يس من السهل تتبع تاريخ اقتحام المرأة مجال الطرب والغناء في المملكة العربية السعودية دون التوقف طويلاً أمام تجربة الفنانة الجريئة «عتاب»، خصوصاً أنها برزت خلال حقبة كان فيها غناء الرجل بالكاد مقبولاً في المجتمع، فما بالك بغناء امرأة سافرة.
صحيح أن مطربات سعوديات مثل «توحة» و«إبتسام لطفي» سبقنها إلى الغناء والبروز، لكن حكاية هاتين الفنانتين مختلفة كونهما نتاج بيئة سعودية أكثر انفتاحاً وتماهياً مع الطرب والموسيقى، هي بيئة الحجاز الكزموبوليتينية المتميزة عن بيئة نجد التي ولدت ونشأت عتاب في أجوائها المحكومة بالتقاليد والعادات الاجتماعية المحافظة والتعاليم الدينية الصارمة.
وإذا شئنا الدخول في التفاصيل، نجد أن تاريخ الغناء في السعودية حافل بأسماء مطربين وملحنين كبار حملوا على عاتقهم مهمة صعبة في وسط اجتماعي محافظ ومقيد بألف قيد وقيد، فنجحوا بشق الأنفس في المحافظة على التراث الشعبي الغنائي في الحجاز ونجد والأحساء وتهامة، وتطويره ونشره محلياً وخليجياً وعربياً. الأسماء الأولى التي لعبت دوراً في هذه العملية الشاقة كثيرة يأتي على رأسها طارق عبدالحكيم، ومحمد علي سندي، وفوزي محسون، وعمر كدرس، وجميل محمود، وغازي علي، وطلال مداح، وعبدالقادر حلواني، وعبدالله محمد، وسلامة العبدالله، ومطلق الذيابي، وسعد إبراهيم، وغيرهم.
غير أن حظ الفتاة السعودية ظل محدوداً جداً إلى أنْ استطاعت «فتحية يحيى حسن» الشهيرة فنيا باسم «توحة» أنْ تكسر القاعدة، فعُـدّت بذلك أول مطربة وملحنة سعودية على الإطلاق. علما بأن «توحة» ولدت في الأحساء في عام 1934 لأسرة حجازية محبة للفن والأدب والتراث والغناء، ثم انتقلت إلى مكة في سن السادسة ثم إلى جدة بعد ذلك بسبب انتقال عمل والدها مفتش الجمارك بوزارة المالية.
أما الثانية على صعيد الغناء النسوي في السعودية فهي «خيرية قربان عبدالهادي كشاري» الشهيرة فنياً باسم «إبتسام لطفي» (اختار لها صديقها المقرب الفنان الراحل طلال مداح اسم ابتسام بسبب ابتسامتها الجميلة، واختار لها اسم لطفي تيمناً باسم صديقه الفنان السعودي الكوميدي لطفي زيني)، والتي ولدت كفيفة البصر في الطائف في سبتمبر 1951، وبدأت الغناء في سن السابعة من خلال الأفراح بمدينة جدة بعد أن كانت قد تمرست على التجويد ومخارج الألفاظ في الكتاتيب، ثم ما لبثت أنْ اشتهرت في عقود الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن العشرين محلياً وخليجياً وعربياً بسبب صوتها الجميل، وقدرتها على الحفظ، وتميزها بسرعة البديهة والأذن الموسيقية.
في الخمسينات الميلادية سمع الناس باسم فتاة سمراء بشوشة تؤدي الغناء وترقص في حفلات الزواج والأفراح والمناسبات السعيدة بمصاحبة عازفتين على العود هما سارة عثمان وحياة الصالح. لم تكن هذه الفتاة سوى «طروب عبدالخير آدم محمد هوساوي» المولودة بمدينة الرياض في الثلاثين من ديسمبر 1947 والتي اشتهرت وسط زميلاتها ومدرساتها بصوتها العذب أثناء تأدية الأناشيد المدرسية، ما جعل إحدى معلماتها تقترح إيجاد اسم فني لها، فوقع الاختيار على «عتاب» لما في هذا الاسم من رمزية عاطفية. أما أول من اكتشف موهبتها الغنائية ووجد فيها صوتاً قوياً بمخارج ألفاظ واضحة مع جرأة في الوقوف على المسرح لتقديم الأغنية السعودية بشكل استعراضي تفاعلي وروح خفيفة راقصة، فهو الفنان طلال مداح (رحمه الله) الذي اكتشفها في عام 1959، حينما كانت فتاة يافعة في الثالثة عشرة من عمرها، وعلمها قواعد الغناء ودربها العزف على العود وقدم لها أغنيات سجلتها في السعودية ولبنان، لكن دون أن تلقى صدى واسعاً.
في الستينات، قررت عتاب الانتقال من الرياض إلى جدة بحثاً عن مناخ فني أرحب متحرر من القيود الاجتماعية ضد الغناء، وطمعاً في الانتشار والشهرة على المستوى المحلي. وهناك شجعها الفنان الراحل طلال مداح مجدداً على مواصلة المشوار والاستمرار دون خوف أو وجل، فقدمت في عام 1966 أغنية «لا يا بنت» من ألحان فوزي السيموني.
على أن البداية الحقيقية لعتاب كانت في عام 1972 حينما شكلت مع المطرب السعودي الكفيف حيدر فكري (1944 ــ 2006)، المقرب من طلال مداح ثنائياً ناجحاً من خلال الجلسات الطربية. أعقب ذلك الطفرة الثانية في مشوارها والتي تجلت في ذهابها إلى الكويت، التي كانت وقتذاك قبلة فناني الخليج العربي والجزيرة العربية الباحثين عن الشهرة والانتشار، وقيامها هناك بتسجيل عدد من الأغاني الخاصة بها مع تصويرها تلفزيونياً في سهرات طربية شارك فيها الفنان الراحل حيدر فكري. من هذه الأغاني: «خلاص من حبكم» من كلمات محمد سعد الجنوبي وألحان عبدالله السلوم، و«بشروني» من كلمات خالد الفيصل وألحان فوزي محسون، و«يا قلم بسم الله اكتب لي كتاب» من كلمات عبدالله بن سبعان وألحان سرور خيري، و«علشانه» من الفلكلور السعودي، وغيرها. ومما لا شك فيه أن رحلتها الكويتية شكلت منعطفاً هاماً في حياتها لأنها أشهرتها على المستوى الخليجي وعرفتها على جمهور أوسع بكثير من الجمهور السعودي.
تلا ذلك انتشارها على المستوى العربي، وكان ذلك على إثر لقائها بالعندليب عبدالحليم حافظ في إحدى الحفلات الخاصة في السعودية، حيث دعاها لمشاركته في حفلات الربيع في مصر، فاستجابت عتاب وذهبت إلى القاهرة بالفعل، وقدمها العندليب للجمهور المصري في حفلة جماهيرية في عقد السبعينات، حيث غنت لوناً من الفلكلور السعودي بصحبة فرقة نسائية، ثم أطلقت من هناك أغنيتها الأشهر وهي «جاني الأسمر» من كلمات الشاعرة السعودية ثريا قابل وألحان الفنان السعودي فوزي محسون. بعد ذلك راحت تشارك كل صيف في حفلات المصايف اللبنانية في «عالية» و«بحمدون» مع كبار نجوم الطرب من الخليج ومصر ولبنان. حيث تسنى لي في تلك الفترة التي كنت فيها طالباً جامعياً في بيروت الالتقاء بها والتحدث إليها في شارع الحمراء وهي تتسوق، فوجدتها إنسانة في غاية الرقة والمرح والتواضع.
تزوجت عتاب للمرة الأولى وهي فتاة صغيرة من مواطنها سعيد الزهراني الذي أنجبت منه طفلتها الأولى إبتسام التي عملت لاحقاً في مجال الإعلام وتوفيت بمرض السرطان، ثم تزوجت للمرة الثانية من رجل الأعمال المصري والمحلل المالي السابق بوزارة الداخلية المصرية محب فاروق عبدالصبور، الذي كان وقتها يعمل في الرياض كمتعاقد مع وزارة الإعلام السعودية، فأنجبت منه ابنتها دارين وولدها أحمد، وعلى الرغم من أن زواجها الثاني دام نحو ثلاثين عاماً، إلا أنه تخللها الكثير من المشاكل التي لم تفصح عنها، وإن تردد أن مصدر تلك المشاكل كان تحكم الزوج المصري في أعمالها وأموالها وسيطرته على ممتلكاتها؛ ولهذا طلبت عتاب الطلاق أكثر من مرة، وهو ما لم يستجب له زوجها إلى أن تم تطليقها منه بشكل قانوني في عام 1999 من خلال محاكم القاهرة ليختفي الزوج في ظروف غامضة، علما بأن ابنه أحمد محب فاروق عبدالصبور قام بعد وفاة والدته بحوالي ثمانية أعوام بتحرير محضر يفيد باختفاء والده. وقد روت ابنة عتاب الإعلامية إبتسام الزهراني في حوار صحفي مع مجلة «اقرأ» السعودية (28/ 9 /2018) فصولاً من عذابات أمها مع زوجها المصري، وكيف أنه رفض فكرة أن تقوم نقابة الفنانين المصرية بعمل سرادق عزاء لها في الجيزة، وكيف أنه سلبها كل شيء فماتت معدمة. كما أخبرتنا أنها لم تحصل من تركة أمها على أي شيء سوى سيارتين قديمتين باعتهما بمبلغ 11 ألف ريال، مشيرة إلى أنها لم تتمكن حتى من استعادة أرشيفها الغنائي الضخم.
في عام 1980 غادرت عتاب السعودية مع زوجها المصري للاستقرار في القاهرة، وكان ذلك بسبب حملات استهدفتها من قبل الجماعات المحافظة بحجة أنها تنتهك العادات والتقاليد بأسلوبها الاستعراضي الراقص في الغناء، وتزامن ذلك مع انتهاء عقد عمل زوجها في المملكة. وعلى مدى السنوات العشرين التالية من إقامتها في مصر، نشطت فنياً من خلال الغناء في الملاهي والحفلات والسهرات المصرية، والتعاون مع عدد من الملحنين المصريين وفي مقدمتهم الموسيقار محمد الموجي الذي لحن لها أغنية «فك القيود» وأغنية «لو فات الأوان»، خصوصا أنها كانت قد حصلت على عضوية اتحاد الفنانين العرب وعضوية نقابة المهن الموسيقية بالقاهرة وعضوية مجموعة فناني الجيزة.
فتحت المجال للأصوات النسائية
غير أن عتاب، لم تنس وطنها وجمهورها السعودي والخليجي العريض وهي بعيدة عنهما في مصر، فحرصت على ألا تغني إلا باللهجة السعودية؛ ولهذا قال عنها النقاد إنها فرضت اللهجة السعودية في مصر، وحققت لنفسها قاعدة جماهيرية وشهرة عربية، وهي متمسكة بالكلمة السعودية، وأيضاً فتحت المجال لظهور أصوات نسائية خليجية أخرى. وفي الوقت نفسه واصلت تعاونها مع كبار كتاب وملحني الأغنية السعودية والخليجية، فغنت من كلمات الشعراء السعوديين الأمير خالد الفيصل والأمير بدر بن عبدالمحسن والأمير خالد بن يزيد وصالح جلال وغيرهم، والشعراء الكويتيين فايق عبدالجليل وعبداللطيف البناي ويوسف ناصر، والشاعر اليمني حسين المحضار. وسلمت صوتها القوي لألحان طلال مداح وطارق عبدالحكيم ومحمد شفيق وفوزي محسون وسراج عمر وسامي إحسان وعبدالرب إدريس وسلامة العبدالله وفهد بن سعيد وحمدي سعد ويوسف المهنا وإبراهيم حبيب ومحمد سعد عبدالله وأحمد عبدالكريم. وهكذا أضافت إلى رصيدها من الأغاني الجميلة التي سبقت الإشارة إليها أغاني جديدة أهمها: «يبيني»، «سبحانه»، «حبيب الروح»، «دلوع»، «عبدالله يا عبدالله»، «عبره ردي علي»، «يجوز إنك تخطي»، «لا تكثر حلوفك»، «يا نعيش اثنين»، «لا تصدق اللي يحكون»، «وش لي بالتعب»، «مروا علي اثنين»، «أسمر وعيونو وسيعة»، «أرجع وأقول غلطان»، «من أجلكم عشنا»، «الله حسيبك». «حبك مسافة»، «في الهوى اسمي عتاب»، «ظلمتوني»، «قله ما أبيه»، «كل ما قفيت»، «تلف وتدور»، «مشوار»، «منهو بأوصافك».
الوفاة دون ضجيج في القاهرة
شهدت سنواتها القاهرية أيضاً مشاركتها الفنانة فايزة كمال بطولة فيلم تلفزيوني بعنوان «عتاب رائدة الفضاء»، وتملكها ملهى ليلياً بشارع الهرم، وقيامها بطرح مجموعة من الأغنيات المصورة بطريقة «فيديو كاسيت» تحت عنوان «عتاب شو» ومجموعة من الألبومات الحاملة لأشهر أغنياتها. إلى ذلك شاركت لفترة في تقديم برنامج «جلسة طرب» من محطة أوربيت الفضائية مع الشاعر الكويتي الكبير بدر بورسلي، ونالت كأس أفضل مطربة خليجية في استفتاء مجلة «صوت» الغنائية ولقب «مطربة عام 1989» في استفتاء صحيفة «الاعتدال» السورية الصادرة في ولاية نيوجيرسي الأمريكية.
في عام 2003 قررت عتاب الانتقال من مصر إلى الإمارات بنية الاستقرار في الأخيرة كي تكون قريبة من والدتها المقيمة هناك. وقتها بدأت آثار الوهن والمرض تظهر عليها، لكنها كانت سعيدة بما حققته من شهرة وريادة في الغناء الاستعراضي السعودي ومسرورة بحب الناس لها. في تلك الفترة سافرت إلى الولايات المتحدة للعلاج بعد أن كشفت الفحوصات الطبية في سنة 1997 إصابتها بالسرطان لكن عجزها عن تدبير تكاليف العلاج الباهضة دفعها للعودة إلى وطنها للتداوي في مستشفياته، حيث أحاط بها ورافقها زملاؤها الموسيقيون سراج عمر وسامي إحسان ومحمد شفيق. بعد ذلك غادرت إلى القاهرة لتصفية بعض أعمالها، لكن قدر الله لها أن تتوفى هناك دون ضجيج بعد يوم واحد من وصولها، أي في التاسع عشر من أغسطس 2007، فصلي عليها ودفنت في مقابر الأسرة بمدينة 6 أكتوبر.
وفي فبراير من عام 2022 عاد اسمها للانتشار على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل شباب لم يعاصروا أمجادها الفنية. وكان السبب هو مقطع قصير ظهرت فيه المغنية الأمريكية السمراء «أليشا كيز» وهي تدندن وتتفاعل مع مقطع من أغنية عتاب الخالدة «جاني الأسمر» في «مسرح مرايا» بمدينة العلا السعودية.
صحيح أن مطربات سعوديات مثل «توحة» و«إبتسام لطفي» سبقنها إلى الغناء والبروز، لكن حكاية هاتين الفنانتين مختلفة كونهما نتاج بيئة سعودية أكثر انفتاحاً وتماهياً مع الطرب والموسيقى، هي بيئة الحجاز الكزموبوليتينية المتميزة عن بيئة نجد التي ولدت ونشأت عتاب في أجوائها المحكومة بالتقاليد والعادات الاجتماعية المحافظة والتعاليم الدينية الصارمة.
وإذا شئنا الدخول في التفاصيل، نجد أن تاريخ الغناء في السعودية حافل بأسماء مطربين وملحنين كبار حملوا على عاتقهم مهمة صعبة في وسط اجتماعي محافظ ومقيد بألف قيد وقيد، فنجحوا بشق الأنفس في المحافظة على التراث الشعبي الغنائي في الحجاز ونجد والأحساء وتهامة، وتطويره ونشره محلياً وخليجياً وعربياً. الأسماء الأولى التي لعبت دوراً في هذه العملية الشاقة كثيرة يأتي على رأسها طارق عبدالحكيم، ومحمد علي سندي، وفوزي محسون، وعمر كدرس، وجميل محمود، وغازي علي، وطلال مداح، وعبدالقادر حلواني، وعبدالله محمد، وسلامة العبدالله، ومطلق الذيابي، وسعد إبراهيم، وغيرهم.
غير أن حظ الفتاة السعودية ظل محدوداً جداً إلى أنْ استطاعت «فتحية يحيى حسن» الشهيرة فنيا باسم «توحة» أنْ تكسر القاعدة، فعُـدّت بذلك أول مطربة وملحنة سعودية على الإطلاق. علما بأن «توحة» ولدت في الأحساء في عام 1934 لأسرة حجازية محبة للفن والأدب والتراث والغناء، ثم انتقلت إلى مكة في سن السادسة ثم إلى جدة بعد ذلك بسبب انتقال عمل والدها مفتش الجمارك بوزارة المالية.
أما الثانية على صعيد الغناء النسوي في السعودية فهي «خيرية قربان عبدالهادي كشاري» الشهيرة فنياً باسم «إبتسام لطفي» (اختار لها صديقها المقرب الفنان الراحل طلال مداح اسم ابتسام بسبب ابتسامتها الجميلة، واختار لها اسم لطفي تيمناً باسم صديقه الفنان السعودي الكوميدي لطفي زيني)، والتي ولدت كفيفة البصر في الطائف في سبتمبر 1951، وبدأت الغناء في سن السابعة من خلال الأفراح بمدينة جدة بعد أن كانت قد تمرست على التجويد ومخارج الألفاظ في الكتاتيب، ثم ما لبثت أنْ اشتهرت في عقود الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن العشرين محلياً وخليجياً وعربياً بسبب صوتها الجميل، وقدرتها على الحفظ، وتميزها بسرعة البديهة والأذن الموسيقية.
في الخمسينات الميلادية سمع الناس باسم فتاة سمراء بشوشة تؤدي الغناء وترقص في حفلات الزواج والأفراح والمناسبات السعيدة بمصاحبة عازفتين على العود هما سارة عثمان وحياة الصالح. لم تكن هذه الفتاة سوى «طروب عبدالخير آدم محمد هوساوي» المولودة بمدينة الرياض في الثلاثين من ديسمبر 1947 والتي اشتهرت وسط زميلاتها ومدرساتها بصوتها العذب أثناء تأدية الأناشيد المدرسية، ما جعل إحدى معلماتها تقترح إيجاد اسم فني لها، فوقع الاختيار على «عتاب» لما في هذا الاسم من رمزية عاطفية. أما أول من اكتشف موهبتها الغنائية ووجد فيها صوتاً قوياً بمخارج ألفاظ واضحة مع جرأة في الوقوف على المسرح لتقديم الأغنية السعودية بشكل استعراضي تفاعلي وروح خفيفة راقصة، فهو الفنان طلال مداح (رحمه الله) الذي اكتشفها في عام 1959، حينما كانت فتاة يافعة في الثالثة عشرة من عمرها، وعلمها قواعد الغناء ودربها العزف على العود وقدم لها أغنيات سجلتها في السعودية ولبنان، لكن دون أن تلقى صدى واسعاً.
في الستينات، قررت عتاب الانتقال من الرياض إلى جدة بحثاً عن مناخ فني أرحب متحرر من القيود الاجتماعية ضد الغناء، وطمعاً في الانتشار والشهرة على المستوى المحلي. وهناك شجعها الفنان الراحل طلال مداح مجدداً على مواصلة المشوار والاستمرار دون خوف أو وجل، فقدمت في عام 1966 أغنية «لا يا بنت» من ألحان فوزي السيموني.
على أن البداية الحقيقية لعتاب كانت في عام 1972 حينما شكلت مع المطرب السعودي الكفيف حيدر فكري (1944 ــ 2006)، المقرب من طلال مداح ثنائياً ناجحاً من خلال الجلسات الطربية. أعقب ذلك الطفرة الثانية في مشوارها والتي تجلت في ذهابها إلى الكويت، التي كانت وقتذاك قبلة فناني الخليج العربي والجزيرة العربية الباحثين عن الشهرة والانتشار، وقيامها هناك بتسجيل عدد من الأغاني الخاصة بها مع تصويرها تلفزيونياً في سهرات طربية شارك فيها الفنان الراحل حيدر فكري. من هذه الأغاني: «خلاص من حبكم» من كلمات محمد سعد الجنوبي وألحان عبدالله السلوم، و«بشروني» من كلمات خالد الفيصل وألحان فوزي محسون، و«يا قلم بسم الله اكتب لي كتاب» من كلمات عبدالله بن سبعان وألحان سرور خيري، و«علشانه» من الفلكلور السعودي، وغيرها. ومما لا شك فيه أن رحلتها الكويتية شكلت منعطفاً هاماً في حياتها لأنها أشهرتها على المستوى الخليجي وعرفتها على جمهور أوسع بكثير من الجمهور السعودي.
تلا ذلك انتشارها على المستوى العربي، وكان ذلك على إثر لقائها بالعندليب عبدالحليم حافظ في إحدى الحفلات الخاصة في السعودية، حيث دعاها لمشاركته في حفلات الربيع في مصر، فاستجابت عتاب وذهبت إلى القاهرة بالفعل، وقدمها العندليب للجمهور المصري في حفلة جماهيرية في عقد السبعينات، حيث غنت لوناً من الفلكلور السعودي بصحبة فرقة نسائية، ثم أطلقت من هناك أغنيتها الأشهر وهي «جاني الأسمر» من كلمات الشاعرة السعودية ثريا قابل وألحان الفنان السعودي فوزي محسون. بعد ذلك راحت تشارك كل صيف في حفلات المصايف اللبنانية في «عالية» و«بحمدون» مع كبار نجوم الطرب من الخليج ومصر ولبنان. حيث تسنى لي في تلك الفترة التي كنت فيها طالباً جامعياً في بيروت الالتقاء بها والتحدث إليها في شارع الحمراء وهي تتسوق، فوجدتها إنسانة في غاية الرقة والمرح والتواضع.
تزوجت عتاب للمرة الأولى وهي فتاة صغيرة من مواطنها سعيد الزهراني الذي أنجبت منه طفلتها الأولى إبتسام التي عملت لاحقاً في مجال الإعلام وتوفيت بمرض السرطان، ثم تزوجت للمرة الثانية من رجل الأعمال المصري والمحلل المالي السابق بوزارة الداخلية المصرية محب فاروق عبدالصبور، الذي كان وقتها يعمل في الرياض كمتعاقد مع وزارة الإعلام السعودية، فأنجبت منه ابنتها دارين وولدها أحمد، وعلى الرغم من أن زواجها الثاني دام نحو ثلاثين عاماً، إلا أنه تخللها الكثير من المشاكل التي لم تفصح عنها، وإن تردد أن مصدر تلك المشاكل كان تحكم الزوج المصري في أعمالها وأموالها وسيطرته على ممتلكاتها؛ ولهذا طلبت عتاب الطلاق أكثر من مرة، وهو ما لم يستجب له زوجها إلى أن تم تطليقها منه بشكل قانوني في عام 1999 من خلال محاكم القاهرة ليختفي الزوج في ظروف غامضة، علما بأن ابنه أحمد محب فاروق عبدالصبور قام بعد وفاة والدته بحوالي ثمانية أعوام بتحرير محضر يفيد باختفاء والده. وقد روت ابنة عتاب الإعلامية إبتسام الزهراني في حوار صحفي مع مجلة «اقرأ» السعودية (28/ 9 /2018) فصولاً من عذابات أمها مع زوجها المصري، وكيف أنه رفض فكرة أن تقوم نقابة الفنانين المصرية بعمل سرادق عزاء لها في الجيزة، وكيف أنه سلبها كل شيء فماتت معدمة. كما أخبرتنا أنها لم تحصل من تركة أمها على أي شيء سوى سيارتين قديمتين باعتهما بمبلغ 11 ألف ريال، مشيرة إلى أنها لم تتمكن حتى من استعادة أرشيفها الغنائي الضخم.
في عام 1980 غادرت عتاب السعودية مع زوجها المصري للاستقرار في القاهرة، وكان ذلك بسبب حملات استهدفتها من قبل الجماعات المحافظة بحجة أنها تنتهك العادات والتقاليد بأسلوبها الاستعراضي الراقص في الغناء، وتزامن ذلك مع انتهاء عقد عمل زوجها في المملكة. وعلى مدى السنوات العشرين التالية من إقامتها في مصر، نشطت فنياً من خلال الغناء في الملاهي والحفلات والسهرات المصرية، والتعاون مع عدد من الملحنين المصريين وفي مقدمتهم الموسيقار محمد الموجي الذي لحن لها أغنية «فك القيود» وأغنية «لو فات الأوان»، خصوصا أنها كانت قد حصلت على عضوية اتحاد الفنانين العرب وعضوية نقابة المهن الموسيقية بالقاهرة وعضوية مجموعة فناني الجيزة.
فتحت المجال للأصوات النسائية
غير أن عتاب، لم تنس وطنها وجمهورها السعودي والخليجي العريض وهي بعيدة عنهما في مصر، فحرصت على ألا تغني إلا باللهجة السعودية؛ ولهذا قال عنها النقاد إنها فرضت اللهجة السعودية في مصر، وحققت لنفسها قاعدة جماهيرية وشهرة عربية، وهي متمسكة بالكلمة السعودية، وأيضاً فتحت المجال لظهور أصوات نسائية خليجية أخرى. وفي الوقت نفسه واصلت تعاونها مع كبار كتاب وملحني الأغنية السعودية والخليجية، فغنت من كلمات الشعراء السعوديين الأمير خالد الفيصل والأمير بدر بن عبدالمحسن والأمير خالد بن يزيد وصالح جلال وغيرهم، والشعراء الكويتيين فايق عبدالجليل وعبداللطيف البناي ويوسف ناصر، والشاعر اليمني حسين المحضار. وسلمت صوتها القوي لألحان طلال مداح وطارق عبدالحكيم ومحمد شفيق وفوزي محسون وسراج عمر وسامي إحسان وعبدالرب إدريس وسلامة العبدالله وفهد بن سعيد وحمدي سعد ويوسف المهنا وإبراهيم حبيب ومحمد سعد عبدالله وأحمد عبدالكريم. وهكذا أضافت إلى رصيدها من الأغاني الجميلة التي سبقت الإشارة إليها أغاني جديدة أهمها: «يبيني»، «سبحانه»، «حبيب الروح»، «دلوع»، «عبدالله يا عبدالله»، «عبره ردي علي»، «يجوز إنك تخطي»، «لا تكثر حلوفك»، «يا نعيش اثنين»، «لا تصدق اللي يحكون»، «وش لي بالتعب»، «مروا علي اثنين»، «أسمر وعيونو وسيعة»، «أرجع وأقول غلطان»، «من أجلكم عشنا»، «الله حسيبك». «حبك مسافة»، «في الهوى اسمي عتاب»، «ظلمتوني»، «قله ما أبيه»، «كل ما قفيت»، «تلف وتدور»، «مشوار»، «منهو بأوصافك».
الوفاة دون ضجيج في القاهرة
شهدت سنواتها القاهرية أيضاً مشاركتها الفنانة فايزة كمال بطولة فيلم تلفزيوني بعنوان «عتاب رائدة الفضاء»، وتملكها ملهى ليلياً بشارع الهرم، وقيامها بطرح مجموعة من الأغنيات المصورة بطريقة «فيديو كاسيت» تحت عنوان «عتاب شو» ومجموعة من الألبومات الحاملة لأشهر أغنياتها. إلى ذلك شاركت لفترة في تقديم برنامج «جلسة طرب» من محطة أوربيت الفضائية مع الشاعر الكويتي الكبير بدر بورسلي، ونالت كأس أفضل مطربة خليجية في استفتاء مجلة «صوت» الغنائية ولقب «مطربة عام 1989» في استفتاء صحيفة «الاعتدال» السورية الصادرة في ولاية نيوجيرسي الأمريكية.
في عام 2003 قررت عتاب الانتقال من مصر إلى الإمارات بنية الاستقرار في الأخيرة كي تكون قريبة من والدتها المقيمة هناك. وقتها بدأت آثار الوهن والمرض تظهر عليها، لكنها كانت سعيدة بما حققته من شهرة وريادة في الغناء الاستعراضي السعودي ومسرورة بحب الناس لها. في تلك الفترة سافرت إلى الولايات المتحدة للعلاج بعد أن كشفت الفحوصات الطبية في سنة 1997 إصابتها بالسرطان لكن عجزها عن تدبير تكاليف العلاج الباهضة دفعها للعودة إلى وطنها للتداوي في مستشفياته، حيث أحاط بها ورافقها زملاؤها الموسيقيون سراج عمر وسامي إحسان ومحمد شفيق. بعد ذلك غادرت إلى القاهرة لتصفية بعض أعمالها، لكن قدر الله لها أن تتوفى هناك دون ضجيج بعد يوم واحد من وصولها، أي في التاسع عشر من أغسطس 2007، فصلي عليها ودفنت في مقابر الأسرة بمدينة 6 أكتوبر.
وفي فبراير من عام 2022 عاد اسمها للانتشار على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل شباب لم يعاصروا أمجادها الفنية. وكان السبب هو مقطع قصير ظهرت فيه المغنية الأمريكية السمراء «أليشا كيز» وهي تدندن وتتفاعل مع مقطع من أغنية عتاب الخالدة «جاني الأسمر» في «مسرح مرايا» بمدينة العلا السعودية.