في خليجنا العربي ثمة شخصيات سخرت نفسها بما أوتيت من علم للبحث والتنقيب والقراءة المتعمقة في كل ما كتبه ودونه الآخرون في المطبوعات والمخطوطات والسجلات والمذكرات الشخصية حول تاريخ المنطقة وأحوالها وظروفها قديماً، مع الإضافة إليها أو تنقيحها أو تفنيدها بالأدلة والبراهين، وذلك خدمة للعلم والدارسين والباحثين أو تنويرا للأجيال الجديدة التي لم تعش زمن الآباء والأجداد وحقب البدايات الصعبة.
من هؤلاء، في دولة الإمارات العربية المتحدة، المؤرخ والمثقف الراحل عمران بن سالم العويس الذي تحل هذا الشهر الذكرى الثالثة لرحيله، حيث وافاه الأجل المحتوم في السادس من أبريل سنة 2020 عن عمر ناهز الثامنة والثمانين، قضاه في الجد والاجتهاد والسفر والتحصيل والبحث والاطلاع والتوثيق التأريخي والاجتماعي لأحوال منطقة الخليج العربي بصفة عامة، وأحوال دولة الإمارات بصفة خاصة. وخلال هذه السنوات الطويلة برز كعالم لا يشق له غبار، ولا يغيب عنه حدث صغيرا كان أو كبيرا، وصار مرجعا موسوعيا لأحداث المنطقة بكل تفاصيلها وظروفها الدقيقة، فبات رحمه الله ركناً من أركان التاريخ والثقافة والتوثيق في بلاده وما جاورها من بلدان المنطقة، حتى أن المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان -رحمه الله- اختاره ليكون أحد أعمدة لجنة التراث والتاريخ التي تأسست بتوجيهاته في مطلع السبعينات برئاسة المرحوم أحمد بن سلطان بن سليم (ت: 1976)، خصوصا أن سموه كان عاشقا للتراث ومهتما بالموروث الشعبي ويعتبره مكونا مهما للهوية الوطنية، علما بأن العويس اختير كنائب لرئيس تلك اللجنة وقتذاك، ثم كان نائبا أيضا لرئيسها التالي الشيخ محمد بن أحمد الخزرجي (ت: 2006).
ولد «عمران بن سالم بن عبدالله العويس» بإمارة الشارقة سنة 1932 لأسرة معروفة جمعت بين الغوص على اللؤلؤ والعمل في التجارة والشغف بالعلم والثقافة والأدب والشعر. فأسرة العويس، المعروفة في عموم الإمارات لاسيما في الشارقة، تعود جذورها إلى العوايد، وهم أحد فروع آل بوشامس الذين هم أيضا فرع من قبيلة النعيم. وتقول المراجع إن أصل العويسات من منطقة الحيرة الواقعة بين عجمان والشارقة، وأن لقب العويس له أكثر من تفسير، منها ما يرجح أن يكون اللقب نسبة إلى نوع من أنواع السفن كانت تسمى بهذا المسمى وكانت العائلة تملك بعضها، خصوصا أنها عملت في الصيد والغوص قديما. (طبقا لما ورد في صحيفة «الخليج» في عددها الصادر يوم 8/6/2016).
وقد أنجبت أسرة العويس للإمارات العديد من الأسماء اللامعة في مختلف الحقول والتخصصات من تلك التي تولت المناصب الرفيعة في الدولة وساهمت في نهضتها، وبرزت منها شخصيات معروفة في عوالم الأدب والشعر والثقافة وعلى رأسهم الوجيه المرحوم سلطان بن علي العويس (ت: 2000)، صاحب المؤسسة الثقافية والفكرية التي تحمل اسمه -رحمه الله- والتي كانت ولا تزال تمنح الجوائز للمبدعين المحليين والعرب، وكذلك الشاعر سالم بن علي العويس (ت: 1959) الذي كان والده وجده لأمه وجدته (أم والدته) من الشعراء أيضا طبقا لما أكده الباحث عبدالإله عبدالقادر في كتاب عنه، والأديب الأريب والناقد أحمد علي العويس، علاوة على المترجم له المؤرخ عمران بن سالم العويس.
درس عمران العويس (والد راشد، يرحمه الله، وعبدالله، يرحمه الله، وسلطان وعلي ومحمد) أولا بمدرسة الإصلاح بالشارقة التي أسسها الشيخ محمد بن علي المحمود في ثلاثينات القرن العشرين كأول مؤسسة تعليمية نظامية تؤسس بالشارقة، ومنها انتقل إلى مدرسة الفلاح في دبي التي أسسها تاجر اللؤلؤ الحجازي ورجل البر والإحسان الحاج محمد علي زينل عام 1927. وفي عام 1947 التحق بمدرسة المرحوم عبدالله القرق الخاصة لتعليم اللغة الإنجليزية بدبي، وهو ما فتح آفاقه على التعليم العصري ومدهشات زمنه فقرر أن يواصل تعليمه خارج بلاده.
ولما كانت عائلة العويس معروفة بالاشتغال بتجارة اللؤلؤ وتصريف محاصيله في أسواق بومباي، على عادة أهل الخليج قديما، قبل أن تؤسس لها روابط تجارية متنوعة مع الهند تصديرا واستيرادا لمختلف السلع والبضائع، فإن صاحبنا لم يجد مكانا أفضل من بومباي لتحقيق طموحاته الدراسية. وهكذا شد الرحال إليها سنة 1949، حيث التحق فيها بمدرسة «بربيرتي هاي سكول» التي تلقى بها دروسا متقدمة في اللغة الإنجليزية إلى جانب مواد عصرية أخرى، وحصل منها على شهادة تعادل الشهادة الثانوية. علاوة على ذلك وبالتزامن التحق بالمدرسة الكويتية التي أنشأتها حكومة الكويت في بومباي سنة 1952 لتعليم أبناء جاليتها والجاليات العربية، حيث تلقى فيها دروسا باللغة العربية في الأدب والتربية الدينية وغيرها، تعزيزا لدروس كان قد تلقاها سنة 1947 بدبي في النحو والصرف والشعر على يد أحد أعلام اللغة والشعر، وهو الأستاذ أحمد القنبري. وهكذا نرى أن الرجل حظي في تلك الحقبة المبكرة والصعبة من تاريخ وطنه بما لم يحظ به الآخرون من معاصريه ممن كان مجرد إجادة الكتابة والقراءة فقط حلما يراودهم، فما بالك بتعلم اللغات الأجنبية.
لم يكتف العويس بكل هذا، وإنما واصل دراسته في الهند إلى أن حصل في عام 1958 على دبلوم اللغة الإنجليزية من المعهد العالي للغات. ومما لا شك فيه أن دراسته للغة الإنجليزية في الهند كانت خير معين له لاحقا حينما انشغل واشتغل بالتدوين والتحقيق لتاريخ المنطقة، إذ استطاع أن يطلع على أمهات الكتب التاريخية والجغرافية التي أصدرها الرحالة والمستشرقون الأجانب عن الخليج، وأن يتفحص تقارير وكلاء ومعتمدي بريطانيا السياسيين في المنطقة بعين ناقدة ويكتب عنها أو يعلق عليها، وتمكن من السير في مناكب الكتب والمخطوطات المختلفة وعدم قبول الرواية التاريخية او الجغرافية إلا بعد وزنها بميزان العقل والمنطق والمصادر والإحالات والمراجع.
إلى ذلك، كان لتمكنه من اللغة العربية وشغفه بالأدب والكتابة، فضلا عن انشغاله بإعداد دراسات وشجرات للأسر العربية التي حكمت بعض البلاد العربية كدول الخليج ومصر والمغرب وبلاد الشام، دور في قيامه بنشر بعض المقالات في الصحافة ابتداء من منتصف الستينات تقريبا، حينما نشر مقالات في نشرة «الديار العمانية» النصف شهرية التي صدرت بالشارقة في النصف الأول من عام 1964، على يد كل من حميد بن ناصر العويس، وعلي محمد الشرفا، وعبدالله بن سالم العمران، وكانت تهتم بقضايا المنطقة وتدعو إلى معالجة المسائل الملحة وتنادي بنشر العلم وبناء المدارس. كما حرص العويس على استثمار براعته في التاريخ واللغة في إلقاء المحاضرات ومنها محاضرة شهيرة ألقاها بدبي سنة 1989 تحت عنوان «ملامح من الماضي في الخليج العربي» من خلال فعاليات «ندوة الثقافة والعلوم»، وهي المؤسسة الثقافية والعلمية التي تأسست سنة 1987، والتي كان العويس أحد أعضائها المؤسسين وعضوا في مجلس إدارتها من عام 1987 حتى عام 2003، بل ورئيسا أيضا للجنة المكتبة والطبع والنشر فيها، حيث كان من مهماته الإشراف على تزويد مكتبة المؤسسة بالإصدارات وتبادل المؤلفات بينها وبين المؤسسات المماثلة في الخليج والوطن العربي، والإشراف على إصدارات المؤسسة نفسها ومقتنياتها الثقافية والعلمية.
والحقيقة أن العويس لم يكن عضوا فقط في «ندوة الثقافة والعلوم»، وإنما كان أيضا، بسب اهتماماته المتعددة ومكانته التجارية ومرجعيته التاريخية، عضوا في مؤسسات وكيانات أخرى منها: المجلس البلدي لإمارة الشارقة، ومجلس إدارة غرفة تجارة وصناعة الشارقة، ومجلس أمناء جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية، علاوة على أنه كان عضوا في النادي الأهلي الرياضي، الذي تأسس سنة 1945، وتمّ تغيير اسمه إلى نادي النصر في عام 1960.
ولعل من دلائل علو كعبه في مجال اهتماماته التاريخية والتوثيقية، وتميزه بين أقرانه لجهة تحري الصدق والأمانة والحقيقة في إيراد المعلومة والجلد والصبر في البحث عنها، أنه تمّ تكريمه من قبل سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى/ حاكم الشارقة في «ملتقى الراوي» سنة 2017، ناهيك عن اختياره سنة 2003 لجائزة شخصية العام الثقافية التي تشرف عليها «ندوة الثقافة والعلوم».
محبة الناس
أما دلائل محبة الناس له وتقديرهم لجهوده واعتزازهم بشخصه فنجد تجلياتها في اكتظاظ وسائل التواصل الاجتماعي في الإمارات والخليج والمنطقة العربية بالتغريدات الحزينة بمجرد انتشار خبر وفاته يوم الاثنين الموافق للسادس من أبريل عام 2020، حيث سارع الوزراء والمسؤولون وأصحاب الفكر والقلم لنعيه وذكر مآثره والإشادة بإنجازاته والترحم عليه.
من هؤلاء معالي أنور قرقاش وزير الدولة للشؤون الخارجية الذي كتب عبر حسابه على «تويتر»: «فقدنا اليوم العم الجليل عمران بن سالم العويس، عضو مجلس أمناء مؤسسة سلطان العويس الثقافية. سنفتقد أدبه الجم، واطلاعه الموسوعي على تاريخ الإمارات والخليج. رحم الله بوراشد، وأدخله فسيح جنانه، وصبّرنا، وصبّر أسرته على هذا الفقد المؤلم». وكتب المستشار إبراهيم محمد بوملحة بجريدة البيان (7 / 4/ 2020) متحدثا عن شخصية الفقيد فأشار إلى أنه «تميز بميزات أخلاقية رفيعة تسمو بشخصه كمثقف بحيث تجعله بجانب ثقافته صاحب خلق رفيع في أوساطنا. فقد ضرب، رحمه الله، مثلاً واضحاً وعملياً على أهمية الأخلاق للمثقف بحيث توأم بين هاتين الخصلتين الجليلتين في شخصه الكريم، فكان ذلك مدعاة لمزيد من الاحترام والتقدير لشخصه». وتطرق بوملحة إلى جانب آخر من جوانب شخصية العويس وهو تواضعه الجم وزهده في الحديث عن نفسه وتحاشيه أضواء الإعلام وبهرجة المحافل، على ما عنده من علم وثقافة كبيرين، وهو ما جعله غير معروف في أوساط المثقفين الشباب، والعكس عند مجايليه وزملائه والقريبين منه في اهتماماته. إلى ما سبق ــ وبحسب بوملحة ــ فإن الراحل كان عفّ اللسان ويحترم الناس إلى درجة تتعدى حدود المعقول، إذ لم يسجل عنه أنه ذكر أحداً من الناس بشيء من النقد أو ما شابهه أو شارك في حديث من هذا القبيل، فقد كان لا يذكر الآخر إلا بما به من الإيجابيات والمحاسن والخصال الطيبة.
وعلى المنوال نفسه قال نائب رئيس مجلس إدارة ندوة الثقافة والعلوم بدبي علي عبيد الهاملي في تصريح لصحيفة الخليج (7 / 4 /2020): «الساحة الثقافية الإماراتية عموماً، وندوة الثقافة والعلوم على وجه الخصوص، فقدت اليوم إحدى قاماتها الثقافية المهمة؛ حيث كان الفقيد أحد مؤسسي الندوة وعضواً في مجلس إدارتها لعدة دورات. لقد كان الراحل دمث الأخلاق، طيّب المعشر، وكان يُعطي من الكلام ما قلَّ ودلَّ، ونهلَ من العلم في الشارقة والهند في زمن كان الحصول فيه على العلم ينطوي على الكثير من الصعاب في خمسينات القرن المنصرم، وكان بذلك نموذجاً لابن الإمارات الذي يتكبد المشقة لارتشاف العلم، وعلى الرغم من تدهور صحته في الفترة الأخيرة، إلا أنه لم ينكفئ عن التواصل مع الندوة وفعالياتها، وهذا دليلٌ آخر على شخصيته المحبة للعلم والثقافة».
رجل هادئ فارع الطول متزن
ووجدت في أحد الأعداد القديمة من مجلة «النهضة العمانية» حوارا أجراه صاحبها (طالب المعولي) مع العويس في عقد الثمانينات حينما كان صاحبنا في الأربعينات من عمره، وجاء فيه وصف المعولي للعويس بأنه: «رجل هادئ، فارع الطول، متزن ذو صفات حميدة. إذا جلست وتحدثت إليه تخاله ابن خلدون في مقدمته الشهيرة أو السالمي في تحفته.. هو موسوعة علمية متنقلة بمعنى الكلمة.. يحدثك عن التاريخ العماني كأنه أحد الذين عاصروه في ذلك الزمن.. إذا أسهب زاد شوقك إلى سماع المزيد وإذا تعمق في التنقيب عنه دخل في غوره». ثم كتب المعولي مضيفا: «دخلت مكتبه وعرفته بنفسي حتى بادرني ببيت شعر من القصيدة النونية المشهورة للشاعر ناصر بن عديم الرواحي، رحمه الله،
ابن معولة قبل الرسول لهم
على مزون باتاوات وتيجان
ثم استمر الرجل الصريح إلى أقصى حد حديثه معي قائلا (بتصرف): «إننا أبناء منطقة واحدة وقبيلة واحدة وبيت واحد وأصل واحد. يربطنا تاريخ طويل منذ القدم لا يفصله شيء. شريط ممتد يربط كل التقاليد والعادات. إننا أصحاب قيم وأخلاق عربية أصيلة لم تتأثر أبدا رغم مرور الزمن.. نحن أول من حط رحاله في هذه المنطقة وذاد عن حياضها وطرد الدخلاء ونحن أول من شكل مجلسا وانتخب زعيما وقائدا. نحن أحفاد الذين خرجوا من اليمن إلى عمان واستوطنوها. كنا في الغوص معاً وفي الحروب معاً وعلى السفن التي كانت تمخر عباب الخليج معاً. وصلنا إلى مجاهل أفريقيا وانقادت لنا القارة بأسرها، وفتحنا الهند والسند وعبرنا المحيطات. تغيرت دول وبلدان ولم تتغير أخلاقنا ولا قيمنا».
من هؤلاء، في دولة الإمارات العربية المتحدة، المؤرخ والمثقف الراحل عمران بن سالم العويس الذي تحل هذا الشهر الذكرى الثالثة لرحيله، حيث وافاه الأجل المحتوم في السادس من أبريل سنة 2020 عن عمر ناهز الثامنة والثمانين، قضاه في الجد والاجتهاد والسفر والتحصيل والبحث والاطلاع والتوثيق التأريخي والاجتماعي لأحوال منطقة الخليج العربي بصفة عامة، وأحوال دولة الإمارات بصفة خاصة. وخلال هذه السنوات الطويلة برز كعالم لا يشق له غبار، ولا يغيب عنه حدث صغيرا كان أو كبيرا، وصار مرجعا موسوعيا لأحداث المنطقة بكل تفاصيلها وظروفها الدقيقة، فبات رحمه الله ركناً من أركان التاريخ والثقافة والتوثيق في بلاده وما جاورها من بلدان المنطقة، حتى أن المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان -رحمه الله- اختاره ليكون أحد أعمدة لجنة التراث والتاريخ التي تأسست بتوجيهاته في مطلع السبعينات برئاسة المرحوم أحمد بن سلطان بن سليم (ت: 1976)، خصوصا أن سموه كان عاشقا للتراث ومهتما بالموروث الشعبي ويعتبره مكونا مهما للهوية الوطنية، علما بأن العويس اختير كنائب لرئيس تلك اللجنة وقتذاك، ثم كان نائبا أيضا لرئيسها التالي الشيخ محمد بن أحمد الخزرجي (ت: 2006).
ولد «عمران بن سالم بن عبدالله العويس» بإمارة الشارقة سنة 1932 لأسرة معروفة جمعت بين الغوص على اللؤلؤ والعمل في التجارة والشغف بالعلم والثقافة والأدب والشعر. فأسرة العويس، المعروفة في عموم الإمارات لاسيما في الشارقة، تعود جذورها إلى العوايد، وهم أحد فروع آل بوشامس الذين هم أيضا فرع من قبيلة النعيم. وتقول المراجع إن أصل العويسات من منطقة الحيرة الواقعة بين عجمان والشارقة، وأن لقب العويس له أكثر من تفسير، منها ما يرجح أن يكون اللقب نسبة إلى نوع من أنواع السفن كانت تسمى بهذا المسمى وكانت العائلة تملك بعضها، خصوصا أنها عملت في الصيد والغوص قديما. (طبقا لما ورد في صحيفة «الخليج» في عددها الصادر يوم 8/6/2016).
وقد أنجبت أسرة العويس للإمارات العديد من الأسماء اللامعة في مختلف الحقول والتخصصات من تلك التي تولت المناصب الرفيعة في الدولة وساهمت في نهضتها، وبرزت منها شخصيات معروفة في عوالم الأدب والشعر والثقافة وعلى رأسهم الوجيه المرحوم سلطان بن علي العويس (ت: 2000)، صاحب المؤسسة الثقافية والفكرية التي تحمل اسمه -رحمه الله- والتي كانت ولا تزال تمنح الجوائز للمبدعين المحليين والعرب، وكذلك الشاعر سالم بن علي العويس (ت: 1959) الذي كان والده وجده لأمه وجدته (أم والدته) من الشعراء أيضا طبقا لما أكده الباحث عبدالإله عبدالقادر في كتاب عنه، والأديب الأريب والناقد أحمد علي العويس، علاوة على المترجم له المؤرخ عمران بن سالم العويس.
درس عمران العويس (والد راشد، يرحمه الله، وعبدالله، يرحمه الله، وسلطان وعلي ومحمد) أولا بمدرسة الإصلاح بالشارقة التي أسسها الشيخ محمد بن علي المحمود في ثلاثينات القرن العشرين كأول مؤسسة تعليمية نظامية تؤسس بالشارقة، ومنها انتقل إلى مدرسة الفلاح في دبي التي أسسها تاجر اللؤلؤ الحجازي ورجل البر والإحسان الحاج محمد علي زينل عام 1927. وفي عام 1947 التحق بمدرسة المرحوم عبدالله القرق الخاصة لتعليم اللغة الإنجليزية بدبي، وهو ما فتح آفاقه على التعليم العصري ومدهشات زمنه فقرر أن يواصل تعليمه خارج بلاده.
ولما كانت عائلة العويس معروفة بالاشتغال بتجارة اللؤلؤ وتصريف محاصيله في أسواق بومباي، على عادة أهل الخليج قديما، قبل أن تؤسس لها روابط تجارية متنوعة مع الهند تصديرا واستيرادا لمختلف السلع والبضائع، فإن صاحبنا لم يجد مكانا أفضل من بومباي لتحقيق طموحاته الدراسية. وهكذا شد الرحال إليها سنة 1949، حيث التحق فيها بمدرسة «بربيرتي هاي سكول» التي تلقى بها دروسا متقدمة في اللغة الإنجليزية إلى جانب مواد عصرية أخرى، وحصل منها على شهادة تعادل الشهادة الثانوية. علاوة على ذلك وبالتزامن التحق بالمدرسة الكويتية التي أنشأتها حكومة الكويت في بومباي سنة 1952 لتعليم أبناء جاليتها والجاليات العربية، حيث تلقى فيها دروسا باللغة العربية في الأدب والتربية الدينية وغيرها، تعزيزا لدروس كان قد تلقاها سنة 1947 بدبي في النحو والصرف والشعر على يد أحد أعلام اللغة والشعر، وهو الأستاذ أحمد القنبري. وهكذا نرى أن الرجل حظي في تلك الحقبة المبكرة والصعبة من تاريخ وطنه بما لم يحظ به الآخرون من معاصريه ممن كان مجرد إجادة الكتابة والقراءة فقط حلما يراودهم، فما بالك بتعلم اللغات الأجنبية.
لم يكتف العويس بكل هذا، وإنما واصل دراسته في الهند إلى أن حصل في عام 1958 على دبلوم اللغة الإنجليزية من المعهد العالي للغات. ومما لا شك فيه أن دراسته للغة الإنجليزية في الهند كانت خير معين له لاحقا حينما انشغل واشتغل بالتدوين والتحقيق لتاريخ المنطقة، إذ استطاع أن يطلع على أمهات الكتب التاريخية والجغرافية التي أصدرها الرحالة والمستشرقون الأجانب عن الخليج، وأن يتفحص تقارير وكلاء ومعتمدي بريطانيا السياسيين في المنطقة بعين ناقدة ويكتب عنها أو يعلق عليها، وتمكن من السير في مناكب الكتب والمخطوطات المختلفة وعدم قبول الرواية التاريخية او الجغرافية إلا بعد وزنها بميزان العقل والمنطق والمصادر والإحالات والمراجع.
إلى ذلك، كان لتمكنه من اللغة العربية وشغفه بالأدب والكتابة، فضلا عن انشغاله بإعداد دراسات وشجرات للأسر العربية التي حكمت بعض البلاد العربية كدول الخليج ومصر والمغرب وبلاد الشام، دور في قيامه بنشر بعض المقالات في الصحافة ابتداء من منتصف الستينات تقريبا، حينما نشر مقالات في نشرة «الديار العمانية» النصف شهرية التي صدرت بالشارقة في النصف الأول من عام 1964، على يد كل من حميد بن ناصر العويس، وعلي محمد الشرفا، وعبدالله بن سالم العمران، وكانت تهتم بقضايا المنطقة وتدعو إلى معالجة المسائل الملحة وتنادي بنشر العلم وبناء المدارس. كما حرص العويس على استثمار براعته في التاريخ واللغة في إلقاء المحاضرات ومنها محاضرة شهيرة ألقاها بدبي سنة 1989 تحت عنوان «ملامح من الماضي في الخليج العربي» من خلال فعاليات «ندوة الثقافة والعلوم»، وهي المؤسسة الثقافية والعلمية التي تأسست سنة 1987، والتي كان العويس أحد أعضائها المؤسسين وعضوا في مجلس إدارتها من عام 1987 حتى عام 2003، بل ورئيسا أيضا للجنة المكتبة والطبع والنشر فيها، حيث كان من مهماته الإشراف على تزويد مكتبة المؤسسة بالإصدارات وتبادل المؤلفات بينها وبين المؤسسات المماثلة في الخليج والوطن العربي، والإشراف على إصدارات المؤسسة نفسها ومقتنياتها الثقافية والعلمية.
والحقيقة أن العويس لم يكن عضوا فقط في «ندوة الثقافة والعلوم»، وإنما كان أيضا، بسب اهتماماته المتعددة ومكانته التجارية ومرجعيته التاريخية، عضوا في مؤسسات وكيانات أخرى منها: المجلس البلدي لإمارة الشارقة، ومجلس إدارة غرفة تجارة وصناعة الشارقة، ومجلس أمناء جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية، علاوة على أنه كان عضوا في النادي الأهلي الرياضي، الذي تأسس سنة 1945، وتمّ تغيير اسمه إلى نادي النصر في عام 1960.
ولعل من دلائل علو كعبه في مجال اهتماماته التاريخية والتوثيقية، وتميزه بين أقرانه لجهة تحري الصدق والأمانة والحقيقة في إيراد المعلومة والجلد والصبر في البحث عنها، أنه تمّ تكريمه من قبل سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى/ حاكم الشارقة في «ملتقى الراوي» سنة 2017، ناهيك عن اختياره سنة 2003 لجائزة شخصية العام الثقافية التي تشرف عليها «ندوة الثقافة والعلوم».
محبة الناس
أما دلائل محبة الناس له وتقديرهم لجهوده واعتزازهم بشخصه فنجد تجلياتها في اكتظاظ وسائل التواصل الاجتماعي في الإمارات والخليج والمنطقة العربية بالتغريدات الحزينة بمجرد انتشار خبر وفاته يوم الاثنين الموافق للسادس من أبريل عام 2020، حيث سارع الوزراء والمسؤولون وأصحاب الفكر والقلم لنعيه وذكر مآثره والإشادة بإنجازاته والترحم عليه.
من هؤلاء معالي أنور قرقاش وزير الدولة للشؤون الخارجية الذي كتب عبر حسابه على «تويتر»: «فقدنا اليوم العم الجليل عمران بن سالم العويس، عضو مجلس أمناء مؤسسة سلطان العويس الثقافية. سنفتقد أدبه الجم، واطلاعه الموسوعي على تاريخ الإمارات والخليج. رحم الله بوراشد، وأدخله فسيح جنانه، وصبّرنا، وصبّر أسرته على هذا الفقد المؤلم». وكتب المستشار إبراهيم محمد بوملحة بجريدة البيان (7 / 4/ 2020) متحدثا عن شخصية الفقيد فأشار إلى أنه «تميز بميزات أخلاقية رفيعة تسمو بشخصه كمثقف بحيث تجعله بجانب ثقافته صاحب خلق رفيع في أوساطنا. فقد ضرب، رحمه الله، مثلاً واضحاً وعملياً على أهمية الأخلاق للمثقف بحيث توأم بين هاتين الخصلتين الجليلتين في شخصه الكريم، فكان ذلك مدعاة لمزيد من الاحترام والتقدير لشخصه». وتطرق بوملحة إلى جانب آخر من جوانب شخصية العويس وهو تواضعه الجم وزهده في الحديث عن نفسه وتحاشيه أضواء الإعلام وبهرجة المحافل، على ما عنده من علم وثقافة كبيرين، وهو ما جعله غير معروف في أوساط المثقفين الشباب، والعكس عند مجايليه وزملائه والقريبين منه في اهتماماته. إلى ما سبق ــ وبحسب بوملحة ــ فإن الراحل كان عفّ اللسان ويحترم الناس إلى درجة تتعدى حدود المعقول، إذ لم يسجل عنه أنه ذكر أحداً من الناس بشيء من النقد أو ما شابهه أو شارك في حديث من هذا القبيل، فقد كان لا يذكر الآخر إلا بما به من الإيجابيات والمحاسن والخصال الطيبة.
وعلى المنوال نفسه قال نائب رئيس مجلس إدارة ندوة الثقافة والعلوم بدبي علي عبيد الهاملي في تصريح لصحيفة الخليج (7 / 4 /2020): «الساحة الثقافية الإماراتية عموماً، وندوة الثقافة والعلوم على وجه الخصوص، فقدت اليوم إحدى قاماتها الثقافية المهمة؛ حيث كان الفقيد أحد مؤسسي الندوة وعضواً في مجلس إدارتها لعدة دورات. لقد كان الراحل دمث الأخلاق، طيّب المعشر، وكان يُعطي من الكلام ما قلَّ ودلَّ، ونهلَ من العلم في الشارقة والهند في زمن كان الحصول فيه على العلم ينطوي على الكثير من الصعاب في خمسينات القرن المنصرم، وكان بذلك نموذجاً لابن الإمارات الذي يتكبد المشقة لارتشاف العلم، وعلى الرغم من تدهور صحته في الفترة الأخيرة، إلا أنه لم ينكفئ عن التواصل مع الندوة وفعالياتها، وهذا دليلٌ آخر على شخصيته المحبة للعلم والثقافة».
رجل هادئ فارع الطول متزن
ووجدت في أحد الأعداد القديمة من مجلة «النهضة العمانية» حوارا أجراه صاحبها (طالب المعولي) مع العويس في عقد الثمانينات حينما كان صاحبنا في الأربعينات من عمره، وجاء فيه وصف المعولي للعويس بأنه: «رجل هادئ، فارع الطول، متزن ذو صفات حميدة. إذا جلست وتحدثت إليه تخاله ابن خلدون في مقدمته الشهيرة أو السالمي في تحفته.. هو موسوعة علمية متنقلة بمعنى الكلمة.. يحدثك عن التاريخ العماني كأنه أحد الذين عاصروه في ذلك الزمن.. إذا أسهب زاد شوقك إلى سماع المزيد وإذا تعمق في التنقيب عنه دخل في غوره». ثم كتب المعولي مضيفا: «دخلت مكتبه وعرفته بنفسي حتى بادرني ببيت شعر من القصيدة النونية المشهورة للشاعر ناصر بن عديم الرواحي، رحمه الله،
ابن معولة قبل الرسول لهم
على مزون باتاوات وتيجان
ثم استمر الرجل الصريح إلى أقصى حد حديثه معي قائلا (بتصرف): «إننا أبناء منطقة واحدة وقبيلة واحدة وبيت واحد وأصل واحد. يربطنا تاريخ طويل منذ القدم لا يفصله شيء. شريط ممتد يربط كل التقاليد والعادات. إننا أصحاب قيم وأخلاق عربية أصيلة لم تتأثر أبدا رغم مرور الزمن.. نحن أول من حط رحاله في هذه المنطقة وذاد عن حياضها وطرد الدخلاء ونحن أول من شكل مجلسا وانتخب زعيما وقائدا. نحن أحفاد الذين خرجوا من اليمن إلى عمان واستوطنوها. كنا في الغوص معاً وفي الحروب معاً وعلى السفن التي كانت تمخر عباب الخليج معاً. وصلنا إلى مجاهل أفريقيا وانقادت لنا القارة بأسرها، وفتحنا الهند والسند وعبرنا المحيطات. تغيرت دول وبلدان ولم تتغير أخلاقنا ولا قيمنا».