لأسباب تتعلق بسني وموقع منزل الوالدين بمدينة الخبر على الساحل الشرقي من المملكة العربية السعودية، لم أدرس بمدرسة الخبر الأولى (أولى مدارس الخبر الابتدائية الحكومية) وبالتالي لم أتلقَّ التعليم على يد مدرسها (ومن ثمّ مديرها) الأشهر الأستاذ عبدالله الفرج الصقر (أبو حازم)، وإنما انطلق مشواري الدراسي من مدرسة الخبر الثانية (أول مدرسة تبنيها شركة أرامكو لأهالي الخبر)، التي كانت في حالة تنافس شديدة مع «الخبر الأولى» في كل شيء تقريباً وكأنهما ضرتان.
مرت سنوات طويلة كنت أسمع فيها اسم «عبدالله الفرج» يتردد كمدير، يجمع ما بين الطيبة والصرامة، للمدرسة المنافسة لمدرستنا، دون أن أراه. كما كنت أسمع اسمه يتردد على ألسنة بعض أقراني وأصدقائي ممن كانت رياضة كرة القدم تستحوذ على جل اهتماماتهم، وكانوا لهذا السبب يلتقون بأبي حازم في أندية الخبر الرياضية. لكن في نهايات العام الدراسي 1961/1962 وجدته مع وكيل مدرسته الأستاذ جبر الدوسري داخل فناء مدرستنا، على رأس مجموعة مختارة من طلبته الأذكياء الذين جاء بهم كي يتباروا معنا ثقافياً على مسرح «مدرسة الخبر الثانية».
في تلك الأمسية التي لن أنساها تمكنت من حسم المسابقة الثقافية لصالح مدرستي، والفوز بكأسها، بعد أن تساوت العلامات، وذلك من خلال الإجابة عن سؤال ترجيحي حول البلد الذي تتبعه مدينة قامشلي. على إثر ذلك، رأيت أبا حازم يتقدم صوبي، وأنا في حالة ارتباك وفزع. والحقيقة أنه لولا ابتسامته الجميلة الكاشفة عن أسنان ناصعة البياض وهو يتجه صوبي لحسبته قادماً لزجري أومعاقبتي وتعنيفي، لا لتهنئتي بالفوز! إذ لم يكن مثل ذلك التصرف الحضاري ــ تباسط المعلمين مع الطلبة ــ سائداً عند مدرسي ذلك الزمن.
ولا أبالغ لو قلت إن نظرتي إلى مديري المدارس، منذ تلك اللحظة، تغيرت بسبب أبي حازم وروحه الطيبة وتواضعه الجم، وإنْ رافقته تساؤلات كثيرة عن الوصفة التربوية التي ينتهجها لترويض طلبة مدرسته الذين كانوا في جلهم الأعظم من المشاغبين والمتنمرين وممن التحقوا بالتعليم في سن متقدمة. وفي اعتقادي أن أبا حازم لقي الأمرّين، في سبيل تحقيق الضبط والربط إبان توليه إدارة مدرسته الحكومية، لكنه نجح وخرج أجيالاً من النجباء الذين تفتخر بهم الخبر والمنطقة الشرقية عموماً.
في مرحلة لاحقة، صرتُ أشاهد أبا حازم مساء كل يوم تقريباً، وهو يمارس رياضة المشي ذهاباً وإياباً كل مساء في شارع الأمير (الملك) خالد التجاري الفخم، برفقة عدد من زملائه المعلمين ممن عُرفوا بارتداء الملابس الإفرنجية بعد الدوام وعشق السفر والتردد على سينما النخيل بمطار الظهران الدولي لمشاهدة أحدث الأفلام الأجنبية مثل الأساتذة عبدالرحيم العربي ومحمد عبدالغفور السيد وعبدالله محمد النافع، وصديقهم المدرس المصري قدري.
انقطعت عني أخبار الرجل لفترة طويلة بسبب سفري إلى الخارج للتحصيل العلمي، لكن صديقاً مشتركاً هو المرحوم الأستاذ عبدالرحمن بن صالح المجحم، كان بحكم عمله مع أبي حازم في قطاعات حكومية تابعة لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، يحدثني عنه باستمرار وينقل لي أخباره العامة والشخصية، مشيداً على الدوام بتفانيه وطيبته ونبله وغيرته على «الخبر».. الأم التي كانت تحتضننا ونستظل بظلها.
في السنوات الأخيرة أُتيحت لي فرصة الالتقاء به مرات عديدة من خلال ديوانية الصديق جمال عبدالمجيد العلي، فوجدته نفس الإنسان الجميل المتواضع طيب السجايا الذي قابلته لأول مرة قبل أكثر من 50 عاماً في مدرستي الابتدائية، فقبلت رأسه احتراماً وتقديراً لمكانته وعطائه ضمن من أنجبتهم «الخبر»، وهو من جانبه تذكرني وأشاد بكتاباتي ودراساتي المنشورة ولاسيما كتابي الموسوم «الخبر.. الله يا وطر مضى».
إن الأستاذ عبدالله الفرج الصقر أمد الله في عمره وأسعده نموذج من الجيل الذهبي الذي أنجبته المنطقة الشرقية، وعلامة مضيئة في جبين الخبر وشرق السعودية، ومن الأسماء التي تعلقت بها القلوب ولم تزل بسبب سجاياها وشمائلها وطيب معدنها.
خصه الأستاذ محمد القشعمي، الذي عرفه عن كثب من خلال عملهما لسنوات في مكاتب رعاية الشباب والرياضة، بمقال في مجلة «اليمامة» السعودية تحت عنوان «رجل من الجيل الذهبي الرياضي» (16/2/2023)، فوصفه بالإنسان الذي «يمتاز بخفة الدم والروح المرحة والابتسامة الدائمة والاحترام المتبادل والجد في العمل»، وأضاف، أن الفرج «طوال فترة إدارته (مكتب رعاية الشباب بالدمام) كان يحرص على عقد لقاء شهري لجميع رؤساء الأندية؛ للتباحث حول مشاكلها، والنهوض بمستوياتها، وزيادة عدد لعباتها، ومناقشة توفير الدعم اللازم لها، خصوصاً من القطاع الخاص، وعلى رأسها شركة أرامكو، وتبني حفلات التكريم لرؤساء الأندية». ثم استطرد ليقول، إن للفرج بصمات واضحة «فقد لا يعلم الكثيرون أن في مطلع التسعينات الهجرية، عندما كانت مسميات مستويات الفرق إما أندية رياضية أو ريفية، أنه هو من رفع للأمير فيصل بن فهد، عند استلامه رعاية الشباب، مقترحاً بأن تتغير لتكون المسميات لدرجات الدوري درجة ممتازة ودرجة أولى وثانية وإلغاء التسمية السابقة، فأصبحت لاحقاً بالمسمى المقترح منه».
أما فهد الدوس معد الصفحة الرياضية بجريدة «الرياض» فقد كتب بجريدته (17/8/2019) قائلاً، إن الفرج «يعد رائد الحركة الرياضية في المنطقة الشرقية، وواحداً من أقدم مديري مكاتب رعاية الشباب بالمملكة، بجانب الأستاذ عبدالله كعكي في المنطقة الغربية، والأستاذ إبراهيم الشامي في المنطقة الوسطى».
ولد الفرج بمدينة الجبيل سنة 1936 ابناً لوالده «فرج سعد أبوصقر» الذي كان من رجالات الملك عبدالعزيز وممن حاربوا معه، ثم انتقل إلى المنطقة الشرقية وعمل في خفر السواحل قبل أن يوليه الملك إمارة بلدة «عنك» بالقرب من القطيف.
انفصل والداه، ثم تُوفيت أمه وهو في الرابعة عشرة، فانتقل إلى الخبر ليتربى في كنف خاله سالم مبارك، فعاش بسبب هذه الظروف منعزلاً عن الناس ومنطوياً على نفسه. يقول الفرج في مقابلة أجرتها معه صحيفة «عكاظ» (15/10/2010) ما مفاده، إن ظروف الانكسار المبكر التي مرت عليه كان لها دور في تحوله إلى إنسان مسالم ومتعاون ومحب للجميع.
في طفولته عشق صاحبنا كرة القدم، فلعبها أولاً في الحواري في سن التاسعة مع أقرانه ممن شكلوا فريقاً أطلقوا عليه اسم «الدفاع» قبل أن يغيروا اسمه إلى «النيل»، تأثراً ببعض اللاعبين السودانيين المعروفين في تلك الفترة. بعدها لعب لأندية النجاح والهلال (المتحد) بالخبر، وفي النادي الأخير تعرض للإصابة بانزلاق غضروفي، ثم كسر في ساقه، وهو ما جعله يعتزل اللعب ويركز اهتمامه على التحكيم والتدريب والإدارة.
مع بداية التعليم النظامي في الخبر تأسست أول مدرسة حكومية في الأربعينات الميلادية، التحق الفرج بها وحصل منها على الشهادة الابتدائية في حوالى عام 1951. ثم واصل تعليمه حتى الصف الأول الثانوي. وقتها كانت للشهادتين الابتدائية والمتوسطة قيمة كبيرة، وبالتالي كانت أمامه فرص وظيفية عديدة. لكنه اختار أن يعود إلى مدرسته الابتدائية معلماً حينما دعاه مدير المدرسة آنذاك الأستاذ عبدالرحمن بودي للعمل معه براتب شهري قدره 250 ريالاً، وهو راتب كان حلماً بالنسبة للكثيرين في تلك الفترة. وبعد ست سنوات من العمل في التدريس والعمل الإداري كمراقب ووكيل للمدرسة، صار في العام 1960 مديراً لمدرسة الخبر الأولى (مدرسة معاذ بن جبل حالياً) التي خرّجت الجيل الذهبي من أبناء الخبر ممن أصبحوا اليوم من كبار رجال الأعمال أو من موظفي الدولة. واعتزازاً من الرجل بعمله وذكرياته في هذه المدرسة، فقد طالب وزارة التعليم بإعادة اسمها القديم الخالد في ذاكرة المجتمع، وقد أيده في ذلك الكثيرون.
حبه للعلم قاده للحصول على درجة بكالوريوس في اللغة العربية، وحبه للعمل الكشفي جعله يؤسس أول فرقة للكشافة في المنطقة الشرقية، وعشقه للرياضه قاده لنيل دبلوم التربية الرياضية من مصر مع دورة في تحكيم كرة القدم، فصار «حكم درجة أولى» في كرة القدم وأيضاً حكماً لسباق الدراجات الهوائية، ولاحقاً صار رئيساً للاتحاد السعودي للمبارزة (سلاح الشيش سابقاً) وعضواً في الاتحاد العربي للدراجات. هذا ناهيك عن قيامه بممارسة معظم ألعاب الميدان والمضمار بتميز. ومن هنا، لم يكن غريباً أن تسند إليه الدولة مهمة تأسيس وافتتاح أول مكتب لرعاية الشباب بالدمام عام 1963، كبديل للجان الرياضية، وكنظير لمكتبي الرياض وجدة.
وعلى مدى 30 عاماً أدى الرجل عمله بأمانة وإخلاص وتجرد وديناميكية عالية وروح دؤوبة، كان خلالها صديقاً لجميع الرياضيين واللاعبين والإداريين دون استثناء، يتنقل نهاراً بهمة بين مقرات أندية الشرقية والأحساء ليتابع تمارينها ويحضر مبارياتها ويشجع لاعبيها ويناقش همومها، ويحضر مساء أنشطتها وفعالياتها الاجتماعية والثقافية والفنية. ولهذا قيل إن أندية الشرقية تراجعت بعد أن تقاعد الفرج في مطلع تسعينات القرن الـ20 من عمله الإداري الناجح والمتميز. يقول الفرج في حواراته إنه لم يندم على شيء، وما زال يشعر بمحبة الناس وصداقتهم في كل مكان يتواجد فيه. وهذه نتيجة طبيعية لمن زرع بذرة طيبة في أرض خصبة، فكان الحصاد محبين وأصدقاء أوفياء كثراً.
كأس العالم للناشئين
كرمه الرئيس العام الأسبق لرعاية الشباب الأمير فيصل بن فهد ضمن الشخصيات التي خدمت الحركة الرياضية السعودية، كما كرَّمه خليفته الأمير سلطان بن فهد في احتفال تكريم رواد الحركة الرياضية، وحظي بتكريم ثالث من أمير المنطقة الشرقية سعود بن نايف بن عبدالعزيز في احتفال تكريم قدامى رياضيي الشرقية عام 2023.
لكن صاحبنا، يفتخر باختيار المسؤولين له دون سواه لقيادة بعثة المنتخب السعودي إلى بطولة كأس العالم للناشئين في أسكتلندا سنة 1989. وملخص الحكاية كما رواها بنفسه، هو أن الأمير فيصل بن فهد طُرحت أمامه ثلاث قوائم بأسماء المرشحين لقيادة منتخب الناشئين، فرفضهم جميعاً قائلاً: «أريد رجلاً أعتمد عليه». وعندما قُدمت لسموه قائمة رابعة تضم اسم الفرج، اختار الأخير للمهمة دون تردد. وهكذا قاد الفرج المنتخب إلى تايلاند ففاز فيها ببطولة آسيا، ثم قاده إلى معسكر في هولندا، ومن الأخيرة رافق المنتخب إلى أسكتلندا، حيث فاز في تلك السنة ببطولة العالم للناشئين، التي تعد أول وأعظم إنجاز سعودي كروي. والجدير بالذكر أن الفرج، عدا عن قيادته منتخب الناشئين إلى تايلاند وأسكتلندا، رأس الوفد الرياضي السعودي إلى إيران عام 1970، ورأس قبله وفد بلاده إلى بطولة حوض البحر الأبيض المتوسط المقامة في تونس عام 1970، كما رأس وفد السعودية المشارك في سباقات الدراجات العربية أكثر من مرة.
توثيق البطولات الرياضية
بعد تقاعده ظل الفرج على ملاك الاتحاد السعودي لكرة القدم مسؤولاً عن كرة القدم بالمنطقة الشرقية مع أكاديمية «جيمي هل» لمدة ست سنوات قبل أن يتوقف مشروع الأكاديمية لأسباب مالية، على حد قول القشعمي (مصدر سابق).
وشخص صاحب مشوار رياضي حافل كهذا مثل أبي حازم، لا بد أن يكون مرجعاً لتاريخ الرياضة في بلاده، وهو بالفعل كذلك. فقد تحدث مثلاً عن تاريخ كرة القدم وأنديتها في شرق السعودية في حواره مع صحيفة «الشرق الأوسط» (8/11/2016)، مشيراً إلى أن المنطقة احتضنت أندية كثيرة، لذا تقرر في الستينات الميلادية تشكيل لجنة برئاسة المرحوم عبدالعزيز التركي (المدير الأسبق لإدارة التعليم بالمنطقة الشرقية) لدمج الأندية، وكان من نتائجها دمج نادي الوحدة مع نادي الشعلة بالخبر لتأسيس نادٍ جديد باسم «القادسية»، وأضاف أن الرياضة في المنطقة انطلقت من شركة «أرامكو» بالظهران من خلال موظفيها السعوديين الذين تعلموها من زملائهم الوافدين. لكنه في هذا الحوار كان مستاء من عملية دعوته للمشاركة في لجنة توثيق البطولات الرياضية في المملكة، التي تمت من خلال رسالة عبر «الواتساب»، ولهذا رفضها وانتقد اللجنة لأنها ضمت أسماء شابة غير قادرة على التوثيق التاريخي الصحيح، ناهيك عن أن جلها غير محايد ولها ميول، بحسب قوله.
مرت سنوات طويلة كنت أسمع فيها اسم «عبدالله الفرج» يتردد كمدير، يجمع ما بين الطيبة والصرامة، للمدرسة المنافسة لمدرستنا، دون أن أراه. كما كنت أسمع اسمه يتردد على ألسنة بعض أقراني وأصدقائي ممن كانت رياضة كرة القدم تستحوذ على جل اهتماماتهم، وكانوا لهذا السبب يلتقون بأبي حازم في أندية الخبر الرياضية. لكن في نهايات العام الدراسي 1961/1962 وجدته مع وكيل مدرسته الأستاذ جبر الدوسري داخل فناء مدرستنا، على رأس مجموعة مختارة من طلبته الأذكياء الذين جاء بهم كي يتباروا معنا ثقافياً على مسرح «مدرسة الخبر الثانية».
في تلك الأمسية التي لن أنساها تمكنت من حسم المسابقة الثقافية لصالح مدرستي، والفوز بكأسها، بعد أن تساوت العلامات، وذلك من خلال الإجابة عن سؤال ترجيحي حول البلد الذي تتبعه مدينة قامشلي. على إثر ذلك، رأيت أبا حازم يتقدم صوبي، وأنا في حالة ارتباك وفزع. والحقيقة أنه لولا ابتسامته الجميلة الكاشفة عن أسنان ناصعة البياض وهو يتجه صوبي لحسبته قادماً لزجري أومعاقبتي وتعنيفي، لا لتهنئتي بالفوز! إذ لم يكن مثل ذلك التصرف الحضاري ــ تباسط المعلمين مع الطلبة ــ سائداً عند مدرسي ذلك الزمن.
ولا أبالغ لو قلت إن نظرتي إلى مديري المدارس، منذ تلك اللحظة، تغيرت بسبب أبي حازم وروحه الطيبة وتواضعه الجم، وإنْ رافقته تساؤلات كثيرة عن الوصفة التربوية التي ينتهجها لترويض طلبة مدرسته الذين كانوا في جلهم الأعظم من المشاغبين والمتنمرين وممن التحقوا بالتعليم في سن متقدمة. وفي اعتقادي أن أبا حازم لقي الأمرّين، في سبيل تحقيق الضبط والربط إبان توليه إدارة مدرسته الحكومية، لكنه نجح وخرج أجيالاً من النجباء الذين تفتخر بهم الخبر والمنطقة الشرقية عموماً.
في مرحلة لاحقة، صرتُ أشاهد أبا حازم مساء كل يوم تقريباً، وهو يمارس رياضة المشي ذهاباً وإياباً كل مساء في شارع الأمير (الملك) خالد التجاري الفخم، برفقة عدد من زملائه المعلمين ممن عُرفوا بارتداء الملابس الإفرنجية بعد الدوام وعشق السفر والتردد على سينما النخيل بمطار الظهران الدولي لمشاهدة أحدث الأفلام الأجنبية مثل الأساتذة عبدالرحيم العربي ومحمد عبدالغفور السيد وعبدالله محمد النافع، وصديقهم المدرس المصري قدري.
انقطعت عني أخبار الرجل لفترة طويلة بسبب سفري إلى الخارج للتحصيل العلمي، لكن صديقاً مشتركاً هو المرحوم الأستاذ عبدالرحمن بن صالح المجحم، كان بحكم عمله مع أبي حازم في قطاعات حكومية تابعة لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، يحدثني عنه باستمرار وينقل لي أخباره العامة والشخصية، مشيداً على الدوام بتفانيه وطيبته ونبله وغيرته على «الخبر».. الأم التي كانت تحتضننا ونستظل بظلها.
في السنوات الأخيرة أُتيحت لي فرصة الالتقاء به مرات عديدة من خلال ديوانية الصديق جمال عبدالمجيد العلي، فوجدته نفس الإنسان الجميل المتواضع طيب السجايا الذي قابلته لأول مرة قبل أكثر من 50 عاماً في مدرستي الابتدائية، فقبلت رأسه احتراماً وتقديراً لمكانته وعطائه ضمن من أنجبتهم «الخبر»، وهو من جانبه تذكرني وأشاد بكتاباتي ودراساتي المنشورة ولاسيما كتابي الموسوم «الخبر.. الله يا وطر مضى».
إن الأستاذ عبدالله الفرج الصقر أمد الله في عمره وأسعده نموذج من الجيل الذهبي الذي أنجبته المنطقة الشرقية، وعلامة مضيئة في جبين الخبر وشرق السعودية، ومن الأسماء التي تعلقت بها القلوب ولم تزل بسبب سجاياها وشمائلها وطيب معدنها.
خصه الأستاذ محمد القشعمي، الذي عرفه عن كثب من خلال عملهما لسنوات في مكاتب رعاية الشباب والرياضة، بمقال في مجلة «اليمامة» السعودية تحت عنوان «رجل من الجيل الذهبي الرياضي» (16/2/2023)، فوصفه بالإنسان الذي «يمتاز بخفة الدم والروح المرحة والابتسامة الدائمة والاحترام المتبادل والجد في العمل»، وأضاف، أن الفرج «طوال فترة إدارته (مكتب رعاية الشباب بالدمام) كان يحرص على عقد لقاء شهري لجميع رؤساء الأندية؛ للتباحث حول مشاكلها، والنهوض بمستوياتها، وزيادة عدد لعباتها، ومناقشة توفير الدعم اللازم لها، خصوصاً من القطاع الخاص، وعلى رأسها شركة أرامكو، وتبني حفلات التكريم لرؤساء الأندية». ثم استطرد ليقول، إن للفرج بصمات واضحة «فقد لا يعلم الكثيرون أن في مطلع التسعينات الهجرية، عندما كانت مسميات مستويات الفرق إما أندية رياضية أو ريفية، أنه هو من رفع للأمير فيصل بن فهد، عند استلامه رعاية الشباب، مقترحاً بأن تتغير لتكون المسميات لدرجات الدوري درجة ممتازة ودرجة أولى وثانية وإلغاء التسمية السابقة، فأصبحت لاحقاً بالمسمى المقترح منه».
أما فهد الدوس معد الصفحة الرياضية بجريدة «الرياض» فقد كتب بجريدته (17/8/2019) قائلاً، إن الفرج «يعد رائد الحركة الرياضية في المنطقة الشرقية، وواحداً من أقدم مديري مكاتب رعاية الشباب بالمملكة، بجانب الأستاذ عبدالله كعكي في المنطقة الغربية، والأستاذ إبراهيم الشامي في المنطقة الوسطى».
ولد الفرج بمدينة الجبيل سنة 1936 ابناً لوالده «فرج سعد أبوصقر» الذي كان من رجالات الملك عبدالعزيز وممن حاربوا معه، ثم انتقل إلى المنطقة الشرقية وعمل في خفر السواحل قبل أن يوليه الملك إمارة بلدة «عنك» بالقرب من القطيف.
انفصل والداه، ثم تُوفيت أمه وهو في الرابعة عشرة، فانتقل إلى الخبر ليتربى في كنف خاله سالم مبارك، فعاش بسبب هذه الظروف منعزلاً عن الناس ومنطوياً على نفسه. يقول الفرج في مقابلة أجرتها معه صحيفة «عكاظ» (15/10/2010) ما مفاده، إن ظروف الانكسار المبكر التي مرت عليه كان لها دور في تحوله إلى إنسان مسالم ومتعاون ومحب للجميع.
في طفولته عشق صاحبنا كرة القدم، فلعبها أولاً في الحواري في سن التاسعة مع أقرانه ممن شكلوا فريقاً أطلقوا عليه اسم «الدفاع» قبل أن يغيروا اسمه إلى «النيل»، تأثراً ببعض اللاعبين السودانيين المعروفين في تلك الفترة. بعدها لعب لأندية النجاح والهلال (المتحد) بالخبر، وفي النادي الأخير تعرض للإصابة بانزلاق غضروفي، ثم كسر في ساقه، وهو ما جعله يعتزل اللعب ويركز اهتمامه على التحكيم والتدريب والإدارة.
مع بداية التعليم النظامي في الخبر تأسست أول مدرسة حكومية في الأربعينات الميلادية، التحق الفرج بها وحصل منها على الشهادة الابتدائية في حوالى عام 1951. ثم واصل تعليمه حتى الصف الأول الثانوي. وقتها كانت للشهادتين الابتدائية والمتوسطة قيمة كبيرة، وبالتالي كانت أمامه فرص وظيفية عديدة. لكنه اختار أن يعود إلى مدرسته الابتدائية معلماً حينما دعاه مدير المدرسة آنذاك الأستاذ عبدالرحمن بودي للعمل معه براتب شهري قدره 250 ريالاً، وهو راتب كان حلماً بالنسبة للكثيرين في تلك الفترة. وبعد ست سنوات من العمل في التدريس والعمل الإداري كمراقب ووكيل للمدرسة، صار في العام 1960 مديراً لمدرسة الخبر الأولى (مدرسة معاذ بن جبل حالياً) التي خرّجت الجيل الذهبي من أبناء الخبر ممن أصبحوا اليوم من كبار رجال الأعمال أو من موظفي الدولة. واعتزازاً من الرجل بعمله وذكرياته في هذه المدرسة، فقد طالب وزارة التعليم بإعادة اسمها القديم الخالد في ذاكرة المجتمع، وقد أيده في ذلك الكثيرون.
حبه للعلم قاده للحصول على درجة بكالوريوس في اللغة العربية، وحبه للعمل الكشفي جعله يؤسس أول فرقة للكشافة في المنطقة الشرقية، وعشقه للرياضه قاده لنيل دبلوم التربية الرياضية من مصر مع دورة في تحكيم كرة القدم، فصار «حكم درجة أولى» في كرة القدم وأيضاً حكماً لسباق الدراجات الهوائية، ولاحقاً صار رئيساً للاتحاد السعودي للمبارزة (سلاح الشيش سابقاً) وعضواً في الاتحاد العربي للدراجات. هذا ناهيك عن قيامه بممارسة معظم ألعاب الميدان والمضمار بتميز. ومن هنا، لم يكن غريباً أن تسند إليه الدولة مهمة تأسيس وافتتاح أول مكتب لرعاية الشباب بالدمام عام 1963، كبديل للجان الرياضية، وكنظير لمكتبي الرياض وجدة.
وعلى مدى 30 عاماً أدى الرجل عمله بأمانة وإخلاص وتجرد وديناميكية عالية وروح دؤوبة، كان خلالها صديقاً لجميع الرياضيين واللاعبين والإداريين دون استثناء، يتنقل نهاراً بهمة بين مقرات أندية الشرقية والأحساء ليتابع تمارينها ويحضر مبارياتها ويشجع لاعبيها ويناقش همومها، ويحضر مساء أنشطتها وفعالياتها الاجتماعية والثقافية والفنية. ولهذا قيل إن أندية الشرقية تراجعت بعد أن تقاعد الفرج في مطلع تسعينات القرن الـ20 من عمله الإداري الناجح والمتميز. يقول الفرج في حواراته إنه لم يندم على شيء، وما زال يشعر بمحبة الناس وصداقتهم في كل مكان يتواجد فيه. وهذه نتيجة طبيعية لمن زرع بذرة طيبة في أرض خصبة، فكان الحصاد محبين وأصدقاء أوفياء كثراً.
كأس العالم للناشئين
كرمه الرئيس العام الأسبق لرعاية الشباب الأمير فيصل بن فهد ضمن الشخصيات التي خدمت الحركة الرياضية السعودية، كما كرَّمه خليفته الأمير سلطان بن فهد في احتفال تكريم رواد الحركة الرياضية، وحظي بتكريم ثالث من أمير المنطقة الشرقية سعود بن نايف بن عبدالعزيز في احتفال تكريم قدامى رياضيي الشرقية عام 2023.
لكن صاحبنا، يفتخر باختيار المسؤولين له دون سواه لقيادة بعثة المنتخب السعودي إلى بطولة كأس العالم للناشئين في أسكتلندا سنة 1989. وملخص الحكاية كما رواها بنفسه، هو أن الأمير فيصل بن فهد طُرحت أمامه ثلاث قوائم بأسماء المرشحين لقيادة منتخب الناشئين، فرفضهم جميعاً قائلاً: «أريد رجلاً أعتمد عليه». وعندما قُدمت لسموه قائمة رابعة تضم اسم الفرج، اختار الأخير للمهمة دون تردد. وهكذا قاد الفرج المنتخب إلى تايلاند ففاز فيها ببطولة آسيا، ثم قاده إلى معسكر في هولندا، ومن الأخيرة رافق المنتخب إلى أسكتلندا، حيث فاز في تلك السنة ببطولة العالم للناشئين، التي تعد أول وأعظم إنجاز سعودي كروي. والجدير بالذكر أن الفرج، عدا عن قيادته منتخب الناشئين إلى تايلاند وأسكتلندا، رأس الوفد الرياضي السعودي إلى إيران عام 1970، ورأس قبله وفد بلاده إلى بطولة حوض البحر الأبيض المتوسط المقامة في تونس عام 1970، كما رأس وفد السعودية المشارك في سباقات الدراجات العربية أكثر من مرة.
توثيق البطولات الرياضية
بعد تقاعده ظل الفرج على ملاك الاتحاد السعودي لكرة القدم مسؤولاً عن كرة القدم بالمنطقة الشرقية مع أكاديمية «جيمي هل» لمدة ست سنوات قبل أن يتوقف مشروع الأكاديمية لأسباب مالية، على حد قول القشعمي (مصدر سابق).
وشخص صاحب مشوار رياضي حافل كهذا مثل أبي حازم، لا بد أن يكون مرجعاً لتاريخ الرياضة في بلاده، وهو بالفعل كذلك. فقد تحدث مثلاً عن تاريخ كرة القدم وأنديتها في شرق السعودية في حواره مع صحيفة «الشرق الأوسط» (8/11/2016)، مشيراً إلى أن المنطقة احتضنت أندية كثيرة، لذا تقرر في الستينات الميلادية تشكيل لجنة برئاسة المرحوم عبدالعزيز التركي (المدير الأسبق لإدارة التعليم بالمنطقة الشرقية) لدمج الأندية، وكان من نتائجها دمج نادي الوحدة مع نادي الشعلة بالخبر لتأسيس نادٍ جديد باسم «القادسية»، وأضاف أن الرياضة في المنطقة انطلقت من شركة «أرامكو» بالظهران من خلال موظفيها السعوديين الذين تعلموها من زملائهم الوافدين. لكنه في هذا الحوار كان مستاء من عملية دعوته للمشاركة في لجنة توثيق البطولات الرياضية في المملكة، التي تمت من خلال رسالة عبر «الواتساب»، ولهذا رفضها وانتقد اللجنة لأنها ضمت أسماء شابة غير قادرة على التوثيق التاريخي الصحيح، ناهيك عن أن جلها غير محايد ولها ميول، بحسب قوله.