في 28 يوليو المنصرم حلت الذكرى الحادية عشرة لرحيل الرجل الإنسان، صاحب البر والإحسان، والقدوة الملهمة لرجال الأعمال في كل زمان ومكان، شيخ المقاولين البحرينيين «عبدالله أحمد عيسى عبدالله ناس».
رثيته بمقال بـُعيد رحيله في عام 2013، لكني شعرت لاحقا أني لم أوفه حقه من الحديث، لا عن حياته المليئة بصفحات ناصعة وملهمة، ولا عن جليل أعماله وأياديه البيضاء في خدمة دينه ووطنه ومواطنيه، ولا عن أخلاقه وصفاته الحميدة وعلى رأسها صفات التواضع الجم والبشاشة الدائمة والبعد عن الأنانية والحسد والضغينة وسوء الظن والنفخة الكذابة، ولا عن التفاصيل الدقيقة لرحلته العصامية الشاقة في عالم «البزنس» والتي بدأت بشركة من 100 موظف برأسمال ألفي دينار في عام 1962 لتصل اليوم إلى 40 شركة قيمتها أكثر من 130 مليون دينار ويساهم فيها 12 ألف مساهم ويعمل بها نحو 15 ألف موظف.
إن سيرة ناس مليئة بصور المعاناة والكفاح والاجتهاد والتنقل وعدم اليأس، وصور الصدق والنزاهة والتواضع والأمانة، ما يجعلها مادة ملهمة وصالحة للتدريس في كليات إدارة الأعمال. كيف لا وهو الإنسان الذي انطلق من القاع حتى وصل إلى القمة، ونجح في بناء إمبراطورية تجارية وصناعية رفعت اسم البحرين عاليا في دنيا المشاريع الهندسية.
الذين اقتربوا منه وعرفوه عن كثب مثلي لا يمكنهم إلا أن يقروا بأنه كان شخصية متميزة وآسرة للقلوب بسبب ما كان يثيره، أينما حل، من أجواء السعادة والتفاؤل والأمل. أما الذين كانوا على اطلاع بما يقدمه من جليل الأعمال لصالح الأيتام والفقراء والمحتاجين داخل البحرين وخارجها فقد خسروا برحيله رافدا من روافد البر والإحسان لا يمكن تعويضه.
يتذكر أبناء جيلي كيف أن شركة ناس كانت الوجهة المفضلة للطلبة لجهة التوظيف والتدريب في عطلات الصيف المدرسية، والسبب هو أن صاحبها كان الأكثر كرما في منحهم الفرص الوظيفية والأكثر تفهما لاحتياجاتهم المعيشية، والأكثر صبرا على مشاغباتهم وحيلهم. وكان هذا، بطبيعة الحال، ناجما عن تجربته الشخصية ومعاناته وكفاحه الطويل، واغترابه خارج الحدود منذ أن كان شابا يافعا.
يقول المؤرخ البحريني «بشار الحادي» في الجزء الخامس من موسوعة «ضياء البدرين في تاريخ البحرين، أعيان البحرين في القرن الرابع عشر الهجري»، إنّ أصول عائلة ناس ترجع إلى قبيلة الدواسر، وإنها نزحتْ من منطقة وادي الدواسر النجدية إلى الأحساء في زمن يـُرجح أنه قبل عام 1800، ثم انتقل جد العائلة عيسى بن عبدالله ناس في 1885، من الأحساء إلى البحرين للإقامة والعمل، فظل فيها ولم يبارحها. أما لقب العائلة فيرتبط بـ«وادي ناس» بمنطقة وادي الدواسر.
أخبرنا الحادي أيضا، أن «أحمد بن عيسى ناس» (والد المترجم له)، ولد في فريج البنعلي بالمحرق سنة 1888 وتوفي بالسرطان سنة 1968، وأنه تلقى تعليمه الأولي لدى «المطوع» قبل أن يدرس على يد الشيخ عيسى بن إبراهيم آل جامع. وبعد أنْ اشتد عوده راح يساعد والده «عيسى ناس» في بيع الأخشاب ومواد البناء لعدة سنوات، وأثناء ذلك تزوج سبع زوجات من عائلات الحميضي والسبيعي والشملان وبديوي وغيرها. لكنه لاحظ أن أكثر الأرباح يأتي من الاتجار في اللؤلؤ، فاتجه لتعلم أصول حرفة اللؤلؤ والتدرب على أنواعه وأشكاله وأحجامه وأوزانه، وبعدما أتقن ذلك نظريا راح يتلقى الدروس العملية من خلال العمل مع طواش من عائلة البنعلي المحرقية، فأصبحت لديه خبرة جيدة باللؤلؤ، وهو ما جعل التاجر والطواش المعروف الحاج «علي بن صقر الجلاهمة» يختاره للعمل لديه كمحاسب وماسك للدفاتر. وفي الوقت نفسه كان يذهب مع الجلاهمة لشراء اللؤلؤ من النواخذة في عرض البحر. وهكذا استمر «أحمد ناس» يعمل مع «الجلاهمة» حتى تاريخ وفاة الأخير الذي صادف بدء انهيار أسواق اللؤلؤ، فاتجه حينذاك (في حدود 1939) إلى ممارسة المحاماة بتشجيع من الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة.
وبحصول «أحمد ناس» على رخصة المحاماة عمل في هذا المجال لحسابه الخاص، وتم تعيينه كوكيل عن الهيئة الخليفية من أجل متابعة أملاكها وعقاراتها ونخيلها في المحاكم. ومن خلال هذه المهمة تكونتْ لديه خبرة في تثمين العقارات ومواد البناء وإنشاء البيوت، فاستعانتْ به حكومة البحرين والمحاكم كمستشار لحل المنازعات.
أما ابنه عبدالله فقد ولد في المحرق في 1936 وتربى في وسط معيشي بسيط بين أربعة إخوان داخل بيت العائلة الكبير الذي ضم 14 فردا. وفي المحرق تلقى دراسته الأولية لدى «المطوع» قبل أنْ يلتحق بمدرسة الهداية الخليفية وينهي تعليمه فيها في 1944. بعد ذلك التحق بالمدرسة الصناعية في المنامة (قسم الميكانيكا) وأنهى دراسته فيها في 1950. وفي هذا السياق يخبرنا الحادي في كتابه أن الرجل عمل، أثناء دراسته الصناعية، وهو لم يتعد الثانية عشرة، في ورشة لإصلاح السيارات لاكتساب الخبرة، فكان يشتغل لمدة ثلاث ساعات يوميا دون مقابل. كما يخبرنا أن والده أراد له أن يصبح «نوخذة»، لكن طموح الابن كان أكبر من ذلك، حيث قرر أن يتخذ مسارا مغايرا لمسار أبيه وجده، بدليل أنه التحق في سن مبكرة بشركة نفط البحرين (بابكو)، حيث أمضى فترة عمل وجيزة داخل مختبرات الشركة.
قاده طموحه إلى ترك البحرين في 1952، وهو في سن السادسة عشرة، للتوجه إلى شرق السعودية، بحثا عن الأعمال المجزية، تأسيا بما كان يفعل بحرينيون كثر في تلك الحقبة التي تميزت باستثمار المملكة لمداخيلها النفطية في مشاريع البنية التحتية والخدمية. فعل ناس ذلك وهو يعلم حجم التحديات الكبيرة التي سوف تواجهه في بيئة مختلفة عن بيئته، لكنه كان عازما على بناء نفسه بنفسه واقتناص أي فرصة متاحة من أجل تحقيق النجاح واكتساب الخبرة.
وفي هذا السياق، سـُجل عنه قوله ذات مرة: «يواجه الإنسان الخير والشر خلال حياته، كل يوم له تحدياته الخاصة وخسائره وإنجازاته وخيبات أمله. فهو عبارة عن حزمة ضخمة من كل شيء. ولكن السر في النجاح يكمن في تركيز بصرك على هدفك. لذا لا تحد عما تريد أن تصبح ولا يهدأ بالك حتى تحققه».
اتخذ «ناس» من مدينة الخبر مكانا لإقامته كي يكون قريبا من الظهران، المقر الرئيسي لشركة أرامكو التي منحته فرصة العمل والتدرب، بل التي حصل منها لاحقا، أي بعد أنْ أثبت جدارته وحاز على ثقة رؤسائه، على مناقصات لصالح «شركة النصر للمقاولات»، وهي شركة سعودية صغيرة كان مقرها في الخبر، وكان يعمل بها «ناس» مقابل 300 ريال شهريا، مع 75 شخصا.
يصف الرجل الحياة في السعودية في تلك الحقبة بالصعبة، مضيفا (بتصرف): «لقد كنتُ أعمل بمواقع العمل لمدة ثماني ساعات في النهار، ثم أقوم بالعمل لمدة أربع ساعات أخرى في المساء للقيام ببعض الأعمال المكتبية. لقد كنتُ، في آن واحد، ساعيا للمكتب، ومسعر عطاءات، ومهندسا، ومحاسبا، ومديرا. كما كنتُ مسؤولا عن تسليم أجور العمال في نهاية كل أسبوع، حيث كنتُ أقوم بملء عدة حقائب بالعملة المعدنية وتحميلها على شاحنة صغيرة والذهاب بها إلى حيث مواقع العمل المختلفة. لم تكن هذه عملية شاقة بقدر صعوبة شرح وتوضيح احتساب أجر كل عامل على حدة، خصوصا أن معظم أولئك العمال كان من الأميين الذين لا يجيدون القراءة أو الحساب».
استطاع «ناس»، من خلال عمله مع شركة النصر السعودية، أنْ يبني لنفسه سمعة طيبة في مجال إدارة الشركات وقطاع المقاولات، الأمر الذي مهّد الطريق أمامه للدخول كمساهم رئيسي في شركة سعودية أخرى هي «شركة أحمد محمود الصوفي» للمقاولات، قبل أنْ ينفصل عن الأخيرة ويؤسس عمله الخاص في السعودية في عام 1958، وهو ما منحه المزيد من النجاح والسمعة الطيبة وثقة الناس.
في عام 1962، كان «ناس» على موعد مع انعطافة كبرى في مسيرته العملية، ففيه عاد إلى البحرين محملا بتجربة ثرية وثقة كبيرة في النفس، وقدرة على الصبر والجلد. أمضى الرجل الأشهر الثلاثة الأولى بعد عودته في دراسة سوق العمل، مع تنفيذ بعض أعمال المقاولات الصغيرة التي كانت له خبرة فيها، والتي منحته بعض الأرباح. في العام التالي، بدأ رحلة الألف ميل في قطاع المقاولات والإنشاءات في البحرين، حيث حصل أولا على ترخيص تجاري يخوله لتأسيس شركة مقاولات خاصة، ثم قام بتأسيس الشركة برأسمال مقداره 2,000 دينار جمعه من مدخراته ومن والده وأخيه محمد.
تولى «ناس» مسؤولية الإدارة وتسيير أعمال الشركة. وكان أول مشروع حصل عليه هو بناء الطابق العلوي لمدرسة عائشة أم المؤمنين للبنات في المنامة. أما المشروع الآخر فكان تنفيذ أعمال شبكة صرف صحي في المنامة لصالح وزارة الأشغال. وقتذاك كان يعمل بالشركة 100 فرد وهو ما وضع مسؤولية جسيمة على عاتقها. نفذ الرجل المشروعين المذكورين وفقا للجدول الزمني، ولكن هل حقق أي ربح منهما؟ يقول «ناس»: نعم ولا، «خسرتُ 50 ألف روبية في المشروع الأول، ولكني ربحت 150 ألف روبية في المشروع الآخر».
في منتصف الستينات بدت أعمال المقاولات محفوفة بالمخاطر ومتأرجحة ما بين الربح والخسارة، الأمر الذي أقلق والده ودفعه في 1964 إلى الانسحاب من الشركة، فتم له ما أراد بطريقة هادئة، فيما واصل عبدالله ناس طريقه بعد أن أعاد لوالده ضعف مبلغ مساهمته في الشركة.
تشاء الأقدار في هذه المرحلة الدقيقة أن تستعين شركة «براون روت» الأمريكية بشركة ناس كمقاول من الباطن لتصنيع وتشييد خزانين عائمين لتخزين النفط في عرض البحر لصالح شركة أرامكو، في منطقة الجعيمة السعودية.
غير أن هذه الصفقة التي اعتبرت منقذة لشركة ناس كادت أنْ تودي بها إلى الإفلاس لولا حكمة وذكاء وصبر وهدوء صاحبها. وملخص القصة أن شركته فازت بالعطاء وفق تقديرات مالية وضعها أحد مسعري العطاءات الأمريكيين من موظفيه، لكن بسبب ظروف غير متوقعة تبين أن قيمة الأعمال المنفذة سوف تزيد على قيمة العطاء بأكثر من نصف مليون دينار بحريني، مما سيشكل خسارة للشركة. لمْ يقرع ناس جرس الإنذار، ولم يـُصب بالاكتئاب، ولم يـُصدر أوامره إلى موظفيه بالتلاعب والتغيير في مواصفات وجودة الأعمال المقررة كي يوفر مبلغا من هنا ومبلغا من هناك. بل على العكس نصح موظفيه بالاستمرار في العمل، والاجتهاد قدر الإمكان، وعدم المساومة على حساب الالتزامات المقررة، وذلك من أجل إنجاز المطلوب وفق الجدول الزمني الموضوع. وهنا يتضح لنا معدن رجل الأعمال الأصيل، الصادق مع نفسه وغيره.
صناعة مقاولات متكاملة
بعد هذه الزوبعة، تفرغ «ناس» للخطوة التالية التي تمثلت في وضع تقرير محاسبي دقيق للخسائر التي تكبدها دون زيادة أو نقصان، وراح يسعى في كل اتجاه للمطالبة بتعويض. وقد نجح، من خلال دعم سمو رئيس الوزراء الراحل الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة، ووزير التنمية والصناعة آنذاك يوسف الشيراوي، اللذين أقنعا الحكومة السعودية وشركة أرامكو بحقائق الأمور فتم تعويضه لما تبين لهما من صدقه ونزاهته.
من خلال تجربته في عالم المقاولات والأعمال الإنشائية تبين للرجل أن إحدى المشاكل المستعصية هي تآكل الخرسانة وتساقطها، وأن السبب في ذلك يرجع إلى عدم جودة المواد المستخدمة واحتوائها على نسبة ملوحة زائدة، وليس إلى عيب في طريقة العمل. وقد أثبتت دراسة قامت بها شركة «ستنجرز» لحسابه هذا الأمر، وهو ما شجعه على إنشاء صناعة مقاولات متكاملة تقوم بتوفير مواد تشييد عالية الجودة، وفي الوقت نفسه ذات أسعار تنافسية. وفي هذا السياق نقل عنه الحادي قوله: «منذ ذلك الحين وضعتُ خطة طموحة للعمل على توفير مواد البناء بجودة عالية، فعملتُ على إنشاء مصنع لتحلية المياه والثلج، ومصنع لغسيل ومعالجة الرمال، لتخفيض نسبة الملوحة واستخدام الثلج في تخفيض درجة حرارة الماء المستخدم في خلطة الخرسانة، إذ يجب ألا تزيد درجة حرارة الماء على الثلاثين درجة مئوية، كما تعاونتُ مع إخواني من الشركاء البحرينيين وغيرهم على إنشاء شركات تقوم باستيراد الحصى من رأس الخيمة واستيراد الأسمنت من اليابان».
الأبناء يكملون مسيرة والدهم
قبل وفاته كانت شركة ناس قد نفذت من المشاريع في البحرين ما لم تنفذه أي شركة محلية أخرى، شاملة المجمعات والأبراج السكنية والفنادق والجسور والمباني الحكومية والمستشفيات والموانئ والأرصفة البحرية والمراكز التجارية ومحطات الكهرباء، وغيرها.
من ضمن الشركات التي أسسها الراحل: أول شركة خرسانة جاهزة، شركة ناس للسباكة، أول معمل لمعالجة الرمل، شركة ناس الكهربائية، شركة دلمون للخرسانة المسبوكة، شركة ناس للأغذية، أول مصنع لصناعة حامض الكبريتيك، شركة الخليج للتطوير، الشركة المتحدة للأسمنت، شركة ناس لتأجير السقالات والرافعات، شركة «شو - ناس الشرق الأوسط لأنظمة الأنابيب مسبقة الصنع»، شركة ناس للمساحة، مصنع البحرين للمنتجات العضوية، أول شركة لإدارة النفايات تحت اسم «شركة مدينة الخليج للتنظيفات»، شركة ناس للأسفلت، شركة ناس للخدمات البحرية، وشركة ناس لتكنولوجيا المواد الكاشطة.
لم تقتصر أنشطة شركات ناس على الداخل البحريني، بل تجاوزتها إلى قطر والكويت والسعودية وعمان، حيث ساهمت في تأسيس مصانع للأسمنت ودرفلة الألمونيوم وتصنيع وتركيب الأنابيب الصناعية، وبناء خزانات المعالجة والتخزين، وأعمال فحص اللحام، وخدمات التصوير الإشعاعي الصناعي، وتوريد وتشغيل المعدات الثقيلة المتخصصة اللازمة لتركيب المصانع. واليوم يستمر توسع ما بناه «عبدالله ناس» تحت قيادة أبنائه سمير وسامي وعادل وغازي وفوزي، حيث بدأت «مجموعة ناس» عددا من العمليات في أبوظبي، وأخرى في سلطنة عمان، إضافة إلى إنشاء مصنع للألمونيوم في السعودية بقيمة ثمانية ملايين دينار بحريني، وتصنيع وتصدير بعض المنتجات لشركة هيونداي الكورية.
يقول نجله البكر «سمير» في حوار مع صحيفة الأيام، إن والده كان يدربه مع شقيقه سامي في الصيف على العمل معه بممارسة الأعمال البسيطة كأن يعطيهما مسؤولية الكتابة، أو يرسلهما للتأكد من سير العمل، أو يوظفهما كـ«تنديل» (مراقب) مقابل أجر شهري لا يزيد على 15 روبية. ويضيف قائلا، إن والده كان يهدف من وراء ذلك إلى «إدخالنا في جو العمل وتشجيعنا على تعلم المهنة والاندماج فيها مبكرا».
رثيته بمقال بـُعيد رحيله في عام 2013، لكني شعرت لاحقا أني لم أوفه حقه من الحديث، لا عن حياته المليئة بصفحات ناصعة وملهمة، ولا عن جليل أعماله وأياديه البيضاء في خدمة دينه ووطنه ومواطنيه، ولا عن أخلاقه وصفاته الحميدة وعلى رأسها صفات التواضع الجم والبشاشة الدائمة والبعد عن الأنانية والحسد والضغينة وسوء الظن والنفخة الكذابة، ولا عن التفاصيل الدقيقة لرحلته العصامية الشاقة في عالم «البزنس» والتي بدأت بشركة من 100 موظف برأسمال ألفي دينار في عام 1962 لتصل اليوم إلى 40 شركة قيمتها أكثر من 130 مليون دينار ويساهم فيها 12 ألف مساهم ويعمل بها نحو 15 ألف موظف.
إن سيرة ناس مليئة بصور المعاناة والكفاح والاجتهاد والتنقل وعدم اليأس، وصور الصدق والنزاهة والتواضع والأمانة، ما يجعلها مادة ملهمة وصالحة للتدريس في كليات إدارة الأعمال. كيف لا وهو الإنسان الذي انطلق من القاع حتى وصل إلى القمة، ونجح في بناء إمبراطورية تجارية وصناعية رفعت اسم البحرين عاليا في دنيا المشاريع الهندسية.
الذين اقتربوا منه وعرفوه عن كثب مثلي لا يمكنهم إلا أن يقروا بأنه كان شخصية متميزة وآسرة للقلوب بسبب ما كان يثيره، أينما حل، من أجواء السعادة والتفاؤل والأمل. أما الذين كانوا على اطلاع بما يقدمه من جليل الأعمال لصالح الأيتام والفقراء والمحتاجين داخل البحرين وخارجها فقد خسروا برحيله رافدا من روافد البر والإحسان لا يمكن تعويضه.
يتذكر أبناء جيلي كيف أن شركة ناس كانت الوجهة المفضلة للطلبة لجهة التوظيف والتدريب في عطلات الصيف المدرسية، والسبب هو أن صاحبها كان الأكثر كرما في منحهم الفرص الوظيفية والأكثر تفهما لاحتياجاتهم المعيشية، والأكثر صبرا على مشاغباتهم وحيلهم. وكان هذا، بطبيعة الحال، ناجما عن تجربته الشخصية ومعاناته وكفاحه الطويل، واغترابه خارج الحدود منذ أن كان شابا يافعا.
يقول المؤرخ البحريني «بشار الحادي» في الجزء الخامس من موسوعة «ضياء البدرين في تاريخ البحرين، أعيان البحرين في القرن الرابع عشر الهجري»، إنّ أصول عائلة ناس ترجع إلى قبيلة الدواسر، وإنها نزحتْ من منطقة وادي الدواسر النجدية إلى الأحساء في زمن يـُرجح أنه قبل عام 1800، ثم انتقل جد العائلة عيسى بن عبدالله ناس في 1885، من الأحساء إلى البحرين للإقامة والعمل، فظل فيها ولم يبارحها. أما لقب العائلة فيرتبط بـ«وادي ناس» بمنطقة وادي الدواسر.
أخبرنا الحادي أيضا، أن «أحمد بن عيسى ناس» (والد المترجم له)، ولد في فريج البنعلي بالمحرق سنة 1888 وتوفي بالسرطان سنة 1968، وأنه تلقى تعليمه الأولي لدى «المطوع» قبل أن يدرس على يد الشيخ عيسى بن إبراهيم آل جامع. وبعد أنْ اشتد عوده راح يساعد والده «عيسى ناس» في بيع الأخشاب ومواد البناء لعدة سنوات، وأثناء ذلك تزوج سبع زوجات من عائلات الحميضي والسبيعي والشملان وبديوي وغيرها. لكنه لاحظ أن أكثر الأرباح يأتي من الاتجار في اللؤلؤ، فاتجه لتعلم أصول حرفة اللؤلؤ والتدرب على أنواعه وأشكاله وأحجامه وأوزانه، وبعدما أتقن ذلك نظريا راح يتلقى الدروس العملية من خلال العمل مع طواش من عائلة البنعلي المحرقية، فأصبحت لديه خبرة جيدة باللؤلؤ، وهو ما جعل التاجر والطواش المعروف الحاج «علي بن صقر الجلاهمة» يختاره للعمل لديه كمحاسب وماسك للدفاتر. وفي الوقت نفسه كان يذهب مع الجلاهمة لشراء اللؤلؤ من النواخذة في عرض البحر. وهكذا استمر «أحمد ناس» يعمل مع «الجلاهمة» حتى تاريخ وفاة الأخير الذي صادف بدء انهيار أسواق اللؤلؤ، فاتجه حينذاك (في حدود 1939) إلى ممارسة المحاماة بتشجيع من الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة.
وبحصول «أحمد ناس» على رخصة المحاماة عمل في هذا المجال لحسابه الخاص، وتم تعيينه كوكيل عن الهيئة الخليفية من أجل متابعة أملاكها وعقاراتها ونخيلها في المحاكم. ومن خلال هذه المهمة تكونتْ لديه خبرة في تثمين العقارات ومواد البناء وإنشاء البيوت، فاستعانتْ به حكومة البحرين والمحاكم كمستشار لحل المنازعات.
أما ابنه عبدالله فقد ولد في المحرق في 1936 وتربى في وسط معيشي بسيط بين أربعة إخوان داخل بيت العائلة الكبير الذي ضم 14 فردا. وفي المحرق تلقى دراسته الأولية لدى «المطوع» قبل أنْ يلتحق بمدرسة الهداية الخليفية وينهي تعليمه فيها في 1944. بعد ذلك التحق بالمدرسة الصناعية في المنامة (قسم الميكانيكا) وأنهى دراسته فيها في 1950. وفي هذا السياق يخبرنا الحادي في كتابه أن الرجل عمل، أثناء دراسته الصناعية، وهو لم يتعد الثانية عشرة، في ورشة لإصلاح السيارات لاكتساب الخبرة، فكان يشتغل لمدة ثلاث ساعات يوميا دون مقابل. كما يخبرنا أن والده أراد له أن يصبح «نوخذة»، لكن طموح الابن كان أكبر من ذلك، حيث قرر أن يتخذ مسارا مغايرا لمسار أبيه وجده، بدليل أنه التحق في سن مبكرة بشركة نفط البحرين (بابكو)، حيث أمضى فترة عمل وجيزة داخل مختبرات الشركة.
قاده طموحه إلى ترك البحرين في 1952، وهو في سن السادسة عشرة، للتوجه إلى شرق السعودية، بحثا عن الأعمال المجزية، تأسيا بما كان يفعل بحرينيون كثر في تلك الحقبة التي تميزت باستثمار المملكة لمداخيلها النفطية في مشاريع البنية التحتية والخدمية. فعل ناس ذلك وهو يعلم حجم التحديات الكبيرة التي سوف تواجهه في بيئة مختلفة عن بيئته، لكنه كان عازما على بناء نفسه بنفسه واقتناص أي فرصة متاحة من أجل تحقيق النجاح واكتساب الخبرة.
وفي هذا السياق، سـُجل عنه قوله ذات مرة: «يواجه الإنسان الخير والشر خلال حياته، كل يوم له تحدياته الخاصة وخسائره وإنجازاته وخيبات أمله. فهو عبارة عن حزمة ضخمة من كل شيء. ولكن السر في النجاح يكمن في تركيز بصرك على هدفك. لذا لا تحد عما تريد أن تصبح ولا يهدأ بالك حتى تحققه».
اتخذ «ناس» من مدينة الخبر مكانا لإقامته كي يكون قريبا من الظهران، المقر الرئيسي لشركة أرامكو التي منحته فرصة العمل والتدرب، بل التي حصل منها لاحقا، أي بعد أنْ أثبت جدارته وحاز على ثقة رؤسائه، على مناقصات لصالح «شركة النصر للمقاولات»، وهي شركة سعودية صغيرة كان مقرها في الخبر، وكان يعمل بها «ناس» مقابل 300 ريال شهريا، مع 75 شخصا.
يصف الرجل الحياة في السعودية في تلك الحقبة بالصعبة، مضيفا (بتصرف): «لقد كنتُ أعمل بمواقع العمل لمدة ثماني ساعات في النهار، ثم أقوم بالعمل لمدة أربع ساعات أخرى في المساء للقيام ببعض الأعمال المكتبية. لقد كنتُ، في آن واحد، ساعيا للمكتب، ومسعر عطاءات، ومهندسا، ومحاسبا، ومديرا. كما كنتُ مسؤولا عن تسليم أجور العمال في نهاية كل أسبوع، حيث كنتُ أقوم بملء عدة حقائب بالعملة المعدنية وتحميلها على شاحنة صغيرة والذهاب بها إلى حيث مواقع العمل المختلفة. لم تكن هذه عملية شاقة بقدر صعوبة شرح وتوضيح احتساب أجر كل عامل على حدة، خصوصا أن معظم أولئك العمال كان من الأميين الذين لا يجيدون القراءة أو الحساب».
استطاع «ناس»، من خلال عمله مع شركة النصر السعودية، أنْ يبني لنفسه سمعة طيبة في مجال إدارة الشركات وقطاع المقاولات، الأمر الذي مهّد الطريق أمامه للدخول كمساهم رئيسي في شركة سعودية أخرى هي «شركة أحمد محمود الصوفي» للمقاولات، قبل أنْ ينفصل عن الأخيرة ويؤسس عمله الخاص في السعودية في عام 1958، وهو ما منحه المزيد من النجاح والسمعة الطيبة وثقة الناس.
في عام 1962، كان «ناس» على موعد مع انعطافة كبرى في مسيرته العملية، ففيه عاد إلى البحرين محملا بتجربة ثرية وثقة كبيرة في النفس، وقدرة على الصبر والجلد. أمضى الرجل الأشهر الثلاثة الأولى بعد عودته في دراسة سوق العمل، مع تنفيذ بعض أعمال المقاولات الصغيرة التي كانت له خبرة فيها، والتي منحته بعض الأرباح. في العام التالي، بدأ رحلة الألف ميل في قطاع المقاولات والإنشاءات في البحرين، حيث حصل أولا على ترخيص تجاري يخوله لتأسيس شركة مقاولات خاصة، ثم قام بتأسيس الشركة برأسمال مقداره 2,000 دينار جمعه من مدخراته ومن والده وأخيه محمد.
تولى «ناس» مسؤولية الإدارة وتسيير أعمال الشركة. وكان أول مشروع حصل عليه هو بناء الطابق العلوي لمدرسة عائشة أم المؤمنين للبنات في المنامة. أما المشروع الآخر فكان تنفيذ أعمال شبكة صرف صحي في المنامة لصالح وزارة الأشغال. وقتذاك كان يعمل بالشركة 100 فرد وهو ما وضع مسؤولية جسيمة على عاتقها. نفذ الرجل المشروعين المذكورين وفقا للجدول الزمني، ولكن هل حقق أي ربح منهما؟ يقول «ناس»: نعم ولا، «خسرتُ 50 ألف روبية في المشروع الأول، ولكني ربحت 150 ألف روبية في المشروع الآخر».
في منتصف الستينات بدت أعمال المقاولات محفوفة بالمخاطر ومتأرجحة ما بين الربح والخسارة، الأمر الذي أقلق والده ودفعه في 1964 إلى الانسحاب من الشركة، فتم له ما أراد بطريقة هادئة، فيما واصل عبدالله ناس طريقه بعد أن أعاد لوالده ضعف مبلغ مساهمته في الشركة.
تشاء الأقدار في هذه المرحلة الدقيقة أن تستعين شركة «براون روت» الأمريكية بشركة ناس كمقاول من الباطن لتصنيع وتشييد خزانين عائمين لتخزين النفط في عرض البحر لصالح شركة أرامكو، في منطقة الجعيمة السعودية.
غير أن هذه الصفقة التي اعتبرت منقذة لشركة ناس كادت أنْ تودي بها إلى الإفلاس لولا حكمة وذكاء وصبر وهدوء صاحبها. وملخص القصة أن شركته فازت بالعطاء وفق تقديرات مالية وضعها أحد مسعري العطاءات الأمريكيين من موظفيه، لكن بسبب ظروف غير متوقعة تبين أن قيمة الأعمال المنفذة سوف تزيد على قيمة العطاء بأكثر من نصف مليون دينار بحريني، مما سيشكل خسارة للشركة. لمْ يقرع ناس جرس الإنذار، ولم يـُصب بالاكتئاب، ولم يـُصدر أوامره إلى موظفيه بالتلاعب والتغيير في مواصفات وجودة الأعمال المقررة كي يوفر مبلغا من هنا ومبلغا من هناك. بل على العكس نصح موظفيه بالاستمرار في العمل، والاجتهاد قدر الإمكان، وعدم المساومة على حساب الالتزامات المقررة، وذلك من أجل إنجاز المطلوب وفق الجدول الزمني الموضوع. وهنا يتضح لنا معدن رجل الأعمال الأصيل، الصادق مع نفسه وغيره.
صناعة مقاولات متكاملة
بعد هذه الزوبعة، تفرغ «ناس» للخطوة التالية التي تمثلت في وضع تقرير محاسبي دقيق للخسائر التي تكبدها دون زيادة أو نقصان، وراح يسعى في كل اتجاه للمطالبة بتعويض. وقد نجح، من خلال دعم سمو رئيس الوزراء الراحل الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة، ووزير التنمية والصناعة آنذاك يوسف الشيراوي، اللذين أقنعا الحكومة السعودية وشركة أرامكو بحقائق الأمور فتم تعويضه لما تبين لهما من صدقه ونزاهته.
من خلال تجربته في عالم المقاولات والأعمال الإنشائية تبين للرجل أن إحدى المشاكل المستعصية هي تآكل الخرسانة وتساقطها، وأن السبب في ذلك يرجع إلى عدم جودة المواد المستخدمة واحتوائها على نسبة ملوحة زائدة، وليس إلى عيب في طريقة العمل. وقد أثبتت دراسة قامت بها شركة «ستنجرز» لحسابه هذا الأمر، وهو ما شجعه على إنشاء صناعة مقاولات متكاملة تقوم بتوفير مواد تشييد عالية الجودة، وفي الوقت نفسه ذات أسعار تنافسية. وفي هذا السياق نقل عنه الحادي قوله: «منذ ذلك الحين وضعتُ خطة طموحة للعمل على توفير مواد البناء بجودة عالية، فعملتُ على إنشاء مصنع لتحلية المياه والثلج، ومصنع لغسيل ومعالجة الرمال، لتخفيض نسبة الملوحة واستخدام الثلج في تخفيض درجة حرارة الماء المستخدم في خلطة الخرسانة، إذ يجب ألا تزيد درجة حرارة الماء على الثلاثين درجة مئوية، كما تعاونتُ مع إخواني من الشركاء البحرينيين وغيرهم على إنشاء شركات تقوم باستيراد الحصى من رأس الخيمة واستيراد الأسمنت من اليابان».
الأبناء يكملون مسيرة والدهم
قبل وفاته كانت شركة ناس قد نفذت من المشاريع في البحرين ما لم تنفذه أي شركة محلية أخرى، شاملة المجمعات والأبراج السكنية والفنادق والجسور والمباني الحكومية والمستشفيات والموانئ والأرصفة البحرية والمراكز التجارية ومحطات الكهرباء، وغيرها.
من ضمن الشركات التي أسسها الراحل: أول شركة خرسانة جاهزة، شركة ناس للسباكة، أول معمل لمعالجة الرمل، شركة ناس الكهربائية، شركة دلمون للخرسانة المسبوكة، شركة ناس للأغذية، أول مصنع لصناعة حامض الكبريتيك، شركة الخليج للتطوير، الشركة المتحدة للأسمنت، شركة ناس لتأجير السقالات والرافعات، شركة «شو - ناس الشرق الأوسط لأنظمة الأنابيب مسبقة الصنع»، شركة ناس للمساحة، مصنع البحرين للمنتجات العضوية، أول شركة لإدارة النفايات تحت اسم «شركة مدينة الخليج للتنظيفات»، شركة ناس للأسفلت، شركة ناس للخدمات البحرية، وشركة ناس لتكنولوجيا المواد الكاشطة.
لم تقتصر أنشطة شركات ناس على الداخل البحريني، بل تجاوزتها إلى قطر والكويت والسعودية وعمان، حيث ساهمت في تأسيس مصانع للأسمنت ودرفلة الألمونيوم وتصنيع وتركيب الأنابيب الصناعية، وبناء خزانات المعالجة والتخزين، وأعمال فحص اللحام، وخدمات التصوير الإشعاعي الصناعي، وتوريد وتشغيل المعدات الثقيلة المتخصصة اللازمة لتركيب المصانع. واليوم يستمر توسع ما بناه «عبدالله ناس» تحت قيادة أبنائه سمير وسامي وعادل وغازي وفوزي، حيث بدأت «مجموعة ناس» عددا من العمليات في أبوظبي، وأخرى في سلطنة عمان، إضافة إلى إنشاء مصنع للألمونيوم في السعودية بقيمة ثمانية ملايين دينار بحريني، وتصنيع وتصدير بعض المنتجات لشركة هيونداي الكورية.
يقول نجله البكر «سمير» في حوار مع صحيفة الأيام، إن والده كان يدربه مع شقيقه سامي في الصيف على العمل معه بممارسة الأعمال البسيطة كأن يعطيهما مسؤولية الكتابة، أو يرسلهما للتأكد من سير العمل، أو يوظفهما كـ«تنديل» (مراقب) مقابل أجر شهري لا يزيد على 15 روبية. ويضيف قائلا، إن والده كان يهدف من وراء ذلك إلى «إدخالنا في جو العمل وتشجيعنا على تعلم المهنة والاندماج فيها مبكرا».