الراكب الغادي إلى بلدٍ جرعاؤها خصبة المرعى وأبرقُهُ
نـاشـدتك الله والودَّ القديم إذا ما بان مَن بان ذاك السفح مُورِقُهُ
أن تستهلَّ صريخاً بالتحية عن باكٍ من البعد كـاد الدمع يُغرقهُ
يثير أشجانَه فوحُ الصَّبا سَحَراً وساجعُ الوُرْق بـالذكرى يؤرّقهُ
لـه فـؤاد نَـزوعٌ لايفارقه حَرَم الغرام.. وجفن ليس يُطبقهُ
بالهند ناءٍ أخي وجدٍ يحن إلى أوطانه.. وسهام البَين تَـرشقـهُ.
ومن أبياته في الغزل العفيف على طريقة الأولين هذه الأبيات:
عـلى سُلمى وإن نأتِ الخيامُ مـن المُضنى التحيةُ والسّلامُ
تـناشدني: أترجع عن قريبٍ فـقـلت: نعم وللدهر احتكامُ
ألا يــا دارها من بطن وادٍ به نـبـت الخزامى والبشامُ
سقاك العارض الوسميُّ سَحاً وحيّــا ذلك الشعبَ الغَمامُ
تـُرى هل تجمع الأيامُ شملي بها أو هـل لـفُرقتنا التطامُ
إليــها قِبلتي ولها صلاتي وحَجّي والتنـسكُ والصيامُ.
مفردات لا تناسب زمنه
الذين بحثوا في شعره وتراثه الأدبي أجمعوا على أنه كان متأثراً بالشعر القديم إلى درجة استخدامه لمفردات لا تناسب زمنه، مثل استخدامه مفردة «النوق» وهو في عصر البخار في معرض حديثه عن الانتقال من إندونيسيا والهند إلى حضرموت. كما أشاروا إلى أن الشاعر نادراً ما أتى على ذكر اسم من منازله في المهجر ما عدا إشارة عابرة لا دلالة فيها إلى الهند. على أنه خص - لسبب ما - جزيرة سنغافورة بقصيدة يحييها ويحيي نازليها من المهاجرين العرب فقال:
مدينة سنغفورا حيـن تـبدو مـعالمها ترى السُّوحَ الرحيبا
فحياها الحيا الوسمـيُّ حتى يغـادر سفـحَها أبداً خصيبـا
قصور لا يلم بـهـا قصور ودور بـالـبـدور نفحن طيبا
ولم تسمع إذا ما طـفت إلا حمـامـاً ساجعاً أو عندليـبا
وبالعُرب الكرام الساكـنيها من المجد اكتست بُرداً قـشيبا
وجوه بالمكـارم مُسْفِراتٌ سمت عن أن ترى فيها شحوبا
إذا عض الزمان لهم نزيلاً مـن الدهر استقادوا أن يتوبا.
وأخيراً، لا بد من الإشارة إلى أن الفنان الراحل أبوبكر سالم بلفقيه لحن من كلمات أبوبكر بن شهاب بعض الأغاني ومنها: «بشراك هذا منار الحي»، و«حي الربوع»، و«نسيم القلب»، و«تعللنا» و«بهزك غصن القد»، كما غنى العديد من المطربين قصيدته المعنونة بـ «يا حبيب القلب صلني» والتي يقول مطلعها:
يا حبيب القلب صلني
في الدجى وقت الظلام
وارتشف يا نور عيني
من يدي كأس المدام
يا أعز الناس عندي
وسروري والمرام
لا تعذبني فإني
فيك حرمت المنام
فيك قد خاصمت عذا
لي ولم أسمع ملام
حبك استولى فؤادي
بعدما فت العظام.
نعم، لقد تحايل الحضارم على ظروفهم الاقتصادية والسياسية الصعبة في بلادهم بالهجرة إلى أقاصي الدنيا ليبدأوا من هناك قصصاً في صناعة النجاح وملاحم في البروز والارتقاء الاجتماعي والسياسي والثقافي، مشكلين ظاهرة حضارية تستحق الدراسة في الكد والكفاح والتضحية والأخلاق والأمانة والتجارة ونشر الإسلام ومقاومة الاستعمار الأجنبي، ولا سيما في دول الشرق الآسيوي مثل إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة. حيث عبروا البحار والجبال والصحاري في سبيل أن يكوّنوا حياة أفضل، وهم لئن استخدموا التجارة سبيلاً للارتقاء فإنهم لم يكونوا كغيرهم من التجار المهاجرين الشوام والأرمن والصينيين والهنود واليهود، فقد تميزوا عن كل هؤلاء بأنهم حافظوا على عاداتهم وتقاليدهم وأخلاقياتهم، فلم يخرقوا القانون ولم يشكلوا مجتمعات ضغط ولم يسيئوا إلى أبناء المهجر، ونجحوا في نشر عقيدتهم دون غلو ومن غير أن يزعموا يوماً أنهم دعاة.
إن الشخصيات الحضرمية العبقرية الناجحة التي يجدر بنا التوقف عندها كثيرة، لكننا اخترنا في هذه المادة أن نتوقف عند سيرة الشاعر والفقيه والمصلح الاجتماعي «أبوبكر بن عبدالرحمن بن شهاب الدين»، بسبب صولاته وجولاته وتنقلاته، ناهيك عن أنه واحد من أساتذة مدرسة شعرية وأدبية وعلمية في أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر الهجريين، وصاحب قصائد على مستوى عال من الرقة والبلاغة من تلك التي تغنى بها الكثيرون.
ولد أبوبكر بن عبدالرحمن بن محمد بن علي بن عبدالله بن عيدروس بن علي بن محمد بن أحمد شهاب الدين العلوي الحسيني الحضرمي سنة 1262 للهجرة الموافق لعام 1846م بقرية حصن آل فلوقة، أحد مصايف تريم من بلاد حضرموت، ونشأ في بيت علم وأدب وسط بيئة غلب عليها الطابع الصوفي، فأمضى سنوات يفاعته وصباه في الطلب والتحصيل، حيث تعلم القرآن والكتابة بكتاب المعلم باغريب، ثم تلقى فنون العلم متتلمذاً على أيدي علماء وفقهاء زمنه مثل والده وأخيه الأكبر الفقيه الورع الزاهد السيد عمر الملقب بالمحضار، والعلامة محمد بن إبراهيم بلفقيه، وحسن بن حسين الحداد، وعلي بن عبدالله بن شهاب، وحامد بن عمر بافرج، ومفتي حضرموت عبدالرحمن بن محمد المشهور، والعلامة محسن بن علوي السقاف، وأحمد بن محمد المحضار وآخرين، ومعتمداً على ذكائه أكثر من الاعتماد على الاجتهاد. وكدليل على ذلك يُروى أنه حينما كان يحضر ذات ليلة درساً لشيخه علي بن محمد الحبشي بسيؤون في علم الفرائض، غلبه النعاس، فلامه الشيخ، فما كان منه إلا أن حضر في الليلة التالية وهو يحمل أرجوزة أسماها «ذريعة الناهض في علم الفرائض»، جمع فيها ذلك العلم كله نظماً في أقل من 24 ساعة.
في عام 1286 للهجرة، وهو في سن الرابعة والعشرين هاجر إلى الحجاز للحج وطلب العلم على يد علمائها، فأدى فريضة الحج وأقام بمكة مدة من الزمن تتلمذ خلالها على يد شيخ مشايخ الشافعية في الحجاز العلامة أحمد بن زيني دحلان وغيره، ثم عاد إلى تريم، لكن إقامته بالأخيرة لم تطل. إذ سرعان ما رحل عنها سنة 1288 للهجرة، مبتدئاً رحلة قادته إلى عدن واليمن ولحج، ومنها إلى إندونيسيا والملايو اللتين كانتا تستضيفان آنذاك المئات من المهاجرين الحضارم. وهناك أقام بمدينة سورابايا الإندونيسية في جزيرة جاوه، وتعاطى التجارة واستزاد من المعارف الحديثة وتعرف على بعض مظاهر الحضارة والمدنية على مدى أربع سنوات. غير أن شوقه وحنينه إلى أهله ومرابع طفولته كان سبباً في عودته إلى حضرموت في عام 1292 للهجرة، حيث باشر الدعوة إلى الإصلاح، الأمر الذي قوبل بمضايقات ونفور من أقاربه ومن رجال الثروة والسلطة، وهو ما دعاه للتفكير بالهجرة مجدداً.
في هجرته الثانية التي بدأت في عام 1302 للهجرة سافر من حضرموت إلى عدن ولحج ومنهما إلى الحجاز فمصر فسورية ففلسطين فإلى الأستانة (إسطنبول)، حيث أهداه السلطان العثماني عبدالحميد سيفاً وقلده الوسام المجيدي المرصع. واختتم جولته بالحلول بين الجالية الحضرمية الكبيرة بمدينة حيدر آباد الهندية، حيث أقام سنوات طويلة تجاوزت الثلاثين عاماً، وكون فيها أسرة أخرى غير أسرته التي تركها وراءه في حضرموت. وعلى الرغم من أنه أحيط في حيدر آباد بالحفاوة والاحترام والود، وكان فيها بمثابة زعيم علمي وأدبي للحضارم يتطلع الناس إلى خطب وده وتبادل الأفكار والسجالات معه، وعلى الرغم من تردده آنذاك على إندونيسيا للتواصل مع حضارم المهجر، إلا أن حنينه إلى وطن آبائه وأجداده وقلق البعد عنه ظل مستولياً عليه ويؤرقه. وهكذا قرر في سنة 1334 أن يعود إلى حضرموت ليستقبل فيها استقبالاً شعبياً وحكومياً كبيراً وليتهافت الناس عليه للاستفادة من علمه وآرائه وفكره النير. وبعد أن أمضى في وطنه فترة قرر أن يعود إلى حيدر آباد لينقل منها أسرته، لكن ظروف الحرب العالمية الأولى حالت دون ذلك، فبقي في الهند إلى أن وافاه الأجل المحتوم في عام 1341 للهجرة (1923م)، فدفن بمقبرة المسلمين في حيدر آباد وسط تشييع شارك فيه الآلاف من الحضارم المهاجرين ومعارفه وأصدقائه الهنود.
وحينما نتفقد الأعمال التي امتهنها أو تلك التي ساهم فيها، نجد أنه اشتغل بالتدريس والإفتاء في حضرموت والهند. ففي مدينة حيدر آباد قام بالتدريس في مدرستها النظامية وصحح العديد من الكتب الإسلامية ونقحها من الشوائب، وفي حضرموت درّس الكثيرين في منزله وفي الجوامع صحيح الدين وقدم مواعظ ودروساً توعوية لهم. كما ساهم، من خلال مكانته الاجتماعية، بالتوسط في إخماد الفتن بين القبائل الحضرمية المسلحة، وكانت له مواقف مع زعماء القبائل وسلاطين حضرموت أثبت فيها شجاعة وذكاء ومهارة لجمع الشمل ونبذ التناحر، منها قيامه بإصلاح ذات البين بين أمير يافع سلطان الشحر وأمراء آل كثير سلاطين تريم وسيؤون سنة 1294 للهجرة من بعد حرب بينهما دامت سنتين وكبدت الحضارم الكثير من الخسائر في الأرواح والممتلكات. هذا ناهيك عن قيامه بأعمال اقتصادية نافعة في حضرموت في مجالي الزراعة والتعمير. ويقال إنه بسبب نفوذه ومهارته السياسية حاولت السلطات البريطانية أن تستعين به إبان الحرب العالمية الثانية لإقناع سلاطين حضرموت بتحويل بلادهم بالحسنى إلى قاعدة حربية تخدم أهداف الحلفاء، لكنه رفض الفكرة مع كل ما عرض عليه من مال وسلطة.
وهو من جهة أخرى، نظم قصائد في المرأة والنعرات الاجتماعية والأمراض الطائفية لكن بطريقة تقليدية ودون تكلف، كما نظم قصائد شعبية اتسمت بالبلاغة والحكمة، وهي القصائد التي تسمى بالحضرمية الدارجة «الأشعار الحمينية»، لكنه لم يستحسن نشرها لأن معظمها قيلت في عنفوان شبابه، فلم يصل إلى الناس سوى القليل منها. إلى ذلك ترك لنا الرجل وراءه نحو ثلاثين مصنفاً معظمها في المنطق والتوحيد والفقه والحساب والتاريخ والطبيعة والأنساب والأسانيد وغيرها من العلوم، ومنها: «حدائق ذريعة الناهض إلى تعلم أحكام الفرائض»، و«رشفة الصادي من بحر فضائل بني النبي الهادي»، و«الترياق النافع بإيضاح وتكملة مسائل جمع الجوامع»، و«فتوحات الباحث لشرح تقرير المباحث في أحكام إرث الوارث»، و«تحفة المحقق بشرح نظام المنطق»، و«الشاهد المقبول في فضل أبناء الرسول»، و«تذكير الإخوان بتوديع رمضان»، و«الورد القطيف في شرح الورد اللطيف»، و«نزهة الألباب في رياض الأنساب»، و«العقود اللؤلؤية في أنساب السادة العلوية بالديار الحضرمية»، وغيرها.
شاعر من شعراء المهجر الشرقي
قلنا إن أبوبكر شهاب كان شاعراً بليغاً من شعراء المهجر الشرقي العرب، لكننا لا نجد في شعره ما طرأ على شعر شعراء المهجر الغربي من تجديد وتطوير، إذ كان شعره امتداداً للشعر العربي القديم من ناحية الخصائص والألفاظ والمعاني والموضوعات كالغزل والمديح والرثاء وأحياناً الهجاء، وخالياً من الانفعالات العاطفية التي أثارتها الغربة في قصائد شعراء المهجر الأمريكي مثلاً من عبرات وزفرات وتأوهات، رغم كل ما عاناه من غربة وشوق إلى أهله ووطنه، علماً بأن بعض الانفعالات العاطفية وجدت في شعره لكنها كانت عابرة من خلال قصائده الطويلة، مثال ذلك قوله:
ألا لـيت شعري والتمني مُحبَّبٌ إلى النـفس تـبريداً لحَرِّ أوامها
متى تنقضي أيام سجني وغربتي وتنحلّ روحي من عقال اغتمامها.
ومن أمثلة ما كتبه في الهند حينما استبد به الشوق لحضرموت:
يا أيـها الراكب الغادي إلى بلدٍ جرعاؤها خصبة المرعى وأبرقُهُ
نـاشـدتك الله والودَّ القديم إذا ما بان مَن بان ذاك السفح مُورِقُهُ
أن تستهلَّ صريخاً بالتحية عن باكٍ من البعد كـاد الدمع يُغرقهُ
يثير أشجانَه فوحُ الصَّبا سَحَراً وساجعُ الوُرْق بـالذكرى يؤرّقهُ
لـه فـؤاد نَـزوعٌ لايفارقه حَرَم الغرام.. وجفن ليس يُطبقهُ
بالهند ناءٍ أخي وجدٍ يحن إلى أوطانه.. وسهام البَين تَـرشقـهُ.
ومن أبياته في الغزل العفيف على طريقة الأولين هذه الأبيات:
عـلى سُلمى وإن نأتِ الخيامُ مـن المُضنى التحيةُ والسّلامُ
تـناشدني: أترجع عن قريبٍ فـقـلت: نعم وللدهر احتكامُ
ألا يــا دارها من بطن وادٍ به نـبـت الخزامى والبشامُ
سقاك العارض الوسميُّ سَحاً وحيّــا ذلك الشعبَ الغَمامُ
تـُرى هل تجمع الأيامُ شملي بها أو هـل لـفُرقتنا التطامُ
إليــها قِبلتي ولها صلاتي وحَجّي والتنـسكُ والصيامُ.
مفردات لا تناسب زمنه
الذين بحثوا في شعره وتراثه الأدبي أجمعوا على أنه كان متأثراً بالشعر القديم إلى درجة استخدامه لمفردات لا تناسب زمنه، مثل استخدامه مفردة «النوق» وهو في عصر البخار في معرض حديثه عن الانتقال من إندونيسيا والهند إلى حضرموت. كما أشاروا إلى أن الشاعر نادراً ما أتى على ذكر اسم من منازله في المهجر ما عدا إشارة عابرة لا دلالة فيها إلى الهند. على أنه خص - لسبب ما - جزيرة سنغافورة بقصيدة يحييها ويحيي نازليها من المهاجرين العرب فقال:
مدينة سنغفورا حيـن تـبدو مـعالمها ترى السُّوحَ الرحيبا
فحياها الحيا الوسمـيُّ حتى يغـادر سفـحَها أبداً خصيبـا
قصور لا يلم بـهـا قصور ودور بـالـبـدور نفحن طيبا
ولم تسمع إذا ما طـفت إلا حمـامـاً ساجعاً أو عندليـبا
وبالعُرب الكرام الساكـنيها من المجد اكتست بُرداً قـشيبا
وجوه بالمكـارم مُسْفِراتٌ سمت عن أن ترى فيها شحوبا
إذا عض الزمان لهم نزيلاً مـن الدهر استقادوا أن يتوبا.
وأخيراً، لا بد من الإشارة إلى أن الفنان الراحل أبوبكر سالم بلفقيه لحن من كلمات أبوبكر بن شهاب بعض الأغاني ومنها: «بشراك هذا منار الحي»، و«حي الربوع»، و«نسيم القلب»، و«تعللنا» و«بهزك غصن القد»، كما غنى العديد من المطربين قصيدته المعنونة بـ «يا حبيب القلب صلني» والتي يقول مطلعها:
يا حبيب القلب صلني
في الدجى وقت الظلام
وارتشف يا نور عيني
من يدي كأس المدام
يا أعز الناس عندي
وسروري والمرام
لا تعذبني فإني
فيك حرمت المنام
فيك قد خاصمت عذا
لي ولم أسمع ملام
حبك استولى فؤادي
بعدما فت العظام.